الأسرار الفاطميّة

الشيخ محمد فاضل المسعودي

الأسرار الفاطميّة

المؤلف:

الشيخ محمد فاضل المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة ـ لحضرة فاطمة المعصومة عليه السلام للطبعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6401-17-1
الصفحات: ٥٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ولكن القوم لم يتحملوا أن تكون فدك خالصة لأهل بيت النبوة بل شحت عليها أنفس القوم ، وإلى ذلك أشار الإمام علي عليه‌السلام في رسالته لابن حنيف : « بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أضلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله » (١) ، والذي يظهر من جميع الروايات الواردة في المقام : إن فدك كانت فيئاً أفاءها الله على نبيه خاصة دون المسلمين لانه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبرائيل عليه‌السلام ومن ذا القربى ؟ وما حقه ؟ : أعط فاطمة فدكاً ، فأعطاها حوائط فدك ، وما لله ولرسوله فيها فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة عليهم‌السلام وقال لها عليها‌السلام : إن الله قد أفاء على أبيك فدكاً ، واختصه بها ، فهي لي خاصة دون المسلمين ، أفعل بها ما أشاء. وقال : كان لأمك خديجة على أبيك مهر وأنّ أباك قد جعل فدك لك بذلك.

أقول : يظهر من هذا الكلام أنَّ مسألة المهر الحاضر للزوجة يكون في ذمة الرجل في حالة عدم دفعه بعد وفاة الزوجة ولابد من أعطاءه للورثة الذين هم أبناء الزوجة لذا كانت فاطمة وريثة أمها خديجة في مهرها فأعطاها فدك في قبال ذلك ، هذا ما نستفيده من خلال الرواية وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحلتكها لتكون لك ولولدك من بعدك فخذيها ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أكتب لفاطمة نحلة من رسول الله.

وبالجملة فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاها حقها بأمر الله فدكاً ، فكانت لها من الله تعالى وقد جعلها في حياته لها نحلة ، وأشهد على ذلك أمير المؤمنين وأم أيمن. وقالت فاطمة عليها‌السلام : لست أحدث فيها حدثاً وأنت حي ، أنت أولىٰ بي من نفسي ومالي لك ثم قالت في احتجاجها عليها‌السلام في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا كتاب رسول الله أوجبها لي ولولدي دون المؤمنين ، وعلىٰ كلٍ فليس في الروايات في تعيين من له فدك ، ذكر علي أو ما يشعر بأن فدكاً له وهو أول الأئمة ، أو لخصوص الأئمة من ولد الحسين عليه‌السلام ، أو للامامة ومن يتصدىٰ لها ، بل هي عطية ونحلة وهبها وأعطاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام لذي قربىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اليوم ، وهم فاطمة وولديها الحسن والحسين عليهم‌السلام كما

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤١٧ ضمن كتاب : ٤٥.

٤٤١

دعاهم واعطاها لتكون لفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ولا إختصاص في عقب فاطمة عليها‌السلام بالأئمة من ولد الحسين دون الحسن عليهم‌السلام ، وبعد فاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام تكون ميراثاً لعقب الحسن والحسين عليهم‌السلام.

ثمَّ قالت فنحلةٌ لي من والدي

المصطفىٰ فلم ينحلاها

فأقامت بها شهوداً فقالوا

بعلُها شاهدٌ لها وابناها

لم يجيزوا شهادة ابني رسولِ

الله هادي الانام إذ ناصباها

إخراج عمال فاطمة عليها‌السلام من فدك

وردت عدة أحاديث وروايات أثبتت حقيقة واضحة البرهان (١) جليلة البيان وهي أنه لما بويع أبو بكر ، واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار ، بعث إلى فدك وأخرج وكيل فاطمة عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، فجاءت فاطمة عليها‌السلام مستعدية فطالبها بالبينة ؛ فجاءت بعلي والحسنين صلوات الله عليهم وأُم أيمن المشهود لها بالجنة ، فرد شهادة أهل البيت عليهم‌السلام بجرّ النفع وشهادة أُم أيمن بقصورها عن نصاب الشهادة ثم أدعتها على وجه الميراث ، فغضبت عليه وعلىٰ عمر فهجرتهما ، واوصت بدفنها ليلاً ، لئلا يصلّيا عليها فاسخطا بذلك ربّهما ورسوله ، واستحقا اليم النكال ، وشديد الوبال. ثم لما انتهت الإمارة إلىٰ عمر بن عبد العزيز ردّها علىٰ بني فاطمة عليهم‌السلام ، ثم انتزعها منهم يزيد بن عبد الملك ، ثم دفعها السفاح الى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام ، ثم أخذها المنصور ، ثم اعادها المهدي ، ثم قبضها الهادي ، ثم ردها المأمون لما جاءه رسول بني فاطمة ، فنصب وكيلاً من قبلهم وجلس محاكماً فردها عليهم ، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشماً فدكا

__________________

(١) العوالم : ٧٠٧ الخاصة بفاطمة عليها‌السلام.

٤٤٢

خطأ الخليفة الأوّل

ولنبين خطأ أبي بكر في تلك القضية مع وضوحها بوجوه :

أما أن فدكاً كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمما لا نزاع فيه ، وقد أوردنا من رواياتنا وأخبارنا للمخالفين ما فيه كفاية ونزيده وضوحاً بما رواه في جامع الأصول : مما أخرجه من صحيح « أبي داود » عن عمر ، قال :

إنّ أموال بني النضير مما أفاء الله علىٰ رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة قرىٰ عرينة وفدك وكذا وكذا ينفق علىٰ أهله منها نفقة سنتهم ، ثم يجعل ما بقى في السلاح والكراع عدة في سبيل الله وتلا : ( مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) الآية.

وروي أيضاً : عن مالك بن أوس قال : كان فيما احتج به عمر أن قال : كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ، إلىٰ آخر الخبر.

وروى ابن أبي الحديد : قال أبو بكر : حدّثني أبو زيد عمر بن شبّه ، قال : حدثنا حيان ابن بشير ، قال : حدثنا يحيىٰ بن آدم ، قال : أخبرنا ابن أبي زائدة (١) ، عن محمد ابن إسحاق ، عن الزهري ، قال : بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا ؛ فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحقن دماءهم ويسيرهم ، ففعل ، فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك ، وكانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة ، لانه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب « قال » : قال أبو بكر : وروىٰ محمد بن اسحاق أيضاً : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك ، فبعثوا إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصالحوه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق ، أو بعد ما قدم المدينة (٢) ، فقبل ذلك منهم وكانت فدك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالصة له ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، قال : وقد روي انه صالحهم عليها كلّها ، الله أعلم أيّ الأمرين كان ، انتهى.

وسيأتي اعتراف عمر بذلك في تنازع عليّ عليه‌السلام والعباس ؛ وأما أنّه وهبها لفاطمة عليها‌السلام

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ٢١٠.

(٢) في الشرح : ما أقام بالمدينة.

٤٤٣

فلأنّه لا خلاف في أنّها صلوات الله عليها ادّعت النحلة مع عصمتها بالأدلة المتقدمة ، وشهد لها من ثبت عصمته بالأدلة الماضية والآتية والمعصوم لا يدّعي ، إلاّ الحقّ ولا يشهد إلاّ بالحقّ ويدور الحقّ معه ، حيثما دار ؛ وأمّا انها كانت في يدها صلوات الله عليها فلأنّها ادعتها بعد الوفاة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه الاستحقاق وشهد المعصوم بذلك لها ، فإن كانت الهبة قبل الموت تبطل بموت الواهب ، كما هو المشهود ، ثبت القبض وإلاّ فلا حاجة إليه في إثبات المدّعى.

قد مرّ من الأخبار الدالّة على نحلتها وانّها كانت في يدها عليها‌السلام ما يزيد على كفاية المنصف بل يسدّ طريق إنكار المتعسف ، ويدلّ على أنها كانت في يدها صلوات الله عليها ما ذكر أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف ، حيث قال : « بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشعت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم الله « وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غير جدث ! » (١).

وأمّا أنَّ أبا بكر وعمر أغضبا فاطمة عليها‌السلام فقد اتضح بالاخبار المتقدمة ، ثم اعلم انا لم نجد أحداً من المخالفين أنكر كون فدك خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، ولا أحداً من الأصحاب طعن على أبي بكر بإنكاره ذلك ، إلاّ ما تفطّن به بعض الافاضل من الاشارف ، من أنه يظهر من أخبار المؤالف والمخالف ذلك. وقد تقدم ما رواه ابن ابي الحديد في ذلك ، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري وغيرها من الأخبار ،

__________________

(١) أقول : إنّ فدك كانت في أيديهم ، وتحت تصرّفهم ، وعلى هذا فلم يكن للخليفة الغاصب مطالبتهم بالبينة ، فإنّها خلاف موازين القضاء ، ولم يكن إقطاع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة عليها‌السلام وأهلها أمراً فريداً يخصّها :

ففي فتوح البلدان للبلاذري : ٣١ : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقطع من أرض بني النضير أبا بكر وعبد الرحمن بن عوف وأبا دجانة ، وغيرهم ، وفي ص ٣٤ : وأقطع الزبير بن العوام أرضاً من أرض بني النضير ذات نخل.

وفي ص ٢٧ : وأقطع بلالا أرضاً فيها جبل ومعدن ، وقال مالك بن أنس : أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلال بن الحارث معادن بناحية الفرع ؛ وأقطع علياً عليه‌السلام أربع أرضين : الفقيرين وبئر قيس والشجرة. وفي ص ٣٤ : وأبو بكر نفسه أقطع الزبير الجرف ، وعمر أقطعه العقيق ، أجمع. فما أدري لماذا أخذوا من فاطمة نحلة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وهل كانت هي فقط من الأموال العامة للمسلمين ؟ نعم ، كان سبب ابتزازها نحلة فاطمة وابنيها تكون دعماً لبيت الإمامة ملازمة.

٤٤٤

ولا يخفى ، ان ذلك يتضمن إنكار الآية وإجماع المسلمين : إذ القائل :

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصرف شيئاً من غلّة فدك وغيره من الصفايا في بعض مصالح المسلمين ، لم يقل بأنها لم تكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قال : بأنه فعل ذلك علىٰ وجه التفضّل وابتغاء مرضاة الله تعالىٰ ؛ وظاهر الحال أنه أنكر ذلك دفعاً لصحة النحلة ، فكيف كان يسمع الشهود علىٰ النحلة مع ادّعائه أنها كانت من أموال المسلمين.

واعتذر المخالفون من قبل أبي بكر بوجوه سخيفة :

الأول : منع عصمتها صلوات الله عليها ، وقد تقدمت الدلائل المثبتة لها.

الثاني : أنه لو سلم عصمتها ، فليس للحاكم أن يحكم بمجرد دعواها ، وإن تيقن صدقها ، وأجاب أصحابنا بالادلة الدالة على أن الحاكم يحكم بعلمه ؛ وأيضاً اتّفقت الخاصة والعامة على رواية قصة خزيمة بن ثابت وتسميته بذي الشهادتين لما شهد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعواه ، ولو كان المعصوم كغيره لما جاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبول شاهد واحد والحكم لنفسه ، بل كان يجب عليه الترافع إلىٰ غيره ، وقد روىٰ أصحابنا :

أن أمير المؤمنين عليه‌السلام خطّا شريحاً في طلب البيّنة ، وقال : إن إمام المسلمين يؤتمن من امور علىٰ ما هو أعظم من ذلك ، وأخذ ما ادّعاه من درع طلحة بغير حكم شريح ، والمخالفون حرّفوا هذا الخبر وجعلوه حجة لهم ، واعتذروا بوجوه اخرىٰ سخيفة لا يخفىٰ علىٰ عاقل بعد ما أوردنا في تلك الفصول ضعفها ووهنها ، فلا نطيل الكلام بذكرها.

بطلان دعوى عدم توريث الأنبياء عليهم‌السلام

استدل أصحابنا علىٰ بطلان ذلك بآي من القرآن الكريم منها : قوله تعالىٰ مخبراً عن زكريا عليه‌السلام : ( وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) قوله تعالىٰ : ( وَلِيًّا ) أي : ولداً يكون أولىٰ بميراثي ، وليس المراد بالولي من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره ، لقوله

٤٤٥

تعالىٰ حكاية عن زكريّا ( رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ).وقوله ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ ) ، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً ، واختلف المفسرون في أن المراد بالميراث العلم أو المال فقال ابن عباس والحسن والضحاك : أن المراد به في قوله تعالىٰ : ( يَرِثُنِي ) وقوله سبحانه : ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ميراث المال. وقال أبو صالح : المراد به في الموضعين ميراث النبوة.

وقال السدي ومجاهد والشعبي : المراد في الأول : ميراث المال ، وفي الثاني : ميراث النبوة ، وحكىٰ هذا القول عن ابن عباس والحسن والضحاك.

وحكي عن مجاهد ، أنه قال : المراد من الأول : العلم ، ومن الثاني : النبوة.

وأما وجه دلالة الآية علىٰ المراد فهو أن لفظ الميراث في اللغة والشريعة والعرف إذا اطلق ولم يقيد ، لا يفهم منه إلاّ الأموال وما في معناها ، ولا يستعمل في غيرها إلاّ مجازاً ، وكذا لا يفهم من قول القائل : « لا وارث لفلان » إلاّ من ينتقل إليه أمواله وما يضاهيها دون العلوم وما يشاكلها ، ولا يجوز العدول ، عن ظاهر اللفظ وحقيقته إلاّ لدليل ، فلو لم يكن في الكلام قرينة توجب حمل اللفظ على أحد المعنيين ، لكفى في مطلوبنا ، كيف والقرائن الدالة على المقصود موجودة في اللفظ.

أما أوّلاً : فلأنّ زكريا عليه‌السلام اشترط في وارثه أن يكون رضياً ، وإذا حمل الميراث على العلم والنبوّة لم يكن للإشتراط معنى ، بل كان لغواً عبثاً ، لأنّه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم والنبوة فقد دخل في سؤاله الرضا ، وما هو أعظم منه ، فلا معنىٰ لاشتراطها ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد : اللهم ابعث إلينا نبياً واجعله مكلفاً عاقلاً.

وأما ثانياً : فلأن الخوف من بني العمّ ومن يحذو حذوهم يناسب المال دون النبوة والعلم ، وكيف يخاف مثل زكريا عليه‌السلام من أن يبعث الله تعالىٰ إلىٰ خلقه نبياً يقيمه مقام زكرياً ولم يكن أهلاً للنبوة والعلم سواء كان من موالي زكرياً أو من غيرهم ؛

علىٰ أن زكريّا عليه‌السلام كان إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض من بعثته ؛ فإن قيل : كيف يجوز على مثل زكريّا عليه‌السلام الخوف من أن يرث الموالي ماله ، وهل هذا إلاّ الشحّ والبخل ؟

قلنا : لمّا علم زكريّا عليه‌السلام من حال الموالي أنهم من أهل الفساد ، خاف أن ينفقوا أمواله

٤٤٦

في المعاصي ، ويصرفوه في غير الوجوه المحبوبة ، مع أنّ في وراثتهم ماله كان يقوي فسادهم وفجورهم ، فكان خوفه خوفاً من قوة الفسّاق ، وتمكنهم في سلوك الطرائق المذمومة وانتهاك محارم الله عزّ وجلّ ، وليس مثل ذلك من الشحّ والبخل ؛

فإن قيل : كما جاز الخوف علىٰ المال جاز الخوف علىٰ وراثتهم العلم ، لئلاّ يفسدوا به الناس ويضلّوهم ، ولا ريب في أنّ ظهور آثار العلم كان فيهم من دواعي إتباع الناس وإياهم وانقيادهم لهم ؟

قلنا : لا يخلو هذا العلم الذي ذكرتموه من أن يكون هو كتب علمية وصحف حكمية ، لأنّه قد يسمى علما مجازاً ، أو يكون هو العلم الذي يملأ القلوب وتعيه الصدور ؛

فإن كل الأوّل ، فقد رجع إلىٰ معنىٰ المال ، وصحّ أن الأنبياء عليهم‌السلام يورثون الاموال وكان حاصل خوف زكريّا عليه‌السلام أنه خاف من أن ينتفعوا ببعض أمواله نوعاً خاصاً من الإنتفاع ، فسأل ربّه ان يرزقه الولد حذراً من ذلك ؛

وإن كان الثاني : فلا يخل أيضاً من أن يكون هو العلم ، الّذي بعث النبي لنشره وأدائه إلىٰ الخلق ، أو أن يكون علماً مخصوصاً لا يتعلق بشريعة ، ولا يجب إطّلاع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات ونحو ذلك. والقسم الأول : لا يجوز أن يخاف النبي من وصوله إلىٰ بني عمّه ، وهم من جملة اُمته المبعوث إليهم لأن يهديهم ويعلمهم وكان خوفه من ذلك خوفاً من غرض البعثة.

والقسم الثاني : لا معنىٰ للخوف من أن يرثوه إذ أمره بيده ، ويقدر علىٰ أن يلقيه اليم ولو صحّ الخوف على القسم الأوّل لجرىٰ ذلك فيه أيضاً فتأمل.

هذا خلاصة ما ذكره السيّد المرتضى رضي‌الله‌عنه في الشافي عند تقرير هذا الدليل وما أورده عليه من تأخّر عنه يندفع بنفس التقرير ، كما لا يخفىٰ على الناقد البصير فلذا لا نسوّد بإيرادها الطوامير.

الآية الثانية : قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ ) وجه الدلالة هو أنّ المتبادر من قوله تعالىٰ ورث : أنّه ورث ماله كما سبق في الآية المتقدمة ، فلا يعدل عنه إلاّ لدليل ؛

٤٤٧

وأجاب قاضي القضاة في المغني : بأن في ما يدل علىٰ أن المراد وراثة العلم دون المال ، وهو قوله تعالىٰ : وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ) ، فإنه يدل علىٰ أنّ الّذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل ، وإلاّ لم يكن لهذا تعلّق بالاول ؛

وقال الرازي في تفسيره : لو قال تعالى ورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ) معنىٰ ، وإذا قلنا : ورث مقامه من النبوّة والملك حسن ذلك ، لانّ علم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه ، وكذلك قوله : ( وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ) لأن وارث العلم يجمع ذلك ، ووارث المال لا يجمعه ، وقوله : ( إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ ) يليق أيضاً بما ذكر دون المال ، الّذي يحصل للكامل والناقص. وما ذكره الله تعالىٰ من جنود سليمان بعده ، لا يليق إلاّ بما ذكرنا فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنّه لا يورث إلاّ المال فأما إذا ورث المال والملك معاً ؛ فهذا لا يبطل بالوجوه الّذي ذكرنا بل بظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث » ؛

وردّ السيّد المرتضىٰ رضي‌الله‌عنه في الشافي كلام المغني بأنّه : لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصّة ، ثمّ يقول مع ذلك إنّا علّمنا منطق الطير ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعاً ، فله في الأمرين جميعاً فضل على من لم يكن كذلك ؛ وقوله : ( وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ) يحتمل المال كما يحتمل العلم ، فليس بخالص لما ظنه ولو سلّم دلالة الكلام لما ذكره ، فلا يمتنع ، أن يريد أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا النوع من الإستدلال ، فليس يجب إذا دلّت الدلالة في بعض الألفاظ على المجاز أن نقتصر بها عليه ، بل يجب ان نحملها على الحقيقة التي هي الأصل ، إذا لم يمنع من ذلك مانع ؛ وقد ظهر بما ذكره السيد قدس‌سره ، بطلان قول الرازي أيضاً ، وكان القاضي يزعم أنّ العطف لو لم يكن للتفسير لم يكن للمعطوف تعلق بما عطف عليه ، وانقطع نظام الكلام وما اشتهر من أن التأسيس أولى من التأكيد ، من الأغلاظ المشهورة ، وكان الرازي يذهب إلى أنّه لا معنى للعطف ، إلاّ إذا كان المعطوف داخلاً في المعطوف عليه ، فعلى أي شيء يعطف حينئذ قوله تعالى : ( وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ) فتدبروا : أمّا قوله : أنّ المال يحصل للكامل والناقص ، فلو حمل الميراث على المال لم يناسب قوله : ( إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ ) فيرّد عليه :

أنّه إنما يستقيم إذا كانت الإشارة إلىٰ أوّل الكلام فقط ، وهو وراثة المال وبعده ظاهر ،

٤٤٨

ولو كانت الإشارة إلىٰ مجموعة الكلام كما هو الظاهر أو إلىٰ أقرب الفقرات ؛ أعني قوله : ( وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ) لم يبق لهذا الكلام مجال ؛ وكيف لا يليق الإشارة دخول المال في جملة المشار إليه وقد منّ الله تعالىٰ علىٰ عباده ، وفي غير موضع من كلامه المجيد بما أعطاهم في الدنيا من صنوف الأموال وأوجب علىٰ عباده الشكر عليه ، فلا دلالة فيه علىٰ عدم إرادة وراثة المال سواء كان من كلام سليمان أو من كلام المالك المنّان ؛ وقد ظهر بذلك بطلان قوله أخيراً إنّ ما ذكره الله من جنود سليمان لا يليق إلاّ بما ذكرنا ، بل الاظهر أنّ حشر الجنود من الجن والإنس والطير قرينة علىٰ عدم إرادة الملك من قوله : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) فإنّ تلك الجنود لم تكن لداود حتّىٰ يرثها سليمان ، بل كانت عطية مبتدأة من الله تعالىٰ لسليمان عليه‌السلام ، وقد أجرى الله تعالى على لسانه أنّه أخبر الإعتراف بأنّ ما ذكره لا يبطل قول من حمل الآية على وراثة الملك والمال معاً فإنّه يكفينا في إثبات المدّعى ؛

وسيأتي الكلام في الحديث الّذي تمسّك به.

الآية الثالثة : ما يدّل على وارثة الاولاد والأقارب ، كقوله تعالى : ( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) وقوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) وقد اجتمعت الأمّة على عمومها إلاّ من أخرجه الدليل ، فيجب أن يتمسك بعمومها إلاّ إذا قامت دلالة قاطعة ؛ وقد قال سبحانه عقيب آيات الميراث : ( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) ؛ ولم يقم دليل على خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة ؛

قال صاحب المغني : لم يقتصر أبو بكر على رواية حتّى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف ، فشهدوا به فكان لا يحل لأبي بكر ، وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثاً ، وقد أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّها صدقة وليس بميراث ؛ وأقلّ ما في الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد ، فلو أنّ شاهدين شهدا

٤٤٩

في التركة أنّ فيها حقّاً ، أليس كان يجب أن يصرفه عن الإرث ؟ فعلمه بما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع شهادة غيره أقوى ، ولسنا نجعله مدعياً ، لأنّه لم يدّع ذلك لنفسه وإنّما بين أنه ليس بميراث ، وأنه صدقة ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما.

ويرد عليه : أنّ الإعتماد في تخصيص الآيات ، إمّا على سماع أبي بكر ذلك الخبر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجب على الحاكم ان يحكم بعمله ؛ وإما على شهادة من زعموهم شهوداً على الرواية ، أو على مجموع الأمرين ، أو على سماعه من حيث الرواية مع انضمام الباقين إليه ؛ فإن كان الأول فيرد عليه بوجوه من الايراد عليه :

الأول : ما ذكره السيّد رضي‌الله‌عنه في « الشافي » من أنّ أبا بكر في حكم المدّعي لنفسه والجار إليها نفعاً في حكمه ، لأن أبابكر وسائر المسلمين سوى أهل البيت عليه‌السلام تحل لهم الصدقة ، ويجوز أن يصيبوا منها ، وهذه تهمة في الحكم والشهادة ثمّ قال رضي‌الله‌عنه : وليس له أن يقول يقتضي أن لا تقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة بمثل ما ذكرتم ، وذلك لأن الشاهدين إذا شهدا بالصدقة فحظهما منها كحظّ صاحب الميراث ، بل سائر المسلمين ، وليس كذلك حال تركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ كونها صدقة يحرّمها على ورثته ، ويبيحها لسائر المسلمين ، انتهى.

ولعلّ مراده رحمهم‌الله أنّ لحرمان الورثة في خصوص تلك المادة شواهد على التهمة بأن كان غرضهم إضعاف جانب أهل البيت عليهم‌السلام ، لئلاّ يتمكنوا عن المنازعة في الخلافة ، ولا يميل الناس لنيل الزخارف الدنيوية ، فيكثر أعوانهم وأنصارهم ويظفروا بإخراج الخلافة والإمارة من أيدي المتغلّبين ، اذ لا يشك أحد ممن نظر في أخبار العامة والخاصة ، في أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان في ذلك الوقت طالباً للخلافة ، مدّعياً لإستحقاقه لها ، وأنّه لم يكن إنصراف الاعيان والاشراف عنه ، وميلهم إلى غيره إلا لعلمهم بأنه لا يفضّل أحداً منهم على ضعفاء المسلمين ، وأنه يسوّى بينهم في العطاء والتقريب ، ولم يكن إنصراف سائر الناس عنه إلا لقلة ذات يده ، وكون المال والجاه مع غيره.

والأولى أن يقال في الجواب : أنه لم تكن التهمة لأجل أن له حصة في التركة ، بل لأنه

٤٥٠

كان يريد أن يكون تحت يده ، ويكون حاكماً فيه يعطيه من يشاء ، ويمنعه من يشاء ويؤيده : قول أبي بكر فيما رواه في جامع الاصول من سنن أبي داود ، عن أبي الطفيل ، قال : جاءت فاطمة عليها‌السلام إلى أبي بكر تطلب ميراثها من أبيها ، فقال لها ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله إذا أطعم نبياً طعمة فهو للذي يقوم من بعده ؛ ولا ريب في أنّ ذلك ممّا يتعلق به الأغراض ، ويعد من جلب المنافع ، ولذا لا تقبل شهادة الوكيل فيما هو وكيل فيه والوصي فيما هو وصي فيه ؛ وقد ذهب قوم إلى عدم جواز الحكم بالعلم مطلقاً لأنّه مظنة التهمة ، فكيف إذا قامت القرائن عليه من عداوة ومنازعة ، وإضعاف جانب ونحو ذلك ، والعجب أنّ بعضهم في باب النحلة منعوا بعد تسليم عصمة فاطمة عليها‌السلام جواز الحكم بمجرد الدعوى وعلم الحاكم بصدقها ، وجوزوا الحكم بأن التركة صدقة ، للعلم بالخبر مع معارضته للقرآن وقيام الدليل على كذبه.

الثاني : أنّ الخبر معارض للقرآن لدلالة الآية في شأن زكريّا وداود عليهم‌السلام على الوراثة وليست الآية عامّة حتّى تخصص بالخبر فيجب طرح الخبر ، لا يقال : إذا كانت الآية خاصّة فينبغي تخصيص الخبر بها ، وحمله على غير زكريا وداود عليهما‌السلام لأنّا نقول : الحكم بخروجهما عن حكم الأنبياء مخالف لإجماع الأمة ، لإنحصارها بالإيراث مطلقاً ، وعدمه مطلقاً ، فلا محيص عن الحكم بكذب الخبر ، وطرحه.

الثالث : أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يرى الخبر موضوعاً باطلاً ، وكان عليه‌السلام لا يرى إلاّ الحق والصدق ، فلابد من القول بأنّ من زعم أنّه سمع الخبر كاذب.

أما الأولى : فلما رواه مسلم ، في « صحيحة » وأورده في « جامع الأصول » أيضاً عن مالك بن أوس ـ في رواية طويلة ـ قال : عمر لعليّ عليه‌السلام والعبّاس ، قال أبو بكر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنّه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثمّ توفي أبو بكر ، فقلت : أنا وليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً غادراً آثماً خائناً ، والله يعلم أنّي لصادق بار تابع للحقّ فولّيتها.

وعن البخاري : في منازعة علي والعباس فيما أفاء الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني

٤٥١

النضير ، أنه قال عمر بن الخطاب : قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقبضها فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأنتما حينئذ ـ وأقبل علىٰ علي عليه‌السلام والعباس تزعمان أن أبابكر فيها كذا. والله يعلم أنّه فيها صادق بار راشد تابع للحق وكذلك زاد في حق ، نفسه ، قال : والله يعلم أنّي فيها صادق بار راشد تابع للحق ، إلى آخر الخبر ، وقد روىٰ ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، : من كتاب « السقيفة » عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري « مثله » بأسانيد. وأما المقدمة الثانية : فلما مر وسيأتي من الأخبار المتواترة ، في أنّ عليّاً عليه‌السلام لا يفارق الحق والحق لا يفرقه ، بل يدور معه حيث ما دار ، ويؤيده روايات السفينة والثقلين وأضرابهما.

الرابع : أنّ فاطمة عليها‌السلام أنكرت رواية أبي بكر ، وحكمت بكذبه فيها ، ولا يجوز الكذب عليها ، فوجب الرواية وراويها.

أما المقدمة الاولىٰ : فلما مر في خطبتها وغيرها ، وسيأتي من شكايتها في مرضها وغيرها ، وقد رووا في صحاحهم : أنها عليها‌السلام انصرفت من عند أبي بكر ساخطة ، وماتت عليه واجدة ، وقد اعترف بذلك ابن أبي الحديد ؛ وأما الثانية : فلما مرّ من عصمتها وجلالتها عليها‌السلام.

الخامس : أنّه لو كانت تركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقة ، ولم يكن لها صلوات الله عليها حظّ فيها ، لبيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم لها إذا التكليف في تحريم أخذها ، يتعلق بها ولو بينه لها لما طلبتها لعصمتها ، ولا يرتاب عاقل في أنّه لو كان بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل بيته أن تركتي صدقة لا تحل لما خرجت ابنته وبضعته من بيتها مستعدية ساخطة صارخة في معشر المهاجرين ، والانصار ، تعاتب إمام زمانها بزعمكم ، وتنسبه إلى الجور والظلم في غصب تراثها ، وتستنصر المهاجر ، والانصار ، في الوثوب عليه ، وإثارة الفتنة بين المسلمين ، وتهيّج الشرّ ، ولم تستقر بعد أمر الامارة والخلافة ، وقد أيقنت بذلك طائفة من المؤمنين ، أن الخليفة غاصب للخلافة ناصب لأهل الإمامة ، فصبّوا عليه اللعن والطعن إلى نفخ الصور وقيام النشور ؛ وكان ذلك من أكد الدواعي إلىٰ شقّ عصا المسلمين ، وافتراق كلمتهم ، وتشتت اُلفتهم ، وقد كانت تلك النيران يخمدها بيان الحكم لها ولامير المؤمنين عليه‌السلام ، ولعله لا يجسر من اوتي حظاً من الاسلام على القول

٤٥٢

بان فاطمة عليها‌السلام مع علمها بأن ليس لها في التركة بأمر الله نصيب ، كانت تقدم علىٰ مثل ذلك الصنيع ، أو كان أمير المؤمنين عليه‌السلام مع علمه بحكم الله ، لم يزجرها عن التظلم والإستعداء ، ولم بالقعود في بيتها ، راضية بأمر الله فيها ، وكان ينازع العباس ، بعد موتها ويتحاكم إلىٰ عمر ابن الخطاب ؛ فليت شعري هل كان ذلك الترك والإهمال لعدم الإعتناء بشأن بضعته الّتي كانت تؤذيه ما آذاها ، ويريبه ما رابها ، أو بأمر زوجها وابن عمّه وأخيه المساوي لنفسه ومواسيه بنفسه ، أو لقلة المبالاة بتبليغ أحكام الله وأمر امته ، وقد أرسله الله بالحق بشيراً ونذيراً للعالمين.

السادس : أنّا مع قطع النظر عن جميع ما تقدم ، نحكم قطعاً بأن مدلول هذا الخبر كاذب باطل ومن اسند إليه هذا الخبر ، لا يجوز عليه الكذب ، فلابدّ من القول بكذب من رواه ، والقطع بأنه وضعه وافتراه ؛ وأما المقدمة الثانية فغنية عن البيان.

وأما الاولىٰ : فبيانها أنّه قد جرت عادة الناس قديماً وحديثاً بالإخبار عن كل ما جرى ، بخلاف المعهود بين كافة الناس ، وخرج عن سنن عاداتهم ، سيمّا إذا وقع في كل عصر وزمان ، وتوفرت الدواعي ، إلى نقله وروايته ؛ ومن المعلوم لكل أحد ، أن جميع الامم علىٰ اختلافهم في مذاهبهم يهتمون بضبط أحوال الأنبياء وسيرتهم ، وأحوال أولادهم ، ومن المعلوم أيضاً أنّ العادة قد جرت من يوم خلق الله الدنيا واهلها ، إلىٰ زمان انقضاء مدتها وفنائها ، بأن يرث الاقربون من الاولاد ، وغيرهم أقاربهم وذوي أرحامهم ، وينتفعون باموالهم وما خلفوه بعد موتهم ؛ ولا شك لأحد في أنّ عامة الناس ، عالمهم وجاهلهم ، وغنيهم وفقيرهم وملوكهم ، ورعاياهم يرغبون إلىٰ كل ما نسب إلىٰ ذي شرف وفضيلة ، ويتبركون به ويحرزه الملوك في خزائنهم ، ويوصون به لاحب أهلهم ، فكيف بسلاح الأنبياء في ثيابهم وأمتعتهم ، ألا ترى إلىٰ الاعمىٰ إذ أبصر في مشهد من المشاهد المشرفة ، أو توهمت العامة أنّه أبصر اقتطعوا ثيابه وتبركوا بها وجعلوها حرزاً من كل بلاء ؛ إذا تمهّدت المقدمات فنقول :

لو كان ما تركه الأنبياء من لدن آدم عليه‌السلام إلىٰ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقة ، لقسمت بين الناس ، بخلاف المعهود من توارث الآباء والاولاد وسائر الاقارب ، ولا يخلو الحال : إمّا أن

٤٥٣

يكون كلّ نبي يبين الحكم لورثته بخلاف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو يتركون البيان كما تركه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجرىٰ علىٰ سنّة الذين خلوا من قبله ، من أنبياء الله عليهم‌السلام ؛

فإن كان الأوّل ، فمع أنّه خلاف الظاهر ، كيف خفي هذا الحكم علىٰ جميع أهل الملل والأديان ، ولم يسمعه أحد إلاّ أبو بكر ، ومن يحذو حذوه ، ولم ينقل أحد أنّ عصا موسىٰ عليه‌السلام فجرىٰ علىٰ وجه الصدقة إلى فلان ، وسيف سليمان عليه‌السلام صار إلى فلان ، وكذا ثياب سائر الأنبياء وأسلحتهم وأدواتهم فرّقت بين الناس ، ولم يكن في ورثة أكثر من مائة الف نبي ، قوم ينازعون في ذلك ، وإن كان بخلاف حكم الله عز وجل ؛ وقد كان أولاد يعقوب عليه‌السلام مع علوّ قدرهم يحسدون علىٰ أخيهم ، ويلقونه في الجبّ لما رأوه أحبّهم إليه ، أو وقعت تلك المنازعة كثيراً ، ولم ينقلها أحد في الملل السابقة وأرباب السير ، مع شدّة اعتنائهم بضبط أحوال الأنبياء وخصائهم ، وما جرىٰ بعدهم كما تقدم ؛ وإن كان الثاني ، فكيف كانت حال ورثة الأنبياء أكانوا يرضون بذلك ولا ينكرون ؟ فكيف صارت ورثة الأنبياء جميعاً يرضون بقول القائمين بالأمر مقام الأنبياء ، ولم ترض به سيّده النساء ؟ أو كانت سنة المنازعة جارية في جميع الامم ، ولم ينقلها أحد ممّن تقدّم ، ولا ذكر من انتقلت تركات الأنبياء إليهم ؛ إنّ هذا لشيء عجاب ، وأعجب من ذلك ، أنّهم ينازعون في وجود النص علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، مع كثرة الناقلين له من يوم السقيفة إلىٰ الآن ؛ ووجوه الأخبار في صحاحهم ، وادّعائهم الشيعة تواتر ذلك ، من أول الأمر إلىٰ الآن ويستندون في ذلك إلىٰ أنه لو كان حقاً ، لما خفي ذلك لتوفر الدواعي إلى نقله وروايته ، فانظر بعين الإنصاف أن الدواعي لشهرة أمر خاص ، ليس الشاهد له إلاّ قوم مخصوص من أهل قرن معين أكثر ، أم لشهرة أمر قل زمان من الأزمنة من لدن آدم عليه‌السلام إلىٰ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وقوعه فيه ؟ مع أنّه ليس يدعو إلى كتمانه وإخفائه في الامم السالفة داع ، ولم يذكره رجل في كتاب ، ولم يسمعه أحد من أهل ملّة ؛ ولعمري لا أشك في أن من لزم الإنصاف وجانب المكابرة ، والإعتساف ، وتأمل في مدلول الخبر وأمعن النظر ، يجزم قطعاً بكذبه وبطلانه ؛ وإن كان القسم الثاني ،وهو أن يكون إعتماد أبي بكر في تخصيص الآيات بالخبر من حيث رواية الرواة له دون علمه بأنه من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لسماعه باذنه فيرد عليه أيضاً

٤٥٤

وجوه من النظر :

الأوّل : أن ما ذكره قاضي القضاة ، من أنه شهد بصدق الرواية في أيام أبي بكر : عثمان وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمان ، باطل غير مذكور في سيرة ورواية من طرقهم وطرق أصحابنا ؛ وإنما المذكور في رواية مالك بن أوس التي رووها في صحاحهم : أنّ عمر بن الخطاب لمّا تنازع عنده أمير المؤمنين عليه‌السلام والعبّاس استشهد نفراً فشهدوا بصدق الرواية :

ولنذكر ألفاظ صحاحهم في رواية مالك بن أوس على اختلافها ، حتّى يتضح حقيقة الحال : روي البخاري ومسلم وأخرجه الحميدي ، وحكاه في جامع « الأصول » في الفرع الرابع من كتاب الجهاد من حرف الجيم ، عن مالك أنّه قال : أرسل إليّ عمر فَجِئتَهُ حين تعالى النهار ، قال : فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً (١) ، إلى رماله ، متكئاً على وسادة (٢) من أدم ، فقال لي : يا مالك ، أنّه قد دفّ أهل أبيات من قومك (٣) وقد أمرت فيهم برضخ (٤) فخذه فأقسم بينهم قال : قلت : لو أمرت بهذا غيري ، قال : خذه يا مالك ، قال : فجاء يرفأ (٥) فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ؛ فقال عمر : نعم فأذن لهم فدخلوا ؛ ثمّ جاء فقال : هل لك في عباس وعلي عليه‌السلام قال : نعم فأذن لهما : فقال العباس : اقض بيني وبين هذا ، فقال القوم أجل ! فاقض بينهم وارحهم ، قال مالك بن أوس : فخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك ، فقال عمر اتّئدوا (٦) : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا نوّرث ما تركنا صدقة ؟ قالوا : نعم ؛ ثم أقبل على العبّاس وعليّ عليه‌السلام فقال : أنشدكما بالله الذي باذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أنّ رسول

__________________

(١) أي ملقياً نفسه على الرمال لا حاجز بينهما ، ورمال السرير ـ بالكسر : ما رمل أي نسج ، جمع رمل بمعنى مرمول كالخلق بمعنى المخلوق ، والمراد به أنّه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطا سوى الحصير.

(٢) الوسادة : المخدّة.

(٣) ودفّ أهل أبيات : أي دخلوا المصر ، يقال : دفّ دافّة من العرب.

(٤) الرضخ ـ بالضاد والخاء المعجمتين ـ : العطاء القليل.

(٥) يرفأ ـ بالراء والفاء والهمز على صيغة المضارع ـ : كينع ، علم مولى عمر بن الخطاب.

(٦) اتئدوا : امر من التؤدة أي التأني والتثبت.

٤٥٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا نورث ، ما تركنا صدقة ؟ قالا : نعم ، إلى آخر الخبر ؛ ثمّ حكى في جامع الأصول ، عن البخاري ومسلم ، أنّه قال عمر لعلي عليه‌السلام : قال أبو بكر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً ، خائناً ، وتزعمان أنّه فيها كذا كما نقلنا سابقاً ؛ وحكي في جامع الاصول ، عن أبي دواد ، أنّه قال أبو البختري : سمعت حديثاً من رجل فأعجبني ، فقلت : اكتبه لي ، فاتي به مكتوباً مدبراً (١) ، دخل العباس وعلي عليه‌السلام على عمر ، وعنده طلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد : ألم تعلموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كل مال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقة ، إلاّ ما اطعمه أهله ، أو كساهم ، إنا لا نورث ؟ قالوا : بلى (٢).

توضيح : ولا يذهب علىٰ ذي فطنة أن شهادة الاربعة التي تضمنتها الرواية الاولى والثانية علىٰ اختلافهما ، لم يكن من حيث الرواية والسماع عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لثبوت الرواية عندهم بقول أبي بكر ، بقرينة أن عمر ناشد علياً عليه‌السلام والعباس : أتعلمان أن الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة ؟ فقالا : نعم ؛ وذلك لانه لا يقدر أحد في ذلك الزمان على تكذيب تلك الرواية ، وقد قال عمر في آخر الرواية : رأيتماه ، يعني أبا بكر كاذباً آثماً غادراً خائناً ، وكذا في حق نفسه ؛ والعجب أن القاضي لم يجعل علياً عليه‌السلام والعباس شاهدين على الرواية مع تصديقهما كما صدّق الباقون ، بل جميع الصحابة لأنهم يشهدون بصدقهما.

وقال ابن أبي الحديد بعد حكاية كلام السيد رضي‌الله‌عنه في أن الاستشهاد كان في خلافة عمر دون أبي بكر ، وأن معول المخالفين علىٰ إمساك الأمة عن النكير علىٰ أبي بكر دون الاستشهاد ما هذا لفظه : قلت : صدق المرتضى فيما قال ، أما عقيب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومطالبة فاطمة عليها‌السلام بالإرث فلم يرو الخبر إلاّ أبا بكر وحده ، وقيل : إنّه رواه معه مالك بن أوس ابن الحدثان ؛ وأما المهاجرين الذين ذكرهم قاضي القضاة فقد شهدوا بالخبر في خلافة عمر ، وتقدم ذكر ذلك ، وقال في الموضع المتقدم الذي أشار إليه ،

__________________

(١) أي مسنداً.

(٢) جامع الاصول : ٣ / ٣١١.

٤٥٦

وهو الفضل الذي ذكر فيه روايات أبي البختري على ما رواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، بإسناده عنه : قال جاء عليّ والعباس إلى عمر ، وهما يختصمان ، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد : أنشدكم الله ، أسمعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : كل مال نبي فهو صدقة إلاّ ما أطعمه أهله ، إنّا لا نورّث ! فقالوا : نعم ؛ قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتصدّق به ، ويقسم فضله ، ثمّ توفّي ، فولّيه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنتما تقولان : إنه كان بذلك خاطئاً ، وكان بذلك ظالماً وما كان بذلك إلاّ راشداً ، ثم ولّيته بعد أبي بكر فقلت لكما : إن شئتما قبلتماه علىٰ عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعهده الذي عهد فيه ، فقلتما : نعم ، وجئتماني الآن تختصمان ؛ يقول هذا : اريد نصيبي من ابن أخي ، ويقول هذا : اريد نصيبي من امرأتي ! والله لا أقضي بينكما إلاّ بذلك.

قال ابن ابي الحديد : قلت : وهذا أيضاً مشكل ، لأن أكثر الروايات أنّه لم يروِ هذا الخبر إلاّ أبا بكر وحده ، ذكر ذلك معظم المحدثين ، حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا علىٰ ذلك في إحتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. وقال شيخنا أبو علي : لا يقبل في الرواية إلاّ رواية إثنين كالشهادة ، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلّهم ، واحتجّوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده ، قال : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » ؛ حتّىٰ أن أصحاب أبي علي تكلف لذلك جواباً ، فقال : قد روي أن أبا بكر يوم حاجّ فاطمة عليها‌السلام قال : انشد الله امرءً سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا شيئاً ! فروى مالك بن أوس بن الحدثان : أنه سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعداً ، فقالوا : سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأين كانت هذه الرواية أيّام أبي بكر ! ما نقل أنّ أحداً من هؤلاء يوم خصومة فاطمة عليها‌السلام وأبي بكر روى من هذا شيئاً. انتهىٰ. فظهر أنّ قول القاضي ليس إلا شهادة زور ، ولو كان لما ذكره من إستشهاد أبي بكر مستند لاشار إليه كما هو الدأب في مقام الإحتجاج ، وأما هذه الرواية التي رواها ابن أبي الحديد فمع أنّها لا تدل علىٰ الإستشهاد في خلافة أبي بكر ، فلا تخلو من تحريف ، لما عرفت من أن لفظ رواية

٤٥٧

أبي البختري علىٰ ما رواه أبو داود ، وحكاه في جامع الاصول (١) : ألم تعلموا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كلّ مال النبي صدقة أسمعتم (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما رواه الجوهري ، علىٰ أنّه لا يقوم فيما تفرّدوا به من الأخبار حجّة علينا ، وأنّما الإحتجاج بالمتفق عليه ، أو ما اعترف به الخصم والإستشهاد علىٰ الرواية لم يثبت عندنا لا في أيّام أبي بكر ولا في زمن عمر ثمّ أورد السيد رحمه‌الله علىٰ كلام صاحب المغني بأنا لو سلّمنا إستشهاد من ذكر علىٰ الخبر لم يكن فيه حجة ، لأن الخبر على كلٰ حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى ، لأن المعلوم لا يخص إلاّ بمعلوم ؛ قال : علىٰ أنّه لو سلم لهم أنّ الخبر الواحد يعمل به في الشرع لاحتاجوا إلىٰ دليل مستأنف علىٰ انّه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما دل علىٰ العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به ، وتحقيق هاتين المسئلتين من وظيفة اصول الفقه.

والثاني : أنّ رواة الخبر كانوا متّهمين في الرواية بجلب النفع من حيث حلّ الصدقة وما أجاب به شارح كشف الحق من الفرق بين الرواية والشهادة ، وأنّ التهمة إنّما تضر في الشهادة دون الرواية ، فسخيف جداً ولم يقل أحد بهذا الفرق غيره.

الثالث و الرابع : ما تقدم في الإيراد الثالث والرابع من القسم الأوّل.

الخامس : ما تقدم من وجوب البيان للورثة.

أما القسم الثالث : وهو أن يكون مناط الحكم علىٰ علم أبي بكر مع شهادة النفر ؛ وكذلك الرابع : وهو أن يكون الإعتماد علىٰ روايته معهم ، فقد ظهر بطلانها مما سبق ، فإن المجموع وإن كان أقوىٰ من كل واحد من الجزئين ، إلاّ أنه لا يدفع التهمة ولا مناقضة الآيات الخاصة ولا باقي الوجوه السابقة ؛ وقد ظهر بما تقدم أن الجواب عن قول أبي علي : « أتعلمون كذب أبي بكر أم تجوزون صدقة ، وقد علم أنّه لا شيء يعلم به كذبه قطعاً فلابد من تجويز كونه صادقاً كما حكاه في المغني » هو أنا نعلم كذبه قطعاً والدليل عليه :

__________________

(١) ٣ / ٣١١.

(٢) كذا في البحار.

٤٥٨

ما تقدم من الوجوه الستّة المفصلة ، وأن تخصيص الآيات من هذا الخبر ليس من قبيل تخصيصها في القاتل والعبد كما ذكره قاضي القضاة. إذ مناط الثاني روايات معلومة الصدق ، والأول خبر معلوم الكذب. وقد سبق في خطبة فاطمة عليها‌السلام إستدلالها بقوله تعالى : ( وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ ) وبثلاث من الآيات السابقة ، وهو يدل مجملاً ، علىٰ بطلان ما فصّلوه من الأجوبة ؛ ثمّ إن بعض الاصحاب حمل الرواية علىٰ وجه لا يدل على ما فهم منها الجمهور وهو أن يكون ما تركناه صدقة مفعولاً ثانياً للفعل أعني « نورث » سواء كان بفتح الراء علىٰ صيغة المجهول من قولهم : ورثت أبي شيئاً ، أو بكسرها من قولهم : أورثه الشيء أبوه. وأما بتشديد الراء فالظاهر أنه لحن ، فإن التوريث إدخال أحد في المال على الورثة كما ذكره الجوهري وهو لا يناسب شيئاً من المحامل ويكون صدقة منصوباً علىٰ أن يكون مفعولاً لتركنا ، والإعراب لا تضبط في أكثر الروايات ؛ ويجوز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف علىٰ الصدقة فتوهّم أبو بكر أنه بالرفع وحينئذ يدل علىٰ أن ما جعلوه صدقة في حال حياتهم لا ينتقل بموتهم إلى الورثة أي ما نووا فيه الصدقة من غير أن يخرجوه من أيديهم لا يناله الورثة حتىٰ يكون للحكم إختصاص بالانبياء عليهم‌السلام ولا يدل على حرمان الورثة مما تركوه مطلقاً ؛ والحق أنه لا يخلو عن بعد ، ولا حاجة لنا إليه لما سبق ، وأما الناصرون لأبي بكر فلم يرضوا به وحكموا ببطلانه ، وإن كان لهم فيه التخلص عن القول بكذب أبي بكر ، فهو إصلاح لم يرض به أحد المتخاصمين ، ولا يجري في بعض رواياتهم.

واعلم أن بعض المخالفين استدلوا ـ على صحّة الرواية وما حكم به أبو بكر ـ بترك الاُمة النكير عليه ، وقد ذكر السيد الأجل رضي‌الله‌عنه في الشافي كلامهم ذلك على وجه السؤال ، وأجاب عنه بقوله فإن قيل : إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة عليها‌السلام من الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه ، فما بال الاُمة اقرته على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه ؛ قلنا قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا ، إلاّ في الموضع الّذي لا يكون له وجه سوى الرضا وبينا في الكلام على إمامة أبي بكر هذه الموضع بياناً شافياً.

٤٥٩

وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جواباً جيّد المعنى واللفظ ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها. قال : وقد زعم ناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر وعمر في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النكير عليهما ؛ ثمّ قال : فيقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلاً على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما بدليل دليلاً على صدق دعواهم وإستحسان مقالتهم لا سيما وقد طالت المشاحات ، وكثرت المراجعة والملاحات ، وظهرت الشكيمة ، واشتدت الموجدة ، وقد بلغ ذلك من فاطمة عليها‌السلام حتى أنّها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر وقد كانت ؛ قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة برهطها : من يرثك يا أبا بكر ، إذا مت ؟ قال : أهلي وولدي ، قالت : فما بالنا لا نرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتل عليها ، ولج في أمرها ، وعاينت التهضم ، وآيست من النزوع ، ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ؛ قالت :

والله لأدعونّ الله عليك ، قال : والله لادعون الله لك. قالت : ـ والله ـ لا اُكلمك أبداً ، قال : والله لا أهجرك أبداً ؛ فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعه إنّ في ترك النكير على فاطمة عليها‌السلام دليلاً على صواب طلبها ؛ وأت ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجراً أو تجوز عادلاً ، أو تقطع واصلاً ، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الاُمور واستوت الاسباب والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم ، وأوجب علينا وعليكم ، وإن قالوا كيف يظن ظلمها والتعدي عليها ؟ وكلما ، ازدادت فاطمة عليها‌السلام غلظة ازداد عليها ليناً ورقّة حيث تقول : ـ والله ـ لا اُكلّمك أبداً فيقول : والله لا أهجرك أبداً ، ثم تقول : والله لأدعونّ الله عليك فيقول : والله لأدعون الله لك ؛ ثم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة وما يجب لها من التنويه والهيبة ، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً أو متقرباً كلام المعظم لحقها ، المكبر لقيامها والصائن لوجهها ، والمتحنن عليها : ما أحد أعزّ عليّ منك فقراً ولا حبّ إليّ منك غنىً

٤٦٠