الأسرار الفاطميّة

الشيخ محمد فاضل المسعودي

الأسرار الفاطميّة

المؤلف:

الشيخ محمد فاضل المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة ـ لحضرة فاطمة المعصومة عليه السلام للطبعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6401-17-1
الصفحات: ٥٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المستوى الثاني

المعرفة المناقبية لها عليها‌السلام

وذلك بالإطلاع على معاجزها وكراماتها المحيرة للعقول والأفكار سواء في حياتها ، أو بعد شهادتها عليها‌السلام وما انبأت به من غيب وأسرار تعجز أكثر العقول البشرية عن الإحاطة بها والإلمام بحقائق دقائقها ، وما كانت عليه من أخلاق عالية وشرف رفيع ، وسمو أدب وكرامة نفس وسخاء طبع لا مثله سخاء وعبادة لا نظير لها ، وعلى هذا الأساس سيكون كلامنا في هذا المقام في أمرين وهما :

(١) ـ معاجزها في حياتها عليها‌السلام.

(٢) ـ أخلاقها عليها‌السلام.

معاجزها في حياتها عليها‌السلام

* روي أنّ سلمان قال : كانت فاطمة عليها‌السلام جالسة قدّامها رحى تطحن بها الشعير ، وعلى عمود الرحى دم سائل ، والحسين في ناحية الدار ( يتضوّر من الجوع ).

فقلت : يا بنت رسول الله ، دبرت كفّاك ، وهذه فضّة ؛

فقالت : أوصاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون الخدمة لها يوماً ، فكان أمس يوم خدمتها.

قال سلمان : قلت إنّي مولى عناقة ، إمّا أنا أطحن الشعير أو اُسكّت الحسين لك ؟

فقالت : أنا بتسكيته أرفق ، وأنت تطحن الشعير.

فطحنت شيئاً من الشعير ، فإذا أنا بالإقامة ، فمضيت وصلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا فرغت قلت لعليّ ما رأيت ، فبكى وخرج ، ثمّ عاد فتبسّم.

فسأله عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : دخلت على فاطمة وهي مستلقية لقفاها ،

٣٤١

والحسين نائم على صدرها ، وقدّامها رحى تدور من غير يد.

فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا عليّ ، أما علمت أنّ لله ملائكة سيّاره في الأرض يخدمون محمداً وآل محمد إلى أن تقوم الساعة (١).

* وروي عن اُسامة بن زيد ، قال :

افتقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم عليّاً ، فقال :

اطلبوا إليّ أخي في الدنيا والآخرة ، اطلبوا الي فاصل الخطوب اُطلبوا إليّ المحكّم في الجنة في اليوم المشهود ، اُطلبوا الي حامل لوائي في المقام المحمود.

قال اُسامة : فلمّا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، بادرت إلى باب عليّ ، فناداني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلفي : يا اُسامة ، عجّل عليّ بخبره وذلك بين الظهر والعصر.

فدخلت فوجدت عليّاً كالثوب الملقى لاطياً بالأرض ، ساجداً يناجي الله تعالى ، وهو يقول : سبحان الله الدائم ، فكّاك المغارم ، رزّاق البهائم ، ليس له في ديمومته إبتداء ، ولا زوال ولا انقضاء.

فكرهت أن أقطع عليه ما هو فيه حتى يرفع رأسه ، وسمعت أزيز الرحى فقصدت نحوها لاُسلّم على فاطمة عليها‌السلام واخبرها بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعلها ، فوجدتها راقدة على شقّها الأيمن ، مخمرة وجهها بجلبابها ـ وكان من وبر الإبل ـ وإذا الرحى تدور بدقيقها ، وإذا كفّ يطحن عليها برفق ، وكفّ اُخرى تلهي الرحى ، لها نور لا أقدر أن أملي عيني منها ، ولا أرى إلا اليدين بغير أبدان ، فامتلأت فرحاً بما رأيت من كرامة الله لفاطمة عليها‌السلام.

فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتباشير الفرح في وجهي بادية ، وهو في نفر من أصحابه ، قلت : يا رسول الله ! انطلقت أدعو عليّاً ، فوجدته كذا وكذا ؛

وانطلقت نحو فاطمة عليها‌السلام فوجدتها راقدة على شقّها الأيمن ، ورأيت كذا وكذا !

فقال : يا اُسامة ! أتدري من الطاحن ، ومن الملهي لفاطمة ؟

إنّ الله قد غفر لبعلها بسجدته سبعين مغفرة ، واحدة منها لذنوبه ما تقدّم منها وما

__________________

(١) الخرائج والجرائح : ٥٣٠ / ح ٦.

٣٤٢

تأخّر ، وتسعة وستّين مذخورة لمحبّيه ، يغفر الله بها ذنوبهم يوم القيامة.

وإن الله تعالى رحم ضعف فاطمة لطول قنوتها بالليل ، ومكابدتها للرحى والخدمة في النهار ، فأمر الله تعالى وليدين من الولدان المخلّدين أن يهبطا في أسرع من الطرف ، وإنّ أحدهما ليطحن ، والآخر ليلهي رحاها.

وإنّما أرسلتك لترى وتخبر بنعمة الله علينا ، فحدّث يا اُسامة !

لو تبديا لك لذهب عقلك من حسنهما ، وإنما سألتني خادماً فمنعتها ؛

فأخدمها الله بذلك سبعين ألف ألف وليدة في الجنّة ، الذين رأيت منهنّ.

وإنّا من أهل بيت اختار الله لنا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية (١).

* وعن حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن أنس قال : سألني الحجاج بن يوسف عن حديث عائشة ، وحديث القدر التي رأت في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تحركها بيدها ، قلت : نعم أصلح الله الأمير دخلت عائشة على فاطمة عليها‌السلام وهي تعمل للحسن والحسين عليهما‌السلام حريرة بدقيق ولبن وشحم ، في قدر ، والقدر على النار يغلي ( وفاطمة صلوات الله عليها ) تحرّك ما في القدر بإصبعها ، والقدر على النار يبقبق (٢).

فخرجت عائشة فزعة مذعورة ، حتى دخلت على أبيها ، فقالت : يا أبه ، إني رأيت من فاطمة الزهراء أمراً عجيباً [ عُجباً ] ، رأيتها وهي تعمل في القدر ، والقدر على النار يغلي ، وهي تحرّك ما في القدر بيدها ! فقال لها : يا بنيّة ! اكتمي ، فإنّ هذا أمر عظيم.

فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصعد المنبر ، وحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ الناس يستعظمون ويستكثرون ما رأوا من القدر والنار ؛ والذي بعثني بالرسالة ، واصطفاني بالنبوّة ، لقد حرّم الله تعالى النار على لحم فاطمة ، ودمها ، وشعرها ، وعصبها ، [ وعظمها ] وفطم من النار ذريّتها وشيعتها. إنّ من نسل فاطمة من تطيعه النار ، والشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، وتضرب الجنّ بين يديه بالسيف ، وتوافي إليه الأنبياء بعهودها ، وتسلّم إليه الأرض كنوزها ، تنزّل عليه من السماء بركات ما فيها

__________________

(١) الثاقب في المناقب : ٢٩١ ح ٢٤٩.

(٢) البقبقة : حكاية صوت القدر في غليانه ( تاج العروس : ٦ / ٢٩٧ ).

٣٤٣

الويل لمن شك في فضل فاطمة.

[ لعن الله من يبغضها ] لعن الله من يبغض بعلها ، ولم يرض بإمامة ولدها.

إنّ لفاطمة يوم القيامة موقفاً ، ولشيعتها موقفاً.

وإنّ فاطمة تُدعى فتكسى ، وتشفع فتشفّع ، على رغم كلّ راغم (١).

* روي عن جابر بن عبد الله قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام أيّاماً ولم يطعم طعاماً حتّى شقّ ذلك عليه ، فطاف في ديار أزواجه فلم يصب عند إحداهنّ شيئاً ، فأتى فاطمة فقال : يا بنيّة ! هل عندك شيء آكله ، فإنّي جائع ؟

قالت : لا ـ والله ـ بنفسي وأمّي. فلمّا خرج عنها ، بعثت جارية لها رغيفين وبضعة لحم ، فأخذته ووضعته في جفنة وغطّت عليها ، وقال : لأوثرنّ بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرجع إليها فقالت : قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك ، فقال : هلمّي يا بنيّة ، فكشفت الجفنة ، هي مملوءة خبزاً ولحماً ، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّه من عند الله ، فحمدت الله ، وصلّت على نبيّه أبيها ، وقدّمته إليه فلمّا رآه حمد الله. وقال : من أين لك هذا ؟

قالت : هو من عند الله ، ( إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (٢). فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى علي ، فدعاه وأحضره ، وأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وجميع أزواج النبّي حتى شبعوا. قالت فاطمة عليها‌السلام : وبقيت الجفنة كما هي ، فأوسعت منها على جميع جيراني ، جعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً (٣).

* وعن أبي الفرج محمد بن المكّي ، عن المظفر بن أحمد بن عبد الواحد ، عن محمد بن علي الحلواني ، عن كريمة بنت أحمد بن محمد الروندي :

وأخبرني أيضاً به عالياً قاضي القضاة محمد بن الحسين البغدادي ، عن الحسين ابن

__________________

(١) العوالم : ١ / ١٩٨.

(٢) آل عمران : ٣٧.

(٣) الخرائج والجرائح : ٥٢٨ ح ٣ ، عنه البحار ، ٤٣ / ٢٧ ح ٣٠. ورواه في الثاقب في المناقب : ٢٩٥ بإسناده عن زينب ، والعرائس : ٥٧ ، ومقتل الحسين : ١ / ٥٧ ، وفرائد السمطين : ٢ / ٥١ ، وابن كثير في البداية والنهاية : ٦ / ١١١ وفي تفسيره : ٢ / ٢٢٢ ، والدرّ المنثور : ٢ / ٢٠ ، وروح المعاني : ٣ / ١٢٤ ، عن بعضها الإحقاق : ٣ / ٥٣٨ ، و ١٠ / ٣١٤.

٣٤٤

محمد بن علي الزينبي ، عن الكريمة فاطمة بنت أحمد بن محمد المروزيّة بمكّة حرسها الله تعالى ، عن أبي علي زاهر بن أحد ، عن معاذ بن يوسف الجرجاني ، عن أحمد بن محمد ابن غالب ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن نمير ، عن مجالد ، عن ابن عبّاس ، قال :

خرج أعرابي من بني سليم يتبدّى في البريّة ، فإذا هو بضبّ قد نفر من بين يديه ، فسعى وراءه ، حتى اصطاده ، ثمّ جعله في كمّه ، وأقبل يزدلف نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى أن قال ـ فقال : من يزوّد الأعرابي ، وأضمن له على الله عز وجل زاد التقوى.

قال : فوثب إليه سلمان الفارسي فقال : فداك أبي وأمّي وما زاد التقوى ؟

قال : يا سلمان ، إذا كان آخر يوم من الدنيا ، لقّنك الله عزّ وجلّ قول : شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ؛ فإن أنت قلتها لقيتني ولقيتك ، وإن أنت لم تقلها لم تلقني ولم ألقك أبداً.

قال : فمضى سلمان حتى طاف تسعة أبيات من بيوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم ، يجد عندهنّ شيئاً ، فلمّا أن ولّى راجعاً نظر إلى حجرة فاطمة عليها‌السلام.

فقال : إن يكن خير فمن منزل فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرع الباب :

فأجابتة من رواه الباب : من بالباب ؟ فقال لها : أنا سلمان الفارسي.

فقالت له : يا سلمان ! وما تشاء ؟ فشرح قصّة الأعرابي والضبِّ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالت له : يا سلمان ! والذي بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ نبيّاً إنّ لنا ثلاثاً ما طعمنا ، وإنّ الحسن والحسين قد اضطربا عليّ من شدّة الجوع، ثمّ رقدا كأنّهما فرخان منتوفان ؛ ولكن لا أردّ الخير [ إذا نزل الخير ببابي ] يا سلمان ؛ خذ درعي هذا ، ثمّ امض به إلى شمعون اليهودي ، وقل له : تقول فاطمة بنت محمد : أقرضني عليه صاعاً من تمر وصاعاً من شعير أردّه عليك إن شاء الله تعالى.

قال : فأخذ سلمان الدرع ، ثمّ أتى به إلى شمعون اليهودي ؛

قال : فأخذ شمعون الدرع ، ثمّ جعل يقلّبه في كفه وعيناه تذرفان بالدموع وهو يقول : يا سلمان! هذا هو الزهد في الدنيا ، هذا الذي أخبرنا به موسى بن عمران في التوراة ، أنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فأسلم وحسن إسلامه.

ثمّ دفع إلى سلمان صاعاً من تمر ، وصاعاً من شعير ، فأتى به سلمان إلى فاطمة عليها‌السلام ،

٣٤٥

فطحنته بيدها ، وأختبزته ، ثمّ أتت به إلى سلمان ؛

فقالت له : خذه وامض به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : فقال لها سلمان : يا فاطمة ، خذي منه قرصاً تعلّلين به الحسن والحسين. فقالت : يا سلمان ، هذا شيء أمضيناه لله عز وجل لسنا نأخذ منه شيئاً. قال : فأخذه سلمان ، فأتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا نظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سلمان قال له : يا سلمان ، من أين لك هذا ؟ قال : من منزل بنتك فاطمة. قال : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يطعم طعاماً منذ ثلاث. قال : فوثب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ورد إلى حجرة فاطمة ، فقرع الباب ، وكان إذا قرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الباب لا يفتح له الباب إلا فاطمة ؛ فلمّا أن فتحت له الباب ، نظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صفار وجهها وتغيّر حدقتيها ، فقال لها : يا بنيّة ، ما الذي أراه من صفار وجهك وتغيّر حدقتيك ؟ فقالت : يا أبة ، إن لنا ثلاثاً ما طعمنا طعاماً ؛ وإن الحسن والحسين قد اضطربا عليَّ من شدّة الجوع ، ثمّ رقدا كأنّهما فرخان منتوفان.

قال : فأنبههما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ واحداً على فخذه الأيمن ، والآخر على فخذه الأيسر ، وأجلس فاطمة عليها‌السلام بين يديه واعتنقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودخل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فاعتنق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ورائه ، ثم رفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرفه نحو السماء فقال : إلهي وسيّدي ومولاي ، هؤلاء أهل بيتي ، اللهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً !

قال : ثمّ وثبت فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى دخلت إلى مخدع لها ، فصفّت قدميها ، فصلّت ركعتين ثمّ رفعت باطن كفّيها إلى السماء وقالت :

إلهي وسيدي ، هذا محمد نبيُّك ، وهذا عليُّ ابن عمّ نبيّك ، وهذان الحسن والحسين سبطا نبيّك ، إلهي أنزل علينا مائدة [ من السماء ] كما أنزلتها على بني إسرائيل ، أكلوا منها وكفروا بها ، اللهم أنزلها علينا فإنّا بها مؤمنون.

قال ابن عباس : ـ والله ـ ما استتمّت الدعوة ، فإذا هي بصحفة من ورائها يفور قتارها ، وإذا قُتارها (١) أزكى من المسك الأذفر ، فاحتضنتها.

ثمّ أتت بها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي والحسن والحسين ، فلمّا أن نظر إليها علي بن أبي

__________________

(١) القتار : هو ريح القدر والشواء ونحوهما ( النهاية : ٤ / ١٢ ).

٣٤٦

طالب عليه‌السلام قال لها : يا فاطمة ، من أين لك هذا ؟ ولم يكن أجد عندك شيئاً !

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل يا أبا الحسن ، ولا تسأل ، الحمد لله الذي لم يمتني حتى رزقني ولداً ، مَثَلُها مثل مريم بنت عمران ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١).

قال : فأكل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليُّ والحسن والحسين ، وخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الحديث (٢).

وعن عبيد بن كثير ـ معنعنا ـ عن أبي سعيد الخدري قال : أصبح علي بن أبي طالب عليه‌السلام ذات يوم فقال : يا فاطمة ! هل عندك شيء تغذينه ؟ قالت : لا ، والذي اكرم أبي بالنبوة ، وأكرمك بالوصية ، ما أصبح الغداة عندي شيء وما كان شيء أطعمنا مذ يومين إلاّ شيء كنت أوثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين عليهما‌السلام. فقال علي عليه‌السلام : يا فاطمة ! إلاّ كنت أعلمتيني فأبغيكم شيئاً ؟ فقالت : يا أبا الحسن ! أني لأستحي من الهي ان اكلف نفسك ما لا تقدر عليه. فخرج علي بن ابي طالب عليه‌السلام من عند فاطمة عليها‌السلام واثقا بالله بحسن الظن بالله فاستقرض دينارا ، فبينا الدينار في يد علي بن ابي طالب عليه‌السلام يريد ان يبتاع لعياله ما يصلحهم ، فتعرض له المقداد بن الاسود في يوم شديد الحر ، قد لوحته الشمس من فوقه وآذته من تحته ، فلما رآه علي بن أبي طالب عليه‌السلام انكر شأنه ، فقال : يا مقداد ! ما ازعجك هذه الساعة من رحلك ! قال : يا أبا الحسن خلي سبيلي ولا تسألني عما ورائي. فقال : يا اخي انه لا يسعني ان تجاوزني حتى اعلم علمك.

فقال : يا أبا الحسن ! رغبة إلى الله واليك ان تخلي سبيلي ولا تكشفني عن حالي. فقال

__________________

(١) آل عمران : ٣٧.

(٢) البحار : ٤٣ / ٦٩ ، وقد قال في البحار بعد هذه الرواية :

أقول : وجدت هذا الحديث في كتاب قديم من مؤلّفات العامّة ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن علي الطرشيشي ببغداد سنة ٨٤ ؛ قال : حدّثتنا كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي بمكّة حرسها الله بقراءتها علينا في المسجد الحرام في ذي الحجة ٤٣١ ، قالت : أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه ـ الخ. يراجع البحار. ورواه في مقتل الحسين : ١ / ٧١ ، وفي نزهة المجالس : ١ / ٢٢٤ ( نحوه ) ، عنه الإحقاق : ١٠ / ٣١٨ ، المستدرك : ١٠ / ٣١٠ ح ١ ( قطعة ).

٣٤٧

له : يا اخي انه لا يسعك ان تكتمني حالك.

فقال : يا أبا الحسن ! اما اذا ابيت فو الذي اكرم محمدا بالنبوة ، واكرمك بالوصية ، ما ازعجني من رحلي ، إلاّ الجهد ، وقد تركت عيالي يتضرعون جوعا ، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض ، فخرجت مهموما راكبا رأسي ، هذه حالي وقصتي ، فانهملت عينا ، علي عليه‌السلام بالبكاء حتى بلت دمعته لحيته ، فقال له : احلف بالذي حلفت ، ما ازعجني إلاّ الذي ازعجك من رحلك ، فقد استقرضت ديناراً ، فقد آثرتك على نفسي ، فدفع الدينار إليه ، ورجع حتى دخل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلى فيه يوم الظهر والعصر والمغرب. فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المغرب مر بعلي بن ابي طالب عليه‌السلام وهو في الصف الأوّل ، فغمزه برجله ، فقام علي عليه‌السلام متعقبا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لحقه على باب من أبواب المسجد ، فسلم عليه فرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال : يا أبا الحسن ! هل عندك شيء نتعشاه فنميل معك ؟ فمكث مطرقا لا يحير جوابا ، حياء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يعلم ما كان من امر الدينار ومن اين اخذه ، واين وجهه ، وقد كان اوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يتعشى الليلة عند علي ابن أبي طالب عليه‌السلام. فلما نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سكوته ، فقال : يا أبا الحسن ! ما لك لا تقول : لا ، فانصرف ، أو تقول : نعم ، فأمضي معك ؟ فقال ـ حياء وتكرما ـ : فاذهب بنا ؟ فاخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يد علي بن ابي طالب عليه‌السلام فانطلقا حتى دخلا على فاطمة الزهراء عليها‌السلام وهي في مصلاها قد قضت صلاتها ، وخلفها جفنة تفور دخانا ، فلما سمعت كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رحلها ، خرجت من مصلاها ، فسلمت عليه ، وكانت اعز الناس إليه ، فرد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومسح على رأسها ، وقال لها : يا بنتاه ! كيف امسيت رحمك الله.

قالت : بخير ، قال عشينا غفر الله لك ، وقد فعل ، فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي وعلي بن ابي طالب عليهما الصلاة والسلام.

فلما نظر علي بن أبي طالب عليه‌السلام إلى الجفنة والطعام وشم ريحه ، رمى فاطمة ببصره رميا شحيحا (١) قالت : له فاطمة سبحان الله ، ما اشح نظرك واشده ! هل اذنبت فيما بيني

__________________

(١) قوله : رميا شحيحا ، الشح : البخل مع حرص ، وهو لا يناسب المقام إلاّ بتكلف. ويحتمل ان يكون اصله سحيحا ، بالسين المهملة من السح بمعنى : السيلان ، كناية عن المبالغة في النظر

٣٤٨

وبينك ذنبا استوجبت به السخطة ؟! قال : وأي ذنب أعظم من ذنب اصبته ، اليس عهدي اليك اليوم الماضي وانت تحلفين بالله مجتهدة ، ما طعمت طعاما مذ يومين ؟ قال : فنظرت إلى السماء ، فقالت : الهي يعلم في سمائه ويعلم في ارضه اني لم أقل إلاّ حقاً.

فقال لها : يا فاطمة ! انى لك هذا الطعام الذي لم انظر إلى مثل لونه قط ، ولم اشم مثل ريحه قط ، وما لم آكل اطيب منه قط ؟ قال : فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفه الطيبة المباركة بين كتفي علي بن ابي طالب عليه‌السلام ، فغمزها ، ثم قال : يا علي ! هذا بدل دينارك ، وهذا جزاء دينارك من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب.

ثم استعبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باكيا ، ثم قال : الحمد لله الذي هو أبى لكم ان تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ، ويجزيك يا علي ، مجزى زكريا ، ويجزى فاطمة مجزى مريم بنت عمران ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ) (١).

* وروي عن يوسف بن يحيى ، عن ابيه ، عن جده ، قال : رأيت رجلا بمكة شديد السواد له بدن ، وخلق غابر ، وهو ينادي ، أيها الناس ، دلوني على اولاد محمد ، فأشار إليه بعضهم وقال : ما لك ؟ قال : انا فلان بن فلان. قالوا : كذبت ان فلانا كان صحيح البدن صبيح الوجه ، وانت شديد السواد غابر الخلق. قال : وحق محمد اني لفلان ، اسمعوا حديثي.

اعلموا اني كنت جمال الحسين ، فلما ان صرنا إلى بعض المنازل برز للحاجة وانا معه فرأيت تكة لباسه وكان اهداها ملك فارس حين تزوج بنت اخيه شاه زنان بنت يزدجرد ، فمنعني هيبة أسألها اياه ، فدرت حوله لعلي اسرقها ، فلم اقدر عليها.

فلما صار القوم بكربلاء ، وجرى ما جرى ، وصارت ابدانهم ملقاة تحت سنابك

__________________

والتحديق بالبصر وعلى ما في النسخ يحمتل ان يكون من الحرص كناية عن المبالغة في النظر ، او البخل كناية عن النظر بطرف البصر على وجه الغيظ.

(١) كشف الغمة : ١ / ٤٦٩ ، أمالي الطوسي : ٢ / ٢٢٨ ، عنها البحار : ٤٣ / ٥٩ ح ٥١. تأويل الايات : ١ / ١٠٨ ح ١٥ ، والبحار : ٩٦ / ١٤٧ ح ٢٥ ، واخرجه في ذخائر العقبى : ٤٥ ، وكفاية الطالب : ٣٦٧ وينابيع المودة : ١٩٩ ، ملخصا عن الاربعين الطوال الدمشقي ، ورواه في أهل البيت : ١٢٢ ، والاحقاق : ١٠ / ٣٢٣ وج ١٩ / ١٢٠. ورواه في المعيار والموازنة : ٢٣٦ ، وتوضيح الدلائل عنهما الاحقاق : ١٨ / ٥٠.

٣٤٩

الخيل ، اقبلنا نحو الكوفة راجعين ، فلما ان صرت إلى بعض الطريق ذكرت التكة ، فقلت في نفسي : قد خلا ما عنده ، فصرت إلى موضع المعركة ، فقربت منه فاذا هو مرمل بالدماء ، قد حز رأسه من القفا وعليه جراحات كثيرة من السهام والرماح ، فمددت يدي إلى التكة وهممت ان احل عقدها ، فرفع يده وضرب بها يدي ، فكادت اوصالي وعروقي تتقطع ، ثم اخذ التكة من يدي ، فوضعت رجلي على صدره وجهدت جهدي لازيل اصبعا من اصابعه ، فلم اقدر ، فأخرجت سكينا كان معي ، فقطعت اصابعه ثم مددت يدي إلى التكة ، وهممت بحلها ثانيا ، فرأيت خيلا اقبلت من نحو الفرات ، وشممت رائحة لم اشم رائحة اطيب منها ، فلما رأيتهم قلت : انا الله وانا إليه راجعون ، انما اقبلوا هؤلاء لينظروا إلى كل انسان به رمق « فيجهزوا عليه ».

فصرت بين القتلى ، وغاب عني عقلي من شدة الجزع ، فاذا رجل يقدمهم ـ كان وجهه الشمس ـ وهو ينادي : انا محمد رسول الله ، والثاني ينادي : انا حمزة اسد الله ، والثالث ينادي : انا جعفر الطيار ، والرابع ينادي : انا الحسن بن علي. وأقبلت فاطمة وهي تبكي وتقول : حبيبي ، وقرة عيني ، ابكي على رأسك المقطوع ، ام على يديك المقطوعتين ، ام على بدنك المطروح ، ام على اولادك الاسارى. ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اين رأس حبيبي وقرة عيني الحسين ، فرأيت الرأس في كف النبي ، فوضعه على بدن الحسين ، فاستوى جالسا ، فاعتنقه النبي وبكى ـ فذكر الحديث ـ إلى أن قال ـ : فقال : يا عدو الله ! ما حملك على قطع اصابع حبيبي وقرة عيني الحسين ـ إلى ان قال : ـ ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اخسأ يا عدوا الله ! غير الله لونك ، فقمت ، فاذا انا بهذه الحالة (١).

* وروي ان رجلا كان محبوسا بالشام مدة طويلة مضيقاً عليه ، فرأى في منامه كأن الزهراء صلوات الله عليها أتته فقالت : ادع بهذا الدعاء ، فتعلمه ودعا به فتخلص ورجع إلى منزله وهو : اللهم بحق العرش ومن علاه ، وبحق الوحي ومن اوحاه ، وبحق النبي ومن نباه ، وبحق البيت ومن بناه ، ويا سامع كل صوت ، ويا جامع كل فوت ،

__________________

(١) مدينة المعاجز : ٢٣٩.

٣٥٠

يا بارئ النفوس بعد الموت ، صل على محمد وأهل بيته ، وآتنا وجميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها فرجا من عندك ، عاجلا بشهادة ان لا إله إلاّ الله ، وان محمدا عبدك ورسولك ، صلى الله عليه وعلى ذريته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما (١).

وفي جواهر العقدين للشريف السمهودي المصري من العجائب ان ابا الحسن نصر بن عيين الشاعر توجه إلى مكة المعظمة ومعه متاع ومال ، فخرج عليه بعض الاشراف من بني داود المقيمين بوادي الصغرى فأخذوا ما كان معه وجرحوه فكتب قصيدة إلى الملك ، الناصر ان يذهب بالساحل ويفتحه من ايدي الافرنج القصيدة هذه :

أغنت صفاتك ذاك المصقع اللسنا

جزت بالجود حد الحسن والمحسنا

ولا تقل ساحل الافرنج اقتحمه

فما يساوي اذا قاسيته عدنا

طهر سيفك بيت الله من دنس

وما احاط به من خسة وخنا

ولا تقل انهم اولاد فاطمة

لو ادركوا آل حرب حاربوا الحسنا

فلما اتم هذه القصيدة رأى في النوم فاطمة عليها‌السلام وهي تطوف بالبيت فسلم عليها فلم تجبه ، فتضرع اليها وتذلل عندها وسألها عن ذنبه الذي أوجب ذلك ، فانشدت فاطمة عليها‌السلام هذه القصيدة :

__________________

(١) البحار : ٨٩ / ٣٦٥ ح ٥٩ ، البلد الامين : ٥٢٣ ، الجنة الواقية : ١٧٩.

٣٥١

حاشا بني فاطمة كلهم

من خسة يعرض او من خنا

وانما ايام في غدرها

وفعلها السوء اساءت بنا لئن جنا

من ولدي واحد

تجعل كل السب عمدا لنا

فتب إلى الله فمن يقترف

اثما بنا لا يأمن مما جنا

فاصفح لاجل المصطفى احمد

ولا تثر من آله اعينا

فكل ما نالك منهم غدا

تلقى به في الحشر منامنا

ثم صب بيدها المباركة المكرمة المقدسة شيئا شبه الماء على جرحه ، ثم ايقظ من منامه فرأى ان جراحته التي كانت في بدنه صارت ملتئمة صحيحة ، فكتب فورا قصيدة فاطمة عليها‌السلام التي انشدتها في رؤياه ، ثم قال معتذرا :

عذر إلى بنت نبي الهدى

تصفح عن ذنب محب جنا

وتوبة تقبلها عن اخي

مقالة توقعها في العنا

والله لو قطعني واحد

منهم بسيف البغي او بالقنا

لم اره بفعله ظالما

بل انه في فعله احسنا

فكتب هذه الحكاية إلى ملك اليمن فارسل الملك الهدايا الكثيرة لهذه الاشراف وأهل مكة وهذه القصيدة مشهورة بين الناس ومسطورة في ديوان ابن عيين (١).

* وروي أن عليا عليه‌السلام أستقرض من يهودي شعيرا ، فاسترهنه شيئا فدفع إليه ملاءة (٢) فاطمة ، رهنا ، وكانت من الصوف فأدخلها اليهودي إلى داره ووضعها في البيت. فلما كانت الليلة دخلت زوجته البيت الذي فيه الملاءة بشغل ، فرأت نوراً ساطعاً في البيت أضاء به كله فانصرفت إلى زوجها ، فأخبرته بأنها رأت في ذلك البيت ضوءاً عظيماً فتعجب اليهودي من ذلك وقد نسي ان في بيته ملاءة فاطمة. فنهض مسرعاً ودخل البيت فاذا ضياء الملاءة ينشر شعاعها كأنه يشتعل من بدر منير ، يلمع من قريب فتعجب من ذلك ، فأنعم النظر في موضع الملاءة ، فعلم ان ذلك النور من ملاءة فاطمة عليها‌السلام ، فخرج اليهودي يعدو إلى أقربائه وزوجته تعدوا إلى أقربائها

__________________

(١) ينابيع المودة : ٣٦٧.

(٢) الملاءة ـ بالضم والمد ـ : الازار والريطة.

٣٥٢

فاجتمع ثمانون من اليهود فرأوا ذلك فأسلموا كلهم (١).

* وعن سلمان الفارسي : انه لما استخرج امير المؤمنين من منزله ، خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر ، فقالت خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمدا بالحق لئن لم تخلوا عنه لانشرن شعري ولأضعن قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رأسي ، ولأصرخن إلى الله ، فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولدي. قال سلمان : فرأيت والله اساس حيطان المسجد تقلعت من اسفلها ، حتى لو اراد الرجل ان ينفذ من تحتها نفذ فدنوت منها وقلت : يا سيدتي ومولاتي : ان الله تبارك وتعالى بعث اباك رحمة فلا تكوني نقمة ، فرجعت الحيطان حتى صعدت الغبرة من أسفلها فدخلت في غياشيمنا (٢).

اخلاقها عليها‌السلام

تجدست في شخصية فاطمة عليها‌السلام مختلف ابعاد الاخلاق الاسلامية التي دعت واكدت عليها التعاليم القرآنية ، ولقد ضربت المثل الاعلى للمرأة المؤمنة الكاملة ، وهذا ما نراه واضحا ، وجليا من خلال استقراء سيرتها عليها‌السلام وفي مختلف الابعاد الانسانية ، فقد ورد عن علي عليه‌السلام قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اخبروني أي شيء خير للنساء ؟ فعيينا بذلك حتى تفرقنا ، فرجعت إلى فاطمة ، فأخبرتها الذي قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس أحد منا علمه ، ولا عرفه.

قالت : ولكني أعرفه : خير للنساء ان لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت يا رسول الله ، سألتنا : أي شيء خير للنساء ؟ وخيرهن ان لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال. قال : من اخبرك ، فلم تعلمه وأنت عندي ؟ قلت فاطمة فأعجب ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال ان فاطمة بضعة مني (٣).

__________________

(١) المناقب : ٣ / ١١٧ ، والخرائج والجرائح : ٣٥٧ ح ١٣.

(٢) المناقب : ٣ / ١١٨.

(٣) كشف الغمة : ١ / ٤٦٦ ، مقتل الخوارزمي : ١ / ٦٢ ، حلية الأولياء : ٢ / ٤٠ أرجح المطالب : ٢٤٤ ، اسعاف الراغبين : ١٨٧.

٣٥٣

أقول : والذي يظهر من هذه الاحاديث ان فاطمة حددت الضابطة الكلية التي فيها خير المرأة والصلاح لها في الحياة الدنيا والاخرة ذلك هو ان لا يرى المراة رجل ولا ترى رجل ، وفي أمر ورد ايضا عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام استأذن أعمى على فاطمة عليها‌السلام فحجبته.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها : لم حجبته وهو لا يراك ؟

فقالت عليها‌السلام : ان لم يكن يراني فأني أراه ، وهو يشم الريح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشهد انك بضعة مني (١). وسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه عن المرأة ، ما هي ؟ قالوا : عورة : قال فمتى تكون أدنى من ربها ؟ فلم يدروا ، فلما سمعت فاطمة عليها‌السلام ذلك قالت : أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن فاطمة بضعة مني (٢).

أقول : يظهر من هذا الحديث ان الرسول سأل اصحابه ولم يكن فيهم علي عليه‌السلام ، وهذا معارض للحديث الأوّل من حيثية وجود علي عليه‌السلام ، فالحديث الأوّل بين ان الإمام علي لم يعرف جواب السؤال الذي سأله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا مخالف لكثير من الاحاديث التي تبين مقام علي عليه‌السلام العلمية ولذا سيكون من حيث الدلالة الحديث الاخير الذي قدمناه وهو الاصح ، وإلاّ لو كان علي عليه‌السلام حاضرا لأجاب على سؤال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخاصة نحن نعلم ان علي عليه‌السلام وفاطمة احدهما كفوا للاخر في كل الأمور التي أقرأتها الاحاديث التي وردت عن لسان المعصومين عليهم‌السلام.

وأعطي لك شاهداً واحداً من خلال استقراء احاديث العلماء والصالحين في قضية اخلاق فاطمة الزهراء عليها‌السلام تاركا لك مراجعة أقوال الاخرين فضلا عن احاديث أهل البيت الذي هي بحر عميق لمن اراد الغوص فيه واستخراج الدرر المتناثرة فيه ، ومن هذه الاقوال (٣). لم تكن الزهراء امرأة عادية كانت امرأة روحانية امرأة ملكوتية ... كانت انسانا بتمام معنى الكلمة نسخة انسانية متكاملة ... امرأة حقيقية كاملة ... حقيقة الإنسان الكامل ، لم تكن امرأة عادية ، بل هي كائن ملكوتي تحلى في الوجود بصورة

__________________

(١) نوادر الراوندي : ١٣.

(٢) البحار : ٤٣ / ٩٢.

(٣) المرأة في فكر الإمام الخميني : ٢٣ ـ ٢٤.

٣٥٤

انسان ... بل كائن الهي جبروتي ظهر على هيئة امرأة ... فقد اجتمعت في هذه المرأة جميع الخصال الكمالية المتصورة للانسان وللمرأة. انها المرأة التي تتحلى بجميع خصال الانبياء ... المرأة التي لو كانت رجلا لكانت نبيا ... لو كانت رجلا لكانت بمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. غدا يوم المرأة حيث ولدت جميع ابعاد منزلتها وشخصيتها ، غدا ذكرى مولد الكائن الذي اجتمعت فيه المعنويات ، والمظاهر الملكوتية ، والالهية والجبروتية والملكية والانسية ، غدا ميلاد الإنسان لجميع الانسانية من معنى ، غدا ميلاد امرأة بكل ما تحمله كلمة « المرأة » من معنى ايجابي. ان المرأة تتسم بأبعاد مختلفة كما هو الرجل ، وان هذا المظهر الصوروي الطبيعي يمثل ادنى مراتب الإنسان ادنى مراتب المرأة ، وادنى مراتب الرجل ، بيد ان الإنسان يسمو في مدارج الكمال انطلاقا من هذه المرتبة المتدنية ، فهو في حركة دؤوبة من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب ، إلى الفناء في الالهية وان هذا المعنى متحقق في الصديقة الزهراء ، التي انطلقت في حركتها من مرتبة الطبيعة وطوت مسيرتها التكاملية بالقدرة الالهية ، بالمدد الغيبي وبتربية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتصل إلى مرتبة دونها الجميع. امرأة هي مغفرة بيت النبوة وتسطع كما تسطع الشمس في جبين الاسلام العزيز ، امرأة تماثل فضائلها الرسول الاكرم والعترة الطاهرة غير متناهية ... امرأة لا يفي حقها من الثناء كل من يعرفها مهما كانت نظرته ، ومهما ذكر لأن الاحاديث التي وصلتنا عن بيت النبوة هي على قدر أفهام المخاطبين ، واستيعابهم فمن غير الممكن صب البحر في جرة ، ومهما تحدث عنها الاخرون فهو على قدر فهمهم ولا يضاهي منزلتها. اذن فمن الاولى ان نمر سريعا من هذا الوادي العجيب.

وكانت الصديقة فاطمة عليها‌السلام عابدة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فمتى ما كانت تقوم في محرابها بين يدي الله تعالى ، زهر عند ذلك نورها لملائكة السماوات والأرض كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض (١) ، وروت هي سلام الله عليها انها قالت : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ان في الجمعة لساعة لا يراقبها رجل مسلم يسأل الله عز وجل فيها خيرا إلاّ اعطاه اياه. فقلت : يا رسول الله أي ساعة هي ؟ قال اذا تدلى

__________________

(١) امالي الصدوق : ٣٩٤ ح ١٨ بشارة المصطفى : ٢١٨.

٣٥٥

نصف عين الشمس للغروب. لذا نجدها سلام الله عليها كانت تقول لغلامها اصعد على الظراب فاذا رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فاعلمني حتى ادعوا ولذلك نجد في كتب الادعية والزيارة استحباب قراءة دعاء السمات اخر ساعة من يوم الجمعة تأسيا بما ورد عن لسان فاطمة عن أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وورد عن الإمام الحسن عليه‌السلام انه قال : رأيت أمي فاطمة عليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى انصع عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء فقلت لم لهذا يا اماه ، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يا بني الجار ثم الدار (١) ، واخيرا قول الحسن البصري الذي قال في حقها عليها‌السلام : « ما كان في هذه الأمة اعبد من فاطمة عليها‌السلام كانت تقوم حتى تتورم قدماها » (٢).

__________________

(١) علل الشرايع : ١ / ١٨١ ح ١ ، دلائل الإمامة (٥٦).

(٢) المناقب : ٣ / ١١٩ ، ربيع الابرار : ٢ / ١٠٤.

٣٥٦

المستوى الثالث

المعرفة العلمية والفكرية لها عليها‌السلام

ألا هل إلى طول الحياة سبيل

وأنى وهذا الموت ليس يحول

واني وان اصبحت بالموت موقنا

فلي املٌ من دون ذاك طويل

وللدهر الوان تروح وتغتدي

وان نفوسا بينهن تسيل

ومنزل حقَّ لا معرج دونه

لكل امرئ منها إليه سبيل

قطعت بأيام التعزز ذكره

وكل عزيز ما هناك ذليل

ارى علل الدنيا علي كثيرة

وصاحبها حتى الممات عليل

واني وان شطت بي الدار نازحا

وقد مات قبلي بالفراق جميل

وقد قال في الامثال في البين قائل

اضرَّ به يوم الفراق رحيل

لكلِّ اجتماع من خليلين فرقة

وكل الذي دون الفراق قليل

وان افتقادي فاطما بعد احمد

دليل على ان لا يدوم خليل

وكيف هناك العيش من بعد فقدهم

لعمرك شيء ما إليه سبيل (١)

وليس جليلا رزء مالٍ وفقده

ولكن رزء الاكرمين جليل

يتساوى الناس في الحقوق والواجبات من جهة التشريع الاسلامي ومنطلقاته الاصلية ، فهم سواسية كأسنان المشط في المظهر الخارجي ، ولكن من حيث حقيقة وجوهر كل انسان تختلف من شخصية إلى اخرى ، وقديما قيل : الناس مخابر ، وليسوا بمناظر أي الإنسان بجوهره وحقيقته ، وذلك ان المخبر يكشف عن سلوك الإنسان ويبدو على سيرته الذاتية بشكل واضح لا لبس فيه ... فما أضمر ابن ادم شيئا الا وظهر

__________________

(١) البحار : ج ٤٣ / ص ٢١٦ ، عن الديوان المنسوب لأمير المؤمنين انشدها بعد وفاة الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ولم يذكر الجامع للديوان المنسوب لامير المؤمنين عليه‌السلام من هذه القصيدة سوى ثلاثة ابيات فقط.

٣٥٧

على فلتات لسانه وصفحات وجهه ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ذلك في نهج البلاغة « تكملوا تعرفوا فان المرء مخبوء تحت طيات لسانه » فالكلمة تعرف حقيقة الإنسان وطبيعة شخصيته ، حيث اثبت العلم النفسي الحديث ان معرفة أي حقيقة لاي شخصيته يكون عبر توجيه بعض الاسئلة إليه ومن خلال الجواب عليها يظهر طبع شخصيتها وحقيقتها ومدى سعتها واستيعابها ، وهل هي شخصية عالية ذا همة كبيرة ام لا ؟ وغير ذلك من الامور المعمة ، ذلك ان الكلمة التي تخرج من الفم تحمل معها صورة قائلها ونبضات قلبه ، وخلجات نفسه ودخائل شخصيته ، وهذه حقيقة معروفة لدى علماء النفس والتربية والاجتماع ، كل ذلك نقوله لكي نهتدي إلى سواء السبيل.

وعلى هذا الاساس اننا نهتدي إلى معرفة الشخصية العلمية والفكرية لها سلام الله عليها من خلال عدة امور مهمة ومن خلالها نعبر إلى شخصيتها وندخل في فهم حقيقتها وهذه الامور هي :

الأمر الأوّل :

يمكن معرفة شخصيتها من خلال سيرتها الذاتية التي يرويها لنا أهل البيت عليهم‌السلام والاقربون من ذويها ، ذلك لأنّ أهل البيت ادرى بما فيه وأهل مكة ادرى بشعابها كما يقول المثل.

إذ ان هناك امور في الحياة صحيحة وثابته وفق مقاييس العقل والبرهان ولا تحتاج إلى اثبات احقيتها واصحيتها إلى دليل من الخارج ولا تحتاج إلى اثبات صحة دعواها ايضا إلى شاهد فدليلها مستمد منها ، ومن هذه الامور الثابتة في حيات الإنسان الكامل « فاطمة الزهراء » هي سيرتها الذاتية التي تثبت من خلالها معرفتها الحقيقية فهذه السيرة هي السبيل الصحيح للوقوف على حياتها عليها‌السلام. فهي الضابط والمعيار الصحيح للحكم عليها من خلالها. فالإنسان لا يعرف المعرفة الصحيحة إلاّ من خلال هذه السيرة على وجه الدقة اما بقية المسائل الاخرى في حياة الإنسان من الشعارات والاطروحات والادلة والشواهد وغير ذلك لا تمثل سوى الجانب النظري من حياة الإنسان الشخصية ، ومدى صدق هذه الدعوى

٣٥٨

فهي متروكة للجانب التطبيقي في حياته ، اذن السيرة الذاتية للصديقة الطاهرة تمثل جانب تطبيقي من حياتها الشخصية على كافة المستويات ، ولا نريد الوقوف مع السيرة الذاتية لفاطمة عليها‌السلام في هذا الكتاب بصورة تفصيلية حيث قد اعطينا بعض النماذج للسيرة الذاتية لها في نفس هذا الكتاب هذه النماذج ، على شكل امور متناثرة في طيات البحوث فلا نقف تفصيليا معها هنا.

*الأمر الثاني :

يمكن ان نعرف شخصيتها من خلال مواقفها لأنّ الموقف عمل والعمل ما هو إلاّ انعكاس لطبيعة شخصية الفرد وهذا ما اثبته التاريخ الاسلامي لفاطمة عليها‌السلام حيث اخبرنا بمواقفها الفذة في جميع الحالات التي مرت بها. فعندما كانت قريش تؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتتعرض له بأنواع المواجهة كانت الزهراء عليها‌السلام تقف إلى جانبه صابرة محتسبة ، فيدخل إلى البيت وقد حثى الكافرون التراب على رأسه الشريف ، فتستقبله الزهراء عليها‌السلام وتغسل التراب عن رأسه وهي باكية ، فيقول لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تبكي فان الله ناصر أباك ، وعندما رمى أبو لهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروث البقر اندفعت فاطمة عليها‌السلام لتذب عن أبيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسمع ابا لهب من الكلام ما يتوقف خلاله من الاندفاع بالسخرية برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كما انها عليها‌السلام التحقت بأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هجرته إلى المدينة مجازفة بحياته ومضحية بروحها في سبيل نصر الاسلام واعزاز مبادئه المثلى ، ولا يمكن ان يغفل دورها في الوقوف إلى جانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام دعوته المباركة ، تؤنسه وتزيح عنه الهموم والآلام ، وتعيد البسمة إلى وجهه المبارك اذا اشتدت عليه الخطوب.

اضف إلى مواقفها الرسالية ايام الحروب وهي صغيرة السن بعد ، ففي معركة أحد تكسر رباعية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشج جبينه ، فتقبل الزهراء عليها‌السلام لتغسل وجهه ، وتزيل الدماء عن محياه ،وتعالج نزيف جراحاته ، فقد جاء في صحيح مسلم : « قال سهل بن سعد : جرح وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة عن رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب

٣٥٩

يسكب عليها بالمحن ، فلما رأت فاطمة ان الماء لا يزيد الدم إلاّ كثرة ، اخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم ». ونقل ابي نعيم في ( حلية الأولياء ) عن أبي ثعلبة انه قال : « قدم رسول الله من غزاة له ، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم خرج فأتى فاطمة عليها‌السلام فبدأ به قبل بيوت ازواجه ، فاستقبلته فاطمة عليها‌السلام وجعلت تقبل عينيه ووجهه وتبكي » والاعجب من ذلك ان فاطمة عليها‌السلام كانت تهيء لابيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلاح في المعركة التي جرت في اليوم القادم. وفي معركة الخندق تقبل على ابيها بأقراص من الخبز معدودة بعد ان بقى اياما بلا طعام ، فجاء في ذخائر العقبى : « روي عن علي عليه‌السلام في حفر الخندق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان فاطمة عليها‌السلام جاءت إليه بكسرة من خبزٍ فرفعتها إليه فقال : ما هذه يا فاطمة ؟ قالت : من قرص اختبزته لابنتي جئتك منه بهذه الكسرة. فقال : يابنية اما انها لاول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث ».

وفي الفتح المبين نرى الزهراء عليها‌السلام تضرب لابيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيمة وتهيء له طعاما ليستحم ويغتسل حتى يزول عن جسده المبارك غبار الطريق ، ويرتدي ثيابا نظيفة يخرج بها إلى المسجد الحرام ، ومن موقع الامومة وكونها زوجة وفية مخلصة لعلي عليه‌السلام نرى انها عليها‌السلام زهدت في الدنيا وترفعت عن الدنيا ، ولم يكن لها من هم إلاّ تحمل المسؤولية الالهية بجدارة واستحقاق وتجسيد الصفات الالهية كأمثل ما يكون. فيروى ان علياً عليه‌السلام قد اشترى لها عقدا عليها‌السلام من اموال الفيء ، وتقلدته الزهراء عليها‌السلام وتقبلت هذه الهدية من زوجها بسرور ، وبينما هي متقلدة ذلك واذا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي لزيارتها ، فسلمت عليه وسلم عليها ، إلاّ انها وعلى غير المعتاد رأت مسحة من الحزن يقولون ابنة محمد تلبس لباس الجبابرة ، ويوصيها ان تذخر ذلك لاخرتها لتكون اسوة في الزهد ومثالا للايثار والقناعة ، فتنزع الزهراء عليها‌السلام ذلك العقد وتتصدق بثمنه في سبيل الله وهي مليئة بالرضا والقناعة. ويروى ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل يوما على فاطمة عليها‌السلام فيراها قد علقت سترا على احد الأبواب لتزين الدار ، فيتألم رسول الله عليها‌السلام لذلك ويقول لابنته : « اني لا احب ان يأكل أهل بيتي طيباتهم في حياتهم الدنيا ».

فتبادر الزهراء عليها‌السلام من حينها للقيام ونزع الستر ممتثلة اوامر أبيها ، ومن اروع امثلة

٣٦٠