الأسرار الفاطميّة

الشيخ محمد فاضل المسعودي

الأسرار الفاطميّة

المؤلف:

الشيخ محمد فاضل المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة ـ لحضرة فاطمة المعصومة عليه السلام للطبعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6401-17-1
الصفحات: ٥٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

محمد جمال الهاشمي

شعت فلا الشمس تحكيها ولا القمر

زهراء من نورها الأكوان تزدهرُ

بنت الخلود لها الأجيال خاشعة

أُم الزمان اليها تنتمي العصرُ

روح الحياة فلولا لطف عنصرها

لم تأتلف بيننا الارواح والصورُ

سمت عن الأفق لا روح ولا ملك

وفاقت الارض لا جن ولا بشرُ

مجبولة من جلال الله طينتها

يرف لطفاً عليها الصون والخفرُ

ما عاب مفخرها التأنيث ان بها

على الرجال نساء الأرض تفتخرُ

خصالها الغرُّ جلت ان تلوك بها

منا المقاول أو تدنو لها الفكرُ

معنى النبوة سر الوحي قد نزلت

في بيت عصمتها الايات والسورُ

حوت خلال رسول الله أجمعها

لولا الرسالة ساوى أصله الثمرُ

تدرجت في مراقي الحقّ عارجة

لمشرق النور حيث السر مستترُ

ثم انثنت تملأ الدنيا معارفها

تطوى القرون عياءا وهي تنتشرُ

قل للذي راح يخفي فضلها حسداً

وجه الحقيقة عنا كيف ينسترُ

أتقرن النور بالظلماء من سفهٍ

ما أنت في القول إلاّ كاذب أشرُ

بنت النبي الذي لولا هدايته

ما كان للحق لا عين ولا أثرُ

هي التي ورثت حقاً مفاخرة

والعطر فيه الذي في الورد مدخرُ

في عيد ميلادها الاملاك حافلة

والحور في الجنة العليا لها سمرُ

تزوجت في السما بالمرتضى شرفا

والشمس يقرنها في الرتبة القمرُ

على النبوة أضفت في مراتبها

فضل الولاية لا تبقي ولا تذرُ

ام الأئمة من طوعها لرغبتهم

يعلو القضاء بنا او ينزل القدرُ

قف يا يراعيَّ عن مدح البتول ففي

مديحها تهتف الالواح والزبرُ

وارجع لنستخبر التاريخ عن نبأٍ

قد فاجئتنا به الانباء والسيرُ

هل اسقط القوم حقا حملها فهوت

تئن مما بها والضلع منكسرُ

وهل كما قيل قادوا بعلها فعدت

وراه نادبة والدمع منهمرُ

ان كان حقا فان القوم قد مرقوا

عن دينهم وبشرع المصطفى كفروا

٣٢١

المستوى الأوّل

المعرفة التاريخية لها عليها‌السلام

وذلك من جهة ولادتها وشهادتها زمانا ومكانا وما رافق ذلك من ملابسات واحداث مهمة وما عاصرته تغيرات في حياة الأمة سياسيا وفكريا واجتماعيا وما يرتبط بذلك من سلاطين الجور واتباع الظالمين وفقهاء الفسق والفجور وغدر المنافقين والمتملقين واتباع اللقمة والراقصين على رنين الدراهم والدنانير وانصار الوفاء والاخلاص وما سارق ذلك من تفصيلات لها الاهمية في حياتهم عليهم‌السلام او في حياة اتباعهم واولياؤهم.

ولادة فاطمة عليها‌السلام

أما ولادة الصديقة فكان في العشرين من جمادي الاخرة كما صرح به المفيد في مساره (١) ونقل عن حدائقه (٢) ، وصرح به الشيخ في مصباحه (٣) ، ورواه الطبري الامامي (٤) عن الصادق عليه‌السلام ولم نقف على مخالف صريح ، وان سكت كثير.

واختلف في سنته فالكليني (٥) قال : بعد النبوة بخمس سنين وكذلك المسعودي في الاثبات (٦) وذهب المفيد في الكتابين (٧) إلى انه بعده باثنتين.

__________________

(١) مسار الشيعة : ٢١.

(٢) حدائق الرياض : نقلا عن الاقبال : ٦٢١ ، عن البحار : ٤٣ / ٨ ح ١٢.

(٣) مصباح المتهجد : ٧٣٣ ، عن البحار : ٤٣ / ٩ ح ١٥.

(٤) دلائل الإمامة : ١٠ عن البحار : ٤٣ / ٩ ح ١٦.

(٥) الكافي : ١ / ٤٥٧ ح ١٠ ، عن البحار : ٤٣ / ٩ ح ١٣.

(٦) اثبات الوصية : ١٥٤ ، وذهب المسعودي في ذكر تاريخ ولادة الإمام الحسن عليه‌السلام ونسبه له إلاّ ان هذا التاريخ لفاطمة عليها‌السلام علما بان ولادة الإمام الحسن المشهورة سنة ٢ للهجرة.

(٧) مسار الشيعة : ٣١.

٣٢٢

وفي مصباح الشيخ (١) كان مولدها عليها‌السلام سنة اثنين من المبعث في بعض الروايات ، وفي رواية اول سنة والعامة تروي قبل المبعث بخمس. والصحيح الأوّل كما رواه ابن خشاب على نقل الكشف (٢) عن شيوخه ، مرفوعاً عن الباقر عليه‌السلام ، والطبري الامامي (٣) مسندا عن الصادق ، والكليني (٤) صحيحا عن الباقر عليه‌السلام وذهب العامة كمحمد بن اسحاق (٥) ، وأبي نعيم (٦) وأبي الفرج (٧). إلى انها كانت قبل النبوة حين تبني قريش الكعبة ، ورواه الاخير باسناده عن الصادق والتعويل عليه على رواية الخاصة ، ولا يبعد انهم قالوا بكون مولدها قبل النبوة انكارا لما ورد ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول اشم من فاطمة رائحة الجنة لأنّ انعقادها كان من فاكهة الجنة ليلة المعراج (٨).

عن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي عليهم‌السلام ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : معاشر الناس ، أتدرون لما خلقت فاطمة ؟ قالوا : الله ورسوله اعلم. قال : خلقت فاطمة حوراء انسية لا انسية ، وقال : خلقت من عرق جبرئيل ومن زغبه. قالوا : يا رسول الله ، استشكل ذلك علينا ، تقول : حوراء انسية لا انسية ، ثم تقول : من عرق جبرئيل ومن زغبه ! قال:اذاً انبئكم أهدى إليّ ربي تفاحة من الجنة ، أتاني بها جبرئيل عليه‌السلام، فضمها إلى صدره فعرق جبرئيل ، وعرقت التفاحة ، فصار عرقهما شيئا واحدا ، ثم قال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، قلت : وعليك السلام يا جبرئيل فقال : ان الله اهدى اليك تفاحة من الجنة ، فأخذتها وقبلتها ووضعتها على عيني وضممتها إلى صدري. ثم قال يا محمد ، كلها ، قلت : يا حبيبي يا جبرئيل ، هدية ربي تؤكل ؟ قال : نعم ، قد امرت بأكلها ، فأفلقتها فرأيت منها نورا ساطعا ففزعت من ذلك النور ، قال : كل فان ذلك نور المنصورة قلت : يا جبرئيل ، ومن

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٧٣٣ ، عن البحار ، ٤٣ / ٩ ح ٨.

(٢) كشف الغمة : ١ / ٤٤٩ ،عن البحار : ٤٣ / ٧ ح ٨.

(٣) دلائل الإمامة : ٧٩ ح ١٨.

(٤) الكافي : ١ / ٤٥٧ ح ١٠.

(٥) لم نعثر عليه في السيرة.

(٦) حلية الأولياء.

(٧) مقاتل الطالبين : ٤٨.

(٨) تواريخ النبي والال : ٢٥.

٣٢٣

المنصور ؟ قال : جارية تخرج من صلبك واسمها في السماء منصورة ، وفي الأرض فاطمة ، فقلت : يا جبرئيل ولم سميت في السماء منصورة وفي الأرض فاطمة ؟ قال : سميت « فاطمة » في الأرض لأنها فطمت شيعتها من النار ، وفطموا أعداؤها عن حبها ، وذلك قول الله في كتابه : ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ ) (١) بنصر فاطمة عليها‌السلام.

بيان : الزغب : الشعيرات الصغرى على ريش الفرخ ؛ وكونها من زغب جبرئيل إما لكون التفاحة فيها وعرقت من بينها ، أو لانه التصق بها بعض ذلك الزغب فأكله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وعن المفضل بن عمر قال : قلت لابي عبد الله جعفر بن محمد عليها‌السلام : كيف كانت ولادة فاطمة عليها‌السلام ؟ قال : نعم ، إن خديجة عليها رضوان الله لما تزوج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هجرتها نسوة مكة ، فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها ، فاستوحشت خديجة من ذلك ، فلما حملت بفاطمة عليها‌السلام صارت تحدثها في بطنها وتصبرها ، وكانت خديجة تكتم ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فدخل يوماً وسمع خديجة تحدث فاطمة ، فقال لها : يا خديجة ، من يحدثك ؟ قالت : الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. فقال : لها : هذا جبرئيل يبشرني أنها أنثى وأنها النسمة الطاهرة الميمونة ، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها أئمة في الأمة يجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه فلم تزل خديجة رضي الله عنها على ذلك إلى ان حضرت ولادتها ، فوجهت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء ، فأرسلن اليها : عصيتينا ولم تقبلي قولنا ، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له ، فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً فاغتمت خديجة لذلك ، فبينا هي كذلك اذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنهن من نساء بني هاشم. ففزعت منهن ، فقالت لها احداهن : لا تحزني يا خديجة ، فإنا رسل ربك اليك ، ونحن أخواتك ، أنا سارة وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة ، وهذه مريم بنت

__________________

(١) الروم : ٤ ـ ٥.

(٢) « البحار » ٤٣ / ١٨.

٣٢٤

عمران ، وهذه صفراء (١) بنت شعيب ، بعثنا الله تعالى اليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء.

فجلست واحدة عن يمينها ، والاخرى عن يسارها ، والثالثة من بين يديها ، والرابعة من خلفها ، فوضعت خديجة فاطمة عليها‌السلام طاهرةً مطهرة. فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها نور حتى دخل بيوتات مكة ، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها ، فغسلتها بماء الكوثر ، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاً من اللبن واطيب رائحة من المسك والعنبر ، فلفتها بواحدة ، وقنعتها بالاخر ، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها‌السلام بشهادة « أن لا إله إلا الله ، وأن أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد الأنبياء وأن بعلي سيد الأوصياء ، وأن ولديّ سيدا الاسباط » ، ثم سلمت عيلهن ، وسمت كل واحدة منهن باسمها ، وضحكن اليها ، وتباشرت الحور العين ، وبشر أهل الجنة بعضهم بعضاً بولادة فاطمة عليها‌السلام ، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك اليوم ، فلذلك سميت « الزهراء » عليها‌السلام ، وقالت : خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة ، زكية ، ميمونة ، بورك فيها وفى نسلها : فتناولتها خديجة عليها‌السلام فرحة مستبشرة فألقمتها ثديها فشربت ، فدر عليها. وكانت عليها‌السلام تنمي في كل يوم كما ينمي الصبي في الشهر ، وفي شهر كما ينمي الصبي في سنةٍ صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها (٢).

وقيل : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس بالأبطح ومعه عمار ابن ياسر والمنذر بن الضحضاح وأبوبكر وعمر وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب ، إذ هبط عليه جبرئيل عليه‌السلام في صورته العظمى ، قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب ، فناداه : يا محمد العلي الاعلى يقرئ عليك السلام وهو يأمرك ان تعتزل عن خديخة أربعين صباحاً. فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان لها محباً وبها وامقاً (٣). قال : فأقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل ، حتى إذا كان

__________________

(١) قيل انها صفوراء.

(٢) « البحار » ١٦ / ٨٠.

(٣) الوامق : المحب.

٣٢٥

في آخر أيامه تلك ، بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال : قل لها : يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك ( هجرة ) ولاقلى ، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لينفذ امره ، فلا تظني يا خديجة الاّ خيراً ، فان الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مراراً. فإذا جنك الليل فأجيفي الباب (١) وخذي مضجعك من فراشك فإني في منزل فاطمة بنت أسد. فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مراراً لفقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فلما كان في كمال الاربعين هبط جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد ، العلي الاعلى يقرئك السلام وهو يأمرك ، ان تتأهب لتحيته وتحفته ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل ، وما تحفه ربِّ العالمين ؟ وما تحيته ؟ قال : لا علم لي. قال : فبينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك اذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس ـ او قال استبرق ـ فوضعه بين يدي البني صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

حسست بثقل فاطمة في بطني (٢). ولقد علق العلامة الهمداني على هذا الحديث بقوله : يستفاد من هذا الحديث الشريف امور مهمة وفوائد عظيمة هي دالة على سمو جلالة بضعة خير المرسلين ، وعلو منزلة زوجة افضل الوصيين وام الأئمة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم اجمعين ـ. منها نزول جبرئيل عليه‌السلام على صورته الاصلية كنزوله في اول البعثة. ففي « البحار » ج ١٨ / ص ٢٤٧ : « ان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بحراء ، فطلع له جبرئيل عليه‌السلام من المشرق ، فسد الافق إلى المغرب ». ومعلوم ان مجيئه عليه‌السلام على هذه الهيئة لأمر عظيم. ومنها اعتكافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اربعين يوما في بيت فاطمة بنت اسد ـ رضي الله عنها ـ قائما ليلة ، صائما نهاره ، واعتزاله عن الناس وعن زوجته الكريمة خديجة الكبرى سلام الله عليها ، كما كان معتكفا ومعتزلا في اول البعثة بحراء ، نعم كان اعتكافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمئذ لاجل ان يكون مهيئا للنبوة والرسالة ، وفي هذا الموقف لكونه متأهبا للتحفة الالهية التي ستكون منشأ الإمامة والولاية ، بل هي عنصر شجرة النبوة كما جاء عن الباقر عليه‌السلام (٣). ومنه نزول ترك سنته في افطاره ، من ادخال كل من يرد للافطار ، واختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك الطعام. ومنها ترك سنته في التطهر عند وروده

__________________

(١) أجفت الباب : رددته.

(٢) البحار : ١٦ / ٧٨ ـ ٨٠.

(٣) انظر « مجمع البحرين ».

٣٢٦

المنزل للصلاة عند النوم. ولا يخفى ان الترك انما يكون للأهم ، فتفطن.

تحقيق وتبيين

الذي يستفاد من الأخبار والاحاديث التي وصلت الينا من طريق أهل البيت عليهم‌السلام إن فاطمة عليها‌السلام ولدت على فطرة الإسلام وبعد نزول الوحي على أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافا لما في بعض كتب العامة ، فاليك بعض نصوصها :

١ ـ قال علي بن الحسين عليهم‌السلام في حديث طويل : ولم يولد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خديجة عليها‌السلام على فطرة الاسلام إلاّ فاطمة عليها‌السلام ، وقد كانت خديجة قبل الهجرة بسنة ، ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة (١) ...

٢ ـ عن حبيب السجستاني قال : سمعت ابا جعفر عليه‌السلام يقول : ولدت فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد مبعوث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس سنين ، وتوفيت ولها ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما (٢).

٣ ـ عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ولدت فاطمة في جمادي الآخرة اليوم العشرين منها سنة خمس وأربعين من مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقامت بمكة ثمان سنين ، وبالمدينة عشر سنين وبعد وفاة ابيها خمساً وسبعين يوماً (٣).

٤ ـ قال ابن الخشاب في تاريخ مواليد ووفاة أهل البيت عليهم‌السلام نقله عن شيوخه يرفعه عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام قال : ولدت فاطمة بعد ما أظهر الله نبوة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزل عليه الوحي بخمس سنين وقريش تبني البيت ، وتوفيت ولها ثمانية عشر سنة وخمسة وسبعون يوماً (٤).

أقول : قوله « وقريش تبني البيت » لا تنطبق على نزول الوحي ، لأنّ بناء البيت منهم

__________________

(١) روضة الكافي : ٣٤٠ ، الرقم ٥٣٦.

(٢) البحار : ٤٣ / ٩.

(٣) « البحار » ج ٤٣ ، ص ٩.

(٤) « كشف الغمة » ج ١ ، ص ٣٣٩.

٣٢٧

كان قبل المبعث. ثم في هذا الموقف أخبار تؤكد وتؤيد مضامين تلك الأخبار ، وهي روايات تدل على انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُسري به إلى السماء وادخل الجنة فتناول من ثمار الجنة ، فلما رجع واقع خديجة عليها‌السلام فتكونت نطفة فاطمة الزهراء عليها‌السلام من تلك الثمار ، ومعلوم ان قضية الاسراء وقعت بعد البعثة بلا خلاف.

شهادة الصديقة فاطمة عليها‌السلام

إلامَ التواني صاحب الطلعة الغرا

اما آن من أعداك ان تطلب الوترا

فديناك لم أغضيت عمّا جرى على

بني المصطفى منها وقد صدع الصخرا

أتغضي وتنسى امك الطهر فاطما

غداة عليها القوم قد هجموا جهرا

أتغضي وشبوا النار في باب دارها

وقد اوسعوا في عصرهم ضلعها كسرا

أتغضي ومنها أسقطوا الطهر محسنا

وقادوا علي المرتضى بعلها قسرا

أتغضي وسوط العبد وشح متنها

ومن لطمة الطاغي غدت عينها حمرا

أتغضي وقد ماتت وملؤ فوادها

شجىً وعلي بعد شيعَّها سرا (١)

اما كيفية شهادتها عليها‌السلام فلقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام سبب وفاتها عليها‌السلام : أن قنفذ مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره فأسقطت محسناً ، ومرضت من ذلك مرضاً شديداً (٢) ، وكان علي عليه‌السلام يمرضها بنفسه ، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس ، وفي يوم دخلت نسوة من المهاجرين والانصار على فاطمة بنت رسول الله يعدنها فقلن : السلام عليك يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف أصبحت ؟ فقالت : أصبحت والله عائفة لديناكن قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد اذ مججتهم وسئمتهم بعد ان سبرتهم ، فقبحاً لافون الرأي وخطل القول وخور القناة ، ولبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لا جرم والله لقد قلدتهم ربقتها وشننت عليهم عارها فجدعا ورغما للقوم الظالمين.

__________________

(١) القصيدة للمرحوم الخطيب السيد خضر القزويني ، ديوان شعراء الحسين عليه‌السلام : ص ٢٣٠.

(٢) دلائل الإمامة ٤٥ ، البحار ٤٣ ص ١٧٠.

٣٢٨

ويحهم أنى زحزحوها عن ابي الحسن ، ما نقموا والله منه إلاّ نكير سيفه ونكال وقعه ، وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافوا عليه عن زمام نبذه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأتميله ، ثم لسار بهم سيرة سجحا فانه قواعد الرسالة ورواسي النبوة ، ومهبط الروح الامين ، والطبيب بأمر الدين والدنيا والاخرة إلاّ ذلك هو الخسران المبين. والله لا يلتكم خشاشة ، ولا يتعتع راكبه ، ولاوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفته ، ولا صدرهم بطانا قد خثر بهم الري ، غير متحل بطائل إلاّ تغمر الناهل وردع سورة سغب ، ولو فتحت عليهم بركات من السماء والأرض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، فهلم فاسمع ، فما عشت اراك الدهر عجبا ، وان تعجب بعد الحادث ، فما بالهم باي سند استندوا ، ام بأي عروة تمسكوا ، لبئس العشير ، وبئس للظالمين بدلا ، استبدلوا الذنابى بالقوادم ، والحرون بالقاحم ، والعجز بالكاهل ، فتعسا لقوم يحسبون انهم يحسنون صنعا ، ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، أفمن يهدي إلى الحق احق ان يتبع ام من لا يهدي إلاّ ان يهدي فما لكم كيف تحكمون. لقحت قنطرة فنظرة ريثما تنتج ، ثم احتلبوا طلاع القعب دما عبيطا ، وذعافا ممضا ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما أسس الاولون ، ثم طيبوا بعد ذلك بانفسكم لفتنها ، ثم اطمأنوا للفتنة جأشا وابشروا بسيف صارم ، وهرج دائم شامل ، واستبداد من الظالمين. يدع فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لهم ، ولقد عميت عليهم الانباء أنلزمكموها وانتم لها كارهون (١).

الهموم المتراكمة

ليس المرض لوحده سبب الام الزهراء عليها‌السلام ، ووجدها وحزنها ، وانما كانت الهموم تجتاحها من كل حدب وصوب ، فحينما كانت تمد جسدها النحيل المكدور على جلد الكبش وتتكئ على وسادة الليف ، تنساب الخواطر إلى رأسها الشريف ، وتهجم عليها الهواجس ، وكأنّ لسان حالها الشريف : آه ... تركوا وصية ابي ... وغصبوا الخلافة

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي : ١ / ١٤٧ ، البحار : ٤٣ / ١٦١ ، شرح ابن ابي الحديد : ١٦ / ٢٣٣ ، بلاغات النساء : ١٩.

٣٢٩

من زوجي ؟! ولن تنتهي آثارها إلى يوم القيامة ... فبئس عاقبة الخلافة التي توسلت بالحيلة والجور ... بماذا سار المسلمون وانتشرت كلمة الاسلام ؟! بوحدة الكلمة ! والاتحاد بين فصائل المجتمع وصلوا إلى العظمة والرقي ...

آه ... اذهبوا ريحهم ... واوقعوا الخلاف بينهم ، وبدلوا قوة الاسلام الواحدة وطاقة المسلمين المهيبة إلى قوى وطاقات متناثرة ، وجروا العالم الاسلامي إلى العجز والضعف والفرقة والذلة ... آه ... انا فاطمة ـ عزيزة رسول الله ـ ارقد الآن على فراش المرض ؟! لم يخف انيني من ضربات هذه الأمة المبرحة ... وأقف على اعتاب الموت ؟ ... أين وصايا أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟.

... رباه ... أعلي الشجاع القوي أراه ـ اليوم ـ مضطراً إلى السكوت عن حقه المشروع لحفظ مصلحة الاسلام العليا ؟ ...

اقتربت ساعتي ... وحان أجلي ... وها أنذا أودع الحياة في ربيع عمري وأيام شبابي ... وسأنجو من الهموم والغصص ...

ولكن ... ماذا عن أيتامي الذين سيبقون بعدي ؟ ... أولادي ... الحسن ... الحسين ... زينب ... أم كلثوم ...

آه ... يا للمصائب التي تصب عليهم ـ أيتامي الأعزاء على قلبي ـ. فاني سمعت ابي يقول ـ مراراً ـ : يموت ولدك الحسن مسموماً ، والحسين مقتولاً بالسيف شهيداً عطشاناً ... وهذه علامات ذلك وامارته تلوح لي وأراها بعيني ... كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأخذ صغيري الحسين ـ مرة ـ ويقبل نحره ويبكي لمصيبته ، ويأخذ الحسن ـ اخرى ـ ويلصق صدره بصدره ويقبله في فمه ، ويذكر مصائب زينب ، وأم كلثوم فيبكي ...

نعم ... كانت تمر هذه الخواطر في ذهن فاطمة عليها‌السلام وتؤلمها ، فتشحب يوما بعد يوم ، وتنحل ساعة بعد ساعة ، وقد ورد في الاثر ان فاطمة لما حضرتها الوفاة بكت ، فقال لها أمير المؤمنين : يا سيدتي ما يبكيك ؟ قالت : أبكي لما تلقى بعدي ، فقال لها : لا تبكي ، فوالله ان ذلك لصغير عندي في ذات الله (١).

__________________

(١) البحار : ٤٣ / ٢١٨.

٣٣٠

العيادة المبغوضة

كان الصحابة رجالاً ونساءً يعودون فاطمة عليها‌السلام بين الحين والحين ، إلاّ عمر وأبا بكر لم يعوداها لأنها قاطعتهم ورفضتهم ولم تأذن لهم بعيادتها ، وحينما ثقل عليها المرض وقاربتها الوفاة لم يجدا بداً من عيادتها لئلا تموت بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي ساخطة عليهما ، وتبقى وصمة العار تلاحق الخليفة وجهازه الحاكم إلى يوم القيامة.

فجاءا لعيادتها تحت ضغط الرأي العام ، فسألا عنها ، وقالا لأمير المؤمنين عليه‌السلام : قد كان بيننا وبينها ما قد علمت فان رأيت ان تأذن لنا لنعتذر اليها من ذنبنا.

قال : ذلك اليكما. فقاما فجلسا الباب.

ودخل علي عليه‌السلام على فاطمة عليها‌السلام فقال لها : أيتها الحرة ، فلان وفلان بالباب ، يريدان ان يسلما عليك فما تريدين ؟ قالت : البيت بيتك ، والحرة زوجتك ، افعل ما تشاء !

فقال : شدي قناعك ، فشدت قناعها ، وحولت وجهها إلى الحائط. فدخلا وسلما وقالا : ارضي عنا رضي الله عنك ، فقالت : ما دعا إلى هذا ؟ فقالا : اعترفنا بالإساءة ورجونا ان تعفي عنا. فقالت : ان كنتما صادقين فأخبراني عم أسألكما عنه ، فإني لا أسألكما عن أمر إلاّ وانا عارفة ، بانكما تعلمانه ، فان صدقتماني علمت انكما صادقان في مجيئكما. قالا : سلي عما بدا لك. قالت : نشدتكما بالله ، هل سمعتما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني » ؟ قالا : نعم.

فرفعت يدها إلى السماء ، فقالت : اللهم انهما قد آذاني ، فأنا اشكوهما اليك وإلى رسولك ، لا والله لا أرضى عنكما أبداً حتى ألقى أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما.

قال : فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور ، فقال عمر : تجزع يا خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول امرأة ؟ (١).

__________________

(١) البحار : ٤٣ / ١٩٨.

٣٣١

وصية فاطمة عليها‌السلام

مرضت فاطمة عليها‌السلام مرضاً شديداً ، ومكثت اربعين ليلة في مرضها ، فلما نعيت اليها نفسها قالت لعلي عليه‌السلام : يابن عم ، انه قد نعيت الي نفسي ، وانني لا أرى ما بي إلاّ انني لاحقه بأبي ساعة بعد ساعة ، وانا أوصيك بأشياء في قلبي.

قال لها علي عليه‌السلام : أوصي بما أحببت يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ، ثم قالت : يابن عم ، ما عهدتني كاذبة ، ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني.

فقال عليه‌السلام : معاذ الله ، أنت أعلم بالله وأبر واتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله ، من أن أوبخك بمخالفة ، وقد عز علي مفارقتك وفقدك إلا انه أمر لابد منه ، والله جددت علي مصيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنا لله وانا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها ، هذه الله مصيبة لا عزاء لها ، ورزية لا خلف لها ، ثم بكيا جميعاً ساعة (١). لخّصت فاطمة عليها‌السلام في هذا الحوار حياتها الزوجية في هذه العبارات ، فذكرت الامير عليه‌السلام باخلاصها وطهارتها واطاعتها لزوجها.

وشكر لها الإمام وفاءها ، وأثنى على طهارتها وقدسيتها ومعاناتها وتقواها ، وأبدى لها حبه ووده وتعلقه بها. وهاجت بهما الذكريات وجاشت الخواطر وتذكرا حياتهما السعيدة التي غمرتها الغبطة والدفء ، والوقوف جنباً إلى جنب في مواجهة الاحداث والمشاكل وتذليل الصعاب ، فانهمرت لذلك عيناهما بالدموع ، لعلها تطفئ نار القلب التي تقضي على الجسد.

وبعد ان بكيا ساعة أخذ علي عليه‌السلام رأسها وضمها إلى صدره ثم قال : أوصيني بما شئت ، فانك تجديني فيها أمضي كما امرتيني به ، واختار أمرك على أمري.

ثم قالت : جزاك الله عني خير الجزاء ، وأوصته بوصاياها ، وهي :

١ ـ يابن عم ، أوصيك ان تتزوج بعدي بابنة أختي امامة ، فانها تكون لولدي مثلي ،

__________________

(١) البحار : ٤٣ / ١٩١.

٣٣٢

فإنّ الرجال لابد لهم من النساء (١).

٢ ـ ان أنت تزوجت إمرأة فاجعل لها يوماً وليلة واجعل لاولادي يوماً وليلة ، يا أبا الحسن لا تصح في وجوههم فيصبحا يتيمين غريبين (٢).

٣ ـ أوصيك يابن عم ، ان تتخذ لي نعشا ، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته ، فقال لها : صفيه لي ... فوصفته ، فاتخذه لها (٣).

٤ ـ أوصت لأزواج النبي لكل واحدة منهن اثنتى عشرة أوقية (٤).

٥ ـ ولنساء بني هاشم مثل ذلك.

٦ ـ وأوصت لأمامة بنت أبي العاص بشيء (٥).

وكانت لها وصية مكتوبة جاء فيها : « هذا ما أوصت فاطمة بنت رسول الله بحوائطها السبع ؛ ذي الحسنى والساقية ، والدلال ، والغراف ، والرقمة ، والهيثم ، ومال أم ابراهيم ، إلى علي بن أبي طالب ، ومن بعده فإلى الحسن ، فإلى الحسين ، ومن بعد الحسين فإلى الاكبر فالاكبر من ولده ، شهد الله على ذلك وكفى به شهيداً ، وشهد المقداد ابن الاسود ، والزبير بن العوام ، وكتب علي بن أبي طالب (٦).

وروى ابن عباس وصية مكتوبة اخرى لها عليها‌السلام جاء فيها : « بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصت وهي تشهد ان لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله ، وان الجنة حق ، والنار حق ، وان الساعة آتية لا ريب فيها ، وان الله يبعث من في القبور ، يا علي : أنا فاطمة بنت محمد ، زوجني الله منك لاكون لك في الدنيا والآخرة ، انت اولى بي من غيري ، حنطني وغسلني وكفني بالليل وصل علي وادفني بالليل ولا تعلم أحدا ، واستودعك الله وأقرأ على ولدي السلام إلى يوم القيامة » (٧).

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب : ٣ / ٣٦٢.

(٢) البحار : ٤٣ / ١٧٨.

(٣) البحار : ٤٣ / ١٩٢.

(٤) المصدر السابق.

(٥) دلائل الإمامة : ٤٢.

(٦) دلائل الإمامة : ٤٢.

(٧) البحار : ٤٣ / ٢١٤.

٣٣٣

لحظات عمرها الأخيرة

ثقل عليها المرض ، والإمام لا يفارقها ، وأسماء تمرضها ، والحسن والحسين وزينب وام كلثوم عندها ، وهي تفيق مرة ويغشى عليها اخرى من شدة المرض ، وتجيل بصرها في أولادها ... يقول الإمام على عليه‌السلام : انها لما حضرتها الوفاة فتحت عينيها وقالت : السلام عليك يا جبرئيل ، السلام عليك يا رسول الله ، اللهم احشرني مع رسولك ، اللهم اسكني جنتك وفي جوارك.

ثم قالت : هؤلاء ملائكة ربي ، جبريل ورسول الله حاضرون عندي ، وأبي يقول : القدوم الينا (١) يقول علي عليه‌السلام : فلما كانت الليلة التي أراد الله ان يكرمها ويقبضها إليه اخذت تقول : وعليكم السلام. يابن عم ،هذا جبريل أتاني مسلماً ، وقال : السلام يقرئك السلام يا حبيبة حبيب الله وثمرة فؤاده ـ اليوم تلحقين بالرفيق الاعلى وجنة المأوى ثم انصرف عني.

ثم اخذت تقول : وعليكم السلام ، وتقول : يابن عم ، هذا ميكائيل يقول كقول صاحبه. ثم اخذت ثالثاً تقول : وعليك السلام ، ثم فتحت عينيها شديداً وقالت : يابن عم هذا والله الحق ، عزرائيل نشر جناحه في المشرق والمغرب ، وقد وصفه لي أبي وهذه صفته.

ثم قالت : يا قابض الارواح عجل بي ولا تعذبني ، ثم قالت : اليك ربي لا إلى النار ، ثم غمضت عينيها ، ومدت يديها ورجليها ، وكأنها لم تكن حية قط.

أبكني ان بكيت يا خير هادي

وأسبل الدمع فهو يوم الفراق

يا قرين البتول اوصيك بالنسل

فقد أصبحنا حليف اشتياق

أبكني وابك لليتامى ولا تنسى

قتيل العدى بطف العراق

فارقوا فأصبحوا حيارى

يخلف الله فهو يوم الفراق

وروي عن اسماء ان فاطمة لما حضرتها الوفاة قالت لاسماء : ان جبرئيل أتى

__________________

(١) دلائل الإمامة : ٤٤.

٣٣٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لما حضرته الوفاة ـ بكافور من الجنة فقسمه أثلاثاً ، ثلثاً لنفسه ، وثلثا لعلي ، وثلثا لي ، وكان اربعين درهما ، فقالت يا أسماء اتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا وضعيه عند رأسي ، فوضعته ثم قالت يا أسماء أتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا وضعيه عند رأسي فوضعته ثم قالت لاسماء حين توضأت وضوءها للصلاة ، هاتي طيبي الذي أتطيب به ، وهاتي ثيابي التي أصلي فيها ، فتوضأت ثم تسجت بثوبها ، ثم قالت : انتظريني هنيئة وادعيني ، فان اجبتك وإلاّ فاعلمي اني قدمت على ابي فأرسلني إلى علي. فانتظرت هنيئة ثم نادتها ، فلم تجبها ، فكشفت الثوب عن وجهها فاذا بها قد فارقت الدنيا ، فوقعت عليها تقبلها ، فبينا هي كذلك اذ دخل الحسن والحسين فقالا لها : يا أسماء ما ينيم امنا في هذا الساعة ، قالت : يا ابني رسول الله ليست امكما نائمة ، قد فارقت الدنيا ، فوقع عليها الحسن يقبلها مرة ويقول : يا اماه كلميني قبل ان تفارق روحي بدني ، وأقبل الحسين يقبل رجلها ويقول : انا ابنك الحسين كلميني قبل ان يتصدع قلبي فأموت. قالت لهما اسماء : يا ابني رسول الله ، انطلقا إلى أبيكما علي فاخبراه بموت امكما ، فخرجا حتى اذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء فقالا : قد ماتت أمنا فاطمة عليها‌السلام فوقع علي عليه‌السلام على وجهه يقول : بمن العزاء يا بنت محمد ، كنت بك أتعزى فبمن العزاء من بعدك ؟ (١).

التشييع والدفن

ارتفعت أصوات البكاء من بيت علي عليه‌السلام فصاح أهل المدينة صيحة واحدة ، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة تتزعزع لها ، وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي عليه‌السلام ، وهو جالس ، والحسن والحسين بين يديه يبكيان ، وخرجت ام كلثوم ، وهي تقول : يا أبتاه يا رسول الله ، الآن فقدناك حقا لا لقاء بعده ابدا. واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجون ، وينتظرون خروج الجنازة

__________________

(١) البحار : ٤٣ / ١٨٦.

٣٣٥

ليصلوا عليها ، وخرج أبو ذر ، وقال : انصرفوا فان ابنة رسول الله قد اخر اخراجها في العشية (١). وأقبل أبو بكر وعمر يعزيان عليا عليه‌السلام ، ويقولان له : يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). ولكن عليا غسلها وكفنها هو واسماء في تلك الليلة ثم نادى : يا ام كلثوم ، يا زينب يا حسن ، يا حسين ، هلموا تزودوا من امكم فهذا الفراق واللقاء في الجنة ، وبعد قليل نحاههم امير الؤمنين عليه‌السلام (٣) عنها. ثم صلى علي على الجنازة ، وشيعها والحسن والحسين وعقيل وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة والعباس وابنة الفضل (٤). فلما هدأت الاصوات ونامت العيون ومضى شطر من الليل أخرجها امير المؤمنين عليه‌السلام ودفنها سرا وأهال عليها التراب ، والمشيعون من حوله يترقبون لئلا يعرف القوم ، ويمنعهم المنافقون ، فدفنوها وعفوا تراب قبرها.

وقوف الإمام عليه‌السلام على قبرها

انتهت مراسم الدفن بسرعة خوفاً من انكشاف امرهم وهجوم القوم عليهم ، فلما نفض الإمام يده من تراب القبر هاج به الحزن لفقد بضعة الرسول التي تذكر به وزوجته الودود التي عاشت معه الصفا والطهارة والتضحية ، وتحملت من اجله الاهوال والصعاب فوا غوثاه ... من هظمها ... من آلامها ... من تصدع قلبها ... وا غوثاه من كسر ضلعها ... واسوداد عضدها ... واسقاط جنينها ... ولكن.

لكل اجتماع من خليلين فرقة

وكل الذي دون الممات قليل

وان افتقادي فاطم بعد احمد

دليل على ان لا يدوم خليل

فأرسل دموعه على خديه ، وحول وجهه إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك ، والبائنة

__________________

(١) البحار : ٤٣ / ١٩٢.

(٢) البحار : ٤٣ / ١٩٩.

(٣) البحار : ج ٤٣ / ص ١٧٩.

(٤) البحار : ٤٣ / ١٨٣.

٣٣٦

في الثرى ببقعتك ، المختار الله لها سرعة اللحاق بك ، قل ـ يا رسول الله عن صفيتك صبري وضعف عن سيدة النساء تجلدي ، إلاّ ان في التأسي لي بسنتك ، والحزن الذي حل بي لفراقك ، موضع التعزي ، ولقد وسدتك في ملحودة قبرك ، بعد ان فاضت نفسك على صدري ، وغمضتك بيدي وتوليت امرك بنفسي ، نعم ، وفي كتاب الله انعم القبول ، انا لله وانا إليه راجعون ، قد استرجعت الوديعة ، واخذت الرهينة ، واختلست الزهراء ، فما اقبح الخضراء والغبراء ، يا رسول الله ، اما حزني فسرمد ، واما ليلي فمسهد ، لا يبرح الحزن من قلبي او يختار الله لي دارك التي انت مقيم ، كمد مقيح ، وهم مهيج ، سرعان ما فرق الله ( بيننا ) ، وإلى الله أشكو ، وستنبئك ابنتك بتظافر امتك علي ، وعلى هضمها حقها ، فاستخبرها الحال ، فكم من عليل معتلج بصدرها ، لم تجد إلى بثه سبيلا ، وستقول ، ويحكم الله وهو خير الحاكمين. سلام عليك يا رسول الله ، سلام مودع لا سئم ولا قال ، فان انصرف فلا عن ملالة وان اقم فلا عن سوء ظني بما وعد الله الصابرين ، الصبر أيمن واجمل. ولو لا غلبة المستولين علينا ، لجعلت المقام عند خبرك لزاما، للبثت عنده معكوفا، ولأعولت اعوال الثكلى على جبل الرزية ، فبعين الله تدفن ابنتك سرا ، ويهتضم حقها قهرا ، ويمنع ارثها جهرا ، ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر ، فالى الله ـ يا رسول الله ـ المشتكى وفيك اجمل العزاء ، فصلوات الله عليها ورحمة الله وبركاته (١).

وروي ان عليا عليه‌السلام سوى قبرها مع الأرض مستويا ، وقيل : سوى حواليها قبورا مزورة سبعة حتى لا يعرف احد قبرها ، وروي انه رش اربعين قبرا حتى لا يبين قبرها من غيره من القبور خوفا من الاعداء (٢). فلما اصبح الناس اقبل عمر وأبو بكر والناس يريدون الصلاة على فاطمة عليها‌السلام. فقال المقداد : قد دفنا فاطمة عليها‌السلام البارحة.

فالتفت عمر إلى ابي بكر فقال : الم اقل لك ، انهم سيفعلون ؟

قال العباس : انها اوصت ان لا تصليا عليها.

فقال عمر : لا تتركون ـ بني هاشم ـ حسدكم القديم لنا أبدا ، ان هذه الضغائن التي في

__________________

(١) البحار : ٤٣ / ٢١١ ، ١٩٣.

(٢) البحار : ٤٣ / ١٨٣.

٣٣٧

صدوركم لن تذهب ، والله لقد هممت ان انبشها فاصلي عليها ، فقال علي عليه‌السلام : والله لو رمت ذاك لارجحت اليك يمينك ، لئن سللت سيفي لا أغمدته دون ازهاق روحك ، فانكسر عمر وسكت وعلم ان علياً اذا حلف صدق (١).

تاريخ وفاتها عليها‌السلام

لا شك ان وفاتها عليها‌السلام كانت في السنة الحادية عشر من الهجرة ـ ظاهراً ـ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حج حجة الوداع في السنة العاشرة وتوفي في اوائل السنة الحادية عشر ، واتفق المؤرخون والكتاب على ان فاطمة عاشت بعد ابيها اقل من سنة ، الا انهم اختلفوا في يوم وشهر وفاتها اختلافاً شديداً ، فروى المعروف بالدلائل (٢) عن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام قبضت في جمادي الاخرة ، يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشر من الهجرة. وبه صرح المفيد في المسار (٣) ، وفي المصباح (٤) ، ونسبه الاقبال (٥) إلى جماعة ، فقال : روينا عن جماعة من أصحابنا ذكرناهم في كتاب التعريف للمولد الشريف ، ان وفاة فاطمة عليها‌السلام كانت يوم ثالث جمادي الآخرة ، وعن ابن همام ، قال : روى لعشر بقين منه.

وعن الكشف (٦) قيل : لثلاث ليال من شهر رمضان.

ونقل عن العاصمي (٧) باسناده عن محمد بن عمر.

ونقل المصباح (٨) ، عن ابن عياش انه في اليوم الحادي والعشرين من رجب ، وبعضهم لم يعين يومه ، لكن قالوا بعيشها بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمدة واختلفوا.

__________________

(١) البحار : ٤٣ / ١٩٩.

(٢) دلائل الإمامة : ٤٦ ، عن البحار : ٤٣ / ١٧١ ح ١١.

(٣) مسار الشيعة : ٣١.

(٤) مصباح المتهجد : ٧٣٣ ، عنه البحار ، ٤٣ / ٢١٥ ح ٤٦.

(٥) الاقبال : ٦٣٣ ، عنه البحار : ٤٣ / ١٩٦ ح ٢٦.

(٦) كشف الغمة : ١ / ٥٠٣ عنه البحار : ٤٣ / ١٨٩.

(٧) ونقل البحار عن العاصمي : ٤٣ / ٢١٣ ح ٤٤.

(٨) مصباح المتهجد : ٧٤٨ ، عنه البحار : ٤٣ / ٢١٥ ح ٤٧.

٣٣٨

قال أبو الفرج (١) فالمكثر يقول : ثمانية اشهر ، والمقلل ، اربعين يوماً. إلاّ ان الثابت في ذلك ما روي عن ابي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام انها توفيت بعده بثلاثة أشهر. حدثني بذلك الحسن بن علي ، عن الحارث ، عن ابن سعيد ، عن الواقدي ، عن عمرو بن دينار ، عنه عليه‌السلام. قلت : نقل الثلاثة اشهر ، الكشف (٢) عن كتاب الذرية للدولابي عن رجاله ، وعن ابن شهاب الزهري ستة اشهر ، وقال ابن قتيبة (٣) : مائة يوم بعده.

وقال الكشف (٤) ، عن الباقر عليه‌السلام : خمس وتسعين ليلة. وروى الاحتجاج (٥) عن كتاب سليم : اربعين يوماً. وقال الكليني (٦) : خمس وسبعون يوما. ورواه ابن الخشاب (٧) ، عن شيوخه ، عن الباقر عليه‌السلام. وبه قال في عيون المعجزات (٨) ، ورواه الكليني (٩) صحيحاً في خبرين عن الصادق عليها‌السلام.

سند أحدهما : أحمد بن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي محبوب ، عن ابن رباب ، عن أبي عبيدة ، عنه عليه‌السلام.

والآخر : العدّة (١٠) ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر ، عن هشام بن سالم ، عنه عليه‌السلام.

وفي خبر (١١) حسن وصحيح سنده علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عنه عليه‌السلام.

ويمكن تأويل خمسة وسبعين في الثلاثة بكونه محرف خسمة وتسعين ، حتى ينطبق

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٩ ، عنه البحار : ٤٣ / ٢١٥.

(٢) كشف الغمة : ١ / ٥٠٢ ، عنه البحار : ٤٣ / ١٨٨ ح ١٩.

(٣) المعارف لابن قتيبة : ١٤٢.

(٤) كشف الغمة : ١ / ٥٠٣.

(٥) الاحتجاج : عن كتاب سليم بن قيس الهلالي : ٢١٢ ، عنه البحار : ٤٣ / ١٩٩ ضمن ح ٢٩.

(٦) الكافي : ٤٥٨ / ١.

(٧) كشف الغمّة : ١ / ٤٤٩ ، عن ابن الخشّاب.

(٨) عيون المعجزات : ٥٥ ، عنه البحار : ٤٣ / ٢١٢ ح ٤١.

(٩) الكافي : ١ / ٢٤١ ح ٥ ، عنه البحار : ٤٣ / ١٩٤ ح ٢٢.

(١٠) الكافي : ٤ / ٥٦١ ح ٤ ، عنه البحار ، ٤٣ / ١٩٥ ح ٢٤.

(١١) الكافي : ٣ / ٢٢٨ ح ٣ ، عنه البحار : ٤٣ / ١٩٥ ذ ح ٢٤.

٣٣٩

على الخبر الدالّ على كونه في ثالث جمادي الآخره ، مع كون وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثامن والعشرين من صفر ، وينطبق على خبر ثلاثة أشهر بحمله على التسامح في الكمية الزائدة.

ويشهد له ما قاله الكشف (١) عن الباقر عليه‌السلام خمس وتسعين إن صحت النسخة لكن وقوع التحريف في أخبار ثلاثة مشكل ، مع عدم ثبوت كون وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثامن والعشرين من صفر ، بل عرفت قول كثير بكونه الثاني عشر من ربيع الأوّل من أن الخبر الخامس من أربعين أبي نعيم في أخبار المهدي الذي نقله الكشف (٢) ، قال عليّ عليه‌السلام : لم تبقى فاطمة بعده إلا خمسة وسبعين يوماً ، حتى ألحقها الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لكنّ الكلام في ثبوت عدد صفر (٣) ، وإلاّ فالتحريف للتشابه الخطّي ولو في أكثر غير بعيد (٤).

__________________

(١) كشف الغمّة : ١ / ٥٠٣.

(٢) كشف الغمة : ١ / ٥٠٣.

(٣) كلام المؤلف (ره) هنا في ثبوت وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صفر من كونه الثامن والعشرين وعدم ثبوته ، وعلى قول أنه الثاني عشر من ربيع الأول والمقصود هنا وقع التحريف والتصحيف للتشابه وفي أكثر من هذا من الأقوال وهو غير بعيد من التحريف.

(٤) تواريخ النبي والآل : ٥٥ ـ ٥٧.

٣٤٠