الأسرار الفاطميّة

الشيخ محمد فاضل المسعودي

الأسرار الفاطميّة

المؤلف:

الشيخ محمد فاضل المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة ـ لحضرة فاطمة المعصومة عليه السلام للطبعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6401-17-1
الصفحات: ٥٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الضياع ، ومن هذا المنطلق نجد الشعائر حين تلمسها فاطمة الزهراء ـ عليها‌السلام ـ تحولها إلى حياة ونور ، وواقع ... وآلية تحفظ الحقوق وترعى الزمام ، فمثلا ـ التسبيح من شعائر الله ، لانه يعيد الإنسان إلى واقعه ، وحقيقته التي خلق من اجلها ، وهي العبادة المطلقة لله وحده والتوجه إلى الخالق القادر الذي لا اله غيره ... وهو ـ أي ـ التسبيح بعد كل ذلك رحلة ينسجم المرء فيها مع كل ما يجري في هذا الكون ، لانه ما من شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ وهو يسبح الله ويقدسه ، تقول الارقام العلية التي نأخذها من القرآن الكريم : ان كل شيء في هذا الكون ساجد يسبح لله ويقدسه ، اخذا من الذرة والخلية وانتهاء بأكبر سديم في الفضاء ابتداء من الأميبا ، الحيوان ذي الخلية الواحدة ، وانتهاء باكبر جرم حيواني في الأرض. ابتداء من اصغر عشب نائم في العراء ، وانتهاء باكبر دوحة في الأرض ، هذه كلها تشترك في تسبيحة واحدة ، وسجود واحد وتقديس للحق جل وعلا ... ومن هنا جاءت فكرة التسبيح لترد الإنسان إلى هذه الحقيقة وهي الانسجام الكامل مع ما يجري في هذا الكون. هذا هو كل ما يمكن ان يقال في التسبيح في مثل هذا المجال ... ولكن تعالوا معي لنرى الصديقة الزهراء كيف حولت هذا الشعار إلى صهريج مليء بالنور والحركة والعطاء ... انظروا كيف استطاعت الزهراء ان تجعل من هذه الشعيرة الاسلامية ، منهجا تربوياً ، حضاريا ، يسكب الراحة والطمأنينة في النفس ، ويجعل المسلم اقوى من الجبال في مواجهة الطغاة الظالمين. فالتسبيح بتسبيح الزهراء يبدأ ب‍ ٣٤ تكبيرة و ٣٣ تحميدة ، و ٣٣ تسبيحة ، وهو تسبيح معروف ، ومشهور ، وخصوصا عند أهل البيت عليهم‌السلام حيث كانوا يأمرون اولادهم بحفظه وقراءته ، قبل النوم ، وكان الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : كنا نعلم اولادنا ، او قال : نعلم صبياننا حفظ هذا التسبيح وقرائته بعد الصلاة وفي اول دقائق النوم ، وقد تقدم ذكر هذا التسبيح والتعليق ، عليه ، ونحن اذا اردنا ان ندرك ما تقول فاطمة ... علنيا أن نجعل منها قدوة ، واسوة حسنة تفتح أبواب الحياة امامنا ، وتضيء عالمنا الذي اطبق عليه الظلام ، وذلك في فهمنا لتسبيح الزهراء ... فعندما نسبح بتسبيح فاطمة في اعقاب الفرائض ... يجب ان نتأثر به ، ونتخلق بآدابه ونسعى إلى ان يترك اثره الطيب في سلوكنا في الحياة بحيث ان الذي يقرأ هذا التسبيح او يقدم على ان عمل في حياته

٣٠١

اليومية عليه ان يشعر انه من احبة الزهراء او من انصارها الذين يحملون مبادئها ، وافكارها واهدافها إلى شعوب الارض وإلى الناس اجعين ، ولم لا ؟ الم تكن فاطمة رحمة للعالمين ، كما كان أبوها النبي رحمة للعالمين ؟ ... واذا كانت كذلك ، فان رسالتها هي رسائل لكل شعوب الأرض ، وعلى شيعتها ان يرفعوا صوتها إلى العالم اجمع فانه احب واقرب صوت إلى القلوب.

الزهراء تعلمت التسبيح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وفي تسبيح الزهراء ، نجد ان الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها‌السلام قد حولت هذا الشعار إلى سلوك يومي ، وذلك عندما علمها أبوها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا التسبيح ، ذهبت إلى قبر حمزة بن عبد المطلب ... وأخذت تصنع من تراب قبره حبات لمسبحتها لتدير بها هذا التسبيح. ومعنى ذلك انها اعطت الشعار محتوى ومضمونا ، ومعنىً ، أي انها جعلته شعارا حيا ، وليس مجرد كلمات تتحرك بها الشفاه واللسان ، دون ادراك ولا اسيتعاب. ان التسبيح هو تنزيه الله عن البعث ، انه تسبيح يؤكد الحكمة التي أقام الله عز وجل عليها الكون والحياة والإنسان ... والشهادة هي قمة هذه الحكمة ... أي ان الشهيد قد بلغ حداً من الحكمة والكمال ليس بعده حد ... وهذه هي الفلسفة ، والرشد ، الذي تريده الزهراء ، انه امتزاج بين التسبيح وبين دماء الشهداء. ان الصلاة من دون دم الشهيد لا تساوي شيئا. او قل : لولا الشهداء لما قام لهذا الدين عمود ، وحمزة هو سيد الشهداء ، طبعا قبل واقعة الطف ، وقبل مجيء يوم عاشوراء ، فلما جاء يوم عاشوراء ، يوم الحسين ، اصبح الحسين عليه‌السلام هو سيد الشهداء ، كما انه سيد شباب أهل الجنة ، وسيد الاحرار في العالم ، انه احتكاك فكري ، وحضاري بين التسبيح وبين دماء الشهداء ، وهذا هو الفارق الذي تنفرد به الحضارة الاسلامية عن غيرها من حضارات خاوية فارغة ، ونحن حينما نصلي على تربة الحسين ، فاننا نقيم هذا المعنى في القلوب ، وهو : ان الصلاة لا تقوم إلاّ بالشهادة ، ولذلك نخاطب الحسين في الزيارة ؛ اشهد انك قد أقمت الصلاة » أي اشهد انك بشهادتك قد أقمت الصلاة ، وحفظتها من

٣٠٢

الضياع ، وانت قد أقمت الصلاة بأهدافها ومبادئها قبل مصرعك ، وقبل يوم شهادتك. على ان السجود هو على التربة الحسينية ، وليس للتربة ، وهناك فرق بين السجود على الشيء والسجود للشيء ، فالسجود للأشياء قطعا حرام. كأن يسجد احد الناس لصنم أي يسجد له لا عليه. في حين ان السجود على التربة انما هو سجود لله وليس للتربة. فالتربة ليست اكثر من انها تحقق مصداق السجود على الأرض لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا ، ونحن نعرف ان المسلمين كانوا يصلون على تراب المسجد في ايام رسول الله. ثم ان التسبيح جاء في اطار التربية ، فهو يبدأ بالله ، وينتهي بالله ، وانه ليلخص مسيرة الحضارة الاسلامية ، من منطلقها وإلى هدفها ... من الله وإلى الله فهو يبدأ بالله اكبر ... وينتهي بسبحان الله ، فيكون قد بدأ بالله واختتم بالله ، في حين ان هذا المعنى لم يكن ليحصل لو كان البدأ بالحمد لله مثلاً. اذن : فالتسبيح ـ تسبيح الزهراء ـ قد جاء في اطار تربوي لانه يستقي نوره من القرآن الكريم ، والقرآن ، قد جاء للتربية ، واول آية ، وسورة نزلت في القرآن ، نجدها نزلت في اطار تربوي ، فأول كلمة فيه هي : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ). ولم يقل : اقرأ باسم الله مثلا ، وانما قال : اقرأ باسم ربك وكلمة الرب مأخوذة من التربية ، بمعنى ان القراءة يجب ان تأتي في اطار تربوي. ونفس الشيء في تسبيح فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وروي في كتاب مزار المفيد عن الإمام الصادق عليه‌السلام انه قال : ان فاطمة كانت مسبحتها من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات ، فكانت عليها‌السلام بيدها تديرها تكبر وتسبح إلى ان قتل حمزة بن عبد المطلب عليه‌السلام فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس ... (١). وهنا اود ان اتوقف معكم لحظات نتأمل من خلالها هذا الحديث العظيم اذ لا شك ان ذهابها إلى قبر سيد الشهداء الحمزة بن عبد المطلب الذي هدَّ مصرعه قلب النبي فقال في تأبينه : ما وقفت موقفا أغيظ علي من هذا الموقف حيث كانت هند زوجة ابي سفيان قد قامت بأبشع جريمة يمكن ان تقوم بها امرأة في مثل وضع هند آكلة الاكباد ، اذ شقت صدر الحمزة واخرجت كبده وارادت ان تمضغها

__________________

(١) المزار الكبير : ١٤٩ / ح ٢٠٧ ، مستدرك الوسائل : ٤ / ١٢ ح ٢.

٣٠٣

فحولها الله إلى حجر في فمها فلفظتها ، ثم جدعت انفه ، واذنه ، وقطعت اعضاءه وشوهت صورته النورانية بوحشية وحقد يظهران نكسة الشر في طبعها ، والدناءة والخباثة القابعة في داخلها ، والمعروف ان الحمزة بن عبد المطلب ، ويوم شهادته في احد ، كان صائما فأفطر في الجنة مع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح على روحه الطاهرة ، فهو يومذاك كان يمثل قمة الشهادة ، وسيد الشهداء ، لانه قتل يوم احد ، وأحد قبل يوم كربلاء بقرابة خمسين عاما من الزمن ، ومعنى ذلك ان الحمزة كان سيد الشهداء بحق ودون منازع ، فماذا يعني بالنسبة لنا ذهاب فاطمة إلى قبر حمزة سيد الشهداء احد ؟ ... ان فاطمة عندما تذهب إلى قبر حمزة ، وتصنع مسبحة من التراب الممزوج بدم الشهادة ، فانها تعطينا درساً بليغا في ان الشعار وحده لا يبني مجتمعا ، ويقيم امة ، وانما لابد للشعار من محتوى عملي ، ومنهج تطبيقي ، وبكلمة ... لابد للشعار من ممارسة فعلية وذلك ان الشعار لابد له من هدف يتجه نحوه ، ومن دون هدف ، يغدو تافها لا يثير دهشة احد ، ولا يشد انتباه احد ، ولا يربط على قلب احد. واقبح ما يكون ان يرفع الإنسان شعارا يخالفه ، ويعمل ضده ، يقول القرآن الكريم في هذا المضمار : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) (١). وفي مكان اخر يقول : ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) (٢) ولذلك كان ولا يزال ملاك الشعائر وتطبيقها ... واصبح تعظيمها يعني العمل بها ... ولا يطبقها إلاّ من امتحن الله قلبه للتقوى ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (٣).

وللفائدة أقول : إنه لا فرق بين الشعار والشعيرة في هذا الموضوع بالذات ... فالشعار جمعه شعارات والشعيرة جمعه شعائر ، وكلها تصب في نهر واحد ، لأنّ الغاية من ذكرها هنا تحقيق غاية سامية ، وهدف شريف رباني واذا كان الشعار وحده لا يبني مجتمعا خاصة ، اذا كان خاليا من محتوى ، فان اهداف الشهادة هي المضمون الجيد للشعار ، وهي المحتوى الراقي لشعائر الله والتسبيح معناه التنزية لله من كل عبث في الكون

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٤٤.

(٢) سورة الصف : الايتان ٢ و ٣.

(٣) سورة الحج : الآية ٣٢.

٣٠٤

والحياة والإنسان ، واذا كان التسبيح معناه التنزيه ومعناه معرفة الله ، فمن ـ يا ترى ـ ينزه الله ، ويعرف الله اكثر من الشهداء ؟ ان الشهيد يشكل قمة حضارية عالية في معرفة الحق سبحانه وتعالى ، ولذلك صنعت فاطمة حبات المسبحة من تراب اقدس شهيد هوى إلى الأرض بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكفي ان الزهراء حين تصلي وتسبح الله في صلاتها ، تتمثل صورة الشهادة في انصع اشكالها ، واروع معانيها امام عينيها وكفى بذلك فخراً وتربية وارتفاعا في سماء الجد ، وآفاق السماحة والشجاعة ، والفصاحة والمحبة في قلوب المؤمنين ، من هنا جاءت فكرة السجود على تراب كربلاء ، لأن ّ تراب كربلاء تضمن جسد الحسين عليه‌السلام ... ومن هو الحسين ؟ الحسين بن رسول الله ... الحسين ابن فاطمة ... الحسين الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حسين مني وأنا من حسين احب الله من احب حسينا » علما بان الرسول قال : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ». فالسجود على الأرض وترابها سنة شريفة متبعة في سيرة النبي الاكرم ... ونحن عندما نسجد على قطعة من تراب كربلاء ونحتفظ بها في جيوبنا فان ذلك يرمز إلى شيئين :

الأوّل : اننا نطبق سنة شريفة جارية ، وهي السجود على الأرض وفقا لتعاليم الحبيب المصطفى.

والثاني : اننا نتذكر الحسين دائما الذي كان اقرب الناس إلى قلب جده رسول الله ، والذي كان يوم عاشوراء يلبس جبة النبي ، وعمامته ... والقرآن الكريم يقول : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١). وقد أتانا النبي بالحسين وأهل بيته ، فقال : « حسين مني وانا من حسين احب الله من احب حسينا ». فكما ان الزهراء ، تريد ان تجعل اهداف الشهداء نصب عينيها حين تصنع سبحة لها من تراب قبر الشهيد ، كذلك نحن نريد ان نتذكر اهداف الإمام الحسين عليه‌السلام حين نصلي على قطعة من تراب ارض كربلاء المقدسة. اذن ففاطمة الزهراء بذهابها إلى قبر الحمزة ، اعطت شعيرة للتسبيح هذه دفقا معنويا ، وحياة ، وعطاء تربويا ، لا حدود له ، هذا بالاضافة إلى انها علمتنا كيف نتعامل مع شعائر الله ، وكيف نحول الشعار إلى

__________________

(١) سورة الحشر : الآية ٧.

٣٠٥

سلوك عملي نمشي به في الناس ، على ان تسبيح الزهراء ، قد صبه النبي في اطار تربوي عميق حين جعله يبدأ وينتهي بالله عزوجل. ان نظرة فاحصة نلقيها على هيكل التسبيح المذكور ، ترينا بوضوح ، ان التسبيح مؤلف من اربع وثلاثين تكبيرة وثلاث وثلاثين تحميدة ... وثلاث وثلاثين تسبيحة وهذا يعني انه بدأ بالله اكبر. فأول كلمة في التسبيح كلمة الله اذ انه لو بدأ مثلا في التحميد لكانت اول كلمة فيه كلمة الحمد وليس كلمة الله ، وهكذا اراد النبي لهذا التسبيح ان يصب في قالب تربوي كما هو شأن كل الشعائر الاسلامية ... فجعله يبدأ بالله اكبر ... وينتهي بسبحان الله انه بدأ بالله وختم بالله ... وهذا هو المراد من الاطار التربوي في منهج التسبيح ... وهو موافق لسلسلة الفكر الاسلامي في القرآن الكريم ... فنحن نعرف ان اول كلمة نزلت في القرآن هي : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ) والرب كلمة مشتقة من التربية ، بمعنى ان القراءة المطلوبة يجب ان تكون في اطار التربية الربانية ... وإلاّ لكان يقول : اقرأ باسم الله الذي خلق ... ولكنه لم يقل باسم الله الذي خلق ، في هذه السورة بالذات ، وانما قال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ) هذا بالاضافة إلى ان القراءة معناها تغذية العقل ، لأنّ العقل يتغذى بالعلم ، ومن دون علم تموت العقول ، وحين يقول الحق سبحانه : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... فان ذلك يعني غذ عقلك بالتربية العلمية ، حتى يصل عقلك إلى مرحلة الرشد الفكري ، ان لفاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ قدرة عجيبة ، ومدهشة على تصوير المعاني الجافة واعطائها صورا حية ، ثم منحها ريشا رقيقا فيه المعاني في ارفع درجات الفهم ، والاسيتعاب وان قدرتها كما قلت آنفا ـ على تصوير قضايا الاسلام تصويرا دقيقا ، لمدهشة جدا ، فما من كلمة تقولها فاطمة ، وما من دمعة تسكبها من عينها ، وما من خطوة تخطوها فاطمة إلاّ صورت الاسلام بكل ابعاده تصويرا حقيقيا وواضحا ، يبهر الالباب ويأخذ بمجامع القلوب ، وهذه ميزة في أهل البيت لا يشاركهم فيها احد من العالمين ... بخلاف غيرهم من الناس ، او بتعبير اكثر دقة بخلاف الآخرين ... فالاسلام الذي يعرضه الاخرون يبدو اسلاما مزيفا مرقعا مهلهلا يضرب بعضه بعضا في حين ان الاسلام يعرضه أهل البيت عليهم‌السلام يبدوا اسلاما يشد بعضه بعضا ، وله نور وعليه حلاوة وجمال رشيق ، له قوة جذب شديدة ، وبكلمة : الحديث

٣٠٦

الذي يأتينا من النبي وأهل بيته ، وهم فاطمة وعلي والحسن والحسين ، والتسعة المعصومون ، من ذرية الحسين عليهم‌السلام.

أقول : الحديث الذي يأتينا من أهل البيت الذي اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، يأتي حديثا له نور هو من نور القرآن ، بل اننا نجد حديثهم يتعانق مع القرآن عناقا طويلا ، في مودة واخلاص ... فليس هناك حديث عن أهل البيت يخالف القرآن ابداً ... ومن هنا جاء حديث الثقلين الشهير الذي تذكره كل كتب الصحاح والحديث بدءا من صحيح البخاري ومسلم ، مرورا بصحيح الترمذي والنسائي وابن ماجه وابي داود ، وانتهاء بمسند بن حنبل والصواعق المحرقة لابن حجر العسقلاني ... كل هذه الكتب قد اجمعت واتفقت على كلمة واحدة وهي : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ، وقد نبأني اللطيف الخبير انهما ، أي الكتاب والعترة لن يفترتا حتى يردا على الحوض ».

والآن وبعد هذه الجولة السريعة في رحاب التسبيح ، وبعد هذه السباحة في شاطئ تسبيح الصديقة فاطمة الزهراء ـ صلوات الله وسلامه عليها ـ فانه يجدر بنا ان نرجع إلى معالم هذا التسبيح الذي اصبح شعاراً يرفعه المناضلون ، والمجاهدون في وجوه الطغاة والجلادين ... بل ان هذا التسبيح ـ أعني تسبيح الزهراء ـ قد جمع كل مناهج الإنسان المؤمن في ، الحياة فهو يبدأ بالله اكبر ... ثم الحمد لله وينتهي بسبحان الله. وهذه هي مناهج المؤمن ومعالم الإيمان في الأرض. ان تبدأ بسم الله ... وتعتقد ان الله اكبر من كل شيء في هذا الوجود ، انه اكبر من المال ، واكبر من السطان ، واكبر من الاهل ، والنفس ، والحياة ، واذا كان اكبر من كل هذه الاشياء ، فمعنى ذلك انك تكون على اهبة الإستعداد لأن تضحي بنفسك واهلك ، ومالك وكل غال ونفيس في سبيل كلمة « الله اكبر » ... ومن هنا ندرك السر المكنون الذي جعل الصديقة الزهراء تذهب إلى قبر حمزة سيد الشهداء وتصنع من تراب قبره حبات لمسبحتها ، وكأنها بهذا العمل تلقنا درسا لا ننساه ابدا ، وهو ان كلمة الله اكبر التي جاءت في أول تسبيح الزهراء ، هذه الكلمة لا يحفظها إلاّ الشهداء ، ولا يحصنها من غائلة العوادي إلاّ دماء الشهداء ... ان كلمة الله اكبر ... تعني الصدق والوفاء والاخلاص ، والشجاعة والعفة والزهد ، والشرف

٣٠٧

الرفيع ، وهذه لا تسلم ابدا من ايدي العابثين إلاّ بسفك المهج واراقة الدماء. وصدق الشاعر حين قال :

لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى

حتى يراق على جوانبه الدم

ويقول أبو القاسم الشابي

إذا الشعب يوما اراد الحياة

فلابد ان يستجيب القدر

ولابد لليل ان ينجلي

ولابد للقيد ان ينكسر

اجل ... ان فاطمة الزهراء عليها‌السلام لتدرك جيداً ان هذا الشعار الذي اخذته من النبي لا يمكن حفظه إلاّ بالتضحية ، والشهادة ولذلك قامت بخطوة تكريمية للشهداء ، وهي انها جعلت من تراب قبر الشهيد حبات لمسبحتها ، لتدير عليها هذا المنهج الملائكي النوراني الذي سمي : تسبيح الزهراء. ونفس الشيء يقال بالنسبة للحمد ، فالحمد هو اعلى قمة يمكن ان يصل اليها الإنسان ، ومن هنا كانت سورة الحمد ام الكتاب ، لانها جمعت التعبير كله ولخصت مسيرة الأنبياء جميعا في مضمونها ، وكما في التكبير والتحميد كذلك في التسبيح ، وهو سبحان الله وكما قلت سابقا ان هذا التسبيح جاء مصبوبا في قالب ادبي واخلاقي وتربوي ، وذلك انه بدأ ب‍ « اسم الله » وانتهى ب‍ « باسم الله » فهو يبدأ ب‍ « الله اكبر » وينتهي ب‍ « سبحان الله » فنجد كلمه الله في اوله ، والله في اخره ، ولو بدأ ب‍ « الحمد الله » مثلا لما حصل هذا المعنى وهذا الاطار التربوي الجميل ، وهو مشتق ونابع من قول الله تعالى : ( إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) اذن تسبيح فاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ انما جاء ليزرع في أعماقنا شتائل النور ، ويبادر الحب والعطاء ... لقد جاء هذا التسبيح الجامعي العظيم ، ليشعل في قلوبنا قناديل الامل والرجاء ويمنحنا الطمأنينة والسلام ، ولكي نتذوق حلاوة التسبيح ، فانه لابد لنا من المواظبة على قراءته في أعقاب كل صلاة نصليها وذلك لانه يدفع البلاء عنا ، ويجلب الرزق ويعمنا بسحاب البركة والخير الكثير والله ولي التوفيق (١). وختاما للموضوع نذكر اهم فوائد وآثار هذا التسبيح المبارك الذي منه رسول الله علينا من لسان ابنته

__________________

(١) اعلموا اني فاطمة : ٢ / ٦٨١ ـ ٦٩٨.

٣٠٨

فاطمة علما بان هذه الاثار والفوائد انما اخذناها واستفدناها من خلال عد كبير من الاحاديث المأثورة عن لسان أهل البيت عليهم‌السلام.

١ ـ ان تسبيح فاطمة عليها‌السلام من الخير الكثير للمؤمن (١).

٢ ـ من قرأ هذا التسبيح عند النوم بات وله الف حسنة وعند قيامه من نومه ـ الذي قرأ فيه التسبيح ـ له الف حسنة (٢).

٣ ـ ان هذا التسبيح مائة باللسان وألف في الميزان وذلك قوله تعالى ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) إلى مائة الف (٣).

٤ ـ انه ما عبد الله تعالى بشيء من التمجيد افضل من تسبيح فاطمة (٤).

٥ ـ من سبح هذا التسبيح ثم استغفر الله غفر له وهي مائة باللسان ـ أي التسبيحة ـ وألف في الميزان وتطرد الشيطان وترضي الرحمن (٥).

٦ ـ انه ما يلزمه عند مؤمن فشقي في حياته (٦).

٧ ـ انه من سبح هذا التسبيح في دبر الصلاة المكتوبة من قبل ان يبسط رجليه اوجب الله له الجنة ـ وفي رواية غفر له (٧).

٨ ـ من سبح هذا التسبيح قبل ان يثني رجليه بعد انصرافه من صلاة الغداة غفر له (٨).

٩ ـ ان من قرأه وكان في سمعه ثقل دفع الله عنه هذا الثقل الذي في أذنيه (٩).

١٠ ـ ان هذا التسبيح افضل شيء علمه رسول الله لفاطمة عليها‌السلام (١٠).

__________________

(١) شرح السنة : ٥ / ١٠٧ ، مسند احمد : ٦ / ٢٩٨ وكنز العمال : ٢٠ / ٥٥.

(٢) حلية الأولياء : ١ / ٦٩ ، نظم درر السمطين : ١٩٢ فتح الباري في شرح البخاري : ١١ / ١٠٢ ، اعلام النساء : ٣ / ١٢٠٢.

(٣) كنز العمال : ٢ / ٥٨.

(٤) الكافي : ٣ / ٣٤٣ ح ١٤ ، الوسائل : ٤ / ١٢٠٤ ح ١.

(٥) ثواب الاعمال : ١٩٦ ح ٢ ، البلد الامين : ٩ قطعة ـ الوسائل : ٤ / ١٠٢٣ ح ٣.

(٦) امالي الصدوق : ٤٦٤ ح ١٦ ، ثواب الاعمال : ١٩٥.

(٧) فلاح السائل : ١٦٥ ، ثواب الاعمال : ١٩٦ ح ٤.

(٨) المصدر السابق.

(٩) مشكاة الانوار : ٢٧٨ ح ١٤.

(١٠) التهذيب : ٣ / ٦٧ ح ٢١.

٣٠٩

١١ ـ ان هذه التسبيح عند الأئمة عليهم‌السلام دبر كل صلاة احب اليهم من صلاة الف ركعة في كل يوم (١).

١٢ ـ انه من الذكر الكثير ـ أي من سبح هذا التسبيح المبارك كان من الذاكرين من الله كثيرا « واذكروا الله ذكرا كثيرا » « والذاكرين الله والذاكرات الله » (٢).

١٣ ـ ان من سبح تسبيح الصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام بسبحة من طين قبر الحسين عليه‌السلام كتب الله له اربعمائة حسنة ومحى عنه اربعمائة سيئة وقضيت له اربعمائة حاجة ورفع له اربعمائة درجة (٣).

__________________

(١) كشف الغمة : ١ / ٤٧١.

(٢) معاني الأخبار : ١٩٣ ح ٥ ، تفسير العياشي : ١ / ٦٨.

(٣) البحار : ٨٥ / ٣٤٠ ح ٣٢.

٣١٠

٣١١

٣١٢

السيد محمد رضا حيدر شرف الدين العاملي

يا صاح لا عذل ولا ارغام

رفقا بنفسي فالملام حرام

لا غرو خلي ان بكيت بعبرة

حرى فقلبي ألهب وضرام

ما كنت أذرف للصبابة أدمعي

سفها ولا ادمى الفؤاد غرام

حفت بشخصي الحادثات ترومني

فدفعت جيش الحزن وهو غرام

ولكم جرعت من الحياة حميمها

لم يُثني منها أذى وسقام

صرعت فرسان الليالي والابا

طبعي فأحنت هامها الايام

ما هزني الخطب المروع بعظه

حتى ولو هتنت علي سهام

لكن يوم الدار خلف في الحشى

ندبا فما بين الضلوع حطام

يوم به اربد الفضاء وغاض

نور الخافقين فحلها الاظلام

وتداعت الافلاك في عليائها

بالنوح والسبع الطباق جهام

والشمس وارت في الحجاب ضياءها

حزنا وصدع البدر لا يلتام

اذ اوزفت بضغائن معهودة

والناس في مهد الخنوع نيام

زمر النفاق تروم اكرم منزل

فيه البتولة والفتى الضرغام

هجموا على دار الوصي وحرقوا

بابا اعز حريمه العلام

وانهال صاحبهم يلوع فاطما

بالسوط ضربا رق منه لئام

ثم انبرى عصرا يهشم ضلعها

فهوى الجنين وقد عراه حمام

سقطت مضرجة تجود بنفسها

لم يرع فيها للنبي ذمام

فاهتز عرش الله من أناتها

وبكى دما لمصابها الإسلام

٣١٣

٣١٤

البحث الثاني عشر

معرفة فاطمة عليها‌السلام

« من عرف فاطمة حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها ، ما تكاملت النبوة لنبي حتى أمر بفضلها ومحبّتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى » (١).

تعتبر مسألة المعرفة والبحث عن الحقيقة من المسائل العقائدية المهمة التي تأخذ وتشغل حيزاً كبيراً في العقيدة الإسلامية والتي لابد من دراستها وتوجيه العقل نحوها لكي يدركها إدراكاً منطقياً عقلائياً ، فلقد أقدمت المدرسة الشيعية الحقة على وضع الكثير من القضايا العقائدية على طاولة البحث والتحقيق للوصول إلى المعرفة الحقيقية التي تتمثل في كافة المستويات العقائدية ، وحسب ما أعتقده فإن أكثر المدارس وأفضلها في تقديم الشروط الصحيحة واللازمة للوصول للحقيقة هي مدرسة الشيعة الإمامية ، تلك المدرسة التي دعت الناس إلى التحقيق والتفكير والتفقه والتعقل في عقائدها ومبادئها لكي يصلوا إلى نور الحقيقة وفهمها والإستضاءة من نورها في كل جوانب الحياة الإنسانية ، فنحن نرى أن أبسط حركات الإنسان الإرادية يجب أن تكون مدروسة ومسموحاً بها من جانب العقل ، ففي وصية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لكميل قال :

« يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة ».

وهذا يعني أن الإسلام لا يسمح للإنسان بالقيام بعمل من دون التحقيق والعلم بصحته ، لكي تكون النتيجة النهائية هي المعرفة الحقيقية ، فأكثر المؤمنين أفضلية أكثرهم معرفة وإيماناً ، والمعرفة لا تكون إلا بإدراك القضايا المطروحة ودراستها

__________________

(١) البحار : ٤٢ / ١٠٥.

٣١٥

الدراسة الصحيحة والتي يكون بناءها على ضوء الإستدلالات العقلية والمنطقية ، من هنا كان لابد لنا من الوقوف مع بعض الأحاديث المأثورة عن أهل بيت العصمة لكي نفهمها وندركها إدراكاً عقلياً ونورانياً وحسب ما يمليه علينا المنطق السليم والذوق الرفيع. ومرة أخرى نقف مع حديث آخر في معرفة الصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام لكي ندركه الإدراك الصحيح الذي جاء المدح عليه ، وخاصة معرفة دراية الرواية وفهمها ، وهذا ما أوصى به الإمام الباقر عليه‌السلام لولده الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله :

« يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم فإن المعرفة هي الدراية للرواية ».

و « الرواية » هي عبارة عن كلام منقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام أما « الدراية » فهي عبارة عن التحقيق والدراسة والإجتهاد للمعرفة وإدراك المفهوم الحقيقي للرواية وعين ما يقصده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ، وبعبارة أخرى ، الرواية هي حفظ الحديث ونقله ، والدراية هي تفقه الحديث وفهمه ، والراوي هو ناقل الحديث والفقيه هو المحقق وعالم الحديث « دَرى درْياً ودراية الشيء بالشيء توصل إلى علمه ... المنجد ».

فالإمام الباقر عليه‌السلام يوصي ابنه الصادق عليه‌السلام أولاً بمعرفة منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم ، ثم يوضح بعد ذلك أن ما يعنيه من بالمعرفة. هو دراية الروايات ، حيث يقول : « وبالدّرايات للرّوايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان ».

أي أن المهم ، هو التحقيق والمعرفة وفهم الحديث لأن الرواية إذا لم تصحبها الدراية لا تجدي فتيلاً.

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام في كلام آخر له بشأن قيمة دراية الرواية ومعرفة الحديث : « حديث تدريه خيرٌ من ألف حديث ترويه » (١).

فرواية الحديث ونقله ، يمكن أن تكون لها فائدتها الكبيرة وقيمتها العظيمة ، وتقع موقعها الأفضل لدى من ينقل الحديث اليهم ـ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه غير فقيه ـ ولكنها بالنسبة للراوي تكون مفيدة إذا ما اقترنت

__________________

(١) البحار : ٢ / ١٨٢.

٣١٦

بالدراية ، ورواية الحديث دون درايته لا تجدي نفعاً للراوي ـ « وكما قال أمير المؤمنين » « قيمة كل امرءٍ وقدره معرفته » (١) ـ بل ربما كانت في بعض الأحيان مضرَّة له ولغيره أيضاً إذ لو لم يكن الراوي على علم بالحديث فقد يتسبب حتى في تحريفه ولهذا قال أمير المؤمنين : « عليكم بالدرايات لا بالروايات » (٢).

وجاء في كلام آخر له عليه‌السلام : « همة السفهاء الرواية ، وهمة العلماء الدّراية » (٣).

من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس كانت لنا هذه الوقفة الجديدة مع حديث آخر يوضح لنا معرفة الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام وارتباطها الوثيق بليلة القدر ، وسيأتي إن شاء الله ارتباطها الوثيق بليلة القدر في البحث الثالث عشر.

معرفة فاطمة عليها‌السلام

إن من القضايا المهمة في عقيدة الفرد المؤمن هي معرفة الحقيقة التي دعا اليها القرآن الكريم إضافة إلى دعوة أهل البيت عليهم‌السلام إلى الوقوف عليها ولو على قدر القابليات والإستعدادات التي يمتلكها الفرد المؤمن ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ، فلذا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق عليه‌السلام الذي يقول فيه « من كانت له حقيقة ثابتة لم يقم على شبهة هامدة حتى يعلم منتهى الغاية ، ويطلب الحادث من الناطق عن الوارث وبأي شيء جهلتم ما أنكرتم ، وبأي شيء عرفتم ما أبصرتم إن كنتم مؤمنين » ، أي لابد من أن يكون للمؤمن حقيقة في معرفة ، والتي من شأنها ( هذه الحقيقة ) أن لا تخرج الإنسان عن الاستقامة عن الجادة التي أمرنا الله تعالى باتباعها والإلتزام بها ، ومعرفة هذه الحقيقة يحتاج فيها الإنسان المؤمن إلى وجود عدة أمور لا يستغني عنها في سبيل تحصيل هذه الحقيقة ، ومن هذه الأمور هو التعقل عن الله تعالى والذي من شأن هذا التعقل أن يؤدي إلى المعرفة الصحيحة التي لا تزيل قدم الإنسان المؤمن عن

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢.

(٢) البحار : ٢ / ١٦٠.

(٣) البحار : ٢ / ١٦٠.

٣١٧

الصراط المستقيم فيكون نور هذه الحقيقة يظهر في قلب المؤمن على سبيل الذوق والوجدان فتأخذه هذه الحقيقة كل كيانه بل تكون هذه الشغل الشاغل في حياته ويسعى إلى الوصول اليها وعلى قدر القابليات والإستعدادات التي منحها الله تبارك وتعالى إليه هذا ما نجده من خلال أصحاب الأئمة عليهم‌السلام الذين كانوا دائماً يسعون إلى الوصول والحصول على هذه الحقيقة فلذا ترى كميل بن زياد يسأل أمير المؤمنين علي بن طالب عليه‌السلام عن هذه الحقيقة في الحديث المروي وهو أنه سأله عن الحقيقة بقوله ما الحقيقة فقال له عليه‌السلام مالك والحقيقة ؟ فقال كميل : « أولست صاحب سرك » قال : « بلى ! ولكن يرشح عليك ما يطفح مني » فقال كيمل : « أو مثلك يخيب سائلاً ؟ ».

فقال عليه‌السلام : « الحقيقة كشف سجات الجلال من غير إشارة » فقال كميل : « زدني فيه بياناً ». قال الإمام عليها‌السلام : « صحو الموهوم مع محو المعلوم ». قال كميل : « زدني فيه بياناً » قال الإمام عليه‌السلام : « هتك السر لغلبة الستر » قال كميل : « زدني فيه بياناً ». قال الإمام عليه‌السلام : « نور يشرق من صبح الأزل ، فيلوح على هياكل التوحيد آثاره » قال كميل : « زدني فيه بياناً ». قال الإمام عليه‌السلام : « إطف السراج ، فقد طلع الصبح ».

إذن بسؤال المؤمن عن الحقيقة يصل إلى العلم بها وببعض جوانبها فلربما لا يستطيع معرفة كنُهها كما في قضية كميل بن زياد التي مرت عليك الآن ، فالعلم أول دليل يؤدي إلى المعرفة التي تنور القلب بحقيقة الإيمان ، والتي تكون هذه المعرفة برهان صدقٍ على نور الإسلام وحقيقة الإيمان ، وعليه نجد في كثير من الروايات الشريفة أن الأفضلية فيما بين المؤمنين بغض النظر عن التقوى التي هي من ملازمات المعرفة ، أقول نجد أن الأفضلية هي بالمعرفة فبعضنا أكثر حجاً من بعض وبعضنا أكثر صياماً وصلاة وصدقة من البعض ، ولكن الأفضلية بالمعرفة ، وعليه نجد في الروايات المأثور أن « أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة » (١).

إذن يظهر من خلال استقراء الأحاديث المأثورة عن أهل بيت العصمة أن قضية معرفة الحقيقة في حياة الفرد المؤمن مما لا يكن الإستهانة بها بل لابد من السعي إلى

__________________

(١) البحار : ٣ / ١٤.

٣١٨

الوقوف عليها في كل جوانبها التي تدعو إلى التعقل بها وهضمها بالصورة الصحيحة ، فلقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام انه قال : « لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة ولا معرفة إلا بعمل ، فمن عرف دلّته المعرفة على العمل ومن لم يعمل فلا معرفة له ... » (١).

حيث دل هذا الحديث على أن العمل والمعرفة أحدهما ملازم للآخر وأن من الضروري على أن الذي يعمل لابد له من المعرفة بحقيقة عمله وإلا فان الله تعالى لا يقبل عملاً إلا بمعرفة ، وعلى هذا الأساس تأخذ قضية المعرفة حيزاً كبيراً في جميع جوانب الشريعة الإسلامية سواء كان على مستوى الأصول أو على مستوى الفروع ، فعلى المستوى الأول الذي يتمثل في التوحيد والنبوة والإمامة والعدل والمعاد لابد من المعرفة التي من شأنها أن تجعل الحقيقة التي سعى المؤمنون الأوائل في الوقوف عليها ثابتة والراسخة في قلوبهم لكي لا تميل بهم الأهواء شرقاً ولا غرباً ، والمعرفة التي نسعى الوقوف عليها في الجانب العقائدي المتمثل في قضيتنا التي نطرحها الآن هي المعرفة الخاصة بالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام لكي ندرك بعض الحقيقة الخاصة بها وإلا فالمعرفة الحقيقية لها لا يستطيع الوصول إلى طبيعتها ومعرفة كنهها إلا من كان في مستواها وهذا لا يكون إلا في الذي كان كفواً لها وهي كفوٌ له ذلك هو أمير المؤمين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أما نحن فمعرفتنا لها تكون أما بالحواس الخمس أو تكون معرفتنا من خلال معرفة الشيء بأشباهه ، أما الحواس الخمسة فان لابد لها من دليل يرشدها ويعرفها بالوجدان الأمر الذي يعرض عليها ، وهذا ما جاء في مناظرة الإمام الصادق عليه‌السلام للطبيب الهندي حيث قال له : « أما إذ أبيت إلا الجهالة وزعمت أن الأشياء لا تدرك إلا بالحواس فإني أخبرك أنّه ليس للحواس دلالة على الأشياء ولا فيها معرفة إلا بالقلب ، فانه دليلها ومعرّفها الأشياء التي تدعى أن القلب لا يعرف إلاّ بها » (٢).

حيث يظهر من هذا الحديث أن المعرفة الذوقية الوجدانية تكون نابعة من القلب ،

__________________

(١) الكافي : ١ / ٤٤.

(٢) البحار : ٣ / ١٥٩.

٣١٩

لذا فإن معرفة فاطمة عليها‌السلام تحتاج إلى ذوق سليم ووجدان حكيم لكي تظهر لنا بعض أنوار هذه المعرفة ، هذا من جهة ومن ناحية أخرى يمكن معرفة فاطمة من خلال دراسة حياتها دراسة تحليلية مقارنة للقديسات والمؤمنات على مر العصور وان كان القياس مع الفارق وكما هو مثبوت في محله فإن فاطمة لا تصل إلى مقامها أي إمرأة مهما كانت في المستوى الإيماني الذي تعلق بحياتها.

وعلى كل حال فإن ما نطرحه في هذا البحث حول معرفة فاطمة إنما هو معرفة ظاهرية وعلى ما نمتلكه من وسائل المعرفة الظاهرية وإلا فنحن كما قال أمير المؤمنين في غرر الحكم : « كيف يعرف غيره من جهل نفسه » فأكثر الناس يجهلون حال انفسهم فكيف بغيرهم ولكن الميسور لا يسقط بالمعسور فمن هذا الباب لابد لنا ان نلج في هذا الأمر ونقف مع معرفة فاطمة عليها‌السلام الحقيقية.

مستويات معرفة فاطمة عليها‌السلام

هناك عدة مستويات نستطيع من خلالها معرفة أي شخصية تاريخية او اسلامية ولابد لنا من الالتفات اليها ونحن نسعى في طريق معرفة فاطمة ام ابيها فاطمة سلام الله عليها بل كل الأئمة عليهم‌السلام يتجلى هذا الأمر في معرفتهم المعرفة الحقيقية اما المستويات فهي :

١ ـ المستوى الأوّل : المعرفة التأريخية لها عليها‌السلام.

٢ ـ المستوى الثاني : المعرفة المناقبية لها عليها‌السلام.

٣ ـ المستوى الثالث : المعرفة العلمية والفكرية لها عليها‌السلام.

٤ ـ المستوى الرابع : المعرفة النورانية لها عليها‌السلام.

٣٢٠