الأسرار الفاطميّة

الشيخ محمد فاضل المسعودي

الأسرار الفاطميّة

المؤلف:

الشيخ محمد فاضل المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة ـ لحضرة فاطمة المعصومة عليه السلام للطبعة والنشر
الطبعة: ٢
ISBN: 964-6401-17-1
الصفحات: ٥٣٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٢٨١

٢٨٢

الشيخ صالح كواز الحلي

الواثبين لظلم آل محمد

ومحمد ملقى بلا تكفين

والقائلين لفاطم آذيتنا

في طول نوح دائم وحنين

والقاطعين اراكة كي ما تقيل

بظل اوراق لها وغصون

ومجمعي حطب على البيت الذي

لم يجتمع لولاه شمل الدين

والداخلين على البتولة بيتها

والمسقطين لها أعز جنين

والقائدين امامهم بنجاده

والطهر تدعو خلفهم برنين

خلو ابن عمي او لاكشف للدعا

رأسي وأشكو للاله شجوني

ما كان ناقة صالح وفصيلها

بالفضل عند الله إلاّ دوني

ورنت إلى القبر الشريف بمقلة

عبرى وقلب مكمد محزون

قالت واظفار المصاب بقلبها

غوثاه قل على العداة معيني

أبتاه هذا السامري وعجله

تبعا ومال الناس عن هارون

أي الرزايا اتقي بتجلدي

هو في النوائب مذ حييت قريني

فقدي ابي ام غصب بعلي حقه

ام كسر ضلعي ام سقوط جنيني

ام اخذهم ارثي وفاضل نحلتي

ام جهلهم حقي وقد عرفوني

قهروا يتيميك الحسين وصنوه

وسئلتهم حقي وقد نهروني (١)

__________________

(١) هذه القصيدة العصماء للشاعر المرحوم الشيخ صالح الكواز الحلي.

٢٨٣

٢٨٤

البحث الحادي عشر

فلسفة تسبيح فاطمة الزهراء عليها‌السلام

من الشعائر الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم هي شعيرة التسبيح ، تلكم الشعيرة التي تزيد في إيمان الإنسان وتضيف عليه هالة من النورانية عبر أداء هذه الركيزة الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة فقد جاء في قوله تعالى ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ليؤكد على هذه الحقيقة الخالدة التي أثبتها الله تبارك وتعالى لجميع الأشياء ، فالكون يسبح والنجوم تسبح في مداراتها الغارقة في أعماق الفضاء والشجر والنباتات والحيوانات بكل صنوفها تشترك في هذا الموكب الرهيب الذي يثير الدهشة ويجتذب القلوب ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (١).

وأيضاً قوله تعالى : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ... أي نزّه الله سبحانه عن السوء ، والشرك وعظمه بحسن الثناء عليه ، ومعناه أيضاً نزه اسمه عما لا يليق به ... فلا تضف إليه صفة نقص أو عملاً قبيحاً ... ومعناه أيضاً قولوا سبحان ربي العظيم ... والعظيم في صفة الله تعالى معناه كل شيء سواه يقصر عنه فإنه القادر العالم الغني الذي لا يساويه شيء ولا يخفى عليه شيء جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه.

وورد في التفسير المروي في هذه الآية المباركة : أي فبرئ الله تعالى مما يقولون في وصفه ، ونزهه عما لا يليق بصفاته ، وقيل معناه قل سبحان ( الله ) ربي العظيم ، فقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لما نزلت هذه الآية قال « اجعلوها في ركوعكم » وراجع في ذلك تفسير مجمع البيان ليتضح لك الحال والبيان.

ولقد ورد في القرآن الكريم عدة ألفاظ للتسبيح فتارة يأتي على نحو صيغة الأمر تسبح وتارة أخرى بصيغة الماضي أو الحاضر ... يسبح ... تسبِّح ... وسبحان الله ... وهذا

__________________

(١) النور : ٤١.

٢٨٥

يعني أن التسبيح له صفة الإستمرارية في كل شيء وكما قلنا فالكون يسبح ... الخ.

وإذا تفحصنا القرآن الكريم نجد زخماً كبير من الآيات المباركة تصل العشرات تؤكد على مسألة التسبيح ومنها : ( سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (١). ( يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (٢). ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) (٣). ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (٤).

إذن رحلة التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جداً كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح أعظم وأفضل ما يكون عليه الإيمان ، وقد ذكرنا هذه المقدمة لتكون لنا عوناً على استيعاب الموضوع الذي نحن فيه ـ تسبيح الزهراء عليها‌السلام ـ ومن الطبيعي جداً نرجع إلى المصدر الأول للمسلمين الذي هو القرآن الكريم لنرى كيف أكد على هذا التسبيح ، وبعد ننطلق ونسبح في فضاء تسبيح الصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام.

فالقرآن الكريم قال ان الكل يسبح ولكن لا نعرف نحن القاصرون عن إدراك الكثير من الحقائق التي تخصنا نحن كبشر في حياتنا ، وإلا فالكل يسبح ولكن نحن لا نعرف لغة هذا التسبيح الذي يخص الكائنات الأخرى سواء النباتية أو الحيوانية أو الجمادية أو الأفلاك المتحركة ، فإن لهذه الوجودات لغات خارجة عن تصوراتنا وعن حدود معرفتنا ، وليس لنا القابلية في معرفة هوية هذا التسبيح الخاص بها ، إلا من وفقه الله تعالى في مجاهدة نفسه ووصل إلى مرحلة الكشف والشهود لكثير من الحقائق الكونية ... وهذا ما نجده متحقق في كثير من الأنبياء عليهم‌السلام كما في قصة سليمان عليه‌السلام الذي أعطاه الله تبارك وتعالى معرفة لغة الحيوانات ( عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ) ويقول الله تعالى في ذلك : ( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا ) (٥).

__________________

(١) الحديد : ١.

(٢) الحشر : ٢٤.

(٣) ق : ٣١.

(٤) الأعلى : ١.

(٥) النمل : ١٨ ـ ١٩.

٢٨٦

فسليمان يعرف لغة الغير من الحيوانات كالنمل والطير وإلا لو كان لا يعرف لغة النمل لما تبسم ضاحكاً من قولها ، وعلى هذا الأساس فإن لكل شيء في هذا الكون لغة ومنطق ولكننا لا نفقه لغته ولا نعرف منطقه ولا ندرك ذلك إلا لمن أعطاه الله تبارك وتعالى نور البصيرة في كل شيء ( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ).

إذن فكل شيء له لغة وله منطق غير أننا لا نفقه تلك اللغات اللهم إلا أن يكون الإنسان نبياً أو وصي نبي أو أحد الأئمة الهداة الذين علمهم الله منطق كل شيء وكما ورد ذلك في كتاب مدينة المعاجز الذي يعطيك عشرات الشواهد على ذلك ... أما نحن فلا حظّ لنا من ذلك على الإطلاق ، وفي حديث أن الحصى كانت تسبح في كف النبي والصحيح هو أن النبي كان يسمع صوت الحصى حينما تسبح الله وتقدسه ... وإلا فالحصى هي مسبحة لله تعالى في يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي يد غيره من البشر غاية ما في الأمر أن الأنبياء لهم القدرة على سماع هذا التسبيح بشكل واضح وملموس. وبعد أن وقفنا بعض الشيء مع معالم التسبيح في القرآن الكريم نأتي الآن إلى نورانية تسبيح فاطمة عليها‌السلام الذي يعتبر من الشعائر الدينية لدى الشيعة والسنّة والذي يعتزون به كأفضل الأعمال عقيب الصلاة المفروضة.

ولقد جاء الحث عليه من قبل الأئمة عليهم‌السلام في كثير من الأحاديث التي وصلت إلينا عبر الرواة والمحدثين ومنها ما جاء عن لسان أبي جعفر عليه‌السلام قال :

« ما عبد الله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة عليها‌السلام ، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام » (١).

وعنه عليه‌السلام قال : « من سبّح تسبيح الزهراء عليها‌السلام ثم استغفر غفر له وهي مائة باللسان ، وألف في الميزان ، وتطرد الشيطان ، وترضي الرحمان » (٢).

وجاء عن هارون المكفوف ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يا أبا هارون ! إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها‌السلام كما نأمرهم بالصلاة فالزمه ، فإنه لم يلزمه عبد فشقي » (٣).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٤٣ / ح ١٤ ، الوسائل : ٤ / ١٠٢٤ / ح ١ ، التهذيب : ٢ / ١٠٥.

(٢) ثواب الأعمال : ١٩٦ / ح ٢ ، الوسائل : ٤ / ١٠٢٣ ح ٣.

(٣) أمالي الصدوق : ٤٦٤ ح ١٦ ، ثواب الأعمال : ١٩٥ ، الكافي : ٣ / ٣٤٣ ح ١٣.

٢٨٧

وأيضاً عن الصادق عليه‌السلام قال : « من سبح تسبيح فاطمة عليها‌السلام قبل أن يثني رجله بعد انصرافه من صلاة الغداة غفر له ويبدأ بالتكبير » ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام لحمزة بن حمران : « حسبك بها يا حمزة » (١).

تشريع التسبيح

من منّا لا يعرف كفاح فاطمة عليها‌السلام وكيف كانت حياتها تجري في بيت زوجها علي أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ فالتاريخ يحدثنا أنها كانت قليلة الهجوع في لليل ، وكانت تستغفر الله في الأسحار ، فتقف في محرابها للصلاة حتى تورمت قدماها من كثرة العبادة والدعاء ... وكانت تذوب رقة وخشوعاً في صلاتها وعند دعائها ، ولدى قراءتها القرآن الكريم ... فإذا مرت بآية فيها وعد أو وعيد رددتها في بكاء وحزن ودموع ...

هذا كان بعض شأنها في الليل ... أما في النهار ، فقد كانت فاطمة تطحن بالرحى حتى أثّرت الرحى بيدها ، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها ، وكنست البيت حتى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتى طبع الدخان أثره على ملابسها وترك لونه على ثيابها وقت العمل بالطبع (٢) وبلغ بها الحال أن دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات صباح ، وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل ، وطفلها يبكي إلى جانبها ، فبكى النبي ، وقال « تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة » (٣).

وذات مرة ، وقفت فاطمة الزهراء عليها‌السلام بين يدي أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر اليها ، وقد بدت آثار التعب على وجهها ، من شدة الجوع والكفاح ، فوضع يده الكريمة على صدرها ، ورمق السماء بطرفه ، وراح يدعو لها ، والدموع تترقرق في عينيه ، وهو يقول : « يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا ، لحلاوة الآخرة ». وقد تكرر هذا الموقف من رسول الله

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٦٥.

(٢) صفوة الصفوة : ٢ / ٦ وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : ٦٣.

(٣) أعلام النساء لعمر كحالة ٣ / ٢١٦ وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : ٦٣.

٢٨٨

لفاطمة ، وفي كل مرة يكرر عليها هذه العبارة : يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ... وفي ذلك درس عظيم لكل فتاة تبحث عن النجاح في الحياة ... فيه درس عظيم لكل امرأة تفتش عن السمو ... تفتش عن التكامل في الإسلام.

يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه‌الله : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة ، وعليها كساء من أجلة الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا بنتاه تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ، فقالت : الحمد لله على نعمائه ، والشكر لله على آلائه (١).

إن فاطمة الزهراء من خلال سيرتها الذاتية هذه تعطي الفتاة المسلمة أعظم درس في الحياة ، يؤدي بها إلى سلوك الصراط المستقيم لتعيش في ظلال رحمة الله سبحانه.

أجل ... إن فاطمة تعلم المرأة كيف تصبح فتاةً مسؤولة ... ، تتحمل مسؤولية الأسرة ، والمجتمع في ثقة وشجاعة.

ونعلم من سيرة الزهراء أنها لما أرهق بدنها الكدح والنضال ، وأتعبها الطحن بالرحى ، جاءت أباها تمشي على استحياء ، تطلب منه خادمةً تساعدها على تخفيف أعباء المنزل ، وثقل الحياة العائلية التي كانت تكابدها ليلاً نهاراً ، علّها تخفّف عنها بعض همومها. وقفت بين يدي أبيها رسول الله ، مطرقةً برأسها حياءً بعد أن سلمت عليه ، فرد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان من عادته أنه إذا أقبلت عليه فاطمة ، كان يقوم إجلالاً لها ويقبل يدها ثم يجلسها في مجلسه ، فجلست وهي مطرقة برأسها إلى الأرض ، وما كادت تجلس في مكانها ، حتى سألها الرسول الأعظم قائلاً : ما جاء بك ... وما حاجتك أي بنية ؟ فغلبها الحياء ولم تتمكن من سؤال النبي ، فقالت : جئت لأُسلم عليك ... وبعد لحظات قامت فودعها النبي ، ورجعت إلى دارها دون أن تحقق هدفها الرامي إلى طلب فتاة لخدمة المنزل.

وبعد هذا اللقاء بأيام وجدت فاطمة نفسها لا تستطيع مواصلة العمل دون وجود فتاة إلى جانبها في البيت ، فقررت أن تشكو حالها إلى أبيها الحبيب المصطفى لعله هذه

__________________

(١) سفينة البحار : ١ / ٥٧١ وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : ٦٥.

٢٨٩

المرة يلبي نداءها ، ويستجيب لدعوتها ، خصوصاً وقد انتصر المسلمون في معارك الجهاد ، فاحرزوا غنائم كثيرة وأموالاً عظيمة ... فقامت فاطمة الزهراء عليها‌السلام من ساعتها ، وأتت أباها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبت منه خادمة ، فقال لها : يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم ومن الدنيا وما فيها.

قالت : وما ذلك يا رسول الله ؟

قال : « تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة ، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة ، وتسبحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، ثم تختمين ذلك بلا إله إلاّ الله ، وذلك خير لك من الذي أردت ومن الدنيا وما فيها » (١).

وإليك قضيته كما نقله كتاب من لا يحضره الفقيه :

روي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لرجل من بني سعدٍ : ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) ؟ إنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها ، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها (٢) ، وكسحت البيت حتى اغبرَّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها (٣) فأصابها من ذلك ضرٌّ شديد ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.

فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدت عنده حُداثاً ، فاستحيت فانصرفت ، فعلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنها قد جاءت لحاجة ، فغدا علينا ونحن في لحافنا ، فقال : السلام عليكم ، فسكتنا واستحيينا لمكاننا ، ثم قال : السلام عليكم ، فسكتنا ، ثمّ قال : السلام عليكم ، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف ـ وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً ، فإن اُذن له وإلا انصرف ـ فقلنا : وعليك السلام يا رسول الله ادخل ، فدخل وجلس عند رؤوسنا ، ثمّ قال : يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمّد ؟ فخشيت إن لم نجبه أن يقوم ، فأخرجت رأسي فقلت : أنا والله اُخبرك يا رسول الله ، إنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها ، وجرّت

__________________

(١) شرح خطبة الزهراء للشيخ نزيه : ٢٩.

(٢) مجلة يداها أي ظهر فيها المجل وهو ماء يكون بين الجلد واللحم من كثرة العمل الشاق. والمجلة القشرة الرقيقة التي يجتمع فيها ماء من أثر العمل الشاق.

(٣) الدكنة : لون يضرب إلى السواد.

٢٩٠

بالرحى حتى مجلت يداها ، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.

قال : أفلا اُعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم ؟ إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة ، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدةً. فأخرجت فاطمة رأسها وقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ، رضيت عن الله وعن رسوله (١).

وعادت فاطمة إلى دارها تحمل معها أعظم هدية ربّانية ، وأكبر عطاء تربوي فكري. تلكم كانت قصة حديث تسبيح فاطمة الذي أطلقوا عليه اسم تسبيح الزهراء ، وشاع صيته في الآفاق وأصبح المسلمون يرددونه في أعقاب كل صلاة في خشوع ودموع. ولكن هل انتهت قصة هذا التسبيح العظيم ـ تسبيح الزهراء ـ ؟ كلا ... بالطبع إن تسبيح الزهراء ـ سلام الله عليها يعتبر شعيرة عظيمة ، من شعائر الله التي هي من تقوى القلوب. ونحن نعرف أن فاطمة لها أسلوب خاص ، وسيرة ذاتية تتعامل بها مع شعائر الله ... إن مفهوم الشعائر عند فاطمة يختلف عن مفهوم الآخرين للشعائر ... ولكي تأتي الصورة ـ صورة البحث ـ أكثر وضوحاً ، فإنه لابد من الدخول في الموضوع من أبوابه العريضة ، ولكن باختصار شديد مع الوضوح الكامل في الفكرة والتعبير.

إن الصفة الملازمة لفاطمة الزهراء ـ هي أنها تستطيع أن تصور الإسلام في كل خطوة تخطوها ، وفي كل شيء تلمسه بيدها الطاهرة وهي ـ أي هذه الصفة ـ وإن كانت موجودة في كل أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ إلا أنها تتألق في شخص الصديقة فاطمة الزهراء ، بشكل يشد القلوب ، ويبهر الألباب.

إن فاطمة تصوّر الإسلام بكل أبعاده حيث تجلس إلى الرحى تطحن فيها القمح والشعير ـ لتسد أود أبنائها وبعلها ومن يلوذ بها في ظل أهل البيت. وإن فاطمة تصور

__________________

(١) من لا يحضره الفقية : ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢١.

٢٩١

الإسلام بكل أبعاده ، حين تخرج مع أبيها رسول الله في ساحات القتال والجهاد ، تضمّد جراحه وجراح بعلها الوصي ، وتمسح عنهما الآلام والأحزان ، كانت تصور الإسلام ، عندما تستقبل بطل الإسلام علياً أمير المؤمنين ، وهو عائد من الحرب ، فيدفع السيف لها قائلاً :

أفاطم هاك السيف غير ذميم

فلست برعديدٍ ولا بمليمِ

أجل ... إنها تصور الإسلام عندما تخلع ثوبها ليلة الزفاف وتدفعه لفتاة فقيرة تبدو عليها رقة الحال ، ويسألها أبوها عن ثوبها الجديد ، فتجيبه بقولها : أبتاه يا رسول الله لقد طرقت عليّ الباب فتاة فقيرة تطلب ثوباً فأخذت ثوبي القديم لأدفعه لها ... ولكنني تذكرت قوله تعالى : ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (١).

وأنا أحب الثوب الجديد فآثرتها به على نفسي فخلعت ثوبي الجديد وأعطيته لها !

أية عظمة هذه ، وأية نفس كبيرة تطالعنا بها حياة فاطمة ، وسيرتها العذبة التي تتضوع عطر الجنة ؟! إن فاطمة تخطوها سلام الله عليها ـ لتصور الإسلام بشكل جذاب وجميل وبكل كلمة تقولها ... إن ذلك يظهر بوضوح في خطبتها المشهورة المليئة بالفكر ، والعطاء ، والمبادرة ، ان شعائر الإسلام تتحول إلى سلوك عندها فإذا أنت أمام شعائر تفور بالحركة ، والعطاء ، وتتفجر بالصور الساخنة ، والمعاني الحية وتتحول في النهاية إلى واقع معيوش أساسه الإيمان وركائزه الفضائل وهياكله التسامح والرحمة.

ليس عند فاطمة شعائر جامدة ، ولا عبادة راكدة ، ولا طقوس فارغة من المحتوى ، بل الشعيرة الدينية عند فاطمة متدفقة بالعطاء ، مليئة بالمبادرة والانطلاق الصائب نحو الهدف والغاية إن الشعيرة الدينية ـ أية شعيرة ـ من دون فاطمة ، تغدو شعيرة جامدة باهتة ، تجري في رتابة مملّة ، فإذا لمستها فاطمة الزهراء ، لمسة واحدة ، اهتزت ، وربت وأعطت ثمارها ، ان لمسة واحدة من فاطمة للشعائر ، تكفي لتحويلها إلى سلوك عملي يمشي في الناس مشية النور ... وذلك أن فاطمة لا تتعامل مع الشعارات الفارغة ، ولا

__________________

(١) آل عمران : ٩٢.

٢٩٢

تتعاطى مع الأوهام ... وإنما هي تؤمن بالحق ولا تتعامل إلاّ مع الحق والحقيقة.

إن فاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ لتضرب آباط الإبل بحثاً عن الحق ورواده ... علماً بأن الحق لا يتمثل إلاّ بها ولكن مع هذه كله ، ففاطمة البتول ، تفتش أبداً عن أهل الحق ، ولا تمشي إلا في طريق الحق ، وان قلّ سالكوه ، إنها لا تستوحش من طريق الحق لقلة سالكيه ... فإذا كان هناك واحد يمشي معها في هذا الطريق ، فإن ذلك يدخل السرور في قلبها ، ويجعلها تأنس برفيق الإيمان ولهذا كانت إذا نظرت إلى وجه الإمام علي ، تدفقت السعادة في وجهها وإذا نظر علي اليها أشرق وجهه بالبشرى ، حتى كان يقول : إذا رأيت فاطمة انجلت عني الهموم والأحزان. فهي حين علمها أبوها النبي ، التسبيح المعروف بتسبيح الزهراء ، أخذته بقوة لتحوله ـ رأساً ـ إلى منهج عملي ، وسلوك يتحرك بنوره في الناس ... فهي بدل أن تذهب إلى بيتها نراها ذهبت إلى قبر الحمزة بن عبد المطلب لتصنع من تراب القبر حبات لمسبحتها التي ستدير تسبيح الزهراء فيها ! (١). ومن هذا القصة والقضية التي حصلت للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام شُرِّعَ هذا التسبيح المنسوب إليها.

كيفية التسبيح

قد وقع الخلاف بين العامة والخاصة في كيفية تسبيحها عليها‌السلام ، ومنشأ هذا الإختلاف ناشئ من الأخبار المختلفة في الباب من كلا الفريقين على أن كلاهما يقول عند البدء به بالتكبير ووقوع الإختلاف إنما كان في تقديم التحميد على التسبيح أو العكس ، واختلف أصحابنا والمخالفون في ذلك ، مع اتفاقهم جميعاً على استحبابه.

وإليك الأقوال المختلفة في الأخبار عند العامة ثم نقدم بعد ذلك أخبار وأقوال الخاصة من الشيعة الإمامية لكي يتضح لنا بعد ما هو الصحيح.

* عن مسند فاطمة للسيوطي : عن ابن شهاب (٢). سمعت أبا هريرة يقول : سمعت

__________________

(١) للاطلاع اكثر راجع كتاب اعلموا أني فاطمة : ٢ / ٦٦١ ـ ٦٧٢.

(٢) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن مهاجر الحارث بن زهرة. راجع « تهذيب

٢٩٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : كلّ أُمّتي معافى إلا المجاهرين ، فان من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره ربّه فيقول : يا فلان ، عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربّه فيبيت يستره ويكشف ستر الله عنه ... وكان يأمر عند الرقاد ، وخلف الصلاة بأربع وثلاثين تكبيرة ، وثلاث وثلاثين تسبيحة وثلاث وثلاثين تحميدة ، فتلك مائة و ... ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك لابنته فاطمة عليها‌السلام (١).

* وعن الذريّة الطاهرة المطهرة : ( بإسناده ) عن أبي هريرة ، عن فاطمة ابنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنها انطلقت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله خادماً ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك ؟

إذا اويت إلى فراشك فسبحي ثلاثاً وثلاثين ، واحمدي ثلاثاً وثلاثين ، وكبّري أربعاً وثلاثين ، فهو خير لك من ذلك ، أرضيت يا بنيّة ! قالت : قد رضيت (٢).

* وعن شرح السنّة : ( بإسناده ) عن أبي هريرة قال : جاءت فاطمة عليها‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله خادماً ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أدلّك ما هو خير من خادم ؟ تسبّحين الله ثلاثاً وثلاثين ، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين ، وتكبّرين الله أربعاً وثلاثين عند كلّ صلاة ، وعند منامك.

( هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم بن اُميّة بسطام ، ولم يذكر الصلاة ) (٣).

* وعن مسند أحمد بن حنبل : ( بإسناده ) عن شهر ، قال :

سمعت أُمّ سلمة تحدّث ، زعمت أنّ فاطمة عليها‌السلام جاءت إلى نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشتكي إليه الخدمة : فقالت : يا رسول الله ! لقد مجلت يدي من الرحى ، أطحن مرّة ، وأعجن مرّة ؛ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن يَرزقك الله شيئاً يأتك ، وسأدلّك على خير من ذلك.

إذا الزمت مضجعك فسبحي الله ثلاثاً وثلاثين ، وكبّري ثلاثاً وثلاثين ، واحمدي

__________________

التهذيب : ٩ / ٤٤٥ ».

(١) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي ، أبو عبد الله المدني روى عن أبيه وعن أبي هريرة ، وعنه ابنه أبو بكر والزهري. راجع في ذلك « تهذيب التهذيب : ٣ / ٤٣٦ ».

(٢) ١٠٣ ، عنه الإحقاق : ٢٥ / ٣٤٦.

(٣) ٥ / ١٠٧ ، عنه الإحقاق : ٢٥ / ٣٤٥.

٢٩٤

أربعاً وثلاثين ، فذلك مائة ، فهو خير لك من الخادم ... (١).

أقول : يظهر من هذه الأخبار التي روتها العامة ان الإختلاف وقع بينهم في قضية تقديم التكبير على التسبيح وبالعكس فالخبر الأول يقدم التكبير والخبر الثاني يقدم التسبيح ومنه يظهر التعارض بين أخبارهم على أنه هناك الكثير من الأخبار التي تنقل لنا هذا الإختلاف فيما بينهم ولا يسعنا المقام لنقل أخبارهم كلها فنكتفي بهذه.

وأما ما ورد عن الخاصة :

* فعن جامع الأحاديث : عن القاسم مولى معاوية : أنّه سمع عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فذكر أنّه أمر فاطمة عليها‌السلام تستخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت :

يا رسول الله ، انّه قد شقّ عليَّ الرحى ـ وأرته أثراً في يديها من أثر الرحى ـ فسألته أن يخدمها خادماً ، فقال : أولا اُعلّمك خيراً من ذلك ـ أو قال : خيراً من الدنيا وما فيها ؟ ـ

إذا اويت إلى فاشك : فكبّري أربعاً وثلاثين تكبيرة ، وثلاثاً وثلاثين تحميدة ، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، فذلك خير لك من الدنيا وما فيها (٢).

* وعن مشكاة الأنوار : قال : دخل رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وكلّمه فلم يسمع كلام أبي عبد الله عليه‌السلام وشكى إليه ثقلاً في أذنيه ، فقال له : ما يمنعك ؟ وأين أنت من تسبيح فاطمة عليها‌السلام ؟ قال : جعلت فداك ، وما تسبيح فاطمة عليها‌السلام ؟

فقال : تكبّر الله أربعاً وثلاثين ، وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين ، وتسبّح الله ثلاثاً وثلاثين تمام المائة.

قال : فما فعلت ذلك إلا يسيراً ، حتّى أذهب عنّي ما كنت أجده (٣).

وعن المحاسن : عن يحيى بن محمد ؛ وعمرو بن عثمان ، عن محمد بن عذافر ، قال : دخلت مع أبي على أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله أبي عن تسبيح فاطمة عليها‌السلام ؟

فقال : الله أكبر حتّى أحصاها أربعة وثلاثين ، ثم قال : الحمد الله حتى بلغ سبعاً

__________________

(١) ٦ / ٢٩٨ ، كنز العمال : ٢٠ / ٥٥.

(٢) جامع الأحاديث : ٤ / ٦١٤ ، كنز العمال : ٢ / ٥٧.

(٣) مشكاة الأنوار : ٢٧٨ ح ١٤ ، البحار : ٨٥ / ٣٣٤ ح ٢١.

٢٩٥

وستّين ، ثم قال : سبحان الله حتى بلغ مائة ، يحصيها بيده جملة واحدة.

أقول : هذه الأخبار ظاهرة في تقديم التكبير أولاً ثم يعقبها بالتحميد وبعد ذلك التسبيح ... أما الطائفة من الأخبار التي رواها أصحابنا فهي ظاهرة في أن التسبيح مقدم على التحميد وإليك بعضها :

* عن فقه الرضا عليه‌السلام قال : إذا فرغت من صلاتك فارفع يديك ـ وأنت جالس ـ فكبّر ثلاثاً وقل : لا إله إلا الله وحده وحده [ لا شريك له ] ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، وأعزّ جنده وحده ، فله الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، ويميت ويحيي ، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير.

وتسبّح بتسبيح فاطمة عليها‌السلام : وهو أربع وثلاثون تكبيرة ، وثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة ؛ ثمّ قل : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، ولك السلام ، وإليك يعود السلام ، سبحان ربّك ربّ العزّة عما يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.

* وتقول : السلام عليك أيّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته ، السلام على الأئمة الراشدين المهديّين من آل طه ويس ... (١).

* وعن الإحتجاج : وسأل عن تسبيح فاطمة عليها‌السلام ، من سهى فجاز التكبير أكثر من أربع وثلاثين ، هل يرجع إلى أربع وثلاثين أو يستأنف ؟ وإذا سبّح تمام سبعة وستين هل يرجع إلى ستّة وستّين أو يستأنف ، وما الذي يجب في ذلك ؟

فأجاب عليه‌السلام : إذا سهى في التكبير حتّى تجاوز أربعاً وثلاثين ، عاد إلى ثلاث وثلاثين ، ويبني عليها ، واذا سهى في التسبيح فتجاوز سبعاً وستّين تسبيحة عاد إلى ستّ وستّين ، وبنى عليها ، فإذا جاوز التحميد فلا شيء عليه (٢).

* وعن التهذيب : عليّ بن حاتم ، عن محمد بن جعفر بن أحمد بن بطّة القمّي ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن محمد بن سنان ، وأبو محمد هارون بن موسى ، قال : حدّثنا محمد بن علي بن معمّر ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن محمد

__________________

(١) فقه الرضا : ١١٥ ، مستدرك الوسائل : ٥ / ٥١ ح ١.

(٢) الإحتجاج : ١ / ٣١٥ ، الوسائل : ٤ / ١٠٣٩ ح ٤.

٢٩٦

بن سنان عن المفضّل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث نافلة شهر رمضان ـ قال : سبّح تسبيح فاطمة عليها‌السلام ، وهو « الله أكبر » أربعاً وثلاثين مرّة ، و « سبحان الله » ثلاثاً وثلاثين مرّة ، و« الحمد لله » ثلاثاً وثلاثين مرّة ؛ ـ فوالله ـ لو كان شيء أفضل منه لعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياها (١).

اقول : يظهر من هذه الأخبار اختلافها عن المتقدمة من جهة الحيثية التي استظهرناها ، ومن هنا كان لابد لنا من معالجة الأخبار لكي نُخرِجَ هذا الاختلاف عن ظاهره وتوجيهه التوجيه الصحيح بحيث لا يبقى أي اختلاف وتعارض قال في المختلف : المشهور تقديم التكبير ، ثم التحميد ، ثم التسبيح ذكره الشيخ في النهاية والمبسوط والمفيد في المقنعة وسلار وابن الصلاح وابن ادريس. وقال علي بن بابويه ، يسبح تسبيح الزهراء ، وهو أربع وثلاثون تكبيرة ، وثلاث وثلاثون تسبيحة ، وثلاث وثلاثون تحميدة ، وهو يشعر بتقديم التسبيح على التحميد وكذا قال ابنه أبو جعفر وابن جنيد ، والشيخ في الاقتصاد واحتجوا برواية فاطمة عليها‌السلام.

والجواب : انه ليس فيها تصريح بتقديم التسبيح ، اقصى ما في الباب انه قدمه في الذكر ، وذلك لا يدل على الترتيب ، والعطف بالواو لا يدل عليه ، انتهى. وقال الشيخ البهائي رحمه‌الله في مفتاح الفلاح : أعلم ان المشهور استحباب تسبيح الزهراء عليها‌السلام في وقتين : أحدهما بعد الصلاة ، والآخر عند النوم ، وظاهر الرواية الواردة به عند نوم يقتضي تقديم التسبيح على التحميده وظاهر الرواية الصحيحة الواردة في تسبيح الزهراء عليها‌السلام على الاطلاق يقتضي تاخيره عنه. والمشهور الذي عليه العلماء في التعقيبات : تقديم التحميد على التسبيح ، وظاهر الروايات المعتبرة الصحيحة ذلك وهي شاملة باطلاقها لما يفعل بعد الصلاة وما يفعل عند النوم ، وما احتج به بعضهم في كون تقديم التسبيح على التحميد انما يكون عند النوم مردود بكون الرواية التي استدلوها بها غير صريحة في تقديم التسبيح على التحميد فان الواو لا تفيد الترتيب وانما هي لمطلق الجمع على الاصح كما هو مبين في محله من الاصول ، إلاّ اللهم ان يقال ان ظاهر اللفظ يقتضي ذلك.

__________________

(١) التهذيب : ٣ / ٦٧ ح ٢١.

٢٩٧

على انه لم يوجد قائلا بالفرق بين التسبيح عند النوم وبعد الصلاة بل يظهر من خلال تتبع اقوال الفريقين القائلين بتقديم التحميد على التسبيح مطلقا سواء وقع بعد الصلاة كتعقيب او قبل النوم وهذا هو الصحيح ، واما من ذهب بالتفصيل فقوله احداث لقول اخر في مقابل الاجماع الذي عليه الشيعة وهو مخالف كما ترى.

التسبيح من شعائر الدين (١)

فالتسبيح شعار ، او قل : شعيرة من شعائر الدين ومحتواه الفداء والتضحية والفداء لا يكون إلاّ اذا سبقته تربية ، وهو بعد ذلك كله يحتاج إلى رمز يدل عليه ، وهنا نستطيع بقليل من التركيز والانتباه ان نلمس هذين الشرطين في تسبيح الزهراء ...

الشرط الأوّل ، هو الشرط التربوي ... ونلمسه في تركيبة هذا التسبيح الذي علمه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لابنته فاطمة الزهراء والتسبيح يتكون من أربع وثلاثين مرة الله اكبر ... وثلاث وثلاثين مرة الحمد لله ، وثلاث وثلاثين مرة سبحان الله ... وفي نظرة واعية نلقيها على هذا الترتيب المتقدم نجد ان التسبيح يبدأ باسم الله وينتهي باسم الله ، فهو لم يبدأ بالحمد الله ، ولا بدأ بسبحان الله ، وانما بدأ بالله اكبر. وختم بسبحان الله حتى تكون اول كلمة في التسبيح هي كلمة الله ، واخر كلمة في التسبيح هي كلمة الله. ( الله اكبر ... سبحان الله ... الحمد لله ). انظروا إلى الكلمتين اللتين احاطتا بالتسبيح كما يحيط الهلال بحفة النجوم في صدره ، هذا هو الشرط الأوّل ، الشرط التربوي ... حيث ظهرت فيه الاشارة واضحة إلى المبدأ والمعاد ... فنحن من الله وسنرجع إليه ... انا لله ، وانا إليه راجعون ، وهذا معناه ان القراءة والدعاء ، والتسبيح وكل حركة في الحياة يجب ان تكون باسم الله ... كما كانت اول كلمة في القرآن : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (٢).

__________________

(١) من كتاب اعلموا اني فاطمة : ٢ / ٦٤٢.

(٢) سورة العلق : الايات من ١ ـ ٥.

٢٩٨

فجعل القراءة منصبة في قالب أدبي تربوي ... ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ) أي ان القراءة يجب ان تنصب في اطار تربوي أدبي ، لأنّ التربية مشتقة من الرب ، او كلمة الرب مشتقة من التربية وهو الاصح في اللغة. هذا هو الشرط الأوّل ، اما الشرط الثاني والذي يعني ان هناك رمزاً نتخذ منه قدوة ، واسوة حسنة في تطبيق مضمون التسبيح ، فهو الفداء ، والتضحية ... وهنا تجد فاطمة الزهراء عليها‌السلام حين اخذت درس هذا التسبيح من أبيها الرسول الاعظم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقول : حين اخذت من أبيها ، هذا الدرس انطلقت به إلى قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عليه‌السلام وحين وصلت إلى القبر ، جلست تصنع حبات لمسبحتها من تراب قبر الشهيد ، اجل ... فاطمة تصنع مسبحة من تراب قبر الحمزة من اجل ان تعبق حبات هذه المسبحة برائحة الشهادة ، وتتضوع بعطر الشهيد الذي أقدم الفداء والتضحية ، من اجل الحق ، من اجل ان يحيا الإنسان في أمن وطمأنينة ، من اجل ان يعبد الناس رب العالمين في حرية ودون اكراه ... من اجل اعطاء الناس حرية وحقا وعدالة اجتماعية ... من اجل ان يندحر الظالمون ، وينهزم المستكبرون ويذل الطغاة في الأرض. وفاطمة الزهراء ، هنا تعطي الصلاة بعدا جهاديا تربويا ، انها تعطي العبادات ابعادا توعوية تزيد في رشد الأُمة ، وتنقص من غبائها وبلادتها ، نعم انها مسبحة للصلاة ، ولكنها ليست مسبحة جامدة فيها حبات من الطين ... كلا ... انما هي مسبحة مصنوعة من تراب ممزوج بدم الشهادة ونور الولاية ... وهذا هو الذي يجعل للصلاة معنى وقيمة ووزنا. ومن هنا جاءت فكرة السجود على تربة الحسين عليه‌السلام في الصلاة وذلك حتى نتذكر دائما ان الصلاة لا تقوم في الأرض إلاّ بدماء الشهداء حيث :

لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى

حتى يراق على جوانبه الدمُ

من كل ذلك نخرج بحصيلة نافعة مفادها : ان الشعائر الفارغة لا تؤدي دورا نافعا في الحياة ... بخلاف الشعائر المليئة بالمضمون ، والمحتوى فانها تبني الحياة وتسعد القلوب ، وتربي النفوس ، وهي بعد ذلك قائمة على التقوى ، وملاكها طهارة القلوب وصفاء النفوس. ولهذا نجد الزهراء ، حولت الشعائر الاسلامية إلى سلوك يتحرك في اعماق الإنسان ، وبين يديه ومن خلفه ... ان فاطمة حركت الشعائر في القلوب واعطتها قوة

٢٩٩

دفع كبيرة يوم استطاعت ان تحرك العواطف ، وكثيراً من المشاعر ، وتغذي العقول بفصاحتها وبلاغتها وقوة بيانها. فهي لم تحرك مشاعر الذين عاصروها ، بل وأيضاً استطاعت ان تؤثر في كل الاجيال ، وفي الشعوب كافة بحيث اصبح اسمها رمزا للفداء والتضحية والبطولة والعظمة. نعم ، عندما يكون للشعار مضمون ، فهذه كانت نظرة الزهراء الثاقبة في التسبيح.

الشعار وحامله

شعارات كثيرة ارتفعت في الدنيا ، وزعماء لمعت اسماؤهم فترة من الزمن ، ولكنهم انطفأوا وانطفأت أسماؤهم ، عندما داست الجماهير شعارتهم تحت الارجل. في حين نجد شعارات انطلقت على أفواه زعماء آخرين مخلصين فعاش الزعماء والقادة في القلوب ، وظلت الشعارات متوجهة متدفقة لا ينقطع عطاؤها أبداً ... ولم تستطع قوى الظلام والضلال مجتمعة ان تطفئ شعيرة واحدة من تلكم الشعائر ... لانها انطلقت من الصدق والحق والحرية فعاشت في القلوب. ومن هنا نستطيع ان ندرك ـ على الفور ـ السبب المباشر في بقاء شعائر ، واندثار اخرى ... وفي انطفاء زعيم وعيش زعيم اخر. ان السبب الرئيسي في كل ذلك هو الصدق ... والصدق وحده هو الذي يستبقي الشعار ويجعله خالداً ... لأنّ معنى ذلك ان ليس هناك تنافر ولا تنازع بين الشعار وبين المبدأ الذي يحمله هذا القائد او ذلك. ان اول ما يؤدي سقوط الشعار هو ان يكون الشعار مخالفاً لسلوك الزعيم الذي يرفعه ... اما اذا التقيا : الشعار والمبدأ فان النتيجة واضحة وستكون حسنة وجيدة ، وهي الخلود الكامل للشعار وحامله ، ومن هنا فاننا نجد شعارات الاسلام خالدة وباقية لانها تنطلق من فطرة الإنسان تتغذى بالتقوى ، والإيمان بالله. يقول الحق : ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (١).

أي ان القلوب المليئة بالتقوى هي وحدها التي تغذي هذه الشعائر وتحفظها من

__________________

(١) سورة الحج : الآية ٣٢.

٣٠٠