مصابيح الظلام - ج ٩

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٩

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-9-4
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٠٩

واستدلّ العلّامة فيهما بقوله تعالى (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (١) ، ورواية الجمهور عن أبي مطرف قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يصلّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء (٢) (٣).

والأزيز لغة : غليان الصدر وحركته بالبكاء (٤).

والظاهر أنّ البكاء من حبّ الله أيضا كالبكاء من خشية الله ، وكذلك البكاء شوقا أو سرورا من ألطافه وشفقته ومحبّته به ، والبكاء من خشيته تعالى يشمل ما هو من خشية الطرد عن قربه والفراق عنه ونحوهما.

وروى الصدوق بسنده عن منصور بن يونس ، أنّه سأل الصادق عليه‌السلام : عن الرجل يتباكى في الصلاة الفريضة حتّى يبكي ، قال : «قرّة عين له والله ، وقال : إذا كان ذلك فاذكرني عنده» (٥).

و «كلّ عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاث أعين : عين بكت من خشية الله ، وعين غضّت عن محارم الله ، وعين باتت ساهرة في سبيل الله» (٦).

وفي «الكافي» و «التهذيب» بطريقهما المعتبر كالصحيح ، عن سعيد بيّاع السابري ، أنّه قال للصادق عليه‌السلام : أيتباكى الرجل في الصلاة؟ فقال : «بخ بخ ، ولو مثل رأس الذباب» (٧).

__________________

(١) مريم (١٩) : ٥٨.

(٢) مسند أحمد : ٤ / ٦٠٤ الحديث ١٥٨٧٧ و ١٥٨٨٢ ، سنن النّسائي : ٢ / ٢٥١ مع اختلاف يسير.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٨٦ و ٢٨٧ المسألة ٣٢٦ ، منتهى المطلب : ٥ / ٢٩٦ و ٢٩٧.

(٤) لسان العرب : ٥ / ٣٠٧.

(٥) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٠٨ الحديث ٩٤٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٧ الحديث ٩٢٤٠ مع اختلاف يسير.

(٦) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٠٨ الحديث ٩٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٧ الحديث ٩٢٤٢.

(٧) الكافي : ٣ / ٣٠١ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٨٧ الحديث ١١٤٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٨ الحديث ٩٢٤٤.

٨١

وورد أيضا أنّه : «ما من شي‌ء إلّا وله كيل أو وزن ، إلّا البكاء من خشية الله عزوجل ، فإنّ القطرة منه تطفي بحارا من النيران ، ولو أنّ باكيا بكى في أمّة لرحموا» (١). إلى غير ذلك من الأخبار.

وفي «الفقيه» قال : وروي : «أنّ البكاء على الميّت يقطع الصلاة ، والبكاء لذكر الجنّة والنار من أفضل الأعمال في الصلاة» (٢).

وروى الشيخ بسنده عن أبي حنيفة ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن البكاء في الصلاة أيقطع؟ قال : «إن بكى لذكر جنّة أو نار فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة ، وإن كان ذكر ميّتا له فصلاته فاسدة البتّة» (٣).

والسند منجبر بفتاوى الأصحاب والإجماع المنقول ، بل الإجماعات الظاهرة ، وذكر الصدوق في «الفقيه».

وإطلاق النصّ والفتاوى يشمل على البكاء الخالي عن الصوت والانتخاب (٤).

وممّا ذكر ظهر ما في كلام «المدارك» من استشكاله في التمسّك بالرواية المذكورة من جهة ضعف السند ، وقوله بعد : وينبغي أن يراد بالبكاء ما كان فيه انتحاب وصوت ، لا مجرّد خروج الدمع ، اقتصارا على موضع الوفاق إن تمّ (٥) ، انتهى.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٠٨ الحديث ٩٤٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٧ الحديث ٩٢٤٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٠٨ الحديث ٩٤١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٧ الحديث ٩٢٤١.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣١٧ الحديث ١٢٩٥ ، الاستبصار : ١ / ٤٠٨ الحديث ١٥٥٨ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٧ الحديث ٩٢٤٣ مع اختلاف يسير.

(٤) النحب : أشدّ البكاء (أقرب الموارد : ٢ / ١٢٧٧).

(٥) مدارك الأحكام : ٣ / ٤٦٦ و ٤٦٧.

٨٢

إذ فيه ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّا لم نجد أحدا تأمّل فيما ليس له صوت ، ولم يشر هو أيضا إلى تأمّل من أحد في ذلك.

بل عبارة «التذكرة» عند ذكر إجماع علمائنا ظاهرة غاية الظهور في عدم اشتراط الصوت والنحيب (١) ، مع أنّ النحيب والصوت لعلّهما خارجان عن حقيقة البكاء وماهيّته.

والظاهر أنّ نظره في ذلك إلى ما ذكره جدّه من الشكّ في كون المبطل للصلاة هل هو البكاء الممدود أو المقصور؟ والمقصور لغة خروج الدمع ، والممدود هو النحيب حين البكاء (٢) ، انتهى ملخّصا.

ولا يخفى أنّ ما ذكره خلاف العرف ، وهو مقدّم على اللغة ، وخلاف فتاوى الأصحاب ، فإنّ أحدا منهم لم يشر إلى التفرقة أصلا ، ولا إلى استشكال مطلقا ، ولو كان فرق واستشكال لكان اللازم عليهم التعرّض لهما ، سيّما في مقام دعوى الإجماع ، ومقام إظهار كون المسألة مجمعا عليها ، وقد عرفت حالهما ، وأيضا لم يشر نصّ بذلك ، وعرفت النصوص ، مع أنّه ما ذكره إنّما ذكره الجوهري في «الصحاح» ، واستشهد على ذلك بما لا دلالة عليه أصلا (٣).

بل يظهر من كتاب الألف منه وكتاب الياء أيضا عدم مجي‌ء الممدودة بالنحو الذي ذكره (٤) ، فلاحظ وتأمّل!

وكذا اقتصر في «القاموس» على ذكر المقصور ، وكلامه صريح في عدم غيره (٥) ، فلاحظ!

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٨٦ المسألة ٣٢٦.

(٢) مسالك الأفهام : ١ / ٢٢٨.

(٣) الصحاح : ٦ / ٢٢٨٤.

(٤) الصحاح : ١ / ٣٧ ، ٦ / ٢٢٨٤.

(٥) القاموس المحيط : ٤ / ٣٠٦.

٨٣

مع أنّ الاستشكال أيضا يقتضي المنع ، لما عرفت من أنّ شغل الذمّة اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة (١).

والظاهر أنّه يدخل في البكاء من خشيته (٢) ما ورد في بعض الأخبار : أنّ الإنسان إذا اشتهى البكاء لله تعالى ولا يحصل له رقّة وخروج دمع ، يذكر ميّتا له ونحوه ، ممّا يورث الرقّة في قلبه وخروج الدمع ، ويحصل به البكاء وقبل مجي‌ء الدمع وحصول البكاء يقصد البكاء لله لخشية ناره ونحوها ، فيبكي لله تعالى لخشيته أو شوقه ونحوهما ، يحسب له البكاء من خشية الله ونحوها (٣).

لكن المقام لمّا كان مقام خطر عظيم ، لا بدّ له من حذاقة وحفظ وضبط نفس عن الوقوع في الخطر ، ولذا يكون الأحوط الاجتناب عنه إلّا أن يكون مؤيّدا من الله.

ومع ذلك يحتمل احتمالا مرجوحا بطلان الصلاة به ، وكون الأحوط الاجتناب عنه مطلقا.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٥٣ من هذا الكتاب.

(٢) في (د ١) : من خشية الله.

(٣) الكافي : ٢ / ٤٨٣ الحديث ٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٧٤ الحديث ٨٧٦٤ نقل بالمعنى.

٨٤

١٩٦ ـ مفتاح

[حكم الالتفات في الصلاة]

من التفت في الصلاة فاحشا عامدا بطلت صلاته ، وفاقا للمشهور للمعتبرة (١) ، وقيل : وكذا غير الفاحش (٢) ، لإطلاق الحسن (٣) ، ويدفعه المعتبران (٤).

نعم ؛ يكره ذلك ، للخبر : «وما أحب أن يفعل» (٥).

أمّا سهوا فإن لم يبلغ اليمين واليسار لم يضرّ ، وإن بلغ وأتى بشي‌ء من الأفعال في تلك الحال أعاد في الوقت دون خارجه ، لما مرّ في مباحث القبلة (٦).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٤ الحديث ٩٢٣٢.

(٢) جامع المقاصد : ٢ / ٣٤٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٤ / ٣١٢ الحديث ٥٢٤٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٤ الحديث ٩٢٣٢ ، ٢٤٥ الحديث ٩٢٣٧.

(٥) وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٥ الحديث ٩٢٣٥.

(٦) لاحظ! مفاتيح الشرائع : ١ / ١١٤.

٨٥
٨٦

قوله : (من التفت). إلى آخره.

الصدوق في أماليه جعل من دين الإماميّة أنّ الالتفات حتّى يرى من خلفه قاطع للصلاة (١).

وقال في «المنتهى» : الالتفات يمينا وشمالا ينقص ثواب الصلاة ولا يبطلها ، وعليه جمهور الفقهاء ، والالتفات إلى ما وراءه يبطلها (٢). وقريب منه قال في «التذكرة» (٣).

واستدلّ على الإبطال بفوات الاستقبال الذي هو شرط للصلاة ، وبصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام : «إنّ الالتفات يقطع الصلاة إذا كان بكلّه» (٤).

وحسنته عنه عليه‌السلام قال : «إذا استقبلت [القبلة] بوجهك فلا تقلّب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ، فإنّ الله قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الفريضة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (٥) ، واخشع بصرك ولا ترفعه إلى السماء ولكن حذاء وجهك في موضع سجودك» (٦) (٧).

وفي «المدارك» استدلّ على ذلك بفوات الاستقبال ، وبحسنة الحلبي عن

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥١٣.

(٢) منتهى المطلب : ٥ / ٢٧٥.

(٣) تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٩٤ المسألة ٣٢٩.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ١٩٩ الحديث ٧٨٠ ، الاستبصار : ١ / ٤٠٥ الحديث ١٥٤٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٤ الحديث ٩٢٣٣.

(٥) البقرة (٢) : ١٤٤.

(٦) الكافي : ٣ / ٣٠٠ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٩٩ الحديث ٧٨٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٠٥ الحديث ١٥٤٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣١٢ الحديث ٥٢٤٣.

(٧) منتهى المطلب : ٥ / ٢٧٦.

٨٧

الصادق عليه‌السلام قال : «إذا التفتّ في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا» (١).

ثمّ استشكل بأنّ إطلاق الرواية يشمل الالتفات إلى أحد الجانبين ، فإنّ الظاهر تحقّق التفاحش بذلك.

وقال : وحكى الشهيد عن بعض مشايخه المعاصرين أنّه كان يرى أنّ الالتفات بالوجه يقطع الصلاة مطلقا (٢).

وقال : وربّما كان مستنده إطلاق الروايات المتضمّنة لذلك كحسنة زرارة ـ ونقل الحسنة التي ذكرناها ـ ثمّ قال : وحملها الشهيد في «الذكرى» على الالتفات بكلّ البدن (٣) ، لصحيحة زرارة التي ذكرناها.

ثمّ قال : وقد يقال : إنّ هذا المفهوم مقيّد بمنطوق قوله عليه‌السلام في رواية الحلبي : «أعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشا» ، فإنّ الظاهر تحقّق التفاحش بالالتفات بالوجه خاصّة إلى أحد الجانبين (٤) ، انتهى.

أقول : إنّه رحمه‌الله في مبحث الحدث في الصلاة جعل الشرط على سبيل التوزيع على أجزاء الصلاة لا على سبيل الاتّصال (٥) ، فكيف صحّ استدلاله الأوّل؟!

ومع ذلك مقتضى تعليله أنّ الالتفات إلى ما بين المشرق والمغرب أيضا مبطل ، إلّا أن يقول بكون القبلة مجموع ما بين المشرق والمغرب وقد ظهر لك في مبحث القبلة فساده (٦).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٦٥ الحديث ١٠ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٢٣ الحديث ١٣٢٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٤ الحديث ٩٢٣٢.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١.

(٣) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١.

(٤) مدارك الأحكام : ٣ / ٤٦١ و ٤٦٢.

(٥) مدارك الأحكام : ٣ / ٤٥٦ و ٤٥٩.

(٦) راجع! الصفحة : ٤٤٦ ـ ٤٥٠ (المجلّد السادس) من هذا الكتاب.

٨٨

ومع ذلك إذا كان مجموع ما بين المشرق والمغرب قبلة لا جرم يجوز له التوجّه إلى أيّ جزء منه.

فلا نسلّم حينئذ كون الالتفات إلى أحد الجانبين فاحشا سيّما أن يكون الوجه خاصّة ، فتأمّل!

مع أنّه رحمه‌الله غير قائل بالعموم في المفهوم (١) فالتعارض من أين؟! حتّى يحتاج إلى التقييد.

مع أنّ الشهيد ليس في مقام الاحتجاج بعموم المفهوم ، كيف؟ وهو قائل بعدم عمومه هنا قطعا ، بل هو في مقام إنكار بقاء إطلاق حسنة زرارة على حاله.

واستشهد على عدم بقائه عليه بأنّ هذا الراوي بعينه روى هذا الحكم بعينه مقيّدا غير مطلق ، فلا إيراد عليه أصلا ، مع أنّه رحمه‌الله اشترط في حجّية الخبر عدالة جميع سلسلة سنده (٢) ، فكيف يعمل بالحسن؟! سيّما وأن يجعله معارضا للصحيح ، مقاوما له ، بل غالبا عليه ، ومقدّما عليه ، إذ يجوز تقييد الحسنة بمنطوق الصحيحة ، أو جعل المراد من التفاحش كونه بكلّه مع أنّ الضمير في قوله : «بكلّه» راجع إلى الالتفات ، فيكون المراد ، الكامل في التفاحش ، ويكون الإطلاق في الحسنة منصرفا إلى الكامل ، كما أنّ ما دلّ على أنّ الالتفات مطلقا يبطل الصلاة محمول على الالتفات الكامل ، مثل صحيحة ابن اذينة عن الصادق عليه‌السلام : عمّن يرعف في الصلاة ، قال : «إن كان الماء عن يمينه [أو عن] شماله [أو عن خلفه] فليغسله من غير أن يلتفت و [ليبن على صلاته] فإن لم يجد الماء حتّى يلتفت فليعد الصلاة» (٣).

__________________

(١) مدارك الأحكام : ١ / ٣٢.

(٢) ذكرى الشيعة : ١ / ٤٩ ، للتوسع لاحظ! الرعاية في علم الدراية : ٩٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٣٩ الحديث ١٠٥٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٣٨ الحديث ٩٢١٢.

٨٩

مع أنّ في الحسن (١) : أنّه عليه‌السلام قال ـ بعد ما ذكر ـ : «وإن كنت قد تشهّدت فلا تعد» (٢).

فيكون ظاهرة في عدم دخول السلام ، بل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا في الصلاة.

وقد عرفت فساد هذا أيضا ، وأنّه موافق للتقيّة ، سيّما بعد ملاحظة أنّ عادة العامّة أنّهم يلتفتون إلى اليمين والشمال في التسليم وأنّ شرعهم كذلك ، فلاحظ وتأمّل.

ومرّ في مبحث استقبال القبلة أخبار معتبرة دالّة على أنّ من صلّى إلى غير القبلة فصلاته باطلة ، وأنّ من انحرف عن القبلة ولم يصل حدّ التشريق والتغريب فتفطّن بالانحراف يجب عليه استقبال القبلة (٣) ، فكيف يجوز الالتفات إلى غير القبلة عمدا؟ سيّما وأن يصل إلى (٤) حدّ التشريق والتغريب أيضا ، كما هو صريح كلام الفاضلين (٥) ومن تبعهما (٦).

إلّا أن يقال بجواز الالتفات في خلال أجزاء الصلاة لا في أجزاء الصلاة ، سيّما التي تكرارها عمدا يوجب بطلان الصلاة ، وما يكون تكراره سهوا أيضا يوجب البطلان بل هو أسوأ حالا ، وفيه أيضا ما فيه ، سيّما بعد ما عرفت في مبحث الحدث

__________________

(١) في (د ١) : الحسنة.

(٢) الكافي : ٣ / ٣٦٥ الحديث ١٠ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٢٣ الحديث ١٣٢٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٤ الحديث ٩٢٣٢.

(٣) راجع! الصفحة : ٤٣٥ و ٤٣٦ و ٤٤٣ و ٤٤٤ (المجلّد السادس) من هذا الكتاب.

(٤) لم ترد في (د ١) و (ك) : إلى.

(٥) المعتبر : ٢ / ٢٥٣ ، قواعد الأحكام : ٣٦ ، تحرير الأحكام : ١ / ٤٣.

(٦) جامع المقاصد : ٢ / ٣٤٧ ، مسالك الأفهام : ١ / ٢٢٩.

٩٠

في أثناء الصلاة وغيره من أنّ الهيئة الاتّصاليّة مأخوذة في ماهيّة الصلاة (١).

مع أنّ كلام الفاضلين ومن تبعهما مطلق ، يشمل الالتفات في أجزاء الصلاة أيضا ، بل من أوّلها إلى آخرها أيضا ، إلّا أن يقال بالفرق بين الالتفات والصلاة إلى غير القبلة ، يكون الأوّل بالوجه خاصّة ، بخلاف الثاني.

وفيه ؛ أنّه إذا كان الشرط استقبال الوجه وغيره من أعضاء المصلّي فالمحذور بحاله ، وإلّا فالذي يظهر من الآية (٢) والأخبار (٣) أنّ استقبال الوجه إلى القبلة شرط.

مع أنّه على هذا لا وجه لاستدلالهم على إبطال الالتفات إلى ما وراء بكون الاستقبال شرطا في الصلاة.

قال في «المنتهى» : الالتفات يمينا وشمالا ينقص ثواب الصلاة ولا يبطلها ، وعليه جمهور الفقهاء والالتفات إلى ما وراء يبطلها ، أمّا الإبطال بالالتفات بالكليّة فلأنّ الاستقبال شرط صحّة الصلاة. ويؤيّده ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة.

ثمّ ذكر صحيحة زرارة السابقة (٤).

ثمّ ذكر حسنته أيضا ، ثمّ قال : وأمّا النقص من الثواب في الالتفات إلى أحد الجانبين مع بقاء الجسد مستقبلا فلما رواه الجمهور عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا التفت انصرف عنه» (٥).

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٥١٠ و ٥١١ (المجلّد الثامن) من هذا الكتاب.

(٢) البقرة (٢) : ١٤٤.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣١٢ الباب ٩ من أبواب القبلة.

(٤) راجع! الصفحة : ٨٧ من هذا الكتاب.

(٥) مسند أحمد : ٦ / ٢١٧ الحديث ٢٠٩٩٧ ، السنن الكبرى : ٢ / ٢٨١.

٩١

قال : وليس ذلك للتحريم ، لما رووه عن ابن عبّاس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتفت يمينا وشمالا ولا يلوي عنقه خلف ظهره (١).

وقال : ومن طريقة الخاصّة ما رواه الشيخ عن عبد الملك عن الصادق عليه‌السلام عن الالتفات في الصلاة أيقطع الصلاة؟ قال : «لا ، وما احبّ أن يفعل» (٢).

وإنّما أشار عليه‌السلام بذلك إلى الالتفات يمينا وشمالا ، وعن الحلبي ؛ ثمّ ذكر الحسنة السابقة (٣).

ثمّ قال : لو التفت إلى ما وراءه سهوا لم يعد صلاته ، لقوله عليه‌السلام : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» (٤) (٥).

ولا يخفى أنّ أدلّته على إبطال الالتفات إلى ما وراء غير مختصّة به ، بل تشمل غيره أيضا على حسب ما أشرنا إليه.

وأمّا استدلاله بما رواه العامّة عن أبي ذر ؛ فهو أيضا يضرّه ، ومع الإغماض لا ينفعه.

واستدلاله برواية ابن عبّاس لا ينفع أيضا ، لعدم ذكر الصلاة فيها ، بل يحصل القطع بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يلتفت في صلاته يمينا وشمالا ، حاشاه ثمّ حاشاه ، بل حاشى غيره من الأئمّة عليهم‌السلام أيضا ، كما هو صريح الأخبار الموافقة للاعتبار.

سيّما وأن يكون مستمرّا في الالتفات إلى اليمين والشمال ، كما هو مفاد كلمة

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٤٥٣ الحديث ٢٤٨١ ، سنن النّسائي : ٣ / ٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٠٠ الحديث ٧٨٤ ، الاستبصار : ١ / ٤٠٥ الحديث ١٥٤٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٥ الحديث ٩٢٣٥.

(٣) راجع! الصفحة : ٨٩ من هذا الكتاب.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٦ الحديث ١٣٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٩٣ الحديث ٩٣٨٠.

(٥) منتهى المطلب : ٥ / ٢٧٥ ـ ٢٧٧.

٩٢

«كان» وكلمة «يلتفت» المفيدة للاستمرار التجدّدي ، سيّما مع عبارة «لا يلوي». إلى آخره ، أيضا ، وإن فرضنا أنّ رواية أبي ذر وردت على الكراهة ، لأنّ انصراف الله تعالى وإعراضه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا لا يجوز لأحد أن يتفوّه به.

مع أنّه كيف كان يأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه المقدّسة؟ وكيف كان من الجماعة الذين يقولون ما لا يفعلون؟ العياذ بالله من تجويز شي‌ء ممّا ذكر.

وأمّا حسنة الحلبي ؛ فلم نجد فيها دلالة على مطلوبه من كون الالتفات الفاحش هو الالتفات إلى ما وراء ليس إلّا وغير الفاحش هو الالتفات إلى اليمين واليسار مع بقاء الجسد مستقبلا.

مع أنّه على هذا يبقى الالتفات إلى اليمين والشمال مع بقاء الجسد مستقبلا غير داخل في المنطوق والمفهوم جميعا ، وفيه أيضا ما فيه.

وأمّا رواية عبد الملك ؛ فمع ضعفها كيف تقاوم الصحاح والمعتبرة الموافقة للقرآن والأخبار المعتبرة التي أشرنا إليها في الجملة ، في بحث اشتراط الاستقبال (١).

مع أنّها مطلقة تشمل الالتفات إلى ما وراء وغيره ممّا لم يتعرّض إلى حكمه ، ولم يرد خبر مقيّد يقيّد تلك به ، لما عرفت من عدم دلالة الفاحش على خصوص ما ذكره ، فمقتضاه كون المراد من الالتفات المطلق هو غير الفاحش ، كما حمل عليه أيضا.

ويمكن أن يقال ـ بملاحظة ما ذكرنا عن «الأمالي» و «التذكرة» و «المنتهى» (٢) ، وغيرها مثل نهاية الشيخ (٣) وغيره مثل مصنّفات الشهيدين (٤)

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٤٣٥ و ٤٣٦ و ٤٤٣ و ٤٤٤ (المجلّد السادس) من هذا الكتاب.

(٢) راجع! الصفحة : ٨٧ من هذا الكتاب.

(٣) النهاية للشيخ الطوسي : ٩٥.

(٤) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٨٤ ، البيان : ١٨٥ ، روض الجنان : ٣٣٢.

٩٣

وغيرها (١) ـ : يظهر عدم ضرر الالتفات يمينا وشمالا ، بحيث يبطل الصلاة.

وفي «قرب الإسناد» في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام : عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : «إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته ، فيعيد ، ولا يعتدّ به ، وإن كانت نافلة لم يقطع ذلك صلاته» (٢).

وفي «السرائر» عن جامع البزنطي عن الرضا عليه‌السلام مثل ذلك بعينه (٣).

وروى الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام : عن الرجل يكون في صلاته فيظنّ أنّ ثوبه قد انخرق أو أصابه شي‌ء ، هل يصلح له أن ينظر فيه [أو يمسّه]؟ فقال : «إن كان في مقدّم ثوبه أو جانبيه فلا بأس ، وإن كان في مؤخّره فلا يلتفت ، فإنّه لا يصلح» (٤).

ورواه أيضا علي بن جعفر في كتابه (٥) ، والحميري في «قرب الإسناد» (٦).

وروى مثله في «الخصال» في حديث الأربعمائة عن علي عليه‌السلام قال : «الالتفات الفاحش يقطع الصلاة» (٧).

وروى الشيخ في الصحيح عن ابن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام : عن رجل دخل مع الإمام في صلاته وقد سبقه بركعة ، فلمّا فرغ الإمام خرج مع الناس ، ثمّ ذكر أنّه

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٥٣.

(٢) قرب الإسناد : ٢١٠ الحديث ٨٢٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٦ الحديث ٩٢٣٨.

(٣) مستطرفات السرائر : ٥٣ الحديث ٢ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٦ الحديث ٩٢٣٨.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٣٣ الحديث ١٣٧٤ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٥ الحديث ٩٢٣٤.

(٥) مسائل علي بن جعفر : ١٨٦ الحديث ٣٦٧ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٥ الحديث ٩٢٣٤.

(٦) قرب الإسناد : ١٩١ الحديث ٧١٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٥ الحديث ٩٢٣٤.

(٧) الخصال : ٦٢٢ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٤٥ الحديث ٩٢٣٧.

٩٤

قد فاتته ركعة ، قال : «يعيد ركعة واحدة ، يجوز له ذلك إذا لم يحوّل وجهه عن القبلة ، فإذا حوّل وجهه عن القبلة بكلّه ، فعليه أن يستقبل الصلاة استقبالا» (١).

وورد في الرواية : أنّ المصلّي إذا التفت في صلاته ثلاث مرّات يقول الربّ تعالى في المرتبة الثالثة : عبدي إلى من تلتفت؟ تلتفت إلى من هو خير منّي؟ ثمّ يصرف عنه ويعرض (٢).

وظاهر منها عدم الضرر أصلا في المرتبة الاولى والثانية ، وأمّا الثالثة فظاهرها أنّه تعالى يصرف عنه لطفه وشفقته ، لا أنّ صلاته صارت باطلة ، إذ لو كان كذلك لكان اللازم أن يقول المعصوم عليه‌السلام : ففسدت صلاته وبطلت ، فعدم إشارة منه إلى البطلان ، والاكتفاء ظاهر في عدم البطلان ، فلا يكون حراما أيضا لعدم القائل بالفصل ، لعدم القائل بكونه حراما وغير مبطل ، وللاختلاف في الأخبار في عدد الالتفات الموجب لصرفه تعالى عن ملتفته.

ففي روايات متعدّدة في الثالثة ، كما ذكر ، ورواها في «ثواب الأعمال» (٣) والبرقي في «المحاسن» (٤) ، وروى أيضا في «المحاسن» في المرتبة الاولى (٥) ، كما رواه العامّة عن أبي ذر (٦).

وفي «قرب الإسناد» بسنده عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه : عن علي عليه‌السلام قال : «الالتفات في الصلاة اختلاف من الشيطان ، فإيّاكم والالتفات في الصلاة ، فإنّه

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٤٨ الحديث ١٤٤١ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٠٩ الحديث ١٠٤٤٥.

(٢) انظر! وسائل الشيعة : ٧ / ٢٨٨ الحديث ٩٣٦٤ مع اختلاف يسير.

(٣) ثواب الأعمال : ٢٧٣ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٨٨ الحديث ٩٣٦٤.

(٤) المحاسن : ١ / ١٦٠ الحديث ٢٢٩ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٨٨ الحديث ٩٣٦٤.

(٥) المحاسن ١ / ١٢٢ الحديث ١٣١ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٨٩ الحديث ٩٣٦٦.

(٦) مسند أحمد : ٦ / ٢١٧ الحديث ٢٠٩٩٧ ، السنن الكبرى : ٢ / ٢٨١.

٩٥

تعالى يقبل على عبده إذا قام في الصلاة ، فإذا التفت قال تعالى : عمّن تلتفت ـ ثلاثا ـ فإذا التفت الرابعة أعرض عنه» (١).

وظاهر أنّ الاختلاف دليل الكراهة ، ومن ذلك ظهر أنّ ما رواه العامّة عن أبي ذرّ له دلالة على عدم البطلان ، وضعفها وضعف رواية عبد الملك منجبر بالفتاوى والإجماع المنقول عن الصدوق (٢) وغيره (٣) ، وإطلاقها مقيّد بالإجماع والمعتبرة ، سيّما بملاحظة أنّ الالتفات إلى ما وراء أمر عجيب غريب صدوره عن المصلّي الذي يريد الصلاة ، بعيد غاية البعد.

والأصحاب فهموا من المعتبرين عدم ضرر الالتفات يمينا وشمالا ، وفهمهم حجّة في الأخبار ، سيّما مع نقل الإجماع الذي ليس بأنقص من الخبر الصحيح ، لو لم نقل أنّه أقوى هنا بملاحظة الفتاوى.

هذا كلّه ؛ بعد ملاحظة كون الصلاة توقيفيّا لا طريق لغير الشرع إلى معرفتها أصلا ورأسا ، وغاية وضوح ذلك لكون الالتفات بالنسبة اليها غير فاحش وغير كلّي ، والتفات آخر بالنسبة إليها فاحشا وكليّا ، كيف يمكن فهمه ودركه ما لم ينصّ عليه الشارع؟ فإنّ المسألة ليست لغويّة حتّى يرجع إلى أهل اللغة والعرف ، فإنّ الكفّار من أين يدرون الفاحش للصلاة والفاحش اللغوي ليحقّق بأدنى التفات ، فإنّه بيّن ظاهر ولا يكون مرادا قطعا وغيره ليس لغويّا بل شرعي.

والرجوع إلى المتشرّعة ينفع القائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة لا من هو غير قائل.

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٥٠ الحديث ٥٤٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٨٨ الحديث ٩٣٦٥ مع اختلاف يسير.

(٢) نقل عنه في مفتاح الكرامة : ٨ / ٦٧ ، لاحظ! أمالي الصدوق : ٥١٣.

(٣) كشف اللثام : ٤ / ١٦٩.

٩٦

ولا يكتفى أيضا بالقرينة الصارفة عن اللغوي ، مع أنّها في المقام مفقودة ، ومع ذلك يرجع إليه فيما تحقّق وظهر الحقيقة عند جميع المتشرّعة لا ما يتّفق الفقهاء على خلافه.

وبالجملة ؛ معرفته تتوقّف على نصّ الشارع.

نعم ؛ يمكن أن يقال : من زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زمان الصادقين عليهما‌السلام كان المسلمون في الأعصار والأمصار يصدر منهم في الصلاة الالتفات لم يكونوا أيضا يقون منه ، وما كانوا يمنعون عنه أصلا ، فكأنّه لم يصدر التفات مناف لهيئة الصلاة عندهم ، وإذا زاد عنه كان ذلك فاحشا عندهم وكليّا ، فلذا قالوا عليهم‌السلام ما قالوا في المعتبرة ، كما أنّا نرى الآن أنّ الالتفات القليل بحيث لا يكاد يحسّ به لا يضايق عنه أحد من المسلمين ، ولا يعدّونه شيئا أصلا ، ولا يجدونه منافيا لهيئة الصلاة مطلقا ، وإذا زاد عنه فالعوام ينكرون ، والخواص يختلفون أو يتحيّرون.

ومن هذا صدر عن صاحب «المدارك» ما صدر من كون الالتفات إلى اليمين والشمال أيضا فاحشا (١) ، ونظره في ذلك إلى عادة المصلّين في زمانه من صلحائهم وعلمائهم وجميع المتديّنين منهم ، من أنّهم لا يتلفتون إلى يمين وشمال في حال الاختيار أصلا.

ولا شكّ في أنّهم يختارون في صلاتهم الكمال والخروج عن الشبهات ، ولذا ربّما يكون رأيهم مثلا عدم وجوب السورة أو السلام أو الجهر والإخفات وغير ذلك ممّا شاع عندهم ممّا وجدوا في «المدارك» من المناقشات أو غير ذلك ، ومع ذلك لا يتركون السورة ولا السلام ولا الجهر والإخفات ولا غير ذلك ممّا اختاروا جواز تركه ، بل لا يتركون في صلاتهم ولو قرضوا بالمقاريض ، بل يفعلون بالنسبة

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٣ / ٤٦١.

٩٧

إلى كثير من مستحبّات الصلاة أيضا ذلك.

فعلى هذا كيف يصير فعلهم حجّة لصاحب «المدارك» في معرفة الفاحش حتّى يعترض على جميع فقهائنا بما اعترض ، فإنّ اعتراضه ليس على خصوص الشهيد ، بل على كلّ من جوّز الالتفات يمينا وشمالا.

مع أنّ القدماء أهل الشهود ، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب.

أما ينظر إلى ما ذكرنا عن الصدوق في أماليه من كون دين الإماميّة كذا وكذا ، بحيث يجب الإقرار به (١)!

مع أنّ قولهم في ألفاظ الآية والحديث ليس بأدون من قول صاحب «القاموس» مثلا ، بل أعلى ، كما مرّ في مبحث الإقعاء وغيره (٢) سيّما مع ما عرفت من مستندهم وهو الإجماع المنقول لو لم نقل بالإجماع اليقيني والأخبار الكثيرة ، مضافا إلى الاعتبار ، بل خبر واحد من تلك الأخبار يكفي ، فما ظنّك بالمجموع؟ فإنّ الأخبار يكشف بعضها عن بعض ، سيّما إذا كثر الكاشف غاية الكثرة ، كما عرفت الأخبار والاعتبار والإجماع المنقول.

بل يظهر من «المنتهى» أيضا كون المسألة إجماعيّة ، حيث قال : ويكره الالتفات بوجهه يمينا وشمالا ، وقال بعض الحنفيّة بالتحريم ، لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تلتفتوا في صلاتكم فإنّه لا صلاة لملتفت» (٣).

وأجاب بضعف الرواية ، وأنّه على تقدير الصحّة محمولة على الالتفات بالجميع (٤) ، انتهى.

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٨٩ من هذا الكتاب.

(٢) لاحظ! الصفحة : ١١٧ و ١١٨ (المجلّد السابع) من هذا الكتاب.

(٣) مجمع الزوائد : ٢ / ٨٠ ، كنز العمّال : ٧ / ٥٠٥ الحديث ١٩٩٨٧.

(٤) منتهى المطلب : ٥ / ٣٠٦ و ٣٠٧.

٩٨

إذ يظهر أنّ المخالف ليس إلّا بعض الحنفيّة.

وذكر في «التذكرة» ما ذكر في «المنتهى» بعينه (١) ، ويظهر من «الذكرى» أيضا إلى زمان معاصره (٢) ، فتدبّر!

هذا ؛ والاحتياط في ترك الالتفات بالمرّة ، والعمل بظاهر حسنة زرارة (٣) وصحيحة ابن اذينة (٤) وما وافقهما ، بل يشكل الاتّكال على الصلاة التي وقع فيها الالتفات المذكور بعد ملاحظة أنّه تعالى يعرض عنه ، وأنّ الصلاة إذا قبلت قبل ما سواها وإذا ردّت ردّ ما سواها ، فتأمّل!

وهذا الذي ذكرناه بالنظر إلى نفس الالتفات ، وأمّا مخالفة الاستقبال الذي هو شرط في الصلاة ، فقد مضى في مبحث الاستقبال ما يظهر منه حكمها على البسط والتحقيق (٥) ، فلاحظ! والله يعلم.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٩٤ و ٢٩٥ المسألة ٣٢٩.

(٢) ذكرى الشيعة : ٤ / ٢١.

(٣) الكافي : ٣ / ٣٠٠ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٩٩ الحديث ٧٨٢ ، الاستبصار : ١ / ٤٠٥ الحديث ١٥٤٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣١٢ الحديث ٥٢٤٣.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٣٩ الحديث ١٠٥٦ ، وسائل الشيعة : ٧ / ٢٣٨ الحديث ٩٢١٢.

(٥) راجع! الصفحة : ٤٣٥ ـ ٤٥٦ (المجلّد السادس) من هذا الكتاب.

٩٩
١٠٠