تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

مأمور أن يشكر نعمة الله عليه وعلى والديه ، وأن يعمل صالحا ، وأن يسعى فى إصلاح ذريته ، ويدعو الله أن يوفقه لعمل أهل الجنة.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

تفسير المفردات

أفّ : صوت يصدر من الإنسان حين تضجره ، أخرج : أي أبعث من القبر للحساب ، خلت القرون من قبلى : أي مضت ولم يخرج منها أحد ، يستغيثان الله : أي يقولان الغياث بالله منك ، يقال استغاث الله واستغاث بالله ، والمراد أنهما يستغيثان بالله من كفره ، إنكارا واستعظاما له ، حتى لجأ إلى الله فى دفعه كما يقال العياذ بالله من كذا ، ويلك : دعاء عليه بالثبور والهلاك ، ويراد به الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن مرتكبه حقيق بأن يهلك ، فإذا سمع ذلك ارعوى عن غيّه وترك ما هو فيه وأخذ بما ينجيه ، أساطير الأولين : أي أباطيلهم التي سطروها فى الكتب من غير أن يكون لها حقيقة ، حق عليهم القول : أي وجب عليهم قوله لإبليس «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ

٢١

وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» من الخاسرين : أي الذين ضيعوا نظرهم الشبيه برءوس الأموال باتباعهم همزات الشياطين ، والدرجات : المنازل واحدها درجة ، وهى المنزلة ، ويقال لها منزلة إذا اعتبرت صعودا ، ودركة إذا اعتبرت حدورا ، ومن ثم يقال درجات الجنة ، ودركات النار ، فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب ، طيباتكم : أي شبابكم وقوتكم يقولون ذهب أطيباه أي شبابه وقوته ، الهون : أي الهوان والذل ، تفسقون : أي تخرجون من طاعة الله.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عزّ اسمه حال الداعين للوالدين ، البررة بهما ، ثم ذكر ما أعد لهما من الفوز والنجاة فى الدار الآخرة ـ أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين ، المنكرين للبعث والحساب ، المحتجين بأن القرون الخوالى لم تبعث ، ثم رد الآباء عليهم بأن هذا اليوم حق لا شك فيه ، ثم بإجابة الأبناء لهم بأن هذه أساطير الأولين وخرافاتهم ، ثم ذكر أن أمثال هؤلاء ممن حق عليهم القول بأن مصيرهم إلى النار.

ثم أردف هذا أن لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم كفاء ما قدموا من عمل وسيجزون عليها الجزاء الأوفى ، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار : أنتم قد تمتعتم فى الحياة الدنيا ، واستكبرتم عن اتباع الحق ، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي ، فجازاكم الله بالإهانة والخزي والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة فى دركات النار.

الإيضاح

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟) أي والذي قال لوالديه أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث الله خلقه من

٢٢

قبورهم ومجازاته إياهم بأعمالهم : أفّ لكما : إنى لضجر منكما ، أتقولان إنى أبعث من قبرى حيا بعد موتى وفنائى ، وما لحقنى من بلى وتفتت عظام؟ إن هذا لعجب عاجب فها هى ذى قرون مضت ، وأمم قد خلت من قبلى كعاد وثمود ولم يبعث منهم أحد ، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان لبعث من قبلى من القرون الغابرة ؛ ألا ترى إلى قول من قال :

ما جاءنا أحد يخبّر أنه

فى جنة لمّا مضى أو نار

وزعم مروان بن الحكم أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، وقد ردت عليه عائشة رضى الله عنها. أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال : إنى لفى المسجد حين خطب مروان فقال : إن الله قد رأى لأمير المؤمنين (يعنى معاوية) فى يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه ، فقد استخلف أبوبكر وعمر ، فقال عبد الرحمن بن أبى بكر : سنة هرقل وقيصر (١) إن أبا بكر رضى الله عنه ما جعلها فى أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده ، فقال مروان : ألست «الّذى قال لوالديه أفّ لكما» فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أباك ، فسمعت عائشة فقالت لمروان : أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ، كذبت والله ما فيه نزلت ، نزلت فى فلان بن فلان.

والحق أن الآية لم ترد فى شخص معين ، بل المراد كل شخص يقول أمثال هذه المقالة فيدعوه أبواه إلى الإيمان بالبعث وإلى الدين الصحيح فيأبى وينكر.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أي ووالداه يستصرخان الله عليه ، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث ، ويقولان له حثا وتحريضا : هلاكا لك ، صدّق بوعد الله ، وأنك مبعوث بعد وفاتك ، إن وعد الله الذي وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.

__________________

(١) يريد أن البيعة لأولاد الملوك ستة ملوك الروم ، وهرقل : اسم ملك الروم.

٢٣

والخلاصة ـ إنهما يستعظمان قوله ، ويلجآن إلى الله فى دفعه ، ويدعوان عليه بالويل والثبور ، ليستحثاه على ترك ما هو فيه ، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله.

ثم ذكر ردّه عليهما مع الاستهزاء بهما والتعجيب من حالهما.

(فَيَقُولُ : ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي فيقول مجيبا والديه ، رادّا عليهما نصحهما ، مكذبا بوعد الله : ما هذا الذي تقولان لى ، وتدعوان إليه ، إلا ما سطره الأولون من الأباطيل ، فأصبتماه أنتما وصدقتما به ، ولا ظلّ له من الحقيقة.

ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم هم الذين وجب عليهم عذاب الله ، وحلت عليهم عقوبته وسخطه ، فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل ، وعتوا عن أمر ربهم.

وفى الآية إيماء إلى أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. قال أبو حيان فى البحر : قال الحسن البصري فى بعض مجالسه : الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بالآية فسكت.

وفيها ردّ أيضا على من قال : إنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر ، لأنه رضى الله عنه أسلم وجبّ عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة ، أما من حق عليه القول فهو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا.

ثم ذكر العلة فى هذا العذاب المهين فقال :

(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم ضيعوا فطرهم التي فطرهم الله عليها واتبعوا الشيطان ، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال ، والنعيم بالعذاب.

ثم ذكر أن لكل من الفريقين الذين قالوا ربنا الله ، والذي قال لوالديه مراتب متفاوتة فقال :

٢٤

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند الله يوم القيامة بحسب أعمالهم من خير أو شر فى الدنيا ، وليوفيهم أجور أعمالهم ، المحسن منهم بإحسانه ، والمسيء منهم بإساءته ، وهم لا يظلمون شيئا ، فلا يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه ، ولا يحمل عليه ذنب غيره ، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه.

وبعد أن بين سبحانه أنه يعطى كل ذى حق حقه ـ بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون فقال :

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي واذكر لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون فى النار ، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ : إن كل ما قدر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه فى الدنيا ونلتموه ولم يبق لكم منه شىء ، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم وفسوقكم عن أمر ربكم وخروجكم من طاعته.

وفى هذا تحريض على التقلل من زخرف الدنيا وزينتها والأخذ بالتقشف فيها.

أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن عمر رضى الله عنه رأى فى يد جابر بن عبد الله رضى الله عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟

قال أريد أن أشترى به لأهلى لحما قرموا إليه ، فقال : أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه؟

أين تذهب عنكم هذه الآية : «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها» وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول :

لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء (١) وصنابا وصلائق ولكنى

__________________

(١) الصلاء. الشواء بالمد والكسر ، والصناب : صباغ (سلطة) يتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الحملان المشوية.

٢٥

أستبقى حسناتى ، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال : «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها».

وأخرج أحمد والبيهقي فى شعب الإيمان عن ثوبان رضى الله عنه قال : «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سافر كان آخر عهده من أهله بفاطمة ، وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضى الله عنها ، فقدم من غزاة فأتاها فإذا بمسح (بكسر فسكون ، وهو ثوب من شعر غليظ) على بابها ، ورأى على الحسن والحسين قلبين (مثنى قلب بضم فسكون : السوار) من فضة فرجع ولم يدخل عليها ، فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا ، فقسمت ذلك بينهما ، فانطلقا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهما يبكيان ، فأخذ ذلك رسول الله منهما ، وقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بنى فلان (أهل بيت بالمدينة) واشتر لفاطمة قلادة من عصب (بفتح فسكون خرز أبيض) وسوارين من عاج ، فإن هؤلاء أهل بيتي : ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا».

وقد كان السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد فى الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم فى الآخرة أكمل ، لا أن التمتع بزخارف الدنيا مما يمتنع ، بدليل قوله تعالى «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ».

نعم إن الاحتراز عن التنعم أولى ، لأن النفس إذا اعتادت ذلك وألفته صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه ، ولله درّ البوصيرى إذ يقول :

والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : أن على المرء أن يأكل ما وجد ، طيبا كان أو قفارا (الطعام بلا أدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها

٢٦

ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، ولا يعتمده أصلا ، ولا يجعله ديدنا له.

قصص هود عليه السلام مع قومه عاد

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

٢٧

تفسير المفردات

أخا عاد : هو هود عليه السلام ، والأحقاف : واحدها حقف (بالكسر والسكون) وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، سمى به واد بين عمّان ومهرة كانت تسكنه عاد ، وكانوا أهل عمل ، سيارة فى الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وهم من قبيلة إرم ، والنذر : واحدهم نذير أي منذر ، من بين يديه : أي من قبله ، ومن خلفه : أي من بعده ، لتأفكنا : أي لتصرفنا ، عن آلهتنا : أي عن عبادتها ، بما تعدنا : أي من معاجلة العذاب على الشرك : إنما العلم عند الله ، أي العلم بوقت نزوله عند الله ، والعارض : السحاب الذي يعرض فى أفق السماء قال الأعشى :

يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه

كأنما البرق فى حافاته الشّعل

مستقبل أوديتهم : أي متجها إليها ، تدمّر : أي تهلك ، حاق : أي نزل ، صرفنا : أي بيّنا ونوّعنا ، الآيات : الحجج والعبر ، فلو لا : أي فهلا ، نصرهم : أي منعهم ، قربانا : أي متقربا بها إلى الله ، ضلوا عنهم : أي غابوا عنهم ، إفكهم : أي أثر إفكهم وصرفهم عن الحق ، وما كانوا يفترون أي وأثر افترائهم وكذبهم.

المعنى الجملي

بعد أن أورد سبحانه الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة ولم يلتفتوا إليها ولم تجدهم فتيلا ولا قطميرا ، لاستغراقهم فى الدنيا واشتغالهم بطلبها ـ أردف هذا ذكر قصص عاد وما حدث منهم مع نبيهم هود عليه السلام وضرب لهم به المثل ليعتبروا فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا ، ويقبلوا على طاعة الله ، فقد كانوا أكثر منهم أموالا وأقوى منهم جندا ، فسلط الله عليهم العذاب بسبب كفرهم ، ولم يغن عنهم مالهم من الله شيئا.

٢٨

الإيضاح

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك المكذبين ما جئتهم به من الحق ـ هودا أخا عاد ، فقد كذبه قومه بالأحقاف حين أنذرهم بأس الله وشديد عذابه ، وقد مضت رسل من قبله ومن بعده منذرة أممها ألا تشركوا مع الله شيئا فى عبادتكم إياه ، بل أخلصوا له العبادة ، وأفردوا له الألوهة ، وقد كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون الله ، فقال لهم ناصحا : إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

وحين نصحهم بذلك أجابوه :

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له : أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه ، وإلى اتباعك فيما تقول؟ هلمّ فهات ما تعدنا به من العذاب على عبادة ما نعبد من الآلهة إن كنت صادقا فى قولك وعدتك.

والخلاصة ـ أتزيلنا بضروب من الكذب عن آلهتنا وعبادتها؟ فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك إن كنت صادقا فى وعيدك ، وقد استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادا منهم لوقوعه كما قال تعالى. «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها».

فردّ هود عليهم مقالهم :

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي قال : إنما العلم بوقت نزوله عند الله وحده لا عندى ، فلا أستطيع تعجيله ولا أقدر عليه ، ثم بين وظيفته فقال :

٢٩

(وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار ، لا أن آتى بالعذاب ، فليس ذلك من مقدورى ، بل هو من مقدورات ربى.

ثم بين لهم أنهم جاهلون بوظيفة الرسل فقال :

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي وإنى لأعتقد فيكم الجهل ، ومن ثم بقيتم مصرّين على كفركم ، ولم تهتدوا بما جئتكم به ، بل اقترحتم علىّ ما ليس من شأن الرسل ، وهو الإتيان بالعذاب.

ثم ذكر مجىء العذاب إليهم وانتقامه منهم واستئصال شأفتهم فقال :

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه ، فرأوا سحابا يعرض فى أفق السماء متجها إلى أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ، ظنا منهم أن غيثا قد أتاهم وفيه حياتهم.

روى أنه قد حبس عنهم المطر أياما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء ، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتّب ، فلما رأوها تستقبل أوديتهم استبشروا بها خيرا.

ولما سمع هود مقالهم وشام العارض مليا قال :

(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب إذ قلتم «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

ثم فسر هذا العارض وبين حقيقته فقال :

(رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي بل هو ريح فيها عذاب يهلككم ويجعلكم كأمس الدابر.

ثم وصف هذه الريح فقال :

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شىء مرت به من نفوس عاد وأموالها بإذن ربها.

ونحو الآية قوله تعالى : «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» أي كالشىء البالي الخلق.

٣٠

ثم ذكر مآل أمرهم بعدها فقال :

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي فجاءتهم الريح فدمرتهم ، فصاروا بعد الهلاك لا يرى إلا آثار مساكنهم ، إذ قد اجتاحت الأموال ، وأذهبت الأنفس ، وجعلتها أثرا بعد عين.

روى عن ابن عباس : أن أول ما عرفوا أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان فى الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلّقوا أبوابهم ، فقلعتها الريح وصرعتهم : وأحال الله عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، ثم كشفت الريح عنهم الرمال فاحتملتهم فطرحتهم فى البحر.

أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضى الله عنها قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال : اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ، فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلّى الله عليه وسلّم وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سرّى عنه ، فسألته ؛ فقال عليه السلام لا أدرى لعلّه كما قال قوم عاد (هذا عارض ممطرنا)».

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : «ما رأيت رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته (١) وإنما كان يبتسم ، وكان إذا رأى غيما وريحا عرف ذلك فى وجهه ، قلت يا رسول الله : الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرف فى وجهك الكراهية ، قال : يا عائشة وما يؤمّننى أن يكون فيه عذاب ، عذّب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا».

وفى صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور. (٢)»

__________________

(١) واحدها لهاة : وهى اللحمة المشرفة على الحلق فى أقصى سقف الفم.

(٢) الصبا : ريح الشمال ، والدبور : ريح الجنوب.

٣١

قال شاعرهم يحكى هذا القصص فيما رواه ابن الكلبي :

فدعا هود عليهم

دعوة أضحوا همودا

عصفت ريح عليهم

تركت عادا خمودا

سخّرت سبع ليال

لم تدع فى الأرض عودا

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جازينا عادا بكفرهم بالله ذلك العقاب فى الدنيا ، فأهلكناهم بعذابنا ، كذلك نجزى كل مجرم كافر بالله متماد فى غيّه.

ولا يخفى ما فى هذا من التهديد والوعيد الشديد.

ثم أخبر سبحانه عن قوة عاد بقوله :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ولقد مكنا عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا ، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه ، من الأموال الكثيرة ، وبسطة الأجسام ، وقوة الأبدان ـ وهم على ذلك ما نجوا من عقاب الله ، فتدبروا أمركم ، وفكروا فيما تعملون قبل أن يحل بكم العذاب ، ولا تجدون منه مهربا.

ونحو الآية قوله «كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ».

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي إنا فتحنا عليهم أبواب نعمنا ، فأعطيناهم سمعا فما استعملوه فى سماع الأدلة والحجج ليعتبروا ويتذكروا ، وأعطيناهم أبصارا ليروا ما نصبناه من الشواهد الدالة على وجودنا فما انتفعوا بها ، وأعطيناهم قلوبا تفقه حكمة الله فى خلق الأكوان فما استفادوا منها ما يفيدهم فى آخرتهم ويقرّبهم من جوار ربهم ، بل صرفوها فى طلب الدنيا ولذاتها ، لا جرم لم ينفعهم ما أعطيناهم من السمع والأبصار والأفئدة ، إذ لم يستعملوها فيما خلقت له من شكر من أنعم بها ودوام عبادته.

٣٢

ثم بين العلة فى عدم إغناء ذلك عنهم فقال :

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي لأنهم كانوا يكذبون رسل الله ، وينكرون معجزاتهم.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل بهم ما سخروا به فاستعجلوه من العذاب.

وفى هذا تخويف لأهل مكة حتى يحذروا من عذاب الله ، ويخافوا عقابه ، فإنّ عادا لما اغتروا بدنياهم ، وأعرضوا عن قول الحق ـ نزل بهم العذاب ، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم شيئا ـ فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى.

ولما أخبر بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ، ليتعظ بهم من سمع أمرهم ، أتبعه بذكر من كان مشاركا لهم فى التكذيب ، فأدركه سوء العذاب كما أدركهم فقال :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أي ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حول قريتكم من القرى المكذبة للرسل كعاد ، وقد كانوا بالأحقاف بحضرموت ، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام ، وسبإ باليمن ، ومدين ، وكانت فى طريقهم فى رحلاتهم صيفا وشتاء ، بعد أن أنذرناهم بالمثلات ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر.

(وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وبيّنا لهم دلائل قدرتنا ، وبديع حججنا ليرجعوا عن غيّهم الذي استمسكوا به لمحض التقليد ، أو لشبهة عرضت لهم ، فحلّ بهم سوء العذاب ولم يجدوا لهم نصيرا ولا دافعا لعذاب الله ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي فهلا نصرهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتهم قربانا يتقربون به إلى ربهم فيما زعموا ، حين جاءهم بأسه فأنقذوهم من عذابه إن كانوا يشفعون عنده ، لكنهم غابوا عنهم ولم يفيدوهم شيئا.

(٣ ـ مراغى ـ السادس والعشرون)

٣٣

وفى هذا تقريع لأهل مكة وتأنيب لهم على أنه لو كانت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تغنى عنهم شيئا ، أو تنفعهم عنده ـ لأغنت عمن كان قبلهم من الأمم الذين أهلكوا بعبادتهم لها ، فدفعت عنهم العذاب إذ نزل بهم ، أو لشفعت لهم عند ربهم ، لكنها أضرّتهم ولم تنفعهم ، وغابت عنهم أحوج ما كانوا إليها ، فما أحراهم أن يتنبهوا لما هم فيه من خطل الرأى وسوء التقدير للأمور.

(وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وامتناع نصرة آلهتهم لهم وصلالهم عنهم ـ أثر من آثار إفكهم الذي هو اتخاذهم إياهم آلهة ، وثمرة افترائهم على الله الكذب.

استماع الجن للقرآن

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

تفسير المفردات

صرفنا : أي وجهنا ، والنفر : ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال ، سموا بذلك : لأنهم ينفرون إذا حزبهم أمر لكفايته ، أنصتوا : أي اسكتوا ، قضى : أي فرغ

٣٤

من تلاوته ، ولّوا : أي رجعوا ، منذرين : أي مخوّفين لهم عواقب الضلال. روى أن هؤلاء الجن كانوا من جنّ نصيبين من دياربكر قريبة من الشام ، أو من نينوى بالموصل ، وكان الاجتماع بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة ، وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفرا منهم فاستمعوا منه ، حتى إذا انقضى من تلاوته رجعوا إلى قومهم منذريهم عقاب الله إذا هم استمروا على الضلال. أجاره من كذا : أنقذه منه ، وداعى الله : هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليس بمعجز فى الأرض : أي لا ينجو منه هارب ، ولا يسبق قضاءه سابق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن فى الإنس من آمن ومنهم من كفر ـ أعقب هذا ببيان أن الجن كذلك ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ؛ وأن مؤمنهم معرّض للثواب ، وكافرهم معرض للعقاب ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كما أرسل إلى الإنس أرسل إلى الجن.

واعلم أن عالم الملائكة وعالم الجن لا يقوم عليهما دليل من العقل ؛ فهما بمعزل عن ذلك ، وإنما دليلهما السمع وإخبار الأنبياء بذلك فقط ، فعلينا أن نؤمن بما جاء به فحسب ولا نزيد على ذلك شيئا ، ولا نتوسع فى بحثه وتأويله وتفصيله ، فإن ذلك من عالم الغيب الذي لم نؤت من علمه كثيرا ولا قليلا ، فعلينا أن نؤمن بأن اتصالا قد تمّ بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وعالم الملائكة ، وبه تلقّى الوحى على أيديهم ، وأنه اتصل بعالم الجن ، فعلّمهم وبشرهم وأنذرهم ، لكنا لا ندرى كيف كان الاتصال ولا كيف تلقّوا عنه القرآن ، ولعل تقدم العلوم فى مستأنف الأيام يلقى علينا ضواءا من هذه المعرفة ، أو لعل قراءة علم الروح والتوسع فى دراسته ينير لنا بعض السر فى ذلك ؛ ففى هذه الدراسة معرفة شىء من أحوالنا فى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة وسيأتى تفصيل لهذا القصص فى سورة الجن

٣٥

الإيضاح

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي واذكر أيها الرسول لقومك موبخا لهم على كفرهم بما آمنت به الجن ، لعلهم يتنبهون لجهلهم ، ويرعوون عن غيّهم وقبح ما هم فيه من كفر بالقرآن وإعراض عنه ، مع أنهم أهل اللسان الذي به نزل ، ومن جنس الرسول الذي جاء به ، وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عند الله وآمنوا به ، وليسوا من أهل لسانه ، ولا من جنس رسوله ـ فى ذلك الوقت الذي وجه الله إليه جماعة من الجن ، ليستمعوا القرآن ويتعظوا بما فيه من عبر وعظات ، فلما حضروا الرسول قال بعضهم لبعض : أنصتوا مستمعين ، فلما فرغ من تلاوته رجعوا إلى قومهم لينذروهم بأس الله وشديد عذابه.

وذكر الوقت ذكر لما فيه من الأحداث التي يراد إخبار السامع بها ، لما لها من خطر جليل وشأن عظيم ، فيراد علمه بها ليكون لها فى نفسه الأثر الذي يقصد منها من ترغيب أو ترهيب ، ومسرة أو حزن إلى نحو أولئك من أغراض الكلام ومقاصده.

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال : سألت ابن مسعود من آذن النبىّ صلى الله عليه وسلّم بالجن ليلة استمعوا القرآن ، قال آذنته بهم الشجرة.

وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منكم أحد ليلة الجن؟ قال ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل. استطير. ما فعل؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان فى وجه الصبح إذا نحن به يجىء من قبل حراء فأخبرناه فقال : إنه أتانى داعى الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.

٣٦

وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرة بعد مرة ، وأخذت عنه الشرائع والأحكام الدينية.

ثم فصل ما قالوه لهم فى إنذارهم.

(قالُوا : يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قالوا لهم يا قومنا من الجن : إنا سمعنا كتابا أنزله الله من بعد توراة موسى ، يصدّق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله ، ويرشد إلى سبيل الحق ، وإلى ما فيه لله رضا ، وإلى الطريق الذي لا عوج فيه.

وخصوا التوراة بالذكر لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين. وقال عطاء لأنهم كانوا على اليهودية ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله ، وصدقوه فيما جاء به من أمر الله ونهيه ـ يغفر لكم بعض ذنوبكم ويسترها لكم ولا يفضحكم بها فى الآخرة بعقوبته لكم عليها ، وينقذكم من عذاب موجع ، إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم إلى ربكم ، وأخلصتم له العبادة.

وفى الآية إيماء إلى أن حكم الجن حكم الإنس فى الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي.

ثم حذروا قومهم وتوعدوهم وأوجبوا إجابتهم داعى الله بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب فقالوا :

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي ومن لا يجب رسول الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى مادعا إليه من التوحيد والعمل بطاعته ، فلا يفوت ربه ولا يسبقه هربا إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه ، ولا يجد له نصراء ينصرونه ويدفعون عنه عذابه.

٣٧

ثم بيّن أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية فى الضلال ، والبعد عن الصراط السوىّ فقال :

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وأولئك الذين يفعلون ذلك يكونون فى ضلال بيّن ، وجور عن قصد السبيل ، لأن طريق الحق واضحة وأعلامه منصوبة ، والوصول إليه ميسور ، فمن جانفه وأعرض عنه فقد أجرم واستحق الجزاء الذي هو له أهل.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

تفسير المفردات

لم يعى : أي لم يعجز ، قال الكسائي : يقال أعييت من التعب ، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز ، قال عبيد بن الأبرص :

عيّوا بأمرهم كما

عيّت ببيضتها الحمامه

أولو العزم : أي ذوو الحزم والصبر ، قال مجاهد : هم خمسة نظمهم الشاعر فى قوله :

أولو العزم نوح والخليل الممجّد

وموسى وعيسى والحبيب محمد

بلاغ : أي كفاية فى الموعظة.

٣٨

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم ، وأبطل قول عبدة الأصنام ، ثم ثنى بإثبات النبوة وذكر شبهاتهم فى الطعن فيها وأجاب عنها ـ أردف ذلك إثبات البعث وأقام الدليل عليه ، فذكر أن من خلق السموات والأرض على عظمهن فهو قادر على أن يحيى الموتى ، ثم أعقب هذا بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذى قومه كما صبر من قبله أولو العزم من الرسل ، وبعدم استعجال العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا ، ثم ختم السورة بأن فى هذه العظات كفاية أيّما كفاية ، وما يهلك إلا من خرج عن طاعة ربه ، ولم ينقد لأمره ونهيه.

الإيضاح

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم ، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلاهم ، فيعلموا أن الذي خلق السموات والسبع والأرض فابتدعهن من غير شىء ، ولم يعى فى إنشائهن ـ بقادر على أن يحيى الموتى فيخرجهم من بعد بلاهم فى قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم؟.

ونحو الآية قوله عز وجل : «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».

والخلاصة ـ إن من قال للسموات والأرض كونى فكانت لا ممانعة ولا مخالفة ، طائعة خائفة وجلة ـ أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى؟

٣٩

ثم أجاب عن ذلك مقرّرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود فقال :

(بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي بلى إن الذي خلق ذلك ـ ذو قدرة على كل شىء أراد خلقه ، ولا يعجزه شىء أراد فعله.

وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال ؛ لوضوح الجواب إذ لا يختلف فيه أحد ، ولا يعارض فيه ذو لبّ.

ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة ذكر ما يحدث حينئذ من الأهوال فقال :

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي ويوم يعرض هؤلاء المكذبون بالبعث وبثواب الله لعباده على أعمالهم الصالحة ، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة ـ على نار جهنم يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ : أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم وقد كنتم تكذبون به فى الدنيا ـ بالحق الذي لا شك فيه؟ قالوا من فورهم : بلى وربنا إنه لحق.

(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي قال آمرا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ : ذوقوا عذاب النار الآن جزاء جحودكم به فى الدنيا ، وإبائكم الاعتراف به إذا دعيتم للتصديق به.

ولما قرر التوحيد والنبوة والبعث وأجاب عن شبهاتهم ـ أردف ذلك ما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه ، لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوغرون صدره فقال :

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي فاصبر أيها الرسول على ما أصابك فى الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم منذرا ، كما صبر أولو العزم من الرسل على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته.

والخلاصة ـ اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك.

وعن عائشة قالت : ظلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صائما ثم طوى ، ثم ظلّ صائما ثم طوى ، ثم ظل صائما قال يا عائشة : «إن الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد ،

٤٠