تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال فيها : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا».

عن الأصمعى قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابى على قعود فقال ممن الرجل؟ قلت من بنى أصمع ، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرجل؟ قلت من بنى أصمع ، قال من أين أقبلت؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، قال : اتل علىّ فتلوت والذّاريات فلما بلغت : وفى السّماء رزقكم قال حسبك ، فقام إلىّ ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفتّ فإذا بالأعرابى قد نحل واصفر فسلم علىّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت : فو ربّ السّماء والأرض إنّه لحقّ. فصاح وقال : يا سبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه حتى حلف (قالها ثلاثا) وخرجت معها نفسه.

وإنما قصصت عليك هذا القصص لما فيه من أدب بارع وظرف وحسن فهم من ذلك الأعرابى لكتاب الله ، ولك بعد ذلك أن تصدقه أو تتشكك فيه ، فكم للأصمعى من مثله ، فهو الأديب البارع ، والراوية الحافظ ، فلا يعجزه أن يصنعه ويصنع أمثاله.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠))

١٨١

تفسير المفردات

الضيف : لفظ يستعمل للواحد والكثير ، المكرمين : أي عند إبراهيم إذ خدمهم هو وزوجه وعجل لهم القرى وأجلسهم فى أكرم موضع ، قوم منكرون : أي قوم لا عهد لنا بكم من قبل ، وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام للتعرف بهم كما تقول لمن لقيته وسلم عليك : أنا لا أعرفك ، تريد عرّف لى نفسك وصفها ، فراغ إلى أهله : أي ذهب إليهم خفية من ضيفه ، سمين : أي ممتلىء بالشحم واللحم ، فقربه إليهم : أي وضعه لديهم ، فأوجس منهم خيفة : أي أضمر فى نفسه الخوف منهم ، امرأته هى سارّة لما سمعت بشارتهم له ، صرّة : أي صيحة ، فصكت وجهها : أي ضربت بيدها على جبهتها وقالت : يا ويلتا ، عجوز عقيم : أي أنا كبيرة السن لا ألد.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه إنكار قومه للبعث والنشور حتى أقسم لهم بعزته أنه كائن لا محالة ـ سلى رسوله فأبان له أنه ليس ببدع فى الرسل ، وأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ، وأنهم إن تمادوا فى غيهم وأصروا على كفرهم ولم يقلعوا عماهم عليه ، فسيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية.

وذكر إبراهيم من بين الأنبياء لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم على سننه كما قال تعالى : «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ولأن العرب كانت تجلّه وتحترمه وتدعى أنها على دينه.

١٨٢

وأتى بالقصص بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن الحديث كما تقول لمخاطبك هل بلغك كذا وكذا ، وأنت تعلم أنه لم يبلغه ، توجيها لأنظاره حتى يصغى إليه ويهتم بأمره ، ولو جاء على صورة الخبر لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة ، وتنبيها إلى أن الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحى.

الإيضاح

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ؟) أي هل عندك نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه وهم ذاهبون فى طريقهم إلى قوم لوط ، فسلموا عليه فرد عليهم التحية بأحسن منها.

ثم أراد أن يتعرف بهم فقال :

(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل فعرفونى أنفسكم ـ من أنتم؟

واستظهر بعض العلماء أن هذه مقالة أسرّها فى نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك ، لأن فى خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا له ، إلى أنه لو كان أراد ذلك لكشفوا له أحوالهم ، ولم يتصد لمقدمات الضيافة ، ثم ذكر أنه أسرع فى قرى ضيوفه فقال :

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي فذهب خفية مسرعا وقدم لضيوفه عجلا سمينا أنضجه شيّا ، كما جاء فى سورة هود «فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» أي مشوى على الرضف.

(قالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) أي قال مستحثا لهم على الأكل : ألا تأكلون؟ وفى هذا تلطف منه فى العبارة وعرض حسن ، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة ، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون ، وأتى بأفضل ماله ، وهو عجل فتىّ مشوى ، ووضعه بين أيديهم ، ولم يضعه بعيدا منهم حتى يذهبوا إليه ، وتلطف فى العرض فقال : ألا تأكلون؟

١٨٣

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأعرضوا عن طعامه ولم يأكلوا فأضمر فى نفسه الخوف منهم ، ظنا منه أن امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه ، فإنّ أكل الضيف أمنة ودليل على سروره وانشراح صدره ، وللطعام حرمة ، وفى الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظن ، وقد جاء فى سورة هود : «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً».

ثم ذكر أنهم طمأنوه حينئذ فقال :

(قالُوا لا تَخَفْ) منا إنا رسل ربك ، وجاء فى الآية الأخرى : «قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ».

(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي فبشروه بإسحاق بن سارّة كما جاء فى سورة هود : «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» وجاءت البشارة بذكر لأنه أسرّ للنفس ، وأقر للعين ، ووصفه بالعلم لأنه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل ، لا الصورة الجميلة ولا القوة ولا نحوهما.

ثم أخبر عما حدث من امرأته حينئذ فقال :

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم (كانت فى ناحية من البيت تنظر إليهم) وهى تصرخ صرخة عظيمة وضربت بيديها على جبيتها وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ وجاء فى الآية الأخرى : «قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» فأجابوها عما قالت :

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي قالوا لها : مثل الذي أخبرناك به قال ربك ، فنحن نخبرك عن الله ، والله قادر على ما تستبعدين ، وهو الحكيم فى أفعاله ، العليم الذي لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.

١٨٤

والخلاصة ـ إنها استبعدت الولادة لسببين : كبر السن والعقم ، وقد كانت لا تلد فى عنفوان شبابها والآن قد عجزت وأيست ، فأجدر بها الآن ألا تلد ، فكأنها قالت :

ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة ، ظنا منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبات كما يقول الداعي : أعطاك الله مالا ، ورزقك ولدا ، فردوا عليها بأن هذا ليس منا بدعاء ، وإنما ذلك قول الله تعالى.

قد تمّ ما أردنا تصنيفه فى تفسير هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

١٨٥

فهرست

أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

القرآن الكريم من عند الله ، لا من عند محمد........................................ ٤

الردّ على المشركين فى طعنهم فى النبوة............................................. ٩

ما ينسب إلى بعض الأولياء من علمهم بشئون الغيب فهو فرية على الله............... ١١

إسلام عبد الله بن سلام وحديثه مع قومه اليهود................................... ١٤

الرد على المشركين فى أن القرآن ليس مفترى..................................... ١٥

الوصية بالوالدين............................................................... ١٧

حوار بين علىّ وعثمان فى أقل مدة الحمل......................................... ١٨

لم يبعث الله نبيا قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى............................ ١٩

الدعاء الذي كان يعلّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه فى التشهد.......... ٢٠

خطبة مروان فى المسجد دعاية ليزيد بن معاوية وردّ عبد الرحمن بن أبى بكر عليه...... ٢٣

غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رأى على الحسن والحسين قلبين من فضة.. ٢٦

كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح يدعو بدعاء خاص............ ٣١

استماع الجن للقرآن............................................................ ٣٤

لا دليل من العقل على عالمى : الملائكة والجن ، بل الدليل من السمع وأخبار الأنبياء... ٣٥

ورد أن الجن استمعت القرآن مرات كثيرة........................................ ٣٧

ضرب القرآن للأمثال........................................................... ٣٩

١٨٦

الحرب ترقى الصناعات ، وتوقظ الشعور ، وتزيد عدد الأمم........................ ٤٩

سيأتى يوم تسعد فيه الأمم بسعادة أعدائها........................................ ٥٠

يعرف أهل الجنة منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم فى الدنيا.......................... ٥٢

لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : أنت أحب بلاد الله إلىّ ، أنت أحب بلاد الله إلىّ      ٥٦

صفة الجنة كما وصفها القرآن................................................... ٥٨

فى الحديث : «إنى أستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة»............. ٦٣

ما كان يقول المنافقون حين نزول آيات الجهاد؟.................................... ٦٤

ممالأة المنافقين لليهود من بنى قريظة............................................... ٧٠

يعرف المنافقون من غيرهم بلحن القول والعدول عن التصريح إلى الإشارة............ ٧١

فى الحديث : «ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها»........................... ٧٢

المعاصي تبطل الحسنات......................................................... ٧٥

نتائج صلح الحديبية............................................................. ٨١

من سنن الله أن يسلط بعض عباده على بعض..................................... ٨٦

لله جنود للرحمة ، وجنود للعذاب................................................ ٨٧

بيعة الرضوان ـ بيعة الشجرة................................................... ٩٠

معاذير بعض القبائل للتخلف عن الجهاد.......................................... ٩٢

الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد............................................... ٩٩

نادى منادى رسول الله للبيعة وهو تحت الشجرة................................. ١٠١

أمر عمر بقطع الشجرة التي بويع عندها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رأى الناس يحجون إليها        ١٠٢

فتح خيبر ومغانمها ليست بشىء إذا قيست إلى ما بعدها.......................... ١٠٤

قال النبي صلّى الله عليه وسلم : «لأعطينّ الراية رجلا يحبه الله ورسوله»............ ١٠٥

١٨٧

كتاب الصلح الذي كتب بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم................. ١٠٧

ما دار من الحديث بين سهيل بن عمرو ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم.......... ١١١

حوار بين أبى بكر وعمر...................................................... ١١٢

قال عمر : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته.................................. ١١٦

ما أنشده الوفود أمام النبي صلّى الله عليه وسلم................................... ١٢٤

رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنفع للمؤمنين من آرائهم لأنفسهم............... ١٢٨

وجوب قتال الفئة الباغية...................................................... ١٣١

المؤمنون بعضهم إخوة لبعض................................................... ١٣١

النهى عن السخرية والهمز واللمز............................................... ١٣٣

من عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه....................................... ١٣٧

فى الحديث : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث»......................... ١٣٨

قال علىّ بن الحسين : إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس......................... ١٤٠

لا تحرم الغيبة فى ستة مواضع................................................... ١٤٠

خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة وهو على راحلته..................... ١٤٤

القرآن علم المؤمنين الأدب فى التخاطب......................................... ١٤٦

الفرق بين الإسلام والإيمان.................................................... ١٤٧

مقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للانصار يوم حنين................................ ١٤٨

فى الحديث : «كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات»........................ ١٦١

الرسول صلّى الله عليه وسلّم مذكر وليس بمسيطر................................ ١٧١

أفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية............................................. ١٧٦

القصص الذي رواه الأصمعى عن أعرابى قابله................................... ١٨١

بشرى الملائكة لإبرهيم....................................................... ١٨٤

استبعاد سارّة للولادة فى هذه السن............................................. ١٨٥

١٨٨