تفسير المراغي - ج ٢٦

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء السادس والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الأحقاف

هى مكية إلا ثلاث آيات : ١٠ ، ١٥ ، ٣٥ فمدنية.

وآياتها خمس وثلاثون ، نزلت بعد الجاثية.

ووجه اتصالها بما قبلها ـ أنه تعالى ختم السورة السالفة بالتوحيد ، وذمّ أهل الشرك وتوعدهم عليه ، وافتتح هذه بالتوحيد وتوبيخ المشركين على شركهم أيضا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ

٣

مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

تفسير المفردات

أجل مسمى : هو يوم القيامة ، أنذروا : أي خوّفوا ، معرضون : أي مولّون لاهون ، تدعون : أي تعبدون ، شرك : أي نصيب ، أثارة : أي بقية ، ومثلها الأثرة (بالتحريك) يقال (سمنت الإبل على أثارة) أي بقية شحم كان قبل ذلك ، حشر : أي جمع ، كافرين : أي مكذبين.

المعنى الجملي

بدأ سبحانه السورة بإثبات أن هذا القرآن من عند الله ، لا من عند محمد كما تدّعون ثم ذكر أن خلق السموات والأرض مصحوب بالحق قائم بالعدل والنظام ، ومن النظام أن تكون الآجال مقدرة معلومة لكل شىء ، إذ لا شىء فى الدنيا بدائم ، ولا بد من يوم يجتمع الناس فيه للحساب ، حتى لا يستوى المحسن والمسيء ، ولكن الذين كفروا أعرضوا عن إنذار الكتاب ولم يفكروا فيما شاهدوا فى العالم من النظام والحكمة ، فلا هم بسماع الوحى متعظون ، ولا هم بالنظر فى العالم المشاهد يعتبرون ؛ ثم نعى على المشركين حال آلهتهم وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم : أخبرونى ماذا خلق آلهتكم من الأرض ، أم لهم شركة فى خلق السموات حتى يستحقون العبادة؟ فإن كان لهم ما تدّعون فهاتوا دليلا على هذا الشرك المدّعى بكتاب موحى به من قبل القرآن أو ببقية

٤

من علوم الأولين ، وكيف خطر على بالكم أن تعبدوها وهى لا تستجيب لكم دعاء إلى يوم القيامة وهى غافلة عنكم ، وفى الدار الآخرة تكون لكم أعداء وتجحد عبادتكم لها.

الإيضاح

(حم) الكلام فى مثلها قد تقدم من قبل.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) اعلم أنّ نظم أول هذه السور كنظم أول سورة الجاثية وقد تقدم إيضاحه وتفسيره.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالعدل ، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق ، إليه ينتهى بقاؤه فى هذه الحياة الدنيا ، وهذا يستدعى أن يكون خلقه لحكمة وغاية ، وأن يكون هناك يوم معلوم للحساب والجزاء ، لئلا يتساوى من أحسن فى الدار الأولى ومن أساء فيها ، ومن أطاع ربه واتبع أوامره ونواهيه ، ومن دسّى نفسه ، وركب رأسه ، واتبع شيطانه وهواه ، وسلك سبل الغواية فلم يترك منها طريقا إلا سلكه ، ولا بابا إلا ولجه.

ثم بين غفلة المشركين وإعراضهم عما أنذروا به فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي مع ما نصبنا من الأدلة ، وأرسلنا من الرسل ، وأنزلنا من الكتب ـ بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه ، غير ملتفتين إليه ، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا ، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا ، وأنّى لهم ذلك؟ فهم صم بكم عمى لا يعقلون.

وبعد أن أثبت لنفسه الألوهية ، وأنه رحيم عادل ، وأثبت البعث والجزاء يوم القيامة ، ردّ على عبدة الأصنام فقال :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي قل لهم أيها الرسول : أخبرونى عن حال آلهتكم بعد التأمل فى خلق

٥

السموات والأرض وما بينهما ، والنظام القائم فيهما ، المبنى على الحكمة ودقة الصنع ، والإبداع فى التكوين : هل تعقلون لهم مدخلا فى خلق جزء من هذا العالم السفلى ، فيستحقوا لأجله العبادة؟ ولو كان لهم ذلك لظهر التفاوت فى هذا النظام ، والمشاهد أنه على حال واحدة يستمد أدناه من أعلاه ، ويرتبط بعضه ببعض ، وكل فرد فى الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيها ، أم هل تظنون أن لهم شركة فى خلق العالم العلوي شموسه وأقماره ، كواكبه ونجومه ، سياراتها وثوابتها.

وقصارى ذلك ـ نفى استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتمّ وجه ، فقد نفى أن لها دخلا فى خلق شىء من أجزاء العالم السفلى استقلالا ، ونفى ثانيا أن لها دخلا على سبيل الشركة فى خلق شىء من أجزاء العالم العلوي ، ونفى ذلك يستلزم نفى استحقاق المعبودية أيضا.

وتخصيص الشركة فى النظم الجليل بقوله سبحانه «فى السّموات» مع أنه لا شركة فيها ولا فى الأرض أيضا ـ لأن الغرض إلزامهم بما هو مسلّم لهم ، ظاهر لكل أحد ، والشركة فى الحوادث السفلية ليست كذلك ، لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة.

وبعد أن بكّتهم وعجّزهم عن الإتيان بسند عقلى ، عجزهم وبكتهم عن الإتيان بسند نقلى فقال :

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان ما تقولونه حقا فائتونى أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب كالتوراة والإنجيل يشهد بصحة ما تدّعون لآلهتكم ، أو ببقية بقيت عندكم من علم الأولين المفكرين فى خلق السموات والأرض ترشد إلى استحقاق الأصنام والأوثان للعبادة. وتدل على صحة المسلك الذي سلكتموه.

والخلاصة ـ إن الدليل : إما وحي من الله ، أو بقية من كلام الأوائل ، وإما

٦

إرشاد من العقل ، فإن كان الأول فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء؟ وإن كان الثاني فأين هو؟

وبعد أن أبطل شركة الأصنام فى الخلق بعدم قدرتها على ذلك ـ أتبعه إبطاله بعدم علمها بالعبادة فقال :

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أضل ممن يعبد من دون الله أصناما ويتخذهم آلهة ، وهم إذا دعوا لا يسمعون ولا يجيبون إلى يوم القيامة ؛ أي لا يجيبون أبدا ماداموا فى الدنيا ، إذ هم فى غفلة عن دعائهم ، لأنهم أحجار ، فهم صم بكم لا يسمعون ولا يتكلمون.

وما أنكى هذا التوبيخ وما أمضّ ألمه لهؤلاء المشركين على سوء رأيهم وقبح اختيارهم فى عبادتهم ما لا يعقل شيئا ولا يفهم ، وتركهم عبادة من بيده جميع نعمهم ، ومن به إغاثتهم حين تنزل بهم الجوائح والمصايب.

وبعد أن أبان أنهم لا ينفعونهم فى الدنيا ولا يستجيبون لهم دعاء ـ أبان حالهم فى الآخرة فقال :

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أي وإذا جمع الناس لموقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يعبدونها فى الدنيا أعداء لهم ، إذ يتبرءون منهم ، وكانوا بعبادتهم كافرين ، فهم يقولون : ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بهم ، تبرأنا إليك ربنا منها.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ».

٧

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩))

تفسير المفردات

المراد بالحق آيات القرآن ، افتراه : كذب عليه عمدا ، فلا تملكون لى من الله شيئا : أي لا تغنون عنى من الله شيئا إن أراد عقابى ، تفيضون فيه : أي تخوضون فيه من تكذيب القرآن ، يقال أفاض القوم فى الحديث : أي اندفعوا فيه ، والبدع والبديع من كل شىء : المبتدع المحدث دون سابقة له.

المعنى الجملي

بعد أن تكلم فى تقرير التوحيد ونفى الأضداد والأنداد ـ أعقب هذا بالكلام فى النبوة ، وبين أنه كلما تلا عليهم الرسول شيئا من القرآن قالوا إنه سحر ، بل زادوا فى الشناعة وقالوا : إنه مفترى ، فرد عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنعه من عقابه لو عاجله به؟ وهو العليم بما تندفعون فيه من الطعن فى نبوّتى ، ويشهد لى بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالكذب والجحود.

ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إنى لست بأول الرسل حتى تنكروا دعائى لكم إلى التوحيد ، ونهى لكم عن عبادة الأصنام ، وما أدرى ما يفعل بي فى الدنيا؟

٨

أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلى ، ولا ما يفعل بكم ، أترمون بالحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض ، أم يفعل بكم غير ذلك مما عمل مع سائر المكذبين للرسل؟ وإنى لا أعمل عملا ولا أقول قولا إلا بوحي من ربى ، وما أنا إلا نذير ، لا أستطيع أن آتى بالمعجزات والأخبار الغيبية ، فالقادر على ذلك هو الله تعالى.

الإيضاح

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين حججنا التي أودعناها كتابنا الذي أنزلناه عليك قالوا : هذا خداع وتمويه يفعل فعل السحر فى قلب من سمعه.

ثم انتقل من هذه المقالة الشنعاء إلى ما هو أشنع منها فقال :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي دع هذا واسمع القول المنكر العجيب : إنهم يقولون إن محمدا افتراه على الله عمدا ، واختلقه عليه اختلاقا.

وقد أمر الله رسوله أن يبطل شبهتهم بقوله :

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي قل لهم : لو كذبت على الله ، وزعمت أنه أرسلنى إليكم ، ولم يكن الأمر كذلك لعاقبنى أشد العقاب ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرنى منه ، فكيف أقدم على هذه الفرية وأعرّض نفسى لعقابه ، فالملوك لا يتركون من كذب عليهم دون أن ينتقموا منه ، فما بالكم بمن يتعمد الكذب على الله فى الرسالة ، وهى الجامعة لأمور عظيمة ، ففيها الإخبار عن تكليف الناس بما يصلح شأنهم فى دينهم ودنياهم.

ونحو الآية قوله : «قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ» وقوله : «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ».

٩

ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام منهم بقوله :

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه ، من التكذيب بالقرآن ، والطعن فى آياته ، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى.

ثم أكد صدق ما يقول بنسبة علم ذلك إلى الله فقال :

(كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يشهد لى بالصدق فى البلاغ ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود.

ولا يخفى ما فى هذا من الوعيد الشديد على إفاضتهم فى الطعن فى الآيات.

ثم فتح لهم باب الرحمة بعد الإنذار السابق لعلهم يتوبون ويثوبون إلى الحق فقال :

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي ومع كل ما صدر منكم من تلك المطاعن الشنعاء ، إن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وصح عزمكم على الرجوع عما أنتم عليه ، تاب عليكم ، وعفا عنكم ، وغفر لكم ورحمكم.

وبعد أن حكى عنهم طعنهم فى القرآن ـ أمر رسوله أن يرد عليهم مقترحاتهم العجيبة ، وهى طلبهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بمعجزات بحسب ما يريدون ويشتهون ، وكلها تدور حول الإخبار بشئون الغيب فقال :

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي قل لهم : لست بأول رسول بلّغ عن ربه ، بل قد جاءت رسل من قبلى ، فما أنا بالفذّ الذي لم يعهد له نظير حتى تستنكرونى وتستبعدون رسالتى إليكم ، وما أنا بالذي يستطيع أن يأتى بالمعجزات متى شاء ، بل ذلك باذنه تعالى وتحت قبضته وسلطانه ، وليس لى من الأمر شىء ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ولا أعلم ما يفعل بي فى الدنيا ، أأخرج من بلدي كما أخرجت أنبياء من قبلى ، أم أقتل كما قتل منهم من قتل؟ ولا ما يفعل

١٠

بكم أيها المكذبون ، أترمون بحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض؟ كل هذا علمه عند ربى.

وفى صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء أنها قالت : «لما مات عثمان ابن مظعون رضى الله عنه ، قلت : رحمة الله عليك يا أبا السائب ، لقد أكرمك الله تعالى ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإنى لأرجو له الخير ، والله ما أدرى ـ وأنا رسول الله ـ ما يفعل بي ولا بكم ، قالت أمّ العلاء فو الله ما أزكى بعده أبدا».

وفى رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة : هنيئا لك ابن مظعون الجنة ، فنظر إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر مغضب وقال : وما يدريك؟ والله إنى لرسول الله ، وما أدرى ما يفعل الله بي ، فقالت :

يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم ، فقال : أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه».

ومن هذا يعلم أن ما ينسب إلى بعض الأولياء من العلم بشئون الغيب ، فهو فرية على الله ورسوله ، وكفى بما سلف ردّا عليهم.

ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع إلا القرآن ، ولا أبتدع شيئا من عندى.

ثم زاد الأمر توكيدا فقال :

(وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وما أنا إلا نذير ، أنذركم عقاب الله ، وأخوّفكم عذابه ، وآتيكم بالشواهد الواضحة على صدق رسالتى ، ولست أقدر على شىء من الأعمال الخارجة عن قدرة البشر.

١١

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

المعنى الجملي

لا يزال الكلام موصولا بسابقه ، فبعد أن نعى عليهم استهزاءهم بكتابه وقولهم فيه : إنه سحر مفترى وردّ الرسول عليهم بأنه ليس بأول رسول حتى يستنكرون نبوته ويطلبون منه ما لا قبل له به من المعجزات التي أمرها بيد الله لا بيده ـ أردف هذا أمر رسوله أن يقول لهم : ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله الله علىّ لأبلغكموه فكفرتم به وكذبتموه؟ وقد شهد شاهد من بنى إسرائيل الواقفين على أسرار الوحى بما أوتوا من التوراة على مثل ما قلت ، فآمن واستكبرتم؟ ثم حكى عنهم شبهة أخرى بشأن إيمان من آمن منهم من الفقراء كعمار وصهيب وابن مسعود فقالوا : لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء ، ثم ذكر أنهم حين لم يهتدوا به قالوا : إنه من أساطير الأولين ، ثم ذكر أن مما يدل على صدق القرآن أن التوراة وهى الإمام المقتدى به ، بشرت بمقدم محمد صلّى الله

١٢

عليه وسلم فاقبلوا حكمها فى أنه رسول حقا من عند الله ، ثم أعقب هذا ببيان أن من آمنوا بالله وعملوا صالحا لا يخافون مكروها ، ولا يحزنون لفوات محبوب ، وأولئك هم أهل الجنة ، جزاء ما عملوا من عمل صالح ، وما أخبتوا لربهم ، وانقادوا لأمره ونهيه.

الإيضاح

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي قل لهم : أخبرونى إن ثبت أن القرآن من عند الله لعجز الخلق عن معارضته ، لا أنه سحر ولا مفترى كما تزعمون ، ثم كذبتم به وشهد أعلم بنى إسرائيل بكونه من عند الله فآمن واستكبرتم ـ أفلستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟.

والخلاصة ـ أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، وشهادة منصف من بنى إسرائيل عارف بالتوراة على مثل ما قلت فآمن به مع استكباركم ـ أفلا تكونون ظالمين لأنفسكم؟

وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام ـ فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبى وقاص قال : «ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض : إنه من أهل لجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه ، نزلت : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ)».

وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : نزل فىّ آيات من كتاب الله ، نزلت فىّ (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ونزل فىّ : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

ثم ذكر أن فى استكبارهم عن الإيمان ظلما لأنفسهم وكفرا بآيات ربهم فقال :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفق لإصابة الحق وهدى الصراط المستقيم من ظلموا أنفسهم باستحقاقهم سخط الله لكفرهم به بعد قيام الحجة الظاهرة عليهم.

١٣

عن عوف بن مالك الأشجعى قال «انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم ، فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم : يا معشر اليهود أرونى اثنى عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، يحطّ الله عن كل يهودى تحت أديم السماء الغضب الذي عليه ، فسكتوا فما أجابه منهم أحد ، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا ، فقال : أبيتم ، فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفّى ، آمنتم أو كذبتم ، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا تخرج ، فإذا رجل من خلفه فقال : كما أنت يا محمد فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أىّ رجل تعلمونى فيكم يا معشر اليهود ، فقالوا : والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك ، فقال فإنى أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا فى التوراة والإنجيل ، قالوا كذبت ، ثم ردوا عليه وقالوا شرّا ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : كذبتم لن يقبل منكم قولكم ، فخرجنا ونحن ثلاثة : رسول الله وأنا وعبد الله ابن سلام فأنزل الله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ إلى قوله ـ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه السيوطي.

ثم حكى نوعا آخر من أقاويلهم الباطلة فى القرآن العظيم والمؤمنين به فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي وقال كفار مكة لأجل إيمان من آمن من فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود ومن لفّ لفّهم : لو كان ما أتى به محمد خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء ، فإن معالى الأمور لا تنالها أيدى الأراذل ، وهؤلاء سقّاط الناس ورعاة الإبل والشاء ، وقد قالوا ذلك زعما منهم أنهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة ، وأن الرياسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية ، وقد غاب عنهم أنها منوطة بكمالات نفسية وملكات روحية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية

١٤

والإقبال على الآخرة ، وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ، ومن حرمها فما له فيها من خلاق ، ولم يعلموا أن الله يختص برحمته من يشاء ويصطفى لدينه من يشاء.

وعن قتادة : قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزلت هذه الآية.

وروى أنه لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد : لو كان هذا خيرا ما سبقتنا إليه رعاء البهم والشاء.

فأجابهم الله عن هذا بقولهم :

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) اى وقد ظهر عنادهم واستكبارهم إذ لم يهتدوا به ، وسيقولون الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين : هذا كذب مأثور عن الأقدمين ، انتقاصا له ولأهله ، واستكبارا عن اتباع الحق.

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الكبر بطر الحق وغمص (احتقار) الناس».

ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم : «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً».

ثم رد عليهم طعنهم فى القرآن وأثبت صحته فقال :

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي ومما يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون فى أن الله أنزل التوراة على موسى وجعلها إماما لبنى إسرائيل ورحمة لهم ، وهى قد اشتملت على البشارة بمقدم محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا بد أن يكون محمد صادقا فى رسالته ، وأن يكون القرآن من عند الله ، وقد جاء بلسان عربى لينذر الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة وهو بشرى لمن أحسن عملا.

والخلاصة ـ كيف يكون إفكا قديما وهو مصدق لكتاب موسى الذي تعترفون

١٥

بصدقه ، وهو بلسان عربى ، والتوراة بلسان عبرى ، فتصديق الأول للثانى دليل على اتحادهما صدقا ـ فبطل كونه إفكا قديما وثبت الصدق القديم.

وبعد أن ذكر طريق المبطلين أرشد إلى طريق المحقين وذكر جزاءهم فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين قالوا ربنا الله ، لا إله غيره ، ثم استقاموا على تصديقهم بذلك ، ولم يخلطوه بشرك ولم يخالفوا الله فى أمر ولا نهى ـ فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم بعد مماتهم.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا ـ هم أهل الجنة ماكثين فيها أبدا ثوابا منا لهم كفاء ما قدموا من صالح الأعمال فى الدنيا.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

تفسير المفردات

الإيصاء والوصية : بيان الطريق القويم لغيرك ليسلكه ، والإحسان : خلاف الإساءة ، والحسن : خلاف القبح ، والمراد أنه يفعل معهما فعلا ذا حسن ، والكره

١٦

(بالضم والفتح) كالضعف والضعف : المشقة ، وحمله : أي مدة حمله ، وفصاله : فطامه ؛ والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام ، والأشد : استحكام القوة والعقل ، أوزعنى : أي رغبنى ووفقني ، من أوزعته بكذا : أي جعلته مولعا به راغبا فى تحصيله ، والقبول : هو الرضا بالعمل والإثابة عليه ، فى أصحاب الجنة : أي منتظمين فى سلكهم كما تقول أكرمنى الأمير فى أصحابه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى سابق الآيات توحيده سبحانه وإخلاص العبادة له والاستقامة فى العمل ـ أردف هذا الوصية بالوالدين ، وقد فعل هذا فى غير موضع من القرآن الكريم كقوله : «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» وقوله : «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ».

روى أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر إذ أسلم والداه ولم يتفق ذلك لأحد من الصحابة ، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو ، وأمه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو.

الإيضاح

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنوّ عليهما ، والبر بهما فى حياتهما وبعد مماتهما ، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال ، وعقوقهما من الكبائر ، والآيات والأحاديث فى هذا الباب كثيرة.

ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم لأنها أضعف وأولى بالرعاية ، وفضلها أعظم كما ورد فى صحيح الأحاديث ومن ثم كان لها ثلثا البر ؛ فقال :

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي إنها قاست فى حمله مشقة وتعبا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل ، وقاست فى وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع ، وكل هذا يستدعى البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة.

(٢ ـ مراغى ـ السادس والعشرون)

١٧

ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال :

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا تكابد الأمّ فيها الآلام الجسمية والنفسية ، فتسير الليالى ذوات العدد إذا مرض ، وتقوم بغذائه وتنظيفه وكل شئونه بلا ضجر ولا ملل ، وتحزن إذا اعتل جسمه أو ناله مكروه يؤثّر فى نموّه وحسن صحته.

وفى الآية إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر ، لأن أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان لقوله تعالى : «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر ، وبذلك يعرف أقل الحمل وأكثر الإرضاع.

وأول من استنبط هذا الحكم منها علىّ كرم الله وجهه ووافقه عليه عثمان وجمع من الصحابة رضى الله عنهم. روى محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج منا رجل من امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان رضى الله عنه فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ، فقالت لها : وما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط ، فيقضى الله فىّ ما شاء ، فلما أتى بها عثمان أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال ما تصنع؟ قال ولدت لتمام ستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علىّ : أما تقرأ القرآن؟ قال بلى ، قال : أما سمعت الله عز وجل يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» فلم تجده أبقى إلا ستة أشهر ، فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، علىّ بالمرأة ، فوجدها قد فرغ منها ، قال معمر فو الله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه ، فلما رآه أبوه قال : ابني والله لا أشك فيه.

وعن ابن عباس أنه كان يقول : إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع

١٨

أحد وعشرون شهرا ، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا ، وإذا ولدت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حتى إذا اكتهل واستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وهى فيما بين الثلاثين والأربعين.

(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وهذا نهاية استحصاد العقل واستكماله ، ومن ثم روى عن ابن عباس : من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ولهذا قيل :

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن

له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه فلا تنفس عليه الذي مضى

وإن جرّ أسباب الحياة له العمر

قال المفسرون : لم يبعث الله نبيا قط قيل الأربعين إلا ابني الخالة «عيسى ويحيى» (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أي رب وفقني لشكر نعمك التي غمرتنى بها فى دينى ودنياى ، بما أتمتع به من سعة فى العيش ، وصحة فى الجسم ، وأمن ودعة ، للإخلاص لك ، واتباع أوامرك ، وترك نواهيك ، وأنعمت بها على والدىّ من تحننهما علىّ حين ربيانى صغيرا.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي واجعل عملى وفق رضاك لأنال مثوبتك.

(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح ساريا فى ذريتى ، متمكنا من نفوسهم ، راسخا فى قلوبهم.

قال ابن عباس : أجاب الله دعاء أبى بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة ، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه عليه ، ودعا فقال : أصلح لى فى ذريتى ، فأجابه الله تعالى ، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا ، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا ، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبىّ صلّى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.

١٩

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي إنى تبت إليك من ذنوبى التي فرطت منى فى أيامى الخوالى ، وإنى من الخاضعين لك بالطاعة ، المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك.

روى أبو داود فى سننه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعلّمهم أن يقولوا فى التشهد : اللهم ألّف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، ونجّنا من الظلمات إلى النور ، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا فى أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا ، وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك ، وأتمها علينا».

ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا فى الدنيا من صالح الأعمال ، فيجازيهم به ، ويثيبهم عليه ، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم فى الدنيا لماما ولم تكن عادة لهم ، بل جاءت بحافز من القوة الشهوانية ، أو القوة الغضبية ، فلا يعاقبهم عليها ، وهم منتظمون فى سلك أصحاب الجنة ، داخلون فى عدادهم.

ثم أكد الوعد السابق بقوله :

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله الوعد الحق الذي لا شك فيه ، وأنه موفّ به.

وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبى وقاص وعلى أبى بكر الصديق اللذين قيل فى كل منهما إن الآية نزلت فيه تنطبق على كل مؤمن ، فهو موصّى بوالديه ،

٢٠