تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

ثم حكى ما قاله كل رسول لأمته :

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟) أي قال لهم الرسول : أتبغون ذلك وتسيرون على نهجه ، ولو جئتكم من عند ربكم بدين أهدى إلى طريق الحق ، وأدل على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة؟.

وتلخيص ذلك ـ أتتبعون آباءكم وتقلدونهم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟.

فأجابوه إجابة تيئيس من اتباعهم له على كل حال.

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ولو جئتنا بما هو أهدى منه ، فكأنهم يقولون : إنهم لو علموا صحة ما جئتهم به ما انقادوا لك ، لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله.

وحينئذ لم يبق لهم عذر ، ومن ثم قال :

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فانتقمنا من هؤلاء المكذبين لرسلهم الجاحدين بربهم ، فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة أمرهم حين كذبوا بآياتنا؟

ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم؟

وفى هذا سلوة لرسوله ، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له ، ووعيد وتهديد لهم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا

٨١

لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

تفسير المفردات

لأبيه : أي آزر ، براء : كلمة لا تثنى ولا تجمع يقولون : أنا منك براء ، ونحن منك براء ، فإن قلت برىء ثنيت وجمعت ، فطرنى : أي خلقنى ، والكلمة : هى كلمة التوحيد فى عقبه : أي فى ذريته ، مبين : أي ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرة ، من القريتين : أي من إحدى القريتين مكة والطائف ، والرجل الذي من مكة : هو الوليد ابن المغيرة المخزومي وكان يسمى ريحانة قريش ، والذي من الطائف : هو عروة بن مسعود الثقفي ، ورحمة ربك : هى النبوة ، والسخرىّ : هو الذي يقهر على العمل ، والسقف بضمتين : واحدها سقف كرهن ورهن ، والمعارج : واحدها معرج كمنبر ، وهو المسمى الآن (أسنسير) وهذا من معجزات القرآن إذ لم يكن معروفا عصر التنزيل ، يظهرون أي يرتقون ، زخرفا : أي نقوشا وتزاويق ، قال الراغب الزخرف : الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب زخرف ، ولمّا بمعنى إلا ، حكى سيبويه نشدتك الله لمّا فعلت كذا : أي إلا فعلت كذا.

٨٢

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن الذي دعا الكفار إلى اعتناق العقائد الزائفة هو تقليد الآباء والأجداد ، وبين أنه طريق باطل ، ونهج فاسد ، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد ـ أردف هذا أن ذكر لهم أن أشرف آبائهم وهو إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعتهم ، فيجب عليكم تقليده ، وحين عدل عن طريق آبائه جعل الله دينه باقيا فى عقبه إلى يوم القيامة ، وأديان آبائه درست وبطلت.

ثم ذكر أن قريشا وآباءهم مدّ لهم فى العمر والنعمة ، فاغتروا بذلك واتبعوا الشهوات ، وأعرضوا عن توحيد الله وشكره على آلائه ، حتى جاءهم الرسول منبها لهم مذكرا بالنظر إلى من فطرهم وفطر السموات والأرض وآتاهم من فضله ما يتمتعون به من زينة هذه الحياة ، فكذبوه وقالوا ساحر كذاب ، ثم حكى عنهم أنهم قالوا : هلا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم الجاه كثير المال من إحدى القريتين مكة والطائف ، فرد عليهم مقالهم ، بأنه قسم الحظوظ الدنيوية بين عباده ، فجعل منهم الغنى والفقير ، والسيد والمسود ، والملوك والسّوقة ، والأقوياء والضعفاء ، ولم يغير أحد ما حكم به فى أحوال دنياهم على حقارتها ، فكيف يعترضون على حكمه فيما هو أرفع درجة ، وأشرف غاية ، وأعظم مرتبة ، وهو منصب النبوة؟.

ثم ذكر أن التفاوت فى شئون الدنيا هو الذي يتمّ به نظام المجتمع والسير به على النهج القويم ، فلولاه ما صرّف بعضهم بعضا فى حوائجه ، ولا تعاونوا فى تسهيل وسائل المعيشة ، ثم أعقب هذا ببيان أنه لو لا أن يرغب الناس فى الكفر إذا رأوا الكفار فى سعة من الرزق لمتعهم بكل وسائل النعيم ، فجعل لبيوتهم أبوابا من فضة وسقفا وسررا ومصاعد منها وزينة فى كل شىء ، ولكن كل هذا متاع قليل زائل والآخرة هى الباقية ؛ وهى لمن يتقى الله ويجتنب الكفر والمعاصي.

٨٣

ولم يفعل ذلك بالمؤمنين فيوسع عليهم جميعا ، ليكون سبب اجتماعهم على الإيمان العقيدة المنبعثة عن الاطمئنان النفسي ، لأنه لو فعل ذلك لاجتمعوا عليه طلبا للدنيا ، وهذا إيمان المنافقين ، ومن ثم ضيّق الرزق على بعض المسلمين ووسع على بعض ليكون من يدخله ، فإنما يدخله للدليل والبرهان وابتغاء رضوان الله ومثوبته.

الإيضاح

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي واذكر لقومك المكبّين على التقليد : كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام؟ قال لهم إنى براء مما تعبدون إلا من عبادة الله الذي خلقنى وخلق الناس جميعا ، وأنه سيهدينى إلى سبيل الرشاد ، ويوفقنى إلى اتباع الحق ، وقد جزم بذلك لثقته بربه ، ولقوة يقينه.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل كلمة التوحيد وهى (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) كلمة باقية فى ذريته يقتدى به فيها من هداه الله منهم ، لعل أهل مكة يرجعون عما هم عليه إلى دين أبيهم إبراهيم ، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم ذلك الفخر ، تبعوه فيما يدين به.

قال قتادة : لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم فى الأعقاب ، موصولة بالأحقاب ، بدعوتيه المجابتين : إحداهما قوله : «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» فقد قال إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله : «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ».

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي ولكنى متعت هؤلاء المشركين وآباءهم من قبل ، ومددت أعمارهم ، وأكثرت نعمهم ، فشغلتهم النعم

٨٤

والترف والشهوات ، فأطاعوا الشيطان ونسوا كلمة التوحيد ، فجريت على سنتى أن أجعل فى بنى إبراهيم من يوحّد الله ويدعو من كفر منهم إلى الإيمان ، فاخترت محمدا وأنزلت معه الكتاب ليدعو هؤلاء إلى ما فيه صلاحهم فى دينهم ودنياهم ، وسعادتهم فى آخرتهم وأولاهم.

ثم وبخهم على إعراضهم عما جاء به من الحق وعدم النظر فيه فقال :

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي ولما جاءهم القرآن والرسول الصادق بما معه من المعجزات قالوا إن ما جاءنا به سحر وليس بوحي من عند الله وإنا به جاحدون ، فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به.

ثم ذكر ضربا آخر من كفرهم بقوله :

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي وقالوا إن منصب الرسالة منصب شريف ، فلا يليق إلا برجل شريف كثير المال عظيم الجاه ، ومحمد ليس بذاك ، فمن الحق أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة ابن مسعود الثقفي بالطائف.

فأنكر الله عليهم ذلك وجهّلهم وعجّب من حالهم بقوله :

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم؟ أو قد بلغ من أمرهم أن يصطفوا من يشاءون للنبوة التي لا يصلح لها إلا من بلغ مرتبة روحانية خاصة ، وكان ذا فضائل قدسية وكمالات خلقية ، مستهينا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها؟ فهم ليسوا لها بأهل ، فضلا عن أن يهبوها لمن يشاءون.

ثم بين خطأهم فى طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال :

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي إننا فى هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض ، فى الغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، والشهرة والخمول ، لأنا لوسوّينا بينهم

٨٥

فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخّر أحد غيره ، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا ، ولم يستطع أحد أن يغيّر نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا.

وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك فى أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا فى منصب الرسالة؟

وقصارى ذلك ـ إنا قسمنا بينهم أرزاقهم ، أفلا يقنعون بقسمتنا فى أمر النبوة وتفويضها إلى من نشاء من خلقنا؟.

ثم علل ما سلف بقوله :

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل ، خير مما يجمعون من حطام الدنيا ، فالدنيا على شفا جرف هار ، ومظاهرها فانية لا قيمة لها ، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم.

ثم بين حقارة الدنيا وخستها بقوله :

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً) أي ولو لا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه ، فيجتمعوا على الكفر ، ويرغبوا فيه ، إذا رأوا سعة الرزق عندهم ـ لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة ، ومصاعد من فضة ، وسررا من فضة ، عليها يتكئون ، وزينة فى كل ما يرتفق به من شئون الحياة.

ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد ، سريعة الزوال ، فهى متاع الحياة الفانية فقال :

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل ، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء ـ أعدها الله لمن اتقى الشرك والمعاصي ، وعمل بطاعته ، وآثر الآخرة على الدنيا.

٨٦

أخرج الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».

وكذلك لو أعطيت هذه النعم والسرر والأبواب المصنوعة من الذهب والفضة للمؤمنين ، حتى ليصير الناس كلهم هكذا ، لأخلّت بالمقصود من الإيمان ، لأن الترف والنعيم يحجب العقول عن عالم الروحانيات والرقى العقلي ، فقلّ من يتخلص من شرك هذه الآفات ، فالشهوات والزينة والزخارف للعقول أشبه بالقاذورات للأجسام ، والأجسام القذرة يحوم حولها الذباب ، فيلقى فيها بيوضه لتفرخ فى القروح والعيون ، ويخرج ذباب يعيش من تلك القاذورات ، وهكذا النفوس الضعيفة تعيش فيها النفوس المماثلة لها من عالم الشياطين ، وتلقى إليها بذور الفساد ، فتزرع فيها وتحصدها النفوس خزيا وعارا فى الدنيا والآخرة وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

٨٧

تفسير المفردات

يقال عشى فلان كرضى إذا حصلت له آفة فى بصره ، وعشا : كغزا إذا نظر نظر العشىّ لعارض قال الحطيئة فى المحلّق الكلانى :

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

تجد خير نار عندها خير موقد

أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من كثرة الوقود واتساع الضوء ، فالمراد هنا أنه يتعامى عن ذكر الله ، نقيض له : أي نهيىء له ونضم إليه ، والقرين : الرفيق الذي لا يفارق ، والمشرقين : أي المشرق والمغرب ، وكثيرا ما تسمى العرب الشيئين المتقابلين باسم أحدهما ، قال الفرزدق :

أخذنا بآفاق السماء عليكم

لنا قمراها والنجوم الطوالع

يريد الشمس والقمر ، بعد المشرقين : أي بعد أحدهما من الآخر ، فإما نذهبن بك : أي فإن قبضناك وأمتناك ، لذكر : أي لشرف عظيم ، تسألون : أي عن قيامكم بما أوجه القرآن عليكم من التكاليف من أمر ونهى.

المعنى الجملي

بعد أن بين أن المال متاع الدنيا وهو عرض زائل ، ونعيم الآخرة هو النعيم الدائم الذي أعده الله للمتقين ـ ذكر هنا أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدونه عن السبيل القويم ، ويظن أنه مهتد ، لأنه يتلقى من الشياطين ما يلائم أخلاقه فيألفه ولا ينكره ، ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة تبرأ الكافر من الشيطان قرينه وقال له : ليت بينى وبينك بعد ما بين المشرقين ، ثم أعقب هذا ببيان أن اشتراك الكافر مع قرينه الشيطان فى العذاب لا يخفف عنه شيئا منه ، لاشتغال كل منهما بنفسه.

ثم ذكر لرسوله أن دعوته لا تؤثر فى قلوبهم ، وقلما تجديهم المواعظ ، فإذا أسمعتهم

٨٨

القرآن كانوا كالصم ، وإذا أريتهم معجزاتك كانوا كالعمى ، وإنما كانوا كذلك لضلالهم المبين ؛ ثم سلى رسوله وبين له أنه لا بد أن ينتقم منهم إما حال حياته أو بعد موته ، ثم أمره أن يستمسك بما أمره الله به ، فيعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم النافع فى الدين والدنيا وفيه الشرف العظيم له ولقومه ، وسوف يسألون عما قاموا به من التكاليف التي أمرهم بها ، ثم أرشد إلى أن بغض الأصنام وبغض عبادتها جاء على لسان كل نبى ، فمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا من بينهم فى الإنكار عليها حتى يعارض ويبغض.

الإيضاح

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي ومن يتعام عن ذكر الله وينهمك فى لذات الدنيا وشهواتها نسلط عليه شياطين الإنس والجن يزينون له أن يرتع فى الشهوات ، ويلغ فى اللذات ، فلا يألوا جهدا فى ارتكاب الآثام والمحرمات على ما جرت به سنتنا الكونية ، كما نسلط الذباب على الأجسام القذرة ونخلق الحيات والعقارب والحشرات فى المحال العفنة ، لتلطف الجو وترحم الناس والحيوان ، وهكذا النفوس الموسوسة للضعفاء توقعهم فى الذنوب لاستعدادهم لها ، فينالون جزاءهم من عقاب الله وعقوبات البشر واحتقارهم لهم ، إلى ما ينالهم من الأمراض الفتاكة والأدواء التي لا يجدى فيها علاج ، فيكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم وأنى لهم أن تنفعهم تلك الذكرى فقد فات الأوان ، ولا ينفع الندم على فائت :

ندم البغاة ولات ساعة مندم

والبغي مرتع مبتغيه وخيم

قال الزجاج : معنى الآية ـ إن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين ـ يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ، ويلازمه قرينا له فلا يهتدى ، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق المبين اه.

٨٩

أخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي : أن قريشا قالت قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه ، فقيّضوا لأبى بكر طلحة بن عبيد الله ، فأتاه وهو فى القوم فقال أبو بكر : إلام تدعونى؟ قال : أدعوك إلى عبادة اللات والعزّى قال أبو بكر وما اللات؟ قال : أولاد الله ، قال : وما العزّى؟ قال : بنات الله ، قال أبو بكر : فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه ، وقال لأصحابه أجيبوا الرجل ، فسكت القوم ، فقال طلحة : قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فأنزل الله هذه الآية ، وثبت فى صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وإن هؤلاء الشياطين الذين يقيضهم الله لكل من يعشو عن ذكر الرحمن ليحولنّ بينهم وبين سبيل الحق ، ويوسوسنّ لهم أنهم على الجادّة وسواهم على الباطل ، فيطيعنهم ويكرّهنّ إليهم الإيمان بالله والعمل بطاعته.

ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة فقال :

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي حتى إذا وافى الكافر يوم القيامة إلينا وعرض عليها أعرض عن قرينه الذي وكل به وتبرأ منه وقال : ليت بينى وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب ، فبئس القرين أنت أيها الشيطان ، لأنك قد أضللتنى وأوصلتنى إلى هذا العذاب المهين ، والخزي الدائم ، والعيش الضنك ، والمحل المقضّ المضجع.

ثم حكى ما سيقال لهم حينئذ توبيخا وتأنيبا فقال :

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي ولن ينفعكم فى هذا اليوم اشتراككم فى العذاب أنتم وقرناؤكم ، كما كان ينفع فى الدنيا الاشتراك فى المهامّ الدنيوية ، إذ يتعاونون فى تحمل أعبائها ، ويتقاسمون شدتها وعناءها ، فإن لكل منهم من العذاب ما لا تبلغه طاقته ، ولا قدرة له على احتماله.

٩٠

وقد يكون المعنى ـ ولن ينفعكم ذلك من حيث التأسى ، فإن المكروب فى الدنيا يتأسى ويستروح بوجدان المشارك فى البلوى ، فيقول أحدهم لى فى البلاء والمصيبة أسوة ، فيسكّن ذلك من حزنه كما قالت الخنساء ترثى أخاها صخرا :

يذكّرنى طلوع الشمس صخرا

وأذكره بكل مغيب شمس

فلو لا كثرة الباكين حولى

على إخوانهم لقتلت نفسى

وما يكون مثل أخى ولكن

أعزّى النفس عنه بالتأسى

وقصارى ذلك ـ إنه لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شىء من العذاب ، إذ لكل منهم الحظ الأوفر منه.

وقد يكون المعنى ـ ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، فأنتم وقرناؤكم مشتركون فى العذاب ، كما كنتم مشتركين فى سببه فى الدنيا.

وقد وصفهم فيما سلف بالعشي ووصفهم بالعمى والصمم ، من قبل أن الإنسان لاشتغاله بالدنيا يكون كمن حصل بعينيه ضعف فى البصر ، وكلما زاد انهما كه بها كان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل فقال :

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ؟) أي أفانت تسمع من قد سلبهم الله استماع حججه التي ذكرها فى كتابه ، أو تهدى إلى طريق الحق من أعمى قلوبهم عن إبصارها ، واستحوذ عليهم الشيطان فزين لهم طريق الردى.

والخلاصة ـ إن ذلك ليس إليك ، إنما ذلك إلى من بيده تصريف القلوب وتوجيهها أنّى شاء ، فعليك البلاغ وعلينا الحساب.

وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يبالغ فى دعاء قومه إلى الإيمان وهم لا يزيدون إلا غيّا وتعاميا عما يشاهدون من دلائل النبوة وتصامّا عما يسمعون من بينات القرآن.

٩١

وبعد أن أيأسه من إيمانهم سلاه بالانتقام منهم لأجله إما حال حياته أو بعد مماته فقال :

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي فإن نذهب بك أيها الرسول من بين أظهر المشركين بموت أو غيره فإنا منهم منتقمون كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذبة لرسلها ، أو نرينك الذي وعدناك من الظفر بهم وإعلائك عليهم فإنا عليهم مقتدرون ، فنظهرك عليهم ونخزيهم بيديك وأيدى المؤمنين.

وفى التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخالف الميعاد ـ إشارة إلى أن ذلك سيقع حتما وهكذا كان ، فإنه لم يقبض رسوله حتى أقر عينيه من أعدائه ، وحكّمه فى نواصيهم ، وملّكه ما تضمنته صياصيهم ، قاله السدى واختاره ابن جرير.

ثم أمر رسوله أن يستمسك بما أوحى به إليه فيعمل به فقال :

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي فخذ بالقرآن المنزل على قلبك ، فإنه هو الحق المفضى إلى الصراط المستقيم ، والموصل إلى جنات النعيم ، والخير الدائم المقيم.

ثم ذكر ما يستحثه على التمسك به فقال :

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك ، لأنه نزل بلغتهم على رجل منهم ، فهم أفهم الناس له ، فينبغى أن يكونوا أسبق الناس إلى العمل به.

أخرج الطبراني وابن مردويه عن عدى بن حاتم قال : «كنت قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : ألا إن الله تعالى علم ما فى قلبى من حبى لقومى فبشرنى فيهم فقال سبحانه : وإنّه لذكر لك ولقومك» الآية. فجعل الذكر والشرف لقومى ـ إلى أن قال ـ فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومى والشهيد من قومى ،

٩٢

وإن الله قلب العباد ظهرا وبطنا ، فكان خير العرب قريش وهى الشجرة المباركة» ثم قال عدىّ ما رأيت رسول الله ذكرت عنده قريش بخير إلا سره حتى يتبين ذلك السرور فى وجهه للناس كلهم اه.

ونظير الآية قوله فى سورة الأنبياء «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أي شرفكم ، فالقرآن نزل بلسان قريش ، وإياهم خاطب ، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم وصاروا عيالا عليهم ، حتى يقفوا على معانيه من أمر ونهى ونبإ وقصص وحكمة وأدب.

روى الترمذي عن معاوية رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : «إن هذا الأمر فى قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين».

وفى الآية إيماء إلى أن لذكر الجميل والثناء الحسن أمر مرغوب فيه ، ولو لا ذلك ما امتن الله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم به ، ولما طلبه إبراهيم عليه السّلام بقوله : «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» وقال ابن دريد :

وإنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى

وقال المتنبي :

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته

ما فاته وفضول العيش أشغال

(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن حقه وأداء شكر النعمة فيه.

وخلاصة ما سلف ـ إن القرآن نزل بلغة العرب ، وقد وعد الله بنشر هذا الدين ، وأبناء العرب هم العارفون بهذه اللغة ، فهم الملزمون بنشرها ونشر هذا الدين للأمم الأخرى فمتى قصروا فى ذلك أذلهم الله فى الدنيا ، وأدخلهم النار فى الآخرة ، فعسى أن يقرأ هذا أبناء العرب ويعلموا أنهم هم المعلمون للأمم ، فيبشروا هذا القرآن ويكتبوا المصاحف باللغة العربية ، ويضعوا على هوامشها تفاسير بلغات مختلفة كالإنجليزية

٩٣

والألمانية والروسية حتى تعرف الأمم كلها هذا الدين معرفة حقة خالية من الخرافات التي ألصقها به المبتدعون ، ويعود سيرته الأولى ، وما ذلك على الله بعزيز.

ثم وبخ مشركى قريش بأن ما هم عليه من عبادة الأصنام لم يأت فى شريعة من الشرائع فقال :

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك من الرسل : هل حكمنا بعبادة غير الله؟ وهل جاء ذلك فى ملة من الملل؟ والمراد بهذا الاستشهاد بيان إجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه إلى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس ببدع من بين الرسل فى الأمر به ، حتى يكذّب ويعادى له.

وقصارى ذلك ـ إن الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام.

ونحو الآية قوله : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ».

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ

٩٤

وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)).

تفسير المفردات

الآيات : هى المعجزات ، وملئه : أي أشراف قومه ، أخذناهم : أي أخذ قهر بالعذاب فأرسلنا عليهم الجراد والقمّل والضفادع ، الساحر : أي العالم الماهر ، بما عهد عندك : أي بما أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا ، ينكثون : أي ينقضون العهد ، من تحتى : أي من تحت قصرى وبين يدىّ فى جناتى ، مهين : أي ضعيف حقير ، يبين : أي يفصح عن كلامه. قال ابن عباس كانت بموسى لثغة فى لسانه (واللثغة بالضم : أن تصير الراء غينا أو لاما والسين ثاء وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ) ، والأسورة : واحدها سوار كأخمرة وخمار ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة سيادته ، مقترنين : أي مقرونين به يعينونه على من خالفه ، فاستخف قومه : أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلال فاستجابوا له ، آسفونا : أي أغضبونا وأسخطونا. قال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا ، وقد يقال لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام ، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا وسلفا : أي قدرة لمن بعدهم من الكفار ، مثلا : أي حديثا عجيب الشأن يسير سير المثل فيقول الناس مثلكم مثل قوم فرعون.

٩٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن كفار قريش طعنوا فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم لكونه فقيرا عديم المال ولجاه ـ بين هنا أن موسى بعد أن أورد المعجزات الباهرة أورد فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال : إنى غنى كثير المال عظيم الجاه ، فلى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى ، وموسى فقير مهين وليس له بيان ولا لسان ، وهذا شبيه بما قاله كفار قريش وأيضا فإنه لما قال : واسأل من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ـ ذكر هنا قصة موسى وعيسى عليهما السّلام وهما أكثر الأنبياء أتباعا وقد جاءا بالتوحيد ولم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله.

ثم ذكر سبحانه أن فرعون قال : هلا ألقى ألى موسى مقاليد الملك فطوق بسوار من ذهب إن كان صادقا ، زعما منه أن الرياسة من لوازم الرسالة ، أو جاء معه جمع من الملائكة يعينونه على من خالفه ، وأعقب هذا بأن ذكر أنه حين دعا قومه إلى تكذيب موسى فى دعواه الرسالة أطاعوه لضلالهم وغوايتهم ، ولما لم نجد فيهم المواعظ غضبنا وانتقمنا منهم ، وجعلناهم قدوة للكافرين ، وضربنا بهم الأمثال للناس ليكونوا عبرة لهم.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ولقد بعثنا موسى ومعه حججه الدالة على صدقه إلى فرعون وأشراف قومه ، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك ، فقال لهم : إنى رسول من قبل الله إليكم ، كما قلت أنت لقومك : إنى رسول الله إليكم.

٩٦

فطالبوه بإحضار البينة على صدق دعواه كما يدل على ذلك قوله :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فلما جاءهم بالأدلة على صدق قوله فيما يدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الآلهة ـ إذا فرعون وقومه يضحكون من تلك المعجزات ، كما أن قومك يسخرون مما جئتهم به.

وفى هذا تسلية لرسوله على ما كان يلقاه من قومه المشركين ، وإعلام له بأن قومه لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم فى الكفر بالله وتكذيب رسله ، وندب له أن يستن بسنة أولى العزم من الرسل فى الصبر على أذى أقوامهم وتكذيبهم لهم ، وإخبار بأن عقبى أمرهم الهلاك كسنته فى الكافرين قبلهم ، وظفره بهم ، وعلوّ أمره كما فعل بموسى عليه السّلام وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي وما أرينا فرعون وملأه حجة من حججنا الدالة على صدق رسولنا فى دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها فى الحجية عليهم ، وآكد فى الدلالة على صحة ما يأمر به من توحيد الله ، ومعنى الأخوّة بين الآيات تشا كلها وتناسبها فى الدلالة على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان فى المعنى.

ثم بين ما جوزوا به على تكذيبهم فقال :

(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي وأنزلنا عليهم ألوانا من العذاب كنقص الثمرات والجراد والقمل والضفادع.

ثم بين العلة فى أخذه لهم بذلك وهو رجاء رجوعهم فقال :

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكى يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان بالله وطاعته ، والتوبة مما هم عليه مقيمون من المعاصي.

ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات ، والدلالات الواضحات ـ ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.

٩٧

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي وقالوا يا أيها العالم الماهر ، وكانوا يسمون العلماء سحرة ، ويوقرونهم ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم.

وقد يكونون نادوه بذلك فى تلك الحال ، لشدة شكيمتهم ، وفرط حماقتهم.

(ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب بما أخبرتنا من عهده إليك ، أنا إن آمنا به كشفه عنا.

(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي إنا لمؤمنون بما جئت به إن حدث ذلك.

ونحو ذلك ما جاء فى سورة الأعراف من قولهم : «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ».

ثم بين ما حدث منهم بعد دعوة موسى وكشف العذاب فقال :

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فدعانا فكشفنا عنهم العذاب فلم يؤمنوا ونقضوا العهد ، وقد كان هذا ديدنهم مع موسى ، يعدونه فى كل مرة أن يؤمنوا به إذا كشف عنهم الرجز ، ثم ينقضون ما عاهدوا الله عليه.

ونحو الآية ما جاء فى سورة الأعراف من قوله : «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ».

ثم أخبر سبحانه عن تمرد فرعون وعتوّه وعناده فقال :

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ : يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجرى الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.

٩٨

ثم أكد هذا بقوله :

(أَفَلا تُبْصِرُونَ؟) ذلك وتستدلون به على قوة ملكى وعظم قدرى وضعف موسى عن مقاومتى لما فيه من فقر وعىّ وحصر.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي بل أنا ولا شك خير بما لى من السعة فى المال والجاه والملك العريض ـ من هذا المهين الحقير الذي لا يكاد يفصح عما يريد ، إذ كان فى لسانه حبسة فى صغره فعابه بها ، وهو لا يعلم أن الله استجاب سؤله حين قال : «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» فحل عقدة لسانه كما جاء فى قوله : «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى».

قال الحسن البصري : إنه قد بقي منها شىء لم يسأل زواله ، وإنما سأل زوال ما يمنع الإبلاغ والإفهام اه.

والأشياء الخلقية لا يعاب المرء بها ولا يذم ، لكنه أراد الترويج على رعيته وصدهم عن الإيمان به.

ونحو الآية قوله : «فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى».

ثم ذكر شبهة مانعة له من الرياسة ، وهى أنه لا يلبس لبس الملوك ، فلا يكون رئيسا ولا رسولا لتلازمهما فى زعمه فقال :

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهلا ألقى ربّ موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا كما جرت عادتهم بذلك ، وهذا شبيه بما قال كفار قريش فى عظيم القريتين.

ثم ذكر شبهة أخرى وهى أنه ليس له خدم من الملائكة تعينه فقال :

(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا ، يعينونه على أمره ، ويشهدون له بالنبوة ، ويمشون معه ، كما نفعل نحن

٩٩

إذا أرسلنا رسولا فى أمر هامّ يحتاج إلى دفاع ، وفيه خصام ونزاع ـ وهو بهذا أوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة ، أو يكونوا محفوفين بالملائكة.

ثم ذكر أن هذه الخدع قد انطلت عليهم ، وسحرت ألبابهم ، لغفلتهم وضعف عقولهم ، فاعترفوا بربوبيته ، وكذبوا بنبوة موسى فقال :

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي فاستخف أحلامهم بقوله وكيده ، وبما أبداه من عظمة الملك والرياسة ، وجعلها مناطا للعلم والنبوة ، وأنه لو كانت هناك نبوة لكان أولى بها ، فأطاعوه فيما أمرهم ، لأنهم كانوا قوما ذوى ضلال وغىّ ومن ثم أسرعوا إلى تلبية دعوة ذلك الفاسق الغوىّ.

ثم ذكر جزاءهم على ما اجترحوا من تكذيب رسوله على وضوح الدليل وظهور الحق فقال :

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلما أغضبونا بعنادهم وعظيم استكبارهم وبغيهم فى الأرض ـ انتقمنا منهم بعاجل عذابنا ، فأغرقناهم جميعا.

وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء فى قوله : «وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» :

وفى هذا إشارة إلى أن من تعزز بشىء دون الله أهلكه الله به.

أخرج أحمد والطبراني والبيهقي فى الشعب وابن أبى حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «إذا رأيت الله يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له ، وقرأ : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)».

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي فجعلناهم قدوة لمن يعمل عملهم من أهل الضلال ككفار قومك.

(وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي وعبرة وموعظة لمن يأتى بعدهم من الكافرين.

١٠٠