تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

أربعة أقسام ، فمنهم من وهب الإناث ، ومنهم من وهب الذكران ، ومنهم من أعطى الصّنفين ، ومنهم العقيم الذي لا نسل له.

الإيضاح

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي أجيبوا داعى الله وهو رسوله صلّى الله عليه وسلم ، وآمنوا به ، واتبعوه فيما جاءكم به من عند الله ، من قبل أن يأتى يوم لا يستطيع أحد أن يرده إذا جاء به الله.

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ، ولا يستطيعون إنكار ما اجترحتموه من السيئات ، لأنه قد كتب فى صحفكم ، وتشهد به ألسنتكم وجوارحكم.

ونحو الآية قوله تعالى : «يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ».

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي فإن أعرض هؤلاء المشركون عما أتيتهم به من الحق ، ودعوتهم إليه من الرشد ، ولم يستجيبوا لك ، وأبوا قبوله منك ، فدعهم وشأنهم ، فإنا لم نرسلك رقيبا عليهم تحفظ أعمالهم وتحصيها ، فما عليك إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم ، فإذا أنت بلّغته فقد أديت ما كلّفت به.

ونحو الآية قوله : «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» وقوله : «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وقوله : «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ».

وبعدئذ ذكر طبيعة الإنسان وغريزته فى هذه الحياة فقال :

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي وإنا إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من لدنا سعة فى الرزق أو فى الصحة أو فى الأمن سرّ بما آتيناه ، وإن أصابته فاقة أو مرض بما أسلف من

٦١

معصية ربه جحد نعمتنا وأيس من الخير ، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة.

والخلاصة ـ إن الإنسان إن إصابته نعمة أشر وبطر ، وإن ابتلى بمحنة يئس وقنط.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو يعطى من يشاء ويمنع من يشاء ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطى لما منع.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي يخلق ما يشاء فيرزق من يشاء البنات فحسب ، ويرزق من يشاء البنين فحسب ، ويعطى من يشاء الزوجين الذكر والأنثى ، ويجعل من يشاء لا نسل له.

وفى هذا إيماء إلى أن الملك من غير منازع ولا مشارك ، يتصرف فيه كيف يشاء ، ويخلق ما يشاء ، فليس لأحد أن يعترض أو يدبر بحسب هواه ، وتصرفه لا يكون إلا على أكمل وجه وأتم نظام ، وقد قيل : ليس فى الإمكان أبدع مما كان.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إنه عليم بمن يستحق كل نوع من هذه الأنواع ، قدير على ما يريد أن يخلق ، فيفعل ما يفعل بحكمة وعلم.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا

٦٢

إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه تقسيم النعم الجسمانية التي يهبها لعباده ـ أردفها تقسيم النعم الروحية ، وأبان أن الناس محجوبون عن ربهم ، لأنهم فى عالم المادة وهو منزه عنها ، ولكن من رقّ حجابه ، وخلصت نفسه ، وأصبح فى مقدوره أن يتصل بالملإ الأعلى يستطيع أن يكلم ربه على أحد أوجه ثلاثة :

(١) أن يحس بمعان تلقى فى قلبه ، أو يرى رؤيا منامية كرؤيا الخليل إبراهيم عليه السلام ذبح ولده.

(٢) أن يسمع كلاما من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر من يكلمه ، فهو قد سمع كلاما ولم ير المتكلم.

(٣) أن يرسل إليه ملكا فيوحى ذلك الملك ما يشاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.

ثم ذكر أنه كما أوحى إلى الأنبياء قبله أوحى إليه القرآن وما كان قبله يعلم ما القرآن وما الشرائع التي بها هداية البشر وصلاحهم فى الدارين.

٦٣

الإيضاح

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) أي وما ينبغى لبشر من بنى آدم أن يكلمه ربه إلا بإحدى طرق ثلاث :

(١) (إِلَّا وَحْياً) أي إلا أن يوحى إليه وحيا أي يكلمه كلاما خفيا بغير واسطة بأن يقذف فى روع النبي شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل كما

روى ابن حبان فى صحيحه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «إن روح القدس نفث فى روعى :

إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب».

(٢) (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي أو إلا من طريق لا يرى السامع المتكلم جهرة مع سماعه للكلام كما كلم موسى عليه السلام ربه.

(٣) (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي أو يرسل الله من ملائكته رسولا إما جبريل أو غيره فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهى كما كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى غيره من الأنبياء.

روى البخاري فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها أن الحرث بن هشام رضى الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : «يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده علىّ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول» قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد (يسيل) عرقا».

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي إنه علىّ عن صفات المخلوقين يفعل ما تقتضيه حكمته ، فيكلمه تارة بواسطة ، وتارة بغير واسطة إما إلهاما وإما خطابا من وراء حجاب.

٦٤

وبعد أن بين أقسام الوحى ذكر أنه أوحى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم كما أوحى إلى الأنبياء قبله فقال :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك هذا القرآن رحمة من عندنا.

ثم بين حال نبيه قبل نزول الوحى بقوله :

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما كنت قبل الأربعين وأنت بين ظهرانى قومك تعرف ما القرآن ولا تفاصيل الشرائع ومعالمها على النهج الذي أوحينا به إليك.

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي ولكن جعلنا هذا القرآن نورا عظيما نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا ، ونرشده إلى الدين الحق.

ونحو الآية قوله : «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» الآية.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتهدى بذلك النور من تشاء هدايته إلى الحق القويم.

ثم فسر هذا الصراط بقوله :

(صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هذا الطريق هو الطريق الذي شرعه الله مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما ، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه.

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي ألا إن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى الله لا إلى غيره ، فيضع كلا منهم فى موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم.

وفى هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم ، ووعيد للظالمين.

(٥ ـ مراغى ـ الخامس والعشرون)

٦٥

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات

(١) إنزال الوحى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم.

(٢) اختلاف الأديان ضرورى للبشر.

(٣) أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل.

(٤) اختلاف المختلفين فى الأديان بغى وعدوان منهم.

(٥) إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قامت الأدلة على صدقه.

(٦) استعجال المشركين لمجىء الساعة وإشفاق المؤمنين منها.

(٧) من يعمل للدنيا يؤت منها وماله حظ فى الآخرة ، ومن يعمل للآخرة يوفقه الله للخير.

(٨) ينزل الله الرزق بقدر بحسب ما يرى من المصلحة.

(٩) من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض وجرى السفن فى البحار.

(١٠) متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا.

(١١) جزاء السيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على الله.

(١٢) يتمنى المشركون يوم القيامة العودة إلى الدنيا حين يرون العذاب.

(١٣) إذا عرض المشركون على النار نظروا إليها من طرف خفىّ وهم خاشعون أذلاء.

(١٤) ليس على الرسول إلا البلاغ.

(١٥) يهب الله لمن يشاء الإناث ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.

(١٦) أقسام الوحى إلى البشر.

(١٧) الرسول قبل الوحى ما كان يدرى شيئا من الشرائع.

٦٦

سورة الزخرف

هى مكية إلا آية ٤٥ فإنها نزلت بالمدينة ، قاله مقاتل ، وآياتها تسع وثمانون ، نزلت بعد الشورى.

ووجه مناسبتها ما قبلها أن مفتتح هذه يشاكل مختتم تلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

تفسير المفردات

الكتاب : هو القرآن ، المبين : أي الموضح لطريق الهدى المبعد من الضلالات ، لعلكم تعقلون : أي لكى تفهموه وتحيطوا بما فيه ، أمّ الكتاب : هو علم الله الأزلى ، حكيم : أي ذو حكمة بالغة ، يقال ضربت عنه وأضربت عنه : أي تركته ، والذكر : أي القرآن ، صفحا : أي إعراضا ، مسرفين : أي منهمكين فى كفركم وتوليكم عن الحق ، بطشا : أي قوة وجلدا ، مضى : أي سلف ، والمثل : الصفة.

المعنى الجملي

أقسم سبحانه بكتابه المبين لطريق الهدى إنه جعل هذا القرآن بلغة العرب لغة قومك ليفقهوا معناه ويحيطوا به خبرا ، وإنه محفوظ فى علمه تعالى فليس هو من عند

٦٧

محمد كما تدّعون ، وإننا لن نترك تذكيركم به لأجل إعراضكم عنه ، وانهماككم فى الكفر به ، رحمة منا ولطفا بكم ، ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيرا من الأمم قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة ـ كذبوا رسلهم فكان عاقبتهم ما رأيتم ، وحل بهم ما تشاهدون آثاره.

الإيضاح

(حم) تقدم الكلام فى مثل هذا من قبل.

(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي والقرآن المبين لطريق الهدى والرشاد ، الموضح لما يحتاج إليه البشر فى دنياهم وآخرتهم ليفوزوا بالسعادة ، فمن سلك سبيله فاز ونجا ، ومن تنكّب عنه خاب سعيه ، وضل سواء السبيل.

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلناه قرآنا عربيا إذ كنتم أيها المنذرون به عربا ، لتعقلوا ما فيه من عبر ومواعظ ، ولتتدبروا معانيه ، ولم ينزله بلسان العجم حتى لا تقولوا نحن عرب ، وهذا كلام أعجمى لا نفقه شيئا مما فيه.

ثم بين شرفه فى الملإ الأعلى تعظيما له ، وليطيعه أهل الأرض فقال :

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي وإن هذا الكتاب فى علمه الأزلى رفيع الشأن ، لاشتماله على الأسرار والحكم التي فيها سعادة البشر وهدايتهم إلى سبيل الحق.

ونحو الآية قوله تعالى : «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ».

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟) أي أنترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن ، لانهماككم فى الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه؟ كلا.

٦٨

لا نفعل ذلك رحمة بكم ، وقد كانت حالكم تدعو إلى تخليتكم وما تريدون حتى تموتوا على الضلال.

قال قتادة : لو أن هذا القرآن قد رفع حين ردّته أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليها ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله اه.

أراد أنه تعالى من رحمته ولطفه بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وإن كانوا مسرفين معرضين عنه ، بل يأمر به ليهتدى من قدّر له الهداية ، وتقوم الحجة على من كتب له الشقاوة.

ثم قال مسلّيا رسوله صلّى الله عليه وسلّم على تكذيب قومه ، آمرا له بالصبر ، مهدّد للمشركين ، منذرا لهم بشديد العقاب.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وكثيرا ما أرسلنا فى الأمم الغابرة رسلا قبلك كما أرسلناك إلى قومك من قريش ، وكلما أتى نبى أمته يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق استهزءوا به وسخروا منه كما يفعل قومك بك ـ فقومك ليسوا ببدع فى الأمم ، ولا أنت ببدع فى الرسل ، فلا تأس على ما تجد منهم ولا يشقنّ ذلك عليك ، فهم قد سلكوا سبيل من قبلهم ، واحتذوا حذوهم ، ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة وكن كما كان أولوا العزم من الرسل ، واصبر كما صبروا على ما أوذوا فى سبيل الله.

ثم ذكر عقبى تكذيبهم واستهزائهم برسله تسلية لرسوله وتحذيرا لهم فقال :

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ولم يقدروا على دفع بأسنا إذ أتاهم ، وقد كانوا أشد بطشا من قومك وأشد قوة ، فأحر بهؤلاء ألا يعجزونا.

ونحو الآية قوله : «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً» الآية.

٦٩

(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي وقد مضت سنتنا فى المكذبين لرسلهم من قبلكم ، ورأيتم ما حل بهم ، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.

ونحو الآية قوله : «فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ» وقوله : «سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ».

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

تفسير المفردات

مهدا : أي فراشا ، وأصله موضع فراش الصبى ، سبلا : واحدها سبيل ، وهى الطريق ، بقدر : أي بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة ، فأنشرنا : أي أحيينا ، ميتا :

أي خالية من النبات ، الأزواج : أصناف المخلوقات ، لتستووا على ظهوره : أي لتستقروا عليها ، سخر : ذلل ، مقرنين : أي مطيقين ، قال قطرب وأنشد قول عمرو بن معديكرب :

لقد علم القبائل ما عقيل

لنا فى النائبات بمقرنينا

٧٠

وقول الآخر :

ركبتم صعبتى أشر وحيف

ولستم للصعاب بمقرنينا

لمنقلبون : أي راجعون.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن المشركين منهمكون فى كفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن من توحيد الله والبعث ـ أبان هنا أن أفعالهم تخالف أقوالهم ، فإن سألتهم عن الخالق لهذا الكون من سمائه وأرضه ليقولن : الله ، وهم مع اعترافهم به يعبدون الأوثان والأصنام ، ثم ذكر سبحانه جليل أوصافه ، فأرشد إلى أنه هو الذي جعل الأرض فراشا ، وجعل فيها طرقا ، لتهتدوا بها فى سيركم ، ونزّل من السماء ماء بقدر الحاجة يكفى زرع النبات وسقى الحيوان ، وخلق أصناف المخلوقات جميعا من حيوان ونبات ، وسخر لكم السفن والدواب لتركبوها وتشكروا الله على ما آتاكم ، وتقولوا : لو لا لطف الله بنا ما كنا لذلك بمطيقين ، وإنا يوم القيامة إلى ربنا راجعون ، فيجازى كل نفس بما كسبت ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

الإيضاح

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين من قومك : من خلق السموات والأرض؟ لأجابوك : خلقهن العزيز فى سلطانه وانتقامه من أعدائه ، العليم بهن وما فيهن لا يخفى عليه شىء من ذلك.

والخلاصة ـ إنهم يعترفون بأنه لا خالق لهما سواه ، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأوثان.

٧١

ثم دل على نفسه بذكر مصنوعاته فقال :

(١) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي والعزيز العليم هو الذي مهد لكم الأرض وجعلها لكم وطاء تطئونها بأقدامكم ، وتمشون عليها بأرجلكم ، وجعل لكم فيها طرقا تنتقلون فيها من بلد إلى آخر ، ومن إقليم إلى إقليم لمعاشكم ومتاجركم وابتغاء رزقكم.

والخلاصة ـ إن الخلق كلهم يتربّون على الأرض وهى موضع راحتهم كما يربى الصبى على مهده.

(٢) (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وهو الذي ينزل من السماء ماء بقدر الحاجة ، فلا يجعله كثيرا حتى لا يكون عذابا كالصوفان الذي أنزل على قوم نوح ، ولا قليلا لا يكفى النبات والزرع ، لئلا تهلكوا جوعا ، فتحيا به الأقاليم التي كانت خالية من النبات والشجر.

وكما أحيينا الأرض بعد موتها بالماء نحييكم ونخرجكم من قبوركم أحياء.

(٣) (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي وهو الذي خلق سائر الأصناف مما تنبت الأرض من نبات وأشجار وثمار وأزاهير ، ومن الحيوان على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها.

(٤) (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي وهو الذي جعل لكم من السفن ما تركبونه فى البحار إلى حيث تقصدون لمعايشكم ومتاجركم ، ومن الأنعام ما تركبونه فى البر كالخيل والبغال والحمير ، ومما سيجدّ من وسائل المواصلات وطرق النّقلة برّا وبحرا كما جاء فى سورة النحل من قوله تعالى : «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ».

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي لكى تستووا على ظهور ما تركبون من

٧٢

الفلك والأنعام ، ثم تذكروا نعمة ربكم الذي أنعم به عليكم ، فتعظموه وتمجّدوه وتقولوا تنزيها له عما يصفه المشركون : سبحان الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه ، وما كنا لو لا تسخيره وتذليله بمطيقين ذلك ، فالأنعام مع قوّتها ذللها للانسان ينتفع بها حيث شاء وكيفما أراد ، ولو لا ذلك ما استطاع الانتفاع بها ، ولقد أشار إلى نحو من هذا العباس ابن مرداس فقال فى وصف الجمل :

وتضر به الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير

واعلم أنه سبحانه عيّن ذكرا خاصا حين ركوب السفينة وهو قوله : «بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها» وذكرا آخر حين ركوب الأنعام وهو قوله : «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» وذكرا ثالثا حين دخول المنازل وهو قوله : «رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».

أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).

قال القرطبي : علّمنا سبحانه وتعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب ، وعرّفنا فى آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن ، فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت أو طاح عن ظهرها فهلك ، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق.

فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور ، واتصالا بسبب من أسباب التلف ، أمر ألا ينسى عند اتصاله به موته وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منقلت من قضائه ، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدّا للقاء الله ، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته فى علم الله وهو غافل عنه اه.

ولأجل ما تقدم أشار بقوله :

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي وإنا لصائرون إلى ربنا بعد مماتنا ، فيجازى

٧٣

كل نفس بما عملت ، فاستعدوا لهذا اليوم ، ولا تغفلوا عن ذكره فى حلّكم وترحالكم ، يوم ظعنكم ويوم إقامتكم.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

تفسير المفردات

جزءا : أي ولدا ؛ إذ قالوا الملائكة بنات الله ، وعبر عن الولد بالجزء ، لأنه بضعة ممن ولد له ؛ كما قال شاعرهم :

إنما أولادنا أكبا

دنا تمشى على الأرض

٧٤

مبين : أي ظاهر الكفر ، من أبان بمعنى ظهر ، أصفاكم : أي اختار لكم ، ضرب : أي جعل ، مثلا : أي شبها أي مشابها بنسبة البنات إليه ، لأن الولد يشبه الوالد ، كظيم : أي ممتلىء غيظا وغما ، ينشّأ : أي يربّى ، فى الحلية : أي فى الزينة ، الخصام : أي الجدل ، غير مبين : أي غير مظهر حجته لعجزه عن الجدل ، يخرصون : أي يكذبون ، مستمسكون : أي متمسكون ومعوّلون ، على أمة : أي على طريقة خاصة ، مترفوها : أي أهل الترف والنعمة فيها الذين أبطرتهم الشهوات ، فلا ينظرون إلى ما يوصلهم إلى الحق ، مقتدون : أي سالكون طريقتهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنهم يعترفون بالألوهية لله وأنه خالق السموات والأرض ، أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون ، فهم مع اعترافهم لله بخلق السموات والأرض يصفونه بصفات المخلوقين المنافية لكونه خالقا لهما ، إذ جعلوا الملائكة بنات له ولا غرو ، فالإنسان من طبعه الكفران وجحود الحق ، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفى الأولاد ، وما لو بشّر أحدهم به اسودّ وجها وامتلأ غيظا ، ومن يتربى فى الزينة وهو لا يكاد يبين حين الجدل ، فلا يظهر حجة ولا يؤيد رأيا ، واختاروا لأنفسهم الذكران ، ثم أعقبه بالنعي عليهم فى جعلهم الملائكة إناثا ، وزاد فى الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة ، فهل هم شهدوا ذلك؟ ثم توعدهم على هذه المقالة وأنه يوم القيامة يجازيهم بها.

ثم حكى عنهم شبهة أخرى ، قالوا : لو شاء الله ألا نعبد الملائكة ما عبدناها ، لكنه شاء عبادتها لأنها هى المتحققة فعلا فتكون حسنة ويمتنع النهى عنها ، ثم رد مقالهم بأن المشيئة إنما هى ترجيح بعض الأشياء على بعض ، ولا دخل لها فى حسن أو قبح وبعد أن أبطل استدلالهم العقلي نفى أن يكون لهم دليل نقلى على صحة ما يدّعون ،

٧٥

ثم أبان أن ما فعلوه إنما هو بمحض التقليد عن الآباء دون حجة ولا برهان ، وهم ليسوا ببدع فى ذلك ، فكثير من الأمم قبلهم قالوا مثل مقالهم ، مع أن الرسل بينوا لهم الطريق السوىّ فكفروا به واتبعوا سنن من قبلهم حذو القذّة بالقذّة ، فكان عاقبة أمرهم أن حلّ بهم نكالنا كما يشاهدون ويرون من آثارهم.

الإيضاح

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي وأثبتوا لله ولدا ، إذ قالوا الملائكة بنات الله قاله مجاهد والحسن ، والولد جزء من والده كما قال عليه السّلام «فاطمة بضعة منى».

وإن مقالهم هذا يقتضى الكفر من وجهين :

(١) كون الخالق جسما محدثا لمشابهة الولد له ، فلا يكون إلها ولا خالقا.

(٢) الاستخفاف به ، إذ جعلوا له أضعف نوعى الإنسان وأخسهما.

ثم أكد كفرهم بقوله :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي إن الإنسان لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه ، ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره.

ثم زاد فى الإنكار عليهم والتعجب من حالهم فقال :

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي هل اتخذ سبحانه من خلقه أخسّ الصنفين لنفسه ، واختار لكم أفضلهما؟ وكأنه قيل : هبو أنه اتخذ ولدا فأنتم قد ركبتم شططا فى القسمة فادعيتم أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما ، فما أنتم إلا حمقى جهلاء.

ونحو الآية قوله : «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» ـ جائرة ـ.

ثم زاد فى التوبيخ والإنكار بقوله :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)

٧٦

أي وإذا بشر أحد هؤلاء بما نسبوه لله من البنات أنف وعلته الكآبة والحزن من سوء ما بشر به وتوارى من القوم خجلا.

روى أن بعض العرب وضعت امرأته أنثى فهجر البيت الذي ولدت فيه فقالت :

ما لأبى حمزة لا يأتينا

يظلّ فى البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا

وليس لنا من أمرنا ماشينا

وإنما نأخذ ما أعطينا

ثم كرر الإنكار وأكده فقال :

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي أو قد جعلوا لله الأنثى التي تتربى فى الزينة ، وإذا خوصمت لا تقدر على إقامة حجة ولا تقرير دعوى ، لنقصان عقلها وضعف رأيها؟ وما كان ينبغى لهم أن يفعلوا ذلك.

وفى قوله (يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) إيماء إلى ما فيهنّ من الدعة ورخاوة الخلق بضعف المقاومة الجسمية واللسانية ، كما أن فيه دلالة على أن النشوء فى الزينة ونعومة العيش من المعايب والمذامّ للرجال ، وهو من محاسن ربات الحجال ، فعليهم أن يجتنبوا ذلك ويأنفوا منه ويربئوا بأنفسهم عنه ، قال شاعرهم :

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جرّ الذيول

وروى عن عمر أنه قال : «اخشوشنوا فى الطعام ، واخشوشنوا فى اللباس ، وتمعددوا» أي تزيّوا بزىّ معدّ فى تقشفهم.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي سموهم وحكموا لهم بذلك ، وفى هذا كفر من وجوه ثلاثة :

(١) إنهم نسبوا إلى الله الولد.

(٢) إنهم أعطوه أخس النصيبين.

(٣) إنهم استخفوا بالملائكة بجعلهم إناثا.

٧٧

وقد رد الله عليهم مقالهم فقال :

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟) أي أحضروا خلق الله لهم ، فشاهدوهم بنات حتى يحكموا بأنوثتهم؟.

ونحو الآية قوله : «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ».

وفى هذا تجهيل شديد لهم ، ورمى لهم بالسفه والحمق.

ثم توعدهم على مقالهم فقال :

(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها فى الدنيا فى ديوان أعمالهم ، ويسألون عنها يوم القيامة ليأتوا ببرهان على صحتها ، ولن يجدوا لذلك سبيلا.

وفى هذا دليل على أن القول بغير برهان منكر ، وأن التقليد لا يغنى من الحق شيئا.

ثم حكى عنهم فنّا آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء والسخرية فقال :

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي وقالوا لو شاء الله لحال بيننا وبين عبادة الأصنام التي هى على صورة الملائكة ، فإنه تعالى عالم بذلك وهو قد أقرّنا عليه.

وقد جمعوا فى هذا أفانين من الكفر وضروبا من الترهات والأباطيل ، منها :

(١) إنهم جعلوا لله ولدا تقدس سبحانه وتنزه عن ذلك.

(٢) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ، إذ جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.

(٣) عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله ، بل بالرأى والهوى والتقليد للأسلاف.

(٤) احتجاجهم بتقدير الله ذلك ، وقد جهلوا فى هذا جهلا كبيرا ، فإنه تعالى أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار ، وهو منذ أن بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته

٧٨

وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة سواه كما قال : «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» وقال : «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ؟».

ثم رد عليهم مقالهم وبيّن جهلهم بقوله :

(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم على ما قالوا ، دليل ولا برهان يستندون إليه فى تأييد دعواهم.

ثم أكد هذا الردّ بقوله :

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا كاذبون فيما قالوا ، متمحلون تمحلا باطلا ، متقوّلون على الله ما لم يقله.

وبعد أن بين بطلان قولهم بالعقل أتبعه ببطلانه بالنقل فقال :

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي بل أأعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بصحة ما يدّعون ، فهم بذلك الكتاب متمسكون ، وعليه معوّلون.

والخلاصة ـ إنه لا كتاب لهم بذلك.

ولما بين أنه لا حجة لهم على ذلك من عقل ولا نقل ـ ذكر أن الحامل لهم على ما جنحوا إليه إنما هو التقليد فقال :

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي ليس لهم مستند على ما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد ، وقد قالوا إنهم أرجح منا أحلاما وأصح أفهاما ، ونحن سائرون على طريقتهم ، وسالكون نهجهم ، ولم نأت بشىء من عند أنفسنا ، ولم نغلط فى الأتباع واقتفاء الآثار ، كما قال قيس بن الخطيم :

كنا على أمّة آبائنا

ويقتدى بالأول الآخر

٧٩

والخلاصة ـ إنهم اعترفوا بأن لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث النقل ، وإنما يستندون إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم.

ثم بين سبحانه أن مقال هؤلاء قد سبقهم إلى مثله أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل فقال :

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي ومثل هذا المقال المتناهي فى الشناعة قالت الأمم الماضية لإخوانك الأنبياء ، فلم نرسل قبلك فى قرية رسولا إلا قال رؤساؤها وكبراؤها : إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين ، وإنا على منهاجهم سائرون ، نفعل مثل ما فعلوا ، ونعبد ما كانوا يعبدون.

فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع فى الأمم ، فهم قد سلكوا نهج من قبلهم من أهل الشرك فى جواباتهم بما أجابوك به ، واحتجاجهم بما احتجوا به لمقامهم على دينهم الباطل.

ونحو الآية قوله : «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ».

وإنما قال أولا : مهتدون ، وثانيا : مقتدون ، لأن الأول وقع فى محاجتهم النبي صلى الله عليه وسلّم وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين وأنهم مهتدون كآبائهم ، فناسبه (مُهْتَدُونَ) والثاني وقع حكاية عن قوم ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء فناسبه (مُقْتَدُونَ).

(وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم ودلالة على أن التقليد فى نحو ذلك ضلال قديم ، وتخصيص المترفين بالذكر للاشعار بأن الترف هو الذي أوجب البطر وصرفهم عن النظر إلى التقليد.

٨٠