تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

لا يريد بمقالة إثبات الخذلان وعمى القلب ، بل يريد استبعاد الخيانة من مثله ، وأن من نسبه إلى ذلك فقد ركب شططا ، وأتى أمرا إدّا ، وقال قولا نكرا.

ثم أكد استبعاد الافتراء منه وزاده إيضاحا فقال :

(وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي كيف يكون منه الافتراء على الله ، وقد جرت سنته تعالى أن يمحو الباطل ويمحقه ويثبت الحق وينشره بين الناس ، وها هو ذا يزداد ما أوتيه محمد كل يوم قوة وانتشارا ، فلو كان مفتريا كما تدّعون لكشف افتراءه ومحقه ، وقذف بالحق على باطله فدمغه.

وقد يكون المعنى ـ إن هذه عدة من الله لرسوله بالنصر ويكون المراد ـ يمحو الله باطلهم وما بهتوك به ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بقضائه الذي لا مرد له ، فيكون هذا كلاما معترضا بين ما قبله وما بعده مؤكدا لما سبق من الكلام من كونهم مبطلين فى نسبة الافتراء إلى من هو أصدق الناس حديثا.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تكنّه الضمائر ، وتنطوى عليه السرائر ، وتجرى الأمور بحسب علمه الواسع المحيط بكل شىء.

ثم امتنّ على عباده بقبول توبتهم إذا هم تابوا ورجعوا إليه فقال :

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عما فرط منهم من الذنوب ، واقترفوا من السيئات.

والتوبة الندم على المعصية ، والإقلاع عنها ، والعزم على عدم العودة إليها ، وهذه شروط ثلاثة فيما بين العبد وربه ، فإذا كملت صحت التوبة ، وإن فقد واحد منها لم تكن توبة صحيحة ، أما فيما يتعلق بحقوق العباد فيزاد على ذلك أن يبرأ من حق صاحبها.

٤١

ومن علامات التوبة النصوح ـ صدق العزيمة على ترك الذنب ، وألا يجد له حلاوة فى قلبه عند ذكره.

وقد ورد فى الحضّ على التوبة كثير من الأحاديث فى الصحيحين وغيرهما ، فمن ذلك :

(١) ما رواه أبو هريرة من قوله صلّى الله عليه وسلّم «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالّته فى المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش».

(٢) ما رواه جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال : اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك وكبّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علىّ كرم الله وجهه : إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى التوبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال التوبة اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، وإذابتها فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.

(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي يقبل التوبة فى المستقبل ويعفو عن السيئات فى الماضي.

(وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي ويعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان خيرا أو شرا ، فيجازى بالثواب والعقاب ، أو يتجاوز بالعفو بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.

وفى هذا حث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له وإمحاض التوبة.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ويجيب الذين آمنوا إذا دعوه ، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه بالدعاء.

وبعد أن ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب أردف ذلك ما أعده للكافرين من العذاب فقال :

٤٢

(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والكافرون يوم القيامة لهم عذاب مؤلم موجع ، فالمؤمنؤن قد تقبل دعاءهم وزادهم من فضله ، وهؤلاء لا يستجيب لهم دعاء «وما دعاء الكافرين إلّا فى ضلال».

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

تفسير المفردات

البسط : السعة ، والبغي : الظلم ومجاوزة الحد ، بقدر : أي بتقدير ؛ يقال قدره قدرا وقدرا إذا قدّره ، والغيث : المطر ، وقنط : يئس ، ورحمته : هى منافع الغيث وآثاره التي تعم الحيوان والنبات والسهل والجبل ، والولي : هو الذي يتولى عباده

٤٣

بالإحسان ، الحميد : أي المستحق للحمد على نعمه ، بث : نشر وفرّق ، والدابة : كل ماله دبيب وحركة ، على جمعهم : أي حين الحشر والحساب : بمعجزين : أي بجاعلين الله تعالى عاجزا بالهرب منه ، والجواري : أي السفن الجارية ، والأعلام : واحدها علم : وهو الجبل ، قالت الخنساء فى رثاء أخيها صخر :

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم فى رأسه نار

يسكن الريح : أي يجعلها ساكنة لا تموج ، رواكد : أي ثوابت ، والصبار : كثير الصبر وهو حبس النفس حين الشدائد عن الجزع وعن التوجه إلى من لا ينبغى التوجه إليه ، وشكور : أي كثير الشكر للنعم ، يوبقهن : أي يهلكهن ؛ يقال للمجرم أوبقته ذنوبه : أي أهلكته ، محيص : أي مهرب ومخلص.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه يجيب دعاء المؤمنين إذا هم أنابوا إليه وأخبتوا ذكر هنا أنه لا يعظيهم كل ما يطلبون من الأرزاق ، بل ينزلها بقدر بحسب ما يعلم من مصلحتهم ، فإن كثرة الرزق تجعل الناس يتجبرون ويتكبرون ، والله هو الخبير بما يصلح حالهم من فقر وغنى.

قال خبّاب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية ، نظرنا إلى أموال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنيناها.

ثم أعقب هذا بأنهم إذا احتاجوا إلى الرزق لا يمنعه منهم وهو المتولى أمورهم بإحسانه ، المحمود على ما يوصل للخلق من صنوف الرحمة ، ثم أقام الأدلة على ألوهيته يخلقه للسموات والأرض وما فيهما من الحيوان ، ثم جمعهم للحساب يوم القيامة ، ثم ذكر أن ما يصيب الإنسان من نكبات الدنيا من الأمراض والأسقام والفقر والغنى فيكسب الإنسان واختياره كما دلت على صدق ذلك التجارب ، ثم أعقب ذلك بآية أخرى على

٤٤

ألوهيته وهى جريان السفن فى البحار ، فتارة يجعل الريح ساكنة فتظل السفن على سطحها ، وأخرى تعصف الرياح فتفرقها أو تنجو بحسب تقديره تعالى.

الإيضاح

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي ولو أعطى عباده من الرزق فوق حاجتهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان وطلب ما ليس لهم طلبه ، لأن الغنى مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة لمن اعتبر ، ولكن يرزقهم ما فيه صلاحهم وهو أعلم بحالهم ، فيغنى من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر بحسب ما يعلم من المصلحة فى ذلك كما ورد فى الأثر «إن من عبادى من لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».

والخلاصة ـ إنه تعالى خبير بما يصلح عباده من توسيع الرزق وتضييقه ، فيقدر لكل منهم ما يصلحه ، فيبسط ويقبض ، ويعطى ويمنع ، ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا.

فنظام العالم لا يستقر إلا على هذا الوضع القائم الجامع بين الأمرين ، فخوف الأغنياء يزعهم عن الظلم ، وخوف الفقراء من الأغنياء يدعوهم إلى التعاون معهم ، ليفوزوا بمبتغاهم ويزعهم عن البغي.

عن أبى هانىء الخولاني قال : سمعت عمرو بن خريت وغيره يقولون : «إنما نزلت هذه الآية فى أهل الصّفّة ، فإنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا». رواه السيوطي بسند صحيح.

٤٥

قال قتادة : كان يقال : خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك.

وبعد أن بين أنه لا يعطى عباده ما زاد على حاجتهم ، لأنه يعلم أن الزيادة تضرهم فى دينهم ـ ذكر أنهم لو احتاجوا إلى الغيث فهو لا يمنعه عنهم فقال :

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي وهو الذي ينزل المطر من السماء فيغيثهم به من بعد يأسهم من نزوله حين حاجتهم إليه ، وينشر بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب ، وهو الذي يتولى عباده بإحسانه ويحمد على ما يوصله إليهم من رحمته.

قال قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه : قحط المطر وقنط الناس يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : مطرتم ثم قرأ الآية.

ثم أقام الأدلة على ألوهيته فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر ـ خلق السموات والأرض وما نشر فيهما من دابة تدبّ وتتحرك ، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم.

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي وهو يجمعهم يوم القيامة ، فيجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق فى صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل وهو اللطيف الخبير.

وقصارى ذلك ـ إنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة إذا شاء جمعه ، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه.

ثم ذكر دستورا للناس فى أعمالهم إذا تأملوه أفعلوا عما يرتكبونه من الآثام فقال :

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي وما يحل بكم أيها الناس من المصايب فى الدنيا ، فإنما تصابون به عقوبة لكم على ما اجترحتم

٤٦

من الآثام ، واقترفتم من الشرور والمعاصي ، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم فلا يعاقبكم بها.

فالله سبحانه جعل الذنوب أسبابا لها نتائجها ومسبباتها : فشارب الخمر يصاب بكثير من الأمراض الجسمية والعقلية فى الدنيا وهى أثر من آثار ما اجترح من الذنب. والتاجر غير الأمين أو الكذاب تصاب تجارته بالكساد ويشهر بين الناس بالخيانة فيحجمون عن معاملته. والحكام المرتشون الظلمة الذين يجمعون أموالهم بالسحت يصابون بالفقر والعدم ويصبحون مثلا بين الناس ، وإن لم يصبهم الفقر بصب أولادهم فيصبحوا بحال يرثى لها ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة. والأمم الظالمة التي لا تناصر بين أفرادها ، بل بينها التقاطع ، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر ، تصاب بالمهانة بعد العظمة والذلة بعد العزة ، وما الأمثال فى ذلك بعزيزة ، فها هى ذى الأمم الشرقية إنما أصابها ما أصابها من الضعف والخمول والاضمحلال ثم الزوال من صفحة الوجود بما اجترحت من ظلم وإفساد فى الأرض ، وأكل بعضها أموال بعض واحتجان عظمائها الأموال فى خزائنهم ، وابتزازها من أيدى الضعفاء ؛ وقد اقتص الله لهم منهم ، فأضاع ملكهم ، وأذهب ريحهم ، وجعلهم لقمة سائغة للمستعمرين الذين تحكموا فيهم وجعلوهم كالعبيد ، يتصرفون فيهم بحسب أهوائهم ، وما تمليه عليهم مصالحهم ، وما يدرّ عليهم الخير لبلادهم وشعوبهم.

وفى هذا عبرة لمن ادّكر ، وقد تقدم أن قلنا فى غير موضع إن عقاب الأفراد فى الدنيا ليس بالمطرد ، إذ كثيرا ما نرى سكيرا عربيدا لا يصاب بأذى مما يفعل ، ونرى تاجرا يخون الأمانة ولا يصاب بكساد فى تجارته ، وحينئذ يكون عقاب كل منهما مؤجلا ليوم الحساب إن شاء ربك عاقب ، وإن شاء عفا بعد التوبة عما فرط منهما من الذنوب والآثام.

أما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات فهو محقق فى الدنيا ، ولدينا عظة التاريخ فى القديم والحديث ، فما من أمة تركت أوامر دينها وخالفت نواميس العمران ،

٤٧

إلا زالت وصارت كأمس الدابر ، وأصبحت عبرة للباقين ، ومثلا للآخرين ، فالرومان والفرس والعرب فى الشرق وفى الأندلس والترك ـ مثل ماثلة أمامنا تجلّى لنا تلك القضية «فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ».

ونحو الآية قوله تعالى : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» وفى الحديث الصحيح «والذي نفسى بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها».

ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر».

وروى الترمذي وجماعة عن علىّ كرم الله وجهه قال : «ألا أخبركم بأفضل آية فى كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال وسأفسرها لك يا على : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء فى الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثّنى عليكم العقوبة فى الآخرة ، وما عفا الله تعالى عنه فى الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه» والآثار فى هذا الباب كثيرة.

والخلاصة ـ إنه يكفّر عن العبد بما يصيبه من المصايب ، ويعفو عن كثير من الذنوب ؛ وقد ثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان فى الدنيا يؤجر عليه أو يكفّر عنه من ذنوبه.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي وإنكم لا تعجزون الله حيثما كنتم ، فلا تسبقونه بهربكم منه فى الأرض حتى لا تنالكم المصايب ، بل هى لا حقة بكم أينما تكونوا ، والخلاصة ـ إن ما قضاه الله عليكم واقع بكم لا محالة ولا مفرّ منه.

٤٨

وبعد أن نفى المهرب مما قدّر نفى النصير والمعين الذي يمنع حلول المقدور فقال :

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لكم من دون الله ولىّ يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم ، ولا لكم نصير ينصركم إذا هو عاقبكم ، فينتصر لكم ، فاحذروا معاصيه واتقوا مخالفة أوامره ، فإنه لا دافع لعقوبته إذا أحلها بعبد من عباده.

ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات عظمته الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن دلائل قدرته ، وباهر حكمته ، وعظيم سلطانه ـ تسخيره البحر لتجرى فيه الفلك بأمره كالجبال الشاهقة ، والمدن العالية.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يشأ الله الذي قد أجرى هذه السفن فى البحر ألا تجرى فيه. أسكن الريح التي تجرى بها ، فتثبت فى موضع واحد وتقف على ظهر الماء لا تتقدم ولا تتأخر.

ثم أتى بجملة معترضة بين ما مضى وما سيأتى فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى جرى هذه الجواري فى البحر بقدرته تعالى ـ لحجة بينة على قدرته على ما يشاء ، لكل ذى صبر على طاعته ، شكور لنعمه وأياديه عنده.

والمؤمن إذا كان فى ضراء كان من الصابرين ، وإذا كان فى سرّاء كان من الشاكرين ، وقال عون بن عبد الله : فكم من منعم عليه غير شاكر ، وكم من مبتلى غير صابر ، وقال قطرب : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر ، وإذا ابتلى صبر. وقد قيل : الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق السفن بذنوب راكبيها ، ولكنه يعفو عن كثير من ذنوبهم ، ولو آخذهم بجميع ما يجترحون منها لأهلك كل من ركب البحر ..

(٤ ـ مراغى ـ الخامس والعشرون)

٤٩

والخلاصة ـ إنه لو شاء أسكن الريح فوقفت السفن رواكد على ظهر البحر ، ولو شاء لأرسلها عاتية قويّة فاخرتها عن سيرها ، وصرّفتها ذات اليمين وذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا تصل إلى مقصد حتى تغرق ، ولكن من رحمته ولطفه يرسلها بقدر الحاجة لينتفع بها الملاحون لقضاء أوطارهم.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وليعلم الذين ينازعون فى آياتنا على جهة التكذيب لها أنه لا مخلص لهم إذا وقفت السفن أو إذا عصفت الريح ، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن النافع الضارّ ليس إلا الله تعالى.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))

تفسير المفردات

آتاه الشيء : أعطاه إياه ، والمتاع : ما ينتفع ويتمتع به من رياش وأثاث ونحوهما ، يتوكلون : يفوّضون إليه أمورهم ، كبائر الإثم : هى كل ما يوجب حدّا ، والفواحش : هى ما فحش وعظم قبحه كالزنا والقتل ونحوهما ، واستجابوا : أي أجابوا داعى الله ، فأدّوا فرائضه ، وتركوا نواهيه ، والشّورى والمشاورة : المراجعة فى الآراء ، ليتبين الصواب منها ، والبغي : الظلم ، ينتصرون : أي ينتقمون.

٥٠

المعنى الجملي

بعد أن ذكر دلائل توحيده وعظيم قدرته وسلطانه بخلق السموات والأرض وجرى السفن ماخرات فى البحار ـ أردف ذلك التنفير من الدنيا وزخرفها ، لأن المانع من النظر فى الأدلة إنما هو الرغبة فيها طلبا للرياسة والجاه ، فإذا صغرت الدنيا فى عين المرء لم يلتفت إليها ، وانتفع بالأدلة ووجّه النظر إلى ملكوت السموات والأرض ، ثم أبان أن ما عند الله خير لمن آمن به ، وتوكل عليه ، واجتنب كبائر الذنوب والفواحش ، وكان منقادا له مطيعا لأوامره ، تاركا لنواهيه ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، ولم يبرم أمرا إلا بعد مشورة ، وانتصر لنفسه ممن ظلمه.

الإيضاح

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وكل ما تعطونه أيها الناس من الغنى والسعة فى الرزق والمال والبنين ، فهو متاع قليل ، تتمتعون به فى مدى قصير ، يذهب وينقضى ، ولله در القائل :

إنما الدّنيا فناء

ليس للدنيا ثبوت

إنما الدنيا كبيت

نسجته العنكبوت

وفى هذا تحقير لشأن هذه الحياة وزينتها وما فيها من النعيم الزائل.

ثم رغبهم فى ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال :

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وما عند الله من الثواب والنعيم خير من زهرة الدنيا ، لأنه باق سرمدىّ ، وما فيها زائل فان ، والعقل قاض بترجيح الباقي على الفاني.

ثم بين أنه لا يكون خيرا إلا لمن اتصف بصفات :

(١) (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للذين صدقوا الله وآمنوا برسوله.

٥١

(٢) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي وعلى من ربّاهم على إحسانه يعتمدون ، ويفوضون إليه أمورهم ، ولا يلتفتون إلى غيره فى مهامّ أمورهم. روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين تصدق بماله فلامه المسلمون وخطأه الكافرون.

(٣) (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) أي والذين يتباعدون عن ارتكاب كبائر الآثام كالقتل والزنا والسرقة ، وعن الفواحش التي ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم ، من قول أو فعل.

(٤) (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي وإذا ما غضبوا كظموا غيظهم ، إذ من سجاياهم الصفح والعفو ، وليس من طباعهم الانتقام ؛ وقد ثبت فى الصحيح «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تتهك حرمات الله».

(٥) (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه ، من توحيده والبراءة من عبارة كل ما يعبد من دونه.

(٦) (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة فى أوقاتها على أكمل وجوهها ، وخص الصلاة من بين أركان الدين ، لما لها من الخطر فى صفاء النفوس ، وتزكية القلوب ، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

(٧) (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم ، ليقتلوه بحثا وتمحيصا ، ولا سيما الحروب ونحوها.

وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه فى الكثير من الأمور ، ولم يكن يشاورهم فى الأحكام ، لأنها منزلة من عند الله ، أما الصحابة فكانوا يتشاورون فيها ، ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة ، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينص عليها حتى انتهى أمرهم إلى تولية أبى بكر ، وتشاوروا فى قتال من ارتدوا بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فاستقرّ رأى أبى بكر على القتال ، وقد كان فيه الخيرة للاسلام والمسلمين ، وشاور عمر رضى الله عنه الهرمزان حين وقد عليه مسلّما.

٥٢

ونحو الآية قوله : «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. وقال ابن العربي : الشورى ألفة للجماعة ، وصقال للعقول ، وسبب إلى الصواب ، وما تشاور قوم قط إلا هدوا. ولأمر ما أصبحت الحكومات فى العصر الحاضر لا تبتّ فى مهام الأمور إلا إذا عرضت على مجالس الشورى (البرلمان ـ مجلس الشيوخ والنواب) وكأنى بك قد سمعت قول بشار بن برد فى فوائد الشورى :

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن

برأى لبيب أو مشورة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة

قريش الخوافي قوة للقوادم

وما خير كف أمسك الغلّ أختها

وما خير كف لم تؤيد بقائم

(٨) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما آتاهم ربهم فى سبل الخير ، والبذل فيما فيه منفعة للفرد والمجتمع ، ورفعة الأمة وعلوّ شأنها وعزها.

(٩) (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي والذين إذا بغى عليهم باغ ينتصرون ممن ظلمهم من غير تعدّ عليه.

والمؤمنون فريقان :

(١) فريق يعفو اتباعا لقوله تعالى : «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وقوله : «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» وقوله : «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ».

(ب) فريق ينتصر ممن ظلمه وهو المذكور فى هذه الآية.

والخلاصة ـ إن العفو ضربان :

(١) ضرب يكون فيه العفو سببا لتسكين الفتنة ، وتهدئة النفوس ، ومنع استفحال الشر ، وهذا محمود وحثت عليه الآيات الكريمة التي ذكرت آنفا.

(٢) ضرب يكون فيه العفو سببا لجراءة الظالم وتماديه فى غيّه ، وهذا مذموم وعليه تحمل الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

٥٣

فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ، والانتصار من المخاصم المصرّ على جرمه والمتمادى فى غيّه محمود ، وإلى هذا أشار المتنبي بقوله :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

فوضع الندى فى موضع السيف بالعلا

مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

تفسير المفردات

السيئة : مأخوذة من السوء ، وهو القبيح ، وانتصر : أي سعى فى نصر نفسه بجهده ، من سبيل : أي من عقاب ولا عتاب ، لمن عزم الأمور : أي لمن الأمور المشكورة والأفعال التي ندب إليها عباده ، ولم يرخّص بالتهاون فيها.

المعنى الجملي

بعد أن مدح فيما سلف الذين ينتصرون لأنفسهم ممن بغى عليهم ـ أردف ذلك ما يدل على أن ذلك الانتصار مقيد بالمثل ، لأن النقصان حيف ، والزيادة ظلم ، والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض ، ثم ندب إلى العفو والإغضاء

٥٤

عن الزلات ، ثم ذكر أنه لا مؤاخذة على من ينتصر لنفسه ، وإنما المؤاخذة على من يظلم الناس ، ويبغى فى الأرض بغير الحق ، وأن الصبر وغفران السيئة مما حث عليه الدين ، وأجزل ثواب فاعله.

الإيضاح

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما شرعه الله من عقوبة مماثلة لجرمه ، وسمى هذا الجزاء سيئة مع أنه عقوبة مشروعة من الله مأذون بها ، لأنها تسوء من تنزل به كما قال تعالى فى آية أخرى : «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» يريد ما يسوءهم من المصايب والبلايا.

وفى الآية حثّ على العفو ، لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة فى الجزاء ، وتقديرها عسر شاقّ ، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالما.

ونحو الآية قوله : «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» وقوله : «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ» وقوله «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها».

وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بردّ الشتم على الشاتم. أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة قالت : «دخلت علىّ زينب وعندى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبلت علىّ تسبنى فردعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم تنته ، فقال لى سبيها ، فسبيتها حتى جفّ ريقها فى فمها ، ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلل سرورا». وكان هذا بمنزلة التعزيز منه لزينب بلسان عائشة ، لما أن لها حقا فى الرد وقد رأى فيه المصلحة.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : المستبّان ما قالا من شىء فعلى البادي حتى يعتدى المظلوم ثم قرأ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)».

٥٥

وقصارى ذلك ـ إن كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا ، لأن إهدارها يوجب فتح باب الشرور والمفاسد ، إذ فى طبع الإنسان الظلم والبغي والعدوان ، فإذا لم يزدجر عنه تمادى فيه ولم يتركه ، والزيادة على قدر الذنب ظلم ، والشرائع تتنزه عن ذلك ، ومن ثم شرع الله القصاص ، وندب إلى الفضل وهو العفو فقال : «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» وجاء تتمة لهذه الآية.

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي فمن عفا عن المسيء وأصلح ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه ، فأجره على الله ، فيجزيه أعظم الجزاء.

وفى إبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه زيادة فى الترغيب فى العفو والحثّ عليه.

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادى : ألا ليقم من كان له على الله أجر فلا يقوم إلا من عفا فى الدنيا وذلك قوله : (فَمَنْ عَفا) الآية».

ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هى سبب الفوز والنجاة فقال :

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إنه تعالى لا يحب المتجاوزين الحد فى الانتقام ، وفى هذا تصريح بما تضمنه سالف الكلام من حسن رعاية طريق المماثلة وأنها قلّما تخلو من الاعتداء والتجاوز عن الواجب ، ولا سيما حال الحرد والتهاب الحميّة ، وحينئذ يدخل المنتقمون فى زمرة من لا يحبهم الله.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي والله لمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه ، فأولئك المنتصرون لا سبيل للمنتصر منهم أن يوجهو إليهم عقوبة ولا أذى لأنهم انتصروا منهم بحق ، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه ولم يتعدّ ـ لم يظلم فلا سبيل لأحد عليه.

٥٦

ولما نفى السبيل على من انتصر بعد ظلمه بيّن من عليه السبيل فقال :

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي إنما الحرج والإثم على الذين يبدءون الناس بالظلم ، أو يزيدون فى الانتقام ويتجاوزون ما حدّ لهم ، أو يتكبرون فى الأرض تجبرا وفسادا.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي هؤلاء لهم عذاب مؤلم بسبب بغيهم وظلمهم.

ثم رغب سبحانه فى الصبر والعفو فقال :

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي ولمن صبر عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى ، وستر السيئة ، فقد فعل ما يشكر عليه ، ويستحق به الأجر وجزيل الثواب.

روى «أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأبى بكر : يا أبا بكر ثلاث كلهن حق : ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضى عنها إلا أعزه الله تعالى بها ونصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة. وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزّ وجلّ بها قلة».

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)).

٥٧

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم على ما اجترحوا من البغي والعدوان بغير الحق ـ أردف ذلك بيان أن من أضله الله فلا هادى له ، وأن الكافرين حين يرون العذاب يوم القيامة يطلبون الرجوع إلى الدنيا ، وأنهم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء ينظرون من طرف خفى ، وأن الذين آمنوا يقولون إن الكافرين لفى خسران فقد أضاعوا النفس والأهل ، ولا يجدون لهم ناصرا يخلصهم مما هم فيه من العذاب.

الإيضاح

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي إنه ما شاء الله كان ولا رادّ له ، وما لم يشأ لم يكن ، فمن هداه الله فلا مضل له ، ومن يضلله فلا هادى له.

والخلاصة ـ إن من خذله الله لسوء استعداده وتدسيته نفسه باجتراح الآثام والمعاصي ، فليس له من ولىّ يهديه إلى سبيل الرشاد ، ويوصله إلى طريق الفوز والفلاح.

ونحو الآية قوله : «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً».

ثم ذكر تمنى الكافرين الرجوع إلى الدنيا فقال :

(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟) أي وترى الكافرين بالله حين يعاينون العذاب يوم القيامة يتمنّون الرجعة إلى الدنيا ويقولون : هل من رجعة لنا إليها؟

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».

٥٨

ثم ذكر حالهم حين يعرضون على النار فقال :

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي وتراهم أيضا فى ذلك اليوم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء (لأنهم عرفوا ذنوبهم وتكشفت لهم عظمة من عصوه) يسارقون النظر إليها خوفا منها ، وحذرا من الوقوع فيها ، كما ينظر من قدّم للقتل إلى السيف ، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه ، وإنما ينظر ببعضها.

ولما وصف حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ويقول المؤمنون يوم القيامة : إن المغبونين غبنا لا غبن بعده ـ هم الذين خسروا أنفسهم ، فأدخلوا فى النار ، وحرموا نعيم الأبد ، وفرّق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وذوى قراباتهم.

ثم صدّقهم ربهم فيما قالوا فقال :

(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي ألا إن الكافرين لفى عذاب سرمدىّ ، لا مهرب لهم منه ولا خلاص ، ثم أيأسهم من الفكاك منه بأى سبيل فقال :

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ولا يجدون لهم أعوانا وأنصارا ينقذونهم مما حل بهم من العذاب ، فأصنامهم التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم لا تستطيع أن تتقدم إليهم بشفاعة.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي ومن يضلله الله لما علم من استعداده للشر والفساد وارتكاب الشرور والآثام فلا سبيل له إلى الوصول إلى الحق فى الدنيا ولا إلى الجنة فى الآخرة.

٥٩

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

تفسير المفردات

استجيبوا لربكم : أي أجيبوه إذا دعاكم إلى ما فيه نجاتكم ، لا مردّ له : أي لا يرده أحد بعد ما حكم به ، ملجأ : أي ملاذ تلجئون إليه ، نكير : أي إنكار وجحود لما اقترفتم ، حفيظا : أي محاسبا لأعمالهم رقيبا عليها ، رحمة : أي نعمة من صحة وغنى ، سيئة : أي بلاء من فقر ومرض وخوف ، كفور : نسّاء للنعمة ذكّار للبلية ، يزوجهم أي يجعلهم جامعين بين البنين والبنات ، عقيما : أي لا يولد له.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما سيكون يوم القيامة من الأهوال وعظائم الأمور ـ حذر من هذا اليوم فبين أن الكافرين لا يجدون حينئذ ملجأ يقيهم من عذاب الله ، ولا ينكرون ما اقترفوه ، لأنه مكتوب فى صحائف أعمالهم ، ثم أرشد رسوله إلى أنهم إن أعرضوا عن دعوتك ، فلا تأبه بهم ، ولا تهتم بشأنهم ، ثم أعقب هذا بذكر طبيعة الإنسان ، وأنه يفرح حين النعمة ، ويجحد نعم ربه حين الشدة ، ثم قسم هبته لعباده فى النسل

٦٠