تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

وقد يكون المعنى ـ إن حكمه مردود إلى كتاب الله ، فقد اشتمل على الحكم بين عباده فيما فيه يختلفون ، فالآية عامة فى كل اختلاف يتعلق بأمر الدين وأنه مردود إلى كتاب الله.

ونحو الآية قوله : «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ».

وقد حكم سبحانه فى كتابه ، بأن الدين هو الإسلام ، وأن القرآن حق ، وأن المؤمنين فى الجنة والكافرين فى النار ، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون بأن ذلك حق إلا فى الدار الآخرة وعدهم بذلك يوم القيامة.

ثم أمره أن يقول لهم :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي ذلكم الموصوف بهذه الصفات ، من الإحياء والإماتة ، والحكم بين المختلفين ، هو ربى وحده ، لا آلهتكم التي تدعون من دونه ، عليه توكلت فى دفع كيد الأعداء وفى جميع شئونى ، وإليه أرجع فى كل المهمات ، وإليه أتوب من الذنوب.

وفى هذا تعريض لهم بأن ما هم عليه من اتخاذ غير الله وليّا لا يجديهم نفعا ، ولا يدفع عنهم ضرا ، فالأجدر بهم أن يقلعوا عنه ، إذ من شأن العاقل ألا يفعل إلا ما يفيده فى دين أو دنيا.

ثم بين الأسباب التي تحمله على أن يلتجىء إليه وتجعله الحقيق بذلك فقال :

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه الجدير بأن يعتمد عليه ، ويستعان به ، لأنه خالق العوالم جميعها ، علويها وسفليها ، على عظمتها التي ترونها ، لا آلهتكم التي لا تستطيع أن تخلق شيئا.

ثم بين بعض ما خلقه وأنعم به فقال :

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي ومن حكمته لبقاء العمران فى هذه الحياة إلى الأجل الذي حدده فى علمه ـ أن خلق لكم

٢١

من جنسكم زوجات ، لتتوالدوا ، ويكثر النسل ، ويستمر بقاء هذا النوع ، وجعل للأنعام مثل هذا ، وبذا تنتظم شئون الحياة لهذا الخليفة الذي جعله الله فى الأرض ، وتقضى مآربه الدنيوية من مأكول ومشروب ، وتستمر تغذيته على أتم النظم ، وأكمل الوجوه ، فيشكر ربه على ما أولى ، ويعبده على ما أنعم ، فيفوز بالسعادة فى الحياة الآخرة كما فاز بها فى الدنيا.

وقوله «فيه» أي فى هذا التدبير وهو التزويج ، فهو سبحانه جعل الناس والأنعام أزواجا ليكون بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، فيكون هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير فى النسل.

وبعد أن ذكر بعض صنعه الدال على عظمته أرشد إلى بعض صفاته العظيمة فقال :

(١) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس كخالق الأزواج شىء يزاوجه ، لأنه الفرد الصمد ، وقد يكون المعنى ليس مثله شىء فى شئونه التي يدبرها بمقتضى قدرته الشاملة ، وعلمه الواسع ، وحكمته الكاملة ، ومن ثم جعل هذا التدبير المحكم لإحاطة علمه بكل شىء.

(٢) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي وهو السميع لما ينطق به خلقه من قول ، البصير بأعمالهم لا يخفى عليه شىء مما كسبت أيديهم من خير أو شر.

(٣) (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى مفاتيح خزائن السموات والأرض فبيده مقاليد الخير والشر ، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك منها فلا مرسل له من بعده ، وقد بين هذا بقوله :

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويقتّر على من يريد ، بحسب السنن والنواميس التي وضعها بين عباده فى هذه الحياة.

ثم ذكر سبب هذا البسط والتقتير فقال :

(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بكل ما يفعله من توسعة على من يوسع

٢٢

عليه ، وتقتير على من يقتر عليه ، ومن الذي يصلحه البسط فى الرزق ، ومن الذي يفسده ، ومن الذي يصلحه التقتير ، ومن الذي يفسده ، لا يخفى عليه شىء من ذلك ، فيفعل كل ذلك على مقتضى حكمته الكاملة ، وقدرته الواسعة ، وعلمه المحيط.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

تفسير المفردات

أقيموا الدين : أي حافظوا عليه ، ولا تخلّوا بشىء من مقوّماته ، والمراد بالدين دين الإسلام ، وهو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله ، واليوم الآخر ، وسائر ما يكون به العبد مؤمنا ، ولا تتفرقوا فيه : أي ولا تختلفوا فيه ، فتأتوا ببعض وتتركوا بعضا ، كبر : أي عظم وشق عليهم ، يجتبى : أي يصطفى ، ينيب : أي يرجع ، والبغي : الظلم ومجاوزة الحد فى كل شىء ، لقضى بينهم : أي باستئصال المبطلين حين تفرقوا.

المعنى الجملي

بعد أن عظم وحيه إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، وأبان ماله من كبير الخطر حين نسبه إليه تعالى ، وأنه صادر من عزيز حكيم لا يوحى إلا بما فيه مصلحة البشر ومنفعتهم

٢٣

فى دينهم ودنياهم ـ ذكر هنا تفصيل هذا الوحى ، وأرشد إلى أنه هو الدين الذي وصى به أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة ؛ وأردف ذلك أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد وترك الأنداد والأوثان ، وأن الله يهدى من يشاء من عباده لهدى دينه ، وأنهم ما خالفوا الحق إلا بعد إبلاغه إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، وأنه ما حملهم على ذلك إلا البغي والعدوان والحسد ، وأنه لو لا الكلمة السابقة من الله بإنظار المشركين بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة فى الدنيا ، وأن من اعتنقوا الأديان من بعد الأجيال الأولى ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم ، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان ، وهم فى حيرة من أمرهم ، وشك مريب وشقاق بعيد.

الإيضاح

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) أي شرع لكم من الدين ما شرع لنوح ومن بعده من أرباب الشرائع وأولى العزم من الرسل ، وأمرهم به أمرا مؤكدا ؛ وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر ، لعلوّ شأنهم وعظيم شهرتهم ، ولاستمالة قلوب الكفار إلى أتباعه ، لاتفاق كلمة أكثرهم على نبوّتهم ، واختصاص اليهود بموسى عليه السّلام ، والنصارى بعيسى عليه السّلام ـ وإلا فكل نبى مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد ، وأصول الشرائع والأحكام مما لا يختلف باختلاف الأعصار كالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة واكتساب مكارم الأخلاق وفاضل الصفات.

وفى الآية إيماء إلى أن ما شرعه لهم صادر عن كامل العلم والحكمة ، وأنه دين قديم أجمع عليه الرسل ، وما أوحاه إليه هو إما ما ذكر فى صدر السورة ، وفى قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) الآية.

٢٤

وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع فى سائر المواضع التي من جملتها قوله تعالى : «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقوله : «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ».

ثم فصل ما شرعه بقوله :

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي اجعلوا هذا الدين وهو دين التوحيد والإخلاص لله قائما دائما مستمرا ، واحفظوه من أن يقع فيه زيغ أو اضطراب ، ولا تتفرقوا فيه ، بأن تأتوا ببعض وتتركوا بعضا ، أو بأن يأتى بعض منكم بهذه الأصول التي شرعت لكم ويتركها بعض آخر.

والنهى إنما هو عن التفرق فى أصول الشرائع ، أما التفاصيل فلم يتحد فيها الأنبياء كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً».

والخلاصة ـ إننا شرعنا لكم ما شرعنا للأنبياء قبلكم ، دينا واحدا فى الأصول وهى التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ، والتقرب بصالح الأعمال ، كالصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحرّمنا عليكم الزنا ، وإيذاء الخلق ، والاعتداء على الحيوان ـ فكل هذا قد اتحد فيه الرسل وإن اختلفوا فى تفاصيله.

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي شق على المشركين دعوتهم إلى التوحيد ، وترك عبادة الأصنام والأوثان ، وتقريعهم على ذلك ، لأنّهم توارثوا ذلك كابرا عن كابر ونقلوه عن الآباء والأجداد كما حكى سبحانه عنهم بقوله : «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ».

وبعد أن أرشد المؤمنين إلى التمسك بالدين ـ ذكر أنه إنما هداهم إلى ذلك ، لأنه اصطفاهم من بين خلقه فقال :

(اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي الله يصطفى من يشاء من عباده ويقربهم إليه تقريب الكرامة ، ويوفّق للعمل بطاعته واتباع ما بعث به

٢٥

نبيه عليه من الحق ـ من راجع التوبة من معاصيه ، وهذا كما روى فى الخبر «من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة» أي من أقبل إلىّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتى وإرشادى ، بأن أشرح له صدره ، وأسهّل له أمره.

ثم أجاب عن سؤال قد يخطر بالبال ، لما ذا صار الناس متفرقين فى الدين مع أنهم أمروا بالأخذ به وعدم التفرق فيه فقال :

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي وما تفرقت الأمم إلا من بعد ما علموا أن الفرقة ضلالة ، وقد فعلوا ذلك بغيا وطلبا للرياسة ، وللحميّة حمية الجاهلية التي جعلت كل طائفة تذهب مذهبا وتدعو إليه وتقبح ما سواه ، طلبا للأحدوثة بين الناس والسيطرة عليهم.

والخلاصة ـ إن الأمم قديمها وحديثها أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين وبلّغهم أنبياؤهم ذلك ، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بذلك ، بغيا وحسدا ، وعنادا ، وحبا للرياسة ، فدعت كل طائفة إلى مذهب ، وأنكرت ما عداه.

ثم ذكر أن هؤلاء كانوا يستحقون العذاب المعجل على سوء أفعالهم ، ولكن حكمته تعالى اقتضت تأخيره ليوم معلوم فقال :

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ... لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا الكلمة السابقة من ربك بإنظار حسابهم وتأخيره إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة فى الدنيا سريعا بما دسّوا به أنفسهم من كبير الآثام وقبيح المعاصي.

ثم ذكر أن تفرقهم فى الدين باق فى أعقابهم مضافا إليه الشك فى كتابهم مع انتسابهم إليه فقال :

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن أهل الكتاب الذين كانوا فى عهده صلّى الله عليه وسلّم وورثوا التوراة والإنجيل عن السابقين لهم فى شك من كتابهم ، إذ لم يؤمنوا به حق الإيمان ، فهم مقلدون أسلافهم بلا حجة ولا برهان ، وهم فى حيرة من أمرهم ، وشك أقضّ مضاجعهم ، وأوقعهم فى اضطراب وقلق.

٢٦

وقصارى ذلك ـ إنهم تفرقوا بعد العلم الذي حصل من النبي المبعوث إليهم المصدّق لكتابهم ، لأنهم شكوا فى كتابكم فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه من أمر ونهى.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

تفسير المفردات

ادع : أي إلى الائتلاف والاتفاق ، واستقم : أي اثبت على الدعاء كما أوحى إليك ، آمنت بما أنزل من كتاب : أي صدقت بجميع الكتب المنزلة ، لا حجة : أي لا احتجاج ولا خصومة :

المعنى الجملي

بعد أن أمرهم سبحانه فيما سلف بالوحدة فى الدين وعدم التفرق فيه ، وذكر أنهم قد تفرقوا فيه من بعد ما جاءهم العلم ، بغيا وحسدا ، وعنادا واستكبارا ـ أمر رسوله صلى الله عليه وسلّم بالدعوة إلى الاتفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها والدعوة إليها وألا يتبع أهواءهم الباطلة ، ثم أمره بالإيمان بجميع الكتب السماوية ، وبالعدل بين الناس والمساواة بينهم وبين نفسه ، فلا يأمرهم بما لا يعمله ، أو يخالفهم فيما نهاهم عنه ؛

٢٧

ثم أردف ذلك ببيان أن إلههم جميعا واحد ، وأن كل امرئ مسئول عن عمله ، وأن الله يجمع الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم.

وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشرة أوامر ونواه ، كل منها مستقل بذاته ودالّ على حكم برأسه ، ولا نظير لها فى ذلك سوى آية الكرسي فهى عشرة فصول أيضا.

الإيضاح

(فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فلأجل ذلك التفرق ، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر فى الأمم السالفة شعبا ـ ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ملة إبراهيم (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي واثبت أنت ومن اتبعك على عبادة الله كما أمركم.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء الذين شكّوا فى الحق الذي شرعه الله لكم ، من الذين أورثوا الكتاب من قبلكم فتشكّوا فيه كما شكّوا.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي وقل : صدّقت بجيمع الكتب المنزلة على الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم ، لا أكذّب بشىء منها.

وفى هذا تعريض بأهل الكتاب ، إذ صدقوا ببعض وكفروا ببعض ، وتأليف لقلوبهم ، إذ آمن بما آمنوا به.

(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي وأمرنى الله بما أمرنى به ، لأعدل بينكم فى الأحكام إذا ترافعتم إلىّ ، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه أو نقصان منه ، ولأبلّغ ما أمرنى تبليغه إليكم كما هو.

(اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي الله هو المعبود بحق لا إله غيره ، فنحن نقرّ بذلك اختيارا ، وأنتم وإن لم تفعلوه فله يسجد من فى السموات والأرض طوعا وجبرا.

(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا أعمالنا لا يتخطانا جزاؤها ، ثوابا كان أو عقابا ، ولكم أعمالكم لا ننتفع بحسناتكم ولا تضرنا سيئاتكم.

٢٨

ونحو الآية قوله : «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ».

(لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بيننا ولا احتجاج ، فإن الحق قد وضح ، وليس للمحاجة مجال ، فما المخالف إلا معاند أو مكابر ، وسيأتى الوقت الذي يستبين فيه الحق ، ويتضح سبيل الرشاد ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي الله يجمع بيننا يوم القيامة ، فيقضى بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه.

ونحو الآية قوله : «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ».

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي وإليه المرجع والمعاد بعد مماتنا يوم الحساب ، فيجازى كل نفس بما كسبت «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

وهذه الأوامر والنواهي وإن وجهت فى الظاهر إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهى له ولأمته كما هى القاعدة : أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر لأمته إلا إذا ورد دليل على التخصيص.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

٢٩

تفسير المفردات

يحاجون فى الله : أي يخاصمون فى دينه ، استجيب له : أي استجاب الناس لدينه ودخلوا فيه لوضوح حجته ، داحضة : أي زائفة باطلة ، والميزان : العدل بين الناس ، يدريك : يعلمك ، الساعة : القيامة ، مشفقون : خائفون منها حذرون من مجيئها ، الحق : أي الأمر المحقق الكائن لا محالة ، يمارون : أي يجادلون ؛ وأصله من مريت الناقة : أي مسحت ضرعها للحلب ، إذ كل من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن لا محاجة بين المشركين والمؤمنين لوضوح الحجة ، بين هنا أن الذين يخاصمون فى دين الله من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه أفواجا ، حجتهم فى الصرف عنه زائفة لا ينبغى النظر إليها ، وعليهم غضب من ربهم لمكابرتهم للحق بعد ظهوره ، ولهم عذاب شديد يوم القيامة.

روى أن اليهود قالوا للمؤمنين : إنكم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، ونبوة موسى وتوراته مسلّمة بيننا وبينكم ، ونبوة محمد ليست كذلك ، وإذا فالأخذ باليهودية أولى ، فدحض سبحانه هذه الحجة بأن الإيمان بموسى إنما وجب لظهور المعجزات على يديه دالة على صدقه ، وقد ظهرت المعجزات على يدى محمد واليهود قد شاهدوها فوجب الاعتراف بنبوته.

ثم أردف ذلك تخويفهم بيوم القيامة حتى يستعدوا له ويتركوا المماراة بالباطل ، ثم ذكر أن المشركين يستعجلون به استهزاء وإنكارا لوجوده ، والمؤمنون خائفون

٣٠

منه ، لعلمهم بالجزاء حينئذ ، ثم أعقب ذلك بذكر أن المماراة فى الساعة ضلال بيّن ، لتظاهر الأدلة على حصولها لا محالة.

الإيضاح

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ورسوله ، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى ـ حجتهم زائفة لا تقبل عند ربهم ، وعليهم غضب منه ، لأنهم ما روا فى الحق بعد ما تبين ، ولهم عذاب شديد يوم القيامة ، لتركهم الحق بعد أن وضحت محجته عنادا واستكبارا.

وقد سمى أباطيلهم التي لا ينبغى التعويل عليها ـ أدلة مجاراة لهم على زعمهم حتى يعاودوا النظر فيها ، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) أي الله أنزل كتبه على أنبيائه حاوية للحق الذي لا شبهة فيه ، بعيدة من (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) أي الله أنزل كتبه على أنبيائه حاوية للحق الذي لا شبهة فيه ، بعيدة من الباطل الذي لا خير فيه ، وأنزل العدل ليقضى بين الناس بالإنصاف ، ويحكم بينهم بحكمه الذي أمر به فى كتابه.

ونحو الآية قوله : «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

ثم رغب سبحانه فى الآخرة وزهد فى الدنيا فقال :

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ؟) أي وأىّ شىء يعلمك لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة تكون قد أزفت؟ فعليك أن تتبع الكتاب وتواظب على العدل بين الناس ، واعمل بما أمرت به قبل أن يفجأك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى كل عامل جزاء عمله.

والمراد بذلك حث المؤمنين على اتباع نهج الشرع وترك مخالفته.

٣١

روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا متى الساعة؟ استهزاء بها ، وتكذيبا لمجيئها ، فأنزل الله الآية ، ويدل على ذلك قوله :

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال استهزاء وإنكار ، وكانوا يقولون متى هى؟ ليتها قامت حتى يظهر لنا ، أنحن على الحق فنفوز بالنجاة ، أم محمد وأصحابه فنكون من الخاسرين؟

وبعد أن بين حال المشركين فى شأنها ذكر حال المؤمنين بها فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أي والذين آمنوا خائفون منها وجلون من مجيئها ، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم ، وهم موقنون أنهم محاسبون ومجزيون على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، كما أنهم يعلمون علم اليقين أن مجيئها حق لا ريب فيه ، فهم يستعدون له ويعملون من أجله.

ونحو الآية قوله : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ».

روى «أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصوت جهورى وهو فى بعض أسفاره فقال يا محمد : فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنحو من صوته (هاؤم) فقال له متى الساعة؟ فقال له : إنها كائنة فما أعددت لها؟ فقال حب الله ورسوله ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : أنت مع من أحببت».

ثم بين ضلال الممارين فيها فقال :

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ألا إن الذين يجادلون فى وجودها ، ويدفعون وقوعها ، لفى جور عن طريق الهدى ، وزيغ عن سبيل الرشاد ، وبعد من الصواب ، لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى كما قال : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».

٣٢

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))

تفسير المفردات

لطيف بعباده : أي هو برّ بهم يفيض عليهم من جوده وإحسانه ، حرث الآخرة :

ثمرات أعمالها تشبيها لها بالغلة الحاصلة من البذور ، حرث الدنيا : لذّاتها وطيباتها ، شركاء : أي فى الكفر وهم الشياطين ، شرعوا لهم : أي زينوا لهم ، ما لم يأذن به الله :

أي كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فحسب ، كلمة الفصل : هى القضاء والحكم السابق منه بالنّظرة إلى يوم القيامة ، الروضة : مستنقع الماء والخضرة ، وروضات الجنات : أطيب بقاعها وأنزهها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سبق أنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على الدلائل الموصلة إلى السعادة ، وأن المتفرّقين فى الدين استوجبوا شديد العذاب ، لكنه أخره إلى يوم معلوم ـ أرشد هنا إلى أن ذلك من لطف الله بعباده ، ولو شاء لجعلهم فى عماية من أمرهم ، وتركهم فى ضلالهم يعمهون ، ولو شاء لعجل لهم العذاب. ثم بين أن من

٣٣

يعمل للآخرة يرجو ثوابها يضاعف له فيها الجزاء إلى سبعمائة ضعف ، ومن يعمل للدنيا وجلب لذاتها يؤته ما يريد ، وليس له فى الآخرة نصيب من نعيمها ، ثم أعقب هذا بذكر ما وسوست به الشياطين للمشركين ، وزينت لهم به من الشرك بالله وإنكار البعث إلى نحو ذلك ، ثم بين أنهم كانوا يستحقون العذاب العاجل على ذلك ، لكنه أجّله لما سبق فى علمه من إنظارهم إلى يوم معلوم ، ثم ذكر مآل كل من الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، فالأولون خائفون وجلون من جزاء ما عملوا ، والآخرون مترفون منعّمون.

الإيضاح

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي إنه برّ تعالى برّ بعباده يرسل إليهم أعظم المنافع ، ويدفع عنهم أكبر البلاء ، فيرزق البرّ والفاجر ، لا ينسى أحدا منهم ، ويوسع الرزق حلى من يشاء منهم ، ويقتّره على من يشاء ، ليمتحن الغنى بالفقير والفقير بالغنى ، وليحتاج مضر إلى بعض كما قال : «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا».

ونحو الآية قوله : «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها».

ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال :

(وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي وهو القادر على ما يشاء ، العزيز الذي لا يقدر أحد أن يمنعه عن شىء مما يريده.

وبعد أن أبان أن الرزق ليس إلا فى يده أتبعه بما يزهّد فى التكالب على طلب رزق البدن ، ويرغّب فى الجد فى طلب رزق الروح والسعى فى رفع منزلتها عند ربها ليرضى عنها فقال :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة نوفقه لصالح الأعمال ونجزه بالحسنة عشر أمثالها إلى ما شاء الله.

٣٤

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي ومن كان سعيه موجها إلى شؤون الدنيا ، وطلب طيباتها واكتساب لذاتها ، وليس له همّ فى أعمال الآخرة ـ نؤته منها ما قسمناه له ، وليس له فى ثواب الآخرة حظ ، فالأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى ، قال قتادة : إن الله يعطى على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطى على نية الدنيا إلا الدنيا.

ونحو الآية قوله : «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً».

وقال ابن عباس : من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيبا فى الآخرة إلا النار ، ولم يزد بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا فرغ منه وقسم له.

وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبىّ بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «بشّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين فى الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له فى الآخرة من نصيب».

وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبى هريرة قال : «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) لآية ثم قال يقول الله : ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك».

وعن علىّ كرم الله وجهه قال : الحرث حرثان : فحرث الدنيا المال والبنون ، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات.

ولما بين القسطاس الأقوم فى أعمال الآخرة وأعمال الدنيا أردفه التنبيه إلى ما هو الأصل فى باب الضلالة والشقاوة فقال :

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي هم ما اتبعوا ما شرع الله

٣٥

من الدين القويم ، بل اتبعوا ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس ، فحرّموا عليهم ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة ، وحللوا لهم أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو أولئك من الضلالات والجهالات التي كانوا قد اخترعوها فى الجاهلية.

وقد ثبت فى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «رأيت عمرو بن لحىّ بن قمنعة يجر قصبه ـ أمعاءه ـ فى النار» لأنه أول من سيّب السوائب وحمل قريشا على عبادة الأصنام ، وكان أحد ملوك خزاعة.

وقصارى ذلك ـ إن الشيطان زين لهم الشرك والمعاصي والشرائع المضلة وإنكار البعث والعمل للدنيا.

ثم بين أنه رحمة بعباده أخّر عذاب المشركين ليوم معلوم ولم يعجله لهم فقال :

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا القضاء السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لعوجلوا بالعذاب كما قال سبحانه : «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ».

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وإن الظالمين أنفسهم بشرع ما لم يأذن به الله مما ابتدعوه من التحليل والتحريم ـ لهم عذاب شديد الإيلام فى جهنم وبئس المصير.

ثم ذكر أحوال أهل العقاب وأهل الثواب يوم القيامة مبتدئا بالأولين فقال :

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي ترى الظالمين خائفين أشد الخوف مما كسبوا من السيئات وهو واقع بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا.

وذكر الآخرين بقوله :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر به ونهى عنه ـ لهم فى الآخرة روضات الجنات متمتعين بمحاسنها ولذاتها.

٣٦

ثم بين ما يكون من النعيم فى تلك الروضات فقال :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهم ما يشاءون من فنون اللذات من مآكل ومشارب ومناظر مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

وبعدئذ بين خطر ذلك الفوز الذي ينالونه تفضلا من ربهم ورحمة فقال :

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الذي أعطاهم ربهم من هذا النعيم وتلك الكرامة ـ هو الفضل الذي منّ به عليهم ، وهو الذي يفوق كل كرامة فى الدنيا من بعض أهلها على بعض.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

تفسير المفردات

البشارة : الإخبار بحصول ما يسرّ فى المستقبل ، والقربى : التقرب ، يقترف : أي يكتسب ، يختم على قلبك : أي يجعل قلبك من المختوم عليهم حتى تجترىء

٣٧

على الافتراء ، يمحو : أي يزيل ، يحق : أي يثبت ، وكلماته : هى حججه وأدلته ، يستجيب الذين آمنوا : أي يجيب دعاءهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى الآيات السالفة أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون بالنعيم فى روضات الجنات ، وأنه يعطيهم من فضله ما فيه قرّة أعينهم رحمة من لدنه ـ ذكر هنا أن ذلك كائن لهم لا محالة ببشارة منه لهم ، ثم أعقب هذا بأن أمر رسوله أن يقول لهم :

إنه لا يسألهم على هذا البلاغ والنصح أجرا ، وإنما يطلب منهم التقرب إلى الله وحسن طاعته ، ثم رد عليهم قولهم : إن القرآن مفترى بأنه لا يفترى الكذب على الله إلا من كان مختوما على قلبه ، ومن سنن الله إبطال الباطل ونصرة الحق ، فلو كان محمد كذابا مفتريا لفضحه وكشف باطله ، ولكن أيده بالنصر والقوة ، ثم ندبهم إلى التوبة مما نسبوه إلى رسوله من افترائه للقرآن ، ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا هم دعوه ، ويزيدهم من نعمه ، وأوعد الكافرين بشديد العقاب كفاء ما اجترحوا من الشرور والآثام.

الإيضاح

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي هذا الذي أخبرتكم بأنى أعددته فى الآخرة من النعيم والكرامة لمن آمن بالله ورسوله وعمل صالح الأعمال ـ البشرى التي أبشركم بها فى الدنيا ، ليتبين لكم أنها حق وأنها كائنة لا محالة.

والخلاصة ـ إن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه ـ هم المبشرون بتلك البشارة.

٣٨

وبعد أن ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلّى الله عليه وسلّم من هذه الأحكام التي اشتمل عليها كتابه ـ أمره أن يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرا فقال :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي قل لهم : لا أسالكم على تبليغ ما أبلغكم به من هذا لدين القويم نقعا منكم فى دنياى ، لكن أسألكم أن تودوا الله ورسوله فى تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، قاله الحسن البصري ، ويدخل فى ذلك مودة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومودة قرابته ومودة ذوى القربى من المسلمين.

وقال ابن عباس : إلا أن تودونى فى نفسى لقرابتى منكم ، وتحفظوا القرابة التي بينى وبينكم. وعن الشعبي قال : أكثر الناس علينا فى هذه الآية «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال : إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان واسط النسب فى قريش ، ليس بطن من بطونهم إلّا وله فيه قرابة فقال الله : قل لا أسألكم الآية ، أي أن تودونى لقرابتى منكم وتحفظوني بها.

وروى عن ابن عباس قال : «قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا ، فقال العباس لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فى مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا بلى يا رسول الله ، قال أفلا تجيبون؟ قالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك؟

ألم يكذبوك فصدقناك؟ ألم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا أموالنا وما فى أيدينا لله ورسوله فنزلت هذه الآية» ، وعلى هذه الرواية فالآية مدنية ، والأصح أنها مكية.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي ومن يعمل عملا فيه طاعة لله ورسوله نزد له فيه أجرا وثوابا ، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما فوق ذلك فضلا منا ورحمة.

٣٩

ونحو الآية قوله : «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً».

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي إنه تعالى يغفر الكثير من السيئات ، ويكثّر القليل من الحسنات ، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر ، قال قتادة : غفور للذنوب ، شكور للحسنات.

ثم أنكر عليهم نسبة افتراء القرآن إلى الرسول ووبخهم على مقالهم فقال :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي أيقع فى قلوبهم ويجرى على ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله وهو أقبح أنواع الفرية وأفحشها؟

وهذا المقال منهم أفظع من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم ، فإنهم قد جعلوا الحق الأبلج الذي يعاضده الدليل ويؤيده البرهان ـ افتراء على الله واختلافا للكذب عليه ـ وفى ذلك أتم دلالة على بعده صلّى الله عليه وسلّم من الافتراء.

وخلاصة ذلك ـ إنهم قالوا إن هذا الذي يتلوه علينا من القرآن ما هو إلا اختلاق من قبل نفسه وليس بوحي من عند ربه كما يدّعى.

ثم زاد فى استبعاد الافتراء من مثله عليه السلام والإنكار له على أتم وجه فقال :

(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي فإن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترىء بالافتراء عليه ، فإنه لا يفعل مثل هذا إلا من كان فى مثل حالهم قد ختم الله على قلبه وأعمى بصيرته.

والخلاصة ـ إنه إن يشأ يجعلك منهم ، لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.

وما أجمل هذا التعريض بأنهم مفترون ، وأنهم فى نسبة الافتراء إليه مفترون أيضا ، وشبيه بالآية قول أمين نسب إلى الخيانة : لعل الله خذلنى ، لعل الله أعمى بصيرتى ـ

٤٠