تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

أنزله العزيز الغالب القاهر لكل شىء ، الحكيم فى تدبيره لكل ما خلق ، فهو سبحانه مع قهره للعوالم المادية والروحية ، لا يتصرف إلا بالحكمة كما يشاهد فى النبات والحيوان والأجسام الإنسانية ودوران الكواكب وانتظامها فى سيرها ، فكل ذلك من القهر والغلبة لها مع الحكمة فى صنعها ، ومن ثم أعقب ذلك بنتائج العزة والحكمة فقال :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فى السموات السبع اللاتي منهن ينزل الغيث ، وفى الأرض التي منها يخرج الخلق ـ لأدلة واضحة للمصدقين بالحجج إذا تأملوها وفكروا فيها تفكير من يسلك السبيل القويم ، فيرتب المقدمات ، ليصل منها إلى النتائج ، التي هى لازمة لها بحكم النظام الفكرى ، والترتيب العقلي.

وبعد أن ذكر الأدلة الكونية التي فى الآفاق أتبعها بذكر الأدلة التي فى الأنفس فقال :

(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي وإن فى خلق الله إياكم على أطوار مختلفة من تراب ثم من نطفة إلى أن تصيروا أناسىّ ، وفى خلق ما تفرق فى الكون من الدواب ـ لحججا لقوم يوقنون بحقائق الأشياء فيقررونها بعد العلم بصحتها.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي وإن فى تعاقب الليل والنهار عليكم ، هذا بظلمته وسواده ، وذاك بنوره وضيائه ، وفيما أنزل الله من السماء من مطر تحيا به الأرض بعد موتها ، فتهتز بالنبات والزرع من بعد جدوبها وقحوطها ، فتخرج أرزاق العباد وأقواتهم ، وفى تصريف الرياح لمنافعكم شمالية مرة وجنوبية أخرى ، صبا مرة ، ودبورا أخرى ـ لأدلة وحججا لله على خلقه الذين يعقلون عنه حججه ويفهمون ما وعظهم به من الآيات والعبر.

١٤١

وقصارى ما سلف ـ إنكم إذا تأملتم الحكم المنبثة فى السموات والأرض آمنتم بوحدة خالقها وقدرته ، فإذا ازددتم علما ، ازداد تثبتكم وفهمكم ، فصرتم موقنين بها لأن الإيقان يكون بتوافر الأدلة وتكاثرها ، ومتى أيقنتم بجمال هذا الكون وحسن نظامه أصبحتم من ذوى العقول الناضجة ، والأفكار النافذة فى أسرار هذا الكون وبديع صنعه ، فتستطيعون أن تنتفعوا بما فيه وتسخروه لمنافعكم فى هذه الحياة المليئة بالمطالب.

وإجمال ذلك ـ إن أول المراتب الإيمان بالله ، فإذا ازداد المرء علما وحكمة وبحثا فى دقائق الأشياء وعظائمها أصبح موقنا به ، وكلما ازداد بحثا ازداد عقله دراية وفهما لأسرار هذا الكون ، فسخره لمنافعه ، واستفاد من نظمه التي وجد عليها وعرف أنه لم يخلق عبثا ، بل خلق للانتفاع بما فى ظاهره وباطنه ، علويّه وسفليه ، أرضه وسمائه ، نوره وظلامه ، فكأنه يقول : إنا أمرناكم بالنظر فى العالم لتؤمنوا ، فإذا ازددتم علما أيقنتم بي ، وذلك كله مما يربى عقولكم ، ويكملها إلى أقصى حدود طاقتها البشرية.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

١٤٢

تفسير المفردات

الأفاك : كثير الإفك والكذب ، والأثيم : كثير الإثم والمعاصي ، والإصرار على الشيء : ملازمته ، من ورائهم : أي من بعد آجالهم ، يغنى : أي يدفع ، أولياء :

أي أصناما ، والرجز : أشد العذاب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر آيات القرآن العظيم ـ أشار إلى ما لها من علوّ المرتبة ، ورفيع الدرجة ثم أوعد من كذبوا بها بعد سماعها ، وأصروا على كفرهم بها ـ بالويل والثبور ، وعظائم الأمور ، ثم بين أن عاقبتهم النار ، وبئس القرار ، ولا تنفعهم أصنامهم شيئا ، ولا تدفع عنهم ما قدّر لهم من العذاب.

الإيضاح

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه آيات القرآن بما فيها من حجج وبينات ، نتلوها عليك متضمنة للحق.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) أي فبأى حديث أيها القوم بعد حديث الله الذي يتلوه على رسوله ، وبعد حججه وبرهاناته التي دلكم بها على وحدانيته ـ تصدقون إن كذبتم به.

والخلاصة ـ إذا كنتم لا تؤمنون بهذه الآيات ولا تنقادون لها ، فبم تؤمنون؟ وإلام تنقادون؟

وبعد أن بين للكفار آياته ، وذكر أنهم إن لم يؤمنوا بها فبأى حديث بعدها يؤمنون؟ أتبعه بالوعيد العظيم لهم فقال :

١٤٣

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي فالويل أشد الويل ، والعذاب أقسى العذاب ، لكل كذاب فى قوله ، أثيم فى فعله.

وبعد أن وصف هذا الأفاك بالإثم أولا ، أتبعه بوصفه بالاستكبار عن سماع الآيات فقال :

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي إذا سمع آيات الله تقرأ عليه ، وهى مشتملة على الوعد والوعيد ، والإنذار والتبشير ، والأمر والنهى ، والحكم والآداب ، أصرّ على الكفر بها ، وجحدها عنادا كأنه ما سمعها.

ثم أوعده على ما فعل عذابا أليما فى نار جهنم فقال :

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشره أيها الرسول بالعذاب المؤلم الموجع فى جهنم وبئس القرار.

وفى تسمية هذا الخبر المحزن بشرى ، وهى لا تكون إلا فى الأمر السار ـ تهكم بهم ، واحتقار لشأنهم ، فهو من وادي قوله للكافر «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» وقول الشاعر :

تحية بينهم ضرب وجيع

نزلت الآية فى النضر بن الحارث وكان يشترى أحاديث الأعاجم ، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن ، وهى عامة فى كل من كان صادّا عن الدين مستكبرا عن اتباع هدايته.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي وإذا وصل إليه خبرها ، وبلغه شىء منها ، جعلها هزوا وسخرية ، فقد روى أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه : تزقّموا من هذا ، ما يعدكم محمد إلا شهدا ، وحين سمع قوله «عليها تسعة عشر» أي على النار قال : إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي.

١٤٤

ثم ذكر ما يصيب هؤلاء من العذاب فقال :

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي أولئك الأفاكون المتصفون بتلك الصفات لهم العذاب الذي يهينهم ويذلهم فى نار جهنم بما كانوا فى الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته واتخاذها هزوا.

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر جهنم ، والمراد أنها من قدامهم ، لأنهم متوجهون إليها.

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي ولا يدفع العذاب عنهم ما كسبوا من الأموال والأولاد.

(وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تغنى عنهم أصنامهم التي عبدوها من دون الله شيئا.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولهم من الله يومئذ عذاب عظيم لا يقدر قدره.

(هذا هُدىً) أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول هاد إلى الحق وإلى صراط مستقيم لمن اتبعه وعمل بما فيه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي والذين جحدوا بآياته الكونية فى الأنفس والآفاق وآياته المنزلة على ألسنة رسله لهم العذاب المؤلم الموجع يوم القيامة.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا

١٤٥

يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥)).

تفسير المفردات

سخر : هيأ ، الفلك : السفينة ، والابتغاء : الطلب ، يغفر : أي يعفو ويصفح ، لا يرجون : أي لا يتوقعون حصولها ، وأيام الله : وقائعه بأعداء دينه كما يقال لوقائع العرب أيام العرب ، والقوم هم المؤمنون الغافرون.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف الحجج الدالة على ربوبيته ووحدانيته ـ أردف ذلك ذكر آثارها ، فمن ذلك تسخير السفن فى البحار حاملة للأقوات والمتاجر رجاء أن تشكروا ما أنعم به عليكم ، ومنها تسخيره ما فى السموات والأرض من شموس وأقمار وبحار وجبال ، لتنتفعوا بها فى مرافقكم وشئونكم المعيشية.

ثم أمر المؤمنين بأحاسن الأخلاق ، فطلب إليهم أن يصفحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم ، وعند الله جزاؤهم ، فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ، ويوم القيامة يعرضون على ربهم ويجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

الإيضاح

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إن ذلك الخالق الواحد الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده ـ هو الذي يسّر لكم استخدام البحر لتجرى فيه السفن بإذنه وقدرته ، حاملة أقواتكم ومتاجركم ، لتقوم بشئونكم المعيشية ، ولتطلبوا رزق ربكم منه بالغوص للدرّ تارة والصيد تارة أخرى ،

١٤٦

ولتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم ، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي وسخر لكم جميع ما خلقه فى سمواته وأرضه مما تتعلق به مصالحكم ، وتقوم به معايشكم ، فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح ، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمة منه وفضلا ، وكل هذه أدلة على أنه الله الذي لا إله غيره ، لمن تأمل فيها واعتبر بها وتدبرها حق التدبر.

والخلاصة ـ إن العالم كله كأنه جسم واحد يحتاج كل جزء منه إلى الأجزاء الباقية ، فلا يستقيم مطر بلا حرارة شمس ، ولا تسير سفن إلا بهواء أو فحم أو كهرباء وما شاكل ذلك ، فالعالم كله كساعة منتظمة لا يستقيم سيرها إلا إذا استكملت آلاتها وعددها.

وعن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق فقال من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب ، قال فمم خلق هؤلاء؟ قال لا أدرى ، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو ، فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق؟ فقال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب ، قال مم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس : «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» فقال الرجل ما كان ليأتى بهذا إلا رجل من أهل بيت النبوة.

ولما علّم سبحانه عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ـ أردفه تعليمهم فضائل الأخلاق فقال :

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي قل للذين صدقوا الله ورسوله : اعفوا واصفحوا عن هؤلاء المشركين الذين لا يخافون بأس الله ونقمته ، إذا نالكم منهم أذى ومكروه قاله مجاهد.

١٤٧

روى الواحدي والقشيري عن ابن عباس أن الآية نزلت فى عمر بن الخطاب مع عبد الله بن أبىّ فى غزوة بنى المصطلق ، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها المريسيع ، فأرسل عبد الله غلامه ليستقى فأبطأ عليه ، فقال ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على فم البئر ، فما ترك أحدا يستقى حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبى بكر وملأ لمولاه ، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل «سمّن كلبك يأكلك» فبلغ عمر قوله ، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله ، فأنزل الله هذه الآية :

وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس سببا آخر قال : لما نزل قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً» قال يهودى بالمدينة يسمى فنحاصا ، احتاج رب محمد. قال فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج فى طلبه ، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ربك يقول لك : «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ» فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلب عمر فلما جاء قال : (يا عمر ضع سيفك) قال يا رسول الله صدقت. أشهد إنك أرسلت بالحق ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية. فقال عمر : لا جرم والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب فى وجهى.

ثم علل الأمر بالمغفرة فقال :

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزى الله تعالى يوم القيامة قوما بما كسبوا فى الدنيا من أعمال طيبة ، من جملتها الصبر على أذى الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ـ ما لا يحيط به الوصف من الثواب العظيم فى جنات النعيم.

ولما رغب سبحانه ورهّب وقرر أنه لا بد من الجزاء ـ أبان أن النفع والضر لا يعدو المحسن والمسيء فقال :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من عمل من عباد الله بطاعته ، فانتهى إلى أمره وازدجر عن نهيه ـ فلنفسه عمل ، ولها طلب الخلاص من عذابه ،

١٤٨

والله غنى عن كل عامل ، ومن أساء عمله فى الدنيا بمعصية ربه فعلى نفسه جنى ، ولها اكتسب الضر.

ثم بين وقت الجزاء فقال :

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي ثم تصيرون إلى ربكم حين العرض للحساب ، فيجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

تفسير المفردات

الكتاب : المراد به الكتب التي نزلت على أنبيائهم ، الحكم : الفصل بين الناس فى الخصومات ، لأنهم كانوا ملوكا ، بينات من الأمر : أي دلائل واضحات فى أمر الدين ، ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام ، بغيا : أي حسدا وعنادا ، على شريعة من الأمر : أي على طريقة ومنهاج فى أمر الدين. وأصل الشريعة مورد

١٤٩

الماء فى الأنهار ونحوها ، وشريعة الدين يرد منها الناس إلى رحمة الله والقرب منه ، بصائر للناس : أي معالم للدين بمنزلة البصائر فى القلوب.

المعنى الجملي

اعلم أن الله سبحانه بين أنه أنعم على بنى إسرائيل بنعم كثيرة ، وقد حصل بينهم الاختلاف بغيا وحسدا ، وجاء ذكر هذا تسلية لرسوله بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ، بل طريقهم طريق من تقدمهم ، ثم أمر رسوله بأن يتمسك بالحق ، ولا يكون له غرض سوى إظهاره ، ولا يتبع أهواء الجاهلين الضالين ، ثم ذكر أن القرآن معالم للهداية تهتدى بها القلوب الضالة عن طريق الحق ، فتلزم الجادّة وتصل إلى طريق النجاة.

الإيضاح

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) امتنّ سبحانه على بنى إسرائيل بما أنعم به عليهم من وافر النعم الدينية والدنيوية وذكر من ذلك :

(١) إنزال التوراة على موسى فيها معالم للهدى وشرائع للناس تهديهم إلى سواء السبيل.

(٢) إرسال الرسل ، فكثر فيهم الأنبياء بما لم يكن لأمة مثله.

(٣) القضاء بين الناس والفصل فى خصوماتهم ، إذ كان الملك فيهم ، فاجتمع لهم حكم الدين وحكم الدنيا.

(٤) إيتاؤهم طيبات الأرزاق ، فكانوا ذوى ترف ونعيم فى معايشهم ، وكان

١٥٠

منهم الملوك ذوو الحظ الأوفر من العظمة والفضل وسعة الجاه والأمر والنهى وبسطة العيش كداود وسليمان عليهما السلام.

(٥) تفضيلهم على الناس جميعا ، إذ لم يكن فى أمة أنبياء كما كان فيهم ، ولم يجمع الله بين الملك والنبوة فى شعب كما اجتمع فيهم ، فهم أرفع الشعوب منقبة.

قال ابن عباس : لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم اه.

وقد آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء بما لم يفعله بغيرهم ممن سبق.

(٦) إيتاؤهم أحكاما ومواعظ مؤيدة بالمعجزات ، وقد كان هذا مما يستدعى ألفتهم واجتماعهم ، وكانوا كذلك لا يختلفون إلا اختلافا يسيرا لا يضر مثله ، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما أشار إلى ذلك بقوله :

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي فما حدث فيهم هذا الخلاف إلا بعد قيام الحجة طلبا للرياسة وحسدا فيما بينهم ، وقد سبق تفصيله فى سورة حم عسق.

ثم وكل سبحانه أمر المختلفين إليه للقضاء بينهم يوم القيامة فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك سبحانه يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بغيا وحسدا فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا بعد العلم الذي آتاهم ، والبيان الذي جاءهم منه ، ويجعل الفلج للمحقّ على المبطل ، والمقصد من هذا أنه لا ينبغى أن يغترّ المبطل بنعم الدنيا ، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها ، فهو سيرى فى الآخرة ما يسوءه.

وفى هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم ، وأن تسير على نهجهم.

ولما بين أنهم أعرضوا عن الحق بغيا وحسدا ـ أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن هذه الطريقة وأن يستمسك بالحق فقال :

١٥١

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي ثم جعلناك بعد بنى إسرائيل الذين وصفت لك صفتهم ـ على نهج خاص من أمر الدين ، فاتبع ما أوحى إليك ، ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون الذين لا يعلمون توحيد الله ولا شرائعه لعباده وهم كفار قريش ومن وافقهم فتهلك.

ثم علل النهى عن اتباع أهوائهم فقال :

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إن هؤلاء الجاهلين بربهم لا يدفعون عنك شيئا مما أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعته.

ثم بين أولياء الكافرين وأولياء المؤمنين فقال :

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي وإن الكافرين ليتولى بعضهم شئون بعض فى الدنيا ، أما فى الآخرة فلا ولىّ ولا شفيع ولا نصير يجلب لهم ثوابا ولا يدفع عنهم عقابا.

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي والمتقون المهتدون وليهم الله وهو ناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ، والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، فما أبعد الفرق بين الولايتين :

شتان ما يومى على كورها

ويوم حيّان أخى جابر

وقصارى ما سلف ـ دم على ما أنت عليه من اعتمادك على ولاية ربك ونصرته ، وأعرض عما سواه.

ثم بين فضل القرآن وذكر ما يجلبه التمسك بحبله المتين فقال :

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي هذا القرآن دلائل للناس فيما يحتاجون إليه من أمر الدين ، وبينات تبصّرهم وجه الفلاح ، وتعرّفهم سبيل الهدى ، وهو هدى ورحمة لقوم يوقنون بصحته ، وهو تنزيل من رب العالمين.

وإنما خص الموقنين بأنه لهم هدى ورحمة ، لأنهم هم الذين ينتفعون بما فيه دون من كذّب به من أهل الكفر فإنه عليهم عمى.

١٥٢

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

تفسير المفردات

الاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدى ، والمراد بالسيئات : سيئات الكفر والإشراك بالله.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الفارق بين الكافرين والمؤمنين فى الولاية ، فأبان أن الأولين بعضهم أولياء بعض ، وأن الآخرين وليهم الله ـ أردف ذلك ذكر الفارق بينهم فى المحيا والممات ، فالمحسنون مرحومون فى الحالين ، ومجترحو السيئات مرحومون فى الدنيا فحسب ، ثم ذكر الدليل على هذا بأن الله ما خلق الخلق إلا بالحق المقتضى للعدل والانتصاف للمظلوم من الظالم ، والتفاوت بين المحسن والمسيء فى الجزاء ، وإذا لم يكن هذا فى المحيا كان فى دار الجزاء حتما ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، فلا تظلم بنقص ثواب أو بمضاعفة عقاب.

ثم عجّب سبحانه ممن ركب رأسه واتبع هواه وترك الهدى وأضله الله وهو العليم باستعداده وخبث طويته ، وأنه ممن يميل إلى تدسية نفسه واجتراح الآثام والمعاصي ،

١٥٣

فهو ممن ختم الله على سمعه وقلبه ، فلا يتأثر بعظة ، ولا يفكر فى آية ، وجعل على بصره غشاوة مانعة من الاستبصار والاعتبار ، فمن بعد الله يهديه؟ أفلا تتذكرون وتتفكرون فى هذا؟

روى الكلبي فى تفسيره أن عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا لعلى وحمزة وجمع من المؤمنين : ولله ما أنتم على شىء ، ولو كان ما تقولونه حقا ، لكان حالنا أفضل من حالكم فى الآخرة كما هو أفضل فى الدنيا ، فنزلت الآية «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ» إلخ.

الإيضاح

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي أيظن هؤلاء الذين اكتسبوا الإثم والمعاصي فى الدنيا ، فكفروا بالله وكذبوا الرسل ، وخالفوا أمره ، وعبدوا غيره ، أن نجعلهم كالذين آمنوا به وصدقوا رسله ، فنساوى بينهم فى دار الدنيا وفى الآخرة ـ كلا لا يستوون فى شىء منهما ، فإن أهل السعادة فى عز الإيمان والطاعة وشرفهما فى المحيا ، وفى رحمة الله ورضوانه فى الممات ، وأهل الشقاء فى ذلك الكفر والمعاصي وهوانهما فى المحيا ، وفى لعنة الله والعذاب الخالد فى الممات ، فشتان ما بينهما وما أبعد ما بين الثريا والثرى.

ونحو الآية قوله تعالى : «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» وقوله : «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء ما ظنوا وبعد أن نساوى بين الأبرار والفجار فى الدار الآخرة وفى هذه الدار.

وفى الآية إرشاد إلى تباين حالى المؤمن العاصي والمؤمن الطائع.

وقد أثر عن كثير من الناسكين المخبتين لربهم أنهم كانوا يبكون عند تلاوة هذه الآية حتى سموها مبكاة العابدين.

١٥٤

أخرج عبد الله بن أحمد فى زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبى الضحى قال :

قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ» الآية لم يزل يكررها ويبكى حتى أصبح وهو عند المقام.

وأخرج ابن أبى شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلى فمرّ بهذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) فلم يزل يردّدها حتى أصبح.

وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها : ليت شعرى من أي الفريقين أنت؟

ثم أقام الدليل على عدم التساوي وأبان حكمة ذلك فقال :

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي لم يخلق الله السموات والأرض للجور والظلم ، بل خلقهما للحق والعدل ، ومن العدل أن يخالف بين المحسن والمسيء فى العاجل والآجل.

(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وليثيب كل عامل بما هو له أهل ، فلا يبخس المحسن ثواب إحسانه ، أو يحمل عليه جرم غيره فيعاقبه به ، أو يجعل للمسىء ثواب إحسان غيره.

والخلاصة ـ كل عامل يجزى بما كسبت يداه ، ولا يظلم بنقص ثواب ، ولا بتضعيف عقاب.

ثم بين أحوال الكافرين وذكر جناياتهم على أنفسهم فقال :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ؟) أي انظر واعجب من حال من ركب رأسه ، وترك الهدى ، وأطاع الهوى ، فكأنه جعله إلها يعبده من دون الله ، فهو لا يهوى شيئا إلا فعله ، لا يخاف ربا ولا يخشى عقابا ، ولا يفكر فى عاقبة ما يعمل.

وفى هذا إيماء إلى ذم اتباع هوى النفس ، ومن ثم قال وهب بن منبّه : إذا شككت فى خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التّسترى : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك ، وقال الإشبيلى الزاهد :

١٥٥

فخالف هواها واعصها إنّ من يطع

هوى نفسه ينزع به شرّ منزع

ومن يطع النفس اللجوجة تزده

وترم به فى مصرع أىّ مصرع

وقال البوصيرى فى بردته :

وخالف النفس والشيطان واعصهما

وإن هما محّضاك النصح فاتّهم

وقال ابن عباس : ما ذكر الله هوى فى القرآن إلا ذمّه ، قال تعالى «وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» وقال : «وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» وقال «وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ».

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» وقال أبو أمامة : سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى» وروى شدّاد بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلم «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة» وعنه أنه قال «ثلاث مهلكات ، وثلاث منجيات ، فالمهلكات شحّ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، والمنجيات خشية الله فى السر والعلن ، والقصد فى الغنى والفقر ، والعدل فى الرضا والغضب».

وحسبك ذمّا لاتباع الهوى قوله تعالى : «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى».

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أي خذله فلم يجعله يسلك سبيل الرشاد ، لأنه قد علم أنه لا يهتدى ولو جاءته كل آية ، لما فى جوهر نفسه من الميل إلى ارتكاب الإجرام ، واتباع الشهوات ، فهو يوغل فى القبائح دون زاجر ولا وازع.

١٥٦

(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) أي وقد طبع على سمعه ، فلا يتأثر بالآيات تتلى عليه ليعتبر بها ، ولا يتدبرها ليعقل ما فيها من النور والهدى.

(وَقَلْبِهِ) أي وختم على قلبه ، فلا يعى حقّا ، ولا يسترشد إلى صواب.

(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) تمنعه أن يبصر حجج الله وآياته فى الآفاق والأنفس ، فيستدل بها على وحدانيته ويعلم بها أن لا إله غيره.

قال مقاتل : نزلت فى أبى جهل. ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة ، فتحدثا فى شأن النبي صلّى الله عليه وسلم ، فقال أبو جهل : والله إنى لأعلم أنه صادق ، فقال له مه ، وما دلك على ذلك؟ قال : يا أبا عبد شمس كنا نسميه فى صباه الصادق الأمين ، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن ، والله إنى لأعلم أنه صادق ، قال فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال : تتحدث عنى بنات قريش أنى اتبعت يتيم أبى طالب من أجل كسرة ، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا فنزلت «وختم على سمعه وقلبه».

ونحو الآية قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».

ثم ذكر أن مثل هذا لا أمل فى هدايته فقال :

(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) أي فمن يوفقه لإصابة الحق ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال الله إياه ، أي لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك ، أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا أن من فعل الله به ما وصفنا ، فلن يهتدى أبدا ، ولن يجد لنفسه وليا ولا مرشدا.

١٥٧

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين قد اتخذوا إلاههم هواهم ، وأن الله قد أضلهم على علم بحالهم ، وأنه ختم على سمعهم وقلبهم وجعل على بصرهم غشاوة ـ ذكر هنا جناية أخرى من جناياتهم ، وحماقة من حماقاتهم ، تلك أنهم أنكروا البعث وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وما ذلك منهم إلا ظنون وأوهام لا مستند لها من نقل ولا عقل ، ولم يجدوا حجة يقولونها إلا أن قالوا : إن كان ما تقوله حقا فارجعوا آباءنا الموتى إلى الحياة ، فأمر الله رسوله أن يجيبهم بأنه هو الذي يحهيهم ثم يميتهم ، ثم يجمعهم فى يوم لا شك فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة ذلك.

الإيضاح

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي وقال المشركون الذين سبق ذكر بعض أوصافهم : لا حياة بعد هذه الحياة التي نحن نعيش فيها ، فنموت نحن وتحيا أبناؤنا من بعدنا ـ وهذا تكذيب صريح منهم للبعث والمعاد.

وقصارى ذلك ـ ما ثمّ إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وليس هناك بعث ولا قيامة.

١٥٨

(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي وما يفنينا إلا مرّ الليالى والأيام ، فمرورها هو المؤثر فى هلاك الأنفس ، ويضيفون كل حادث إلى الدهر وأشعارهم ناطقة بذلك قال :

أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشى

وقد كان العرب فى جاهليتهم إذا أصابتهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر ، وقد جاء النهى عن سبّ الدهر ، فجاء فى الحديث القدسي «يقول الله عز وجل : يؤذينى ابن آدم ، يسبّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنهار».

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «يقول الله تعالى : استقرضت عبدى فلم يعطنى ، وسبّنى عبدى يقول وا دهراه وأنا الدهر».

قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة فى تفسير قوله صلّى الله عليه وسلم «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» كان العرب فى الجاهلية إذا أصيبوا بشدة أو بلاء قالوا يا خيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله ، فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل ، لأنه فاعل ذلك فى الحقيقة ، فلذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار ، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ، ويسندون إليه تلك الأفعال.

ثم نعي عليهم مقالهم هذا الذي لا دليل عليه فقال :

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما لهم بقصر الحياة على حياة الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر ـ علم يستند إلى عقل أو نقل ، وقصارى أمرهم الظن والتخمين من غير أن يكون لهم ما يتمسكون به من حجة نافذة.

وفى الآية إشارة إلى أن القول بغير بينة ولا حجة ـ لا ينبغى أن يعوّل عليه ، وأن اتباع الظن منكر عند الله.

ثم ذكر شبهتهم على إنكار البعث فقال :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ

١٥٩

صادِقِينَ) أي وإذا تلى على هؤلاء المشركين الذين سبق القول فى جرائمهم ـ آيات الكتاب الدالة على أن البعث حق ، وأن الله سيعيد الخلق يوم القيامة وينشئه نشأة أخرى ـ لم يكن لهم من حجة فى دحض هذا إلا أن قالوا إن كان ما تقولونه حقّا فأنشروا لنا آباءنا الأولين وابعثوهم من قبورهم أحياء حتى نعتقد صحة ما تقولون.

وهذا قول آفن وكلام لا ينبغى أن يصدر من عاقل ، فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء فى الحال كإعادة آبائهم التي طلبوها فى الدنيا ـ امتناعه فيما بعد إذا قامت القيامة وبعث الله الموتى من قبورهم للعرض والحساب.

وتسمية كلامهم الزائف حجة ـ ضرب من التهكم بهم على نحو قوله :

تحية بيّنهم ضرب وجيع

ثم أمر سبحانه رسوله أن يرد عليهم فقال :

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي قل لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث : الله يحييكم ما شاء أن يحييكم فى الدنيا ، ثم يميتكم فيها متى شاء ، ثم يجمعكم جميعا أولكم وآخركم صغيركم وكبيركم يوم القيامة.

ثم أكد ذلك بقوله :

(لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ريب فى هذا الجمع والبعث ، فإن من قدر على البدء قد على الإعادة ، والحكمة قاضية بذلك ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، والأديان جميعا متضافرة على تحققه وحصوله يوم القيامة.

وقصارى ما سلف ـ إن البعث أمر ممكن أخبر به الأنبياء الصادقون ، والحكمة تقتضى حصوله والعقل يؤيده ، فهو واقع لا محالة.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر الناس ينكرون البعث ويستبعدون عودة الأجساد بعد موتها وحين تكون عظاما نخرة كما قال :

١٦٠