تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو مالككم والمتصرف؟؟؟ آبائكم الأولين ومدبر شئونهم ، فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا نفع.

ثم بيّن أنهم ليسوا بموقنين بالجواب بعد أن تبين لهم الرشد من الغى فقال :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أي بل هم فى شك من التوحيد والبعث والإقرار بأن الله خالقهم ، وإن قالوا ذلك فإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم ، إذ هم قابلوه بالهزء والسخرية فعل اللاعب العابث الذي يأخذ الجدّ وما لامرية فيه ، أخذ الهزل الذي لا فائدة فيه.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

تفسير المفردات

ارتقب : أي انتظر ، من قولهم : رقبته أي انتظرته وحرسته ، والمراد من الدخان ما أصابهم من الظلمة فى أبصارهم من شدة الجوع حتى كأنهم كانوا يرون دخانا ، فإن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ورأى الدنيا كالمملوءة دخانا ، يغشى الناس : أي يحيط بهم ، اكشف عنا : أي ارفع ، أنّى : أي كيف يكون ومن أين معلّم أي يعلمه غلام رومى لبعض ثقيف ، وبطش به أخذه بالعنف والسطوة كأبطشه ، والبطش : الأخذ الشديد فى كل شىء والبأس ، قاله صاحب القاموس.

١٢١

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال كفار قريش إذ قابلوا الرحمة بالكفران ولم ينتفعوا بالمنزّل ولا بالمنزّل عليه ـ أردف هذا أن أمر نبيّه بالانتظار حتى يحل بهم بأسه ، لأنهم أهل الخذلان والعذاب ، لا أهل الإكرام والغفران.

وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم وتهديد للمشركين.

ثم حكى عنهم مقالهم فى شأن لرسول ، فتارة يقولون : إنه معلّم ، وأخرى يقولون إنه مجنون ، ثم أوعدهم بأنه سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم القيامة ، ويجازيهم بما قالوا وبما فعلوا ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

الإيضاح

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي فانتظر يوم يأتى الجدب والمجاعة التي تجعل الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان المنتشر فى الفضاء.

ومن خبر هذا ما رواه البخاري عن مسروق قال : إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، فأصابهم الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ، فأنزل الله تعالى «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ـ إلى أَلِيمٌ» فأتوا النبي صلى الله عليه وسلّم فقالوا : يا رسول الله : استسق الله تعالى ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ» فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم الأولى فأنزل الله «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» فانتقم الله منهم يوم بدر.

(يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يحيط بهم من كل جانب ، فيقولون : هذا عذاب مؤلم يقضّ المضاجع وينتهى إلى موت محقق إن دام.

١٢٢

ثم بين أنهم وعدوا الرسول أن يؤمنوا إذا كشف عنهم العذاب كما كان يحدث من قوم فرعون حين نزول الرجز بهم فقال :

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي ربنا إنا سنؤمن إن كشفت عنا العذاب ، وهذه هى طبيعة البشر إذا هم وقعوا فى شدة أيا كانت أن يعدوا بالتوبة والإقلاع عما هم فيه ، ولكن النفوس الشريرة ، لاتتجه إلى فعل الخير ، ولا تفعل ما تتقرب به إلى ربها ، انتظارا لمثوبته ، ورجاء فى غفرانه ورحمته.

روى أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم أن يؤمنوا.

ثم نفى صدقهم فى الوعد وبين أن غرضهم كشف العذاب فحسب فقال :

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ؟) أي كيف يتذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان حين يكشف عنهم العذاب ، وقد جاءهم الرسول بما هو كاف فى رجوعهم إلى الحق فلم يرجعوا ، بل قال بعضهم :

إن القرآن إنما يعلمه له غلام رومىّ لبعض ثقيف ، وقال آخرون : إنه أصيب بخبل إذ تلقى إليه الجن هذه الكلمات حين يعرض له الغشي.

والخلاصة ـ إن التوبة إما أن تكون بما ينال الناس من النوائب ، وإما أن تكون بما يتضح لهم من الحقائق ، وهؤلاء قد اتضحت لهم وجوه الصواب فلم يفقهوا ، فأخذناهم بالعذاب ، ولكن كيف يرجعون به وقد ذكرناهم بالآيات وأريناهم الحقائق وهى أنجع أثرا من العقاب فلم يؤمنوا وقالوا ما قالوا.

ثم نبه إلى أنهم لا يوفون بعهدهم ، بل إذا زال الخوف نكصوا على أعقابهم ورجعوا سيرتهم الأولى وعضّوا على الكفر بالنواجذ ، وساروا على طريق الآباء والأجداد فقال :

(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي إنا رافعو هذا الضر النازل بهم بالخصب الذي نوجده لهم زمنا يسيرا ، وإنا لنعلم أنهم عائدون إلى سيرتهم الأولى من

١٢٣

تمسكهم بالكفر وترك الحق وراءهم ظهريا ، لما فى طباعهم من الميل إلى عبادة الأوثان وتقليد الآباء والأجداد.

ولما كان العذاب الأليم لم يؤثر ، والإصلاح بالعلم والإيمان لم يفد ، أمهلناهم إلى يوم البطشة الكبرى حيث لا توبة بعدها فينتقم الله منهم ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي إننا يوم القيامة لنسلطنّ عليهم بأسنا ، وننتقمنّ منهم أشد الانتقام ، ولا يجدنّ شفيعا ولا وليا ولا نصيرا يمنع عنهم عقابنا ، فيندمنّ ، ولات ساعة مندم.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

١٢٤

تفسير المفردات

فتنا : أي بلونا وامتحنا ، كريم : أي جامع لخصال الخير والأفعال المحمودة قاله الراغب ، أدّوا إلىّ عباد الله : أي أطلقوا وسلموا ، أمين : أي ائتمنه الله على وحيه ورسالته ، وأن لا تعلوا على الله : أي لا نستكبروا على الله بالاستهانة بوحيه ، بسلطان مبين :

أي بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها ، عذت بربي وربكم : أي التجأت إليه وتوكلت عليه ، أن ترجمون : أي تؤذوني ضربا أو شتما ، فاعتزلون : أي كونوا بمعزل منى لا علىّ ولا لى ولا تتعرضوا لى بسوء ، مجرمون : أي كافرون ، أسر بعبادي : أي سر بهم ليلا ، متبعون : أي يتبعكم فرعون وقومه ، رهوا : أي ساكنا ، يقال عيش راه إذا كان خافضا وادعا ، وافعل ذلك سهوا رهوا : أي ساكنا بغير تشدد ، قال القطامي فى وصف الرّكاب :

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصدور على الأعجاز تتّكل

مقام كريم : أي مجالس ومنازل حسنة ، نعمة : أي حسن ونضرة ، قال صاحب الكشاف : النعمة (بالفتح) من التنعم ، (وبالكسر) من الإنعام ، فاكهين : أي طيبى الأنفس ناعمين ، فما بكت عليهم السماء : أي لم تكترث لهلاكهم ولا اعتدّت بوجودهم ، وقد جرى الناس أن يقولوا حين هلاك الرجل العظيم الشأن : إنه قد أظلمت الدنيا لفقده ، وكسفت الشمس والقمر له ـ وبكت عليه السماء والأرض كما قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز رحمه الله :

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكى عليك نجوم الليل والقمرا

منظرين : أي ممهلين ومؤخرين ، العذاب المهين : أي الشديد الإهانة والإذلال ، عاليا : أي جبارا متكبرا ، من المسرفين : أي فى الشر والفساد ، اخترناهم : أي اصطفيناهم ، على علم : أي عالمين باستحقاقهم ذلك ، على العالمين : أي عالمى زمانهم ، الآيات : أي المعجزات كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى ، بلاء مبين : أي اختبار ظاهر.

١٢٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن مشركى مكة أصروا على كفرهم ولم يؤمنوا برسولهم ـ أردف هذا بيان أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الأمم ، فكثير قبلهم كذبوا رسلهم ، فهاهم أولاء قوم فرعون قد كان منهم مع موسى مثل ما كان من قومك معك بعد أن أتاهم بالبينات التي كانت تدعو إلى تصديقه ، فكذبوه فنصره الله عليهم وأغرق فرعون وقومه وجعلهم مثلا للآخرين.

الإيضاح

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي ولقد اختبرنا قبل مشركى قومك ـ قوم فرعون وهم مثال قومك فى جبروتهم وطغيانهم ، وعتوّهم واستكبارهم ، فأرسلنا إليهم الرسول الكريم موسى عليه السلام فقال لهم : أيها القوم أرسلوا معى بنى إسرائيل وأطلقوهم من أسركم وتعذيبكم ، إنى رسول من الله مأمون على ما أبلغكم غير متّهم فيه.

ونحو الآية قوله عز اسمه : «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى».

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وأن لا تطغوا وتبغوا على ربكم فتكفروا به وتعصوه فتخالفوا أمره ـ لأنى آتيكم بحجة واضحة على حقية ما أدعوكم إليه ، لمن تأملها وتدبّر فيها.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي وإنى ألتجئ إلى الله الذي خلقنى وخلقكم أن لا تصلوا إلىّ بسوء من قول أو فعل.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي وإن لم تصدقونى فيما جئتكم به من عند

١٢٦

ربكم فخلوا سبيلى ولا ترجمونى باللسان ولا باليد ، ودعوا الأمر بينى وبينكم مسالمة إلى أن يقضى الله بيننا.

ولما طال مقامه صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم ، وأقام حجج الله عليهم ، ولم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا دعا عليهم ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي فدعا ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا به ولم يؤدوا إليه عباد الله وهموا بقتله : بأن هؤلاء قوم مشركون بك مكذبون لرسلك.

ونحو الآية قوله : «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما».

وحينئذ أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم بلا أمر فرعون ولا مشورته ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) أي فسر ببني إسرائيل ومن آمن معك من القبط ليلا.

ثم علل السّرى ليلا فقال :

(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي إن فرعون وقومه سيتبعونكم إذا علموا بخروجكم ، ومسيركم ليلا يؤخر علمهم بذلك ، فلا يدركونكم.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً. لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى».

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي وإذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته حتى يدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه.

١٢٧

روى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر رجع ليضربه بعصاه حتى يلتئم خوفا من فرعون وجنوده أن يتبعوه ، فأمر أن يتركه كما هو حتى يدخلوه.

وإنما أخبر موسى بغرقهم ليطمئن قلبه فيترك البحر كما هو.

ولما أخبر بغرقهم ذكر ما خلفوه فقال :

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ. وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي كم ترك فرعون وقومه بعد مهلكهم من بساتين فيحاء ، وحدائق غنّاء ، وزروع ناضرة ، وقصور شاهقة ، فقد كانوا فى بلهنية من العيش ، وسعة فى الرزق ، وخفض ودعة ، وسرور وحبور.

ثم أكد هذا بقوله :

(كَذلِكَ) أي هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذبوا رسلنا ، وهكذا نفعل بكل من عصانا وخالف أمرنا.

(وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) أي وأورثنا تلك البلاد بما فيها من خير عميم ، ونعيم عظيم ، قوما غير أهلها ممن لا يمتون إليهم بقرابة ولا دين ، فقد تغلب على مصر الآشوريون والبابليون حينا ، والحبش حينا آخر ، ثم الفرس مدة واليونان أخرى ثم الرومان من بعدهم ، ثم العرب ثم الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والمماليك البرية والبحرية والترك والفرنسيون والإنكليز. وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا ونتمكن من استقلال بلادنا ، ولله الأمر من قبل ومن بعد «قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

ثم سخر منهم واستهزأ بهم حين هلكوا فقال :

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) كان هؤلاء القوم يستعظمون أنفسهم ويظنون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك على ما جرت به العادة فى مهلك العظيم

١٢٨

أن يقولوا بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ونحو ذلك. قال يزيد بن مفرّغ :

الريح تبكى شجوه

والبرق يلمع فى غمامه

فأخبر سبحانه بأن هؤلاء كانوا دون ذلك فما بكت عليهم سماء ولا أرض.

(وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي وما أمهلوا لتوبة أو تدارك تقصير ، بل عجّل لهم العذاب.

ولما بين كيفية إهلاك فرعون وقومه ، أردف ذلك ذكر إحسانه إلى موسى وقومه فقال :

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي ولقد خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة ، إلى نحو ذلك من وسائل الخسف والضيم إذ كان جبارا مستكبرا مسرفا فى الشر والفساد ، ولا أدل على ذلك من ادعائه الألوهية ، إذ قال أنا ربكم الأعلى.

ونحو الآية قوله تعالى : «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً».

وبعد أن بين طريق دفعه للضّر عنهم ، أردف ذلك ذكر ما أكرمهم به فقال :

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ولقد اصطفيناهم على عالمى زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب وأرسلنا فيهم من الرسل ، ونحن عالمون بأنهم أهل لكل مكرمة وفضل.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي وأعطيناهم من الأمور ذوات الخطر الدالة على كرامتهم عندنا ، ما فيه عبرة لمن تأمل فيه ، فأنجيناهم من عدوهم ، وظللنا عليهم الغمام ، وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى ، إلى نحو أولئك.

(٩ ـ مراغى ـ الخامس والعشرون)

١٢٩

قال الحسن وقتادة : البلاء المبين النعمة الظاهرة على نحو ما جاء فى قوله : «وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً» وقوله : «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً».

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))

تفسير المفردات

بمنشرين : أي بمبعوثين ، يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا أحياهم ، وتبّع : واحد التبابعة ، وهم ملوك اليمن ، وهذا اللقب أشبه بفرعون لدى قدماء المصريين ، وهم طبقتان :

الطبقة الأولى ملوك سبإ وريدان من سنة ١١٥ قبل الميلاد إلى ٢٧٥ بعده. والطبقة الثانية ملوك سبإ وريدان وحضرموت والشّحر من سنة ٢٧٥ بعد الميلاد إلى سنة ٥٢٥ ، وأولهم شمر برعش ، وآخرهم ذو نواس ثم ذو جدن ، ومنهم ذو القرنين أو إفريقش ، ويسمى الصعب. وبعده عمرو زوج بلقيس ثم أبو بكر ابنه ثم ذو نواس ، والذين اشتهروا من هؤلاء الملوك ثلاثة شمر برعش وذو القرنين وأسعد أبو كرب.

المعنى الجملي

عود على بدء ـ كان الكلام أولا فى كفار قريش ، إذ قال فيهم : بل هم فى شك يلعبون ، أي إنهم فى شك من البعث والقيامة ، ثم بين كيف أصروا على كفرهم ، ثم ذكر أن قوم فرعون كانوا فى إصرارهم على الكفر كهؤلاء ، وقد أهلكهم الله وأنجى بنى إسرائيل ، ثم رجع إلى الحديث الأول ، وهو إنكارهم للبعث وقولهم إنه لا حياة بعد هذه الحياة ، فإن كنتم صادقين فاسألوا ربكم يعجل لنا إحياء من

١٣٠

مات حتى يكون ذلك دليلا على صدق دعواكم النبوّة والبعث فى القيامة ، ثم توعدهم بأنه سيستنّ بهم سنة من قبلهم من المكذبين ، فقد أهلك من هم أقوى منهم بطشا وأكثر جندا ، وهم قوم تبع ملوك اليمن من قحطان ، فحذار أن تصرّوا على الكفر حتى لا يحيق بكم بأس ربكم.

الإيضاح

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي إن هؤلاء المشركين من أهل مكة يقولون : ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا ، ولا حياة بعد الممات ، ولا بعث ولا نشور.

ثم خاطبوا من وعدوهم بالنشور ، وهم النبي وأصحابه وقالوا لهم :

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان البعث حقا كما تقولون ، فعجلوا لنا بإحياء آبائنا الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا إن كنتم صادقين فيما تدّعون.

وهذه حجة داحضة ، فإن المعاد يوم القيامة بعد انقضاء الدار الدنيا حين يعيد الله العالمين خلقا جديدا ، ومن ثم لم يتعرض الكتاب الكريم لردّ ما قالوا ، بل قال لهم مهددا متوعدا منذرا بأسه الذي لا يرد :

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نظراءهم المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع أهلكهم الله وخرّب ديارهم وشرّدهم فى البلاد شذر مذر ، وقد كانوا أقوى منهم جندا وأكثر عددا ، وكانت لهم دولة وصولة ، وهؤلاء ليسوا فى شىء من ذلك ـ وكذلك فعل بمن قبلهم كعاد وثمود إذ كانوا فى خسران مبين بكفرهم وإنكارهم للبعث والنشور ، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك «سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً».

١٣١

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

تفسير المفردات

لاعبين : أي عابثين ، بالحق : أي بسبب الحق وهو الإيمان بالله والطاعة له ، يوم الفصل : هو يوم القيامة ، سمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الحق والباطل ، ميقاتهم : أي وقت موعدهم ، يغنى : أي ينفع ، مولى : أي ابن عم أو حليف.

الإيضاح

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما خلقنا الخلق عبثا بأن نوجدهم ثم نفنيهم بغير امتحان بطاعتنا ، واتباع أمرنا ونهينا ، وبغير مجازاة للمطيع على طاعته ، والعاصي على معصيته ، بل خلقناهم لنبتلى من أردنا امتحانه منهم بما شئنا ، ولنجزى الذين أساءوا بما عملوا ، ونجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

وقد سبق نحو هذا فى سورة «يونس» وسورة «المؤمنون» حيث قال : «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» وفى سورة ص إذ قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)».

(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالحق ، وهو الدلالة بهما على وحدانية الخالق لهما ، ووجوب طاعته ، والإنابة إليه ، لعظمته وجبروته

١٣٢

كما جاء فى الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق فبى عرفونى».

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون ذلك ، فهم لا يخافون من سخطه عقوبة لهم على ما اجترحوا من السيئات ، ولا يرجون ثوابا على خير فعلوه لتكذيبهم بالميعاد والعودة إلى دار أخرى بعد هذه الدار.

وخلاصة ما تقدم ـ إن هؤلاء لقلة تدبرهم لا يعتقدون أن الأمر كذلك ، وهم واهمون فيما يظنون ، إذ لو لم توجد دار للجزاء لما امتاز مطيع من عاص ، ولا محسن من مسىء ، والعقل قاض بغير هذا.

ثم أكد ما سلف بقوله :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إن هذا اليوم الذي يفصل الله فيه بين خلقه ، فيحق الحق ، ويبطل الباطل ، لآت لا محالة وهو وقت حسابهم ، وجزائهم على ما كسبت أيديهم من خير أو شر.

ونحو الآية قوله : «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ» وقوله : «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً».

م وصف أهوال هذا اليوم فقال :

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إن هذا يوم تنقطع فيه الأسباب بابن آدم فلا تنفع الناس إلا أعمالهم ، فمن أصاب خيرا فى دنياه سعد به ، ومن أصاب شرا شقى به ، ولا يغنى القريب عن القريب ، ولا يدفع عنه شيئا من عذاب الله ، ولا يجد الناصر الذي يقيه ذلك العذاب.

وقصارى ذلك ـ لا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصره ولو كان بينهما فى الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما.

١٣٣

ونحو الآية قوله : «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ» وقوله «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ».

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي لكن من رحمه الله فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ، ولا إلى ناصر ينصره قاله الكسائي.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي إن الله هو العزيز فى انتقامه من أعدائه ، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

تفسير المفردات

شجرة الزقوم : هى شجرة ذات ثمر مرّ تنبت بتهامة ، شبهت بها الشجرة التي تنبت فى الجحيم ، والأثيم : أي الكثير الآثام والذنوب وهو الكافر ، والمهل : دردىء الزيت ، والجميم : الماء الذي تناهى حره ، والعتل أن تأخذ بمنكبي الرجل فتجره إليك وتذهب به إلى حبس أو محنة. وقال ابن السكيت : عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دفعته دفعا عنيفا ، وسواء الجحيم : وسطها.

الإيضاح

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ) أي إن الزقوم وهو ثمر هذه الشجرة التي فى الجحيم ـ طعام للكافر كثير الذنوب والآثام.

١٣٤

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي وهذا الطعام الذي يشبه دردىء الزيت الأسود ـ يغلى فى بطون الكفار ويكون كالماء الحار إذا اشتد غليانه.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي ويقال للزبانية «خدم جهنم» خذوا هذا المجرم فادفعوه دفعا إلى وسط جهنم ، لينال قسطه من عذابها.

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي وبعد أن تدخلوه فيها صبّوا فوق رأسه من الماء الساخن الذي ذكرنا صفته.

ونحو الآية قوله تعالى : «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ».

ثم ذكر ما يقال له آنئذ تقريعا وتهكما.

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي ذق هذا الذل والهوان اليوم ، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم ، وها هو ذا قد تبين لك أنك أنت الذليل المهين ، فأين ما كنت تقول وتدعى من العز والكرامة؟ فهلا تمتنع من العذاب بعزتك.

أخرج الأموى فى مغازيه عن عكرمة قال : لفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا جهل فقال له : إن الله أمرنى أن أقول لك : أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ، فنزع يده من يده وقال بأى شىء تهددنى ، ما تستطيع أنت ولا صاحبك أن تفعلا بي شيئا ، إنى لمن أعز هذا الوادي وأكرمه ، لقد علمت أنى أمنع أهل بطحاء على قومه ، فقتله الله يوم بدر وأذله ، وعيّره بكلمته ، فأنزل «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي إن هذا العذاب. الذي تعذبون به هو العذاب الذي كنتم تشكّون فيه فى الدنيا ، فتختصمون فيه ، ولا توقنون به ، فقد لقيتموه فذوقوه.

ونحو الآية قوله تعالى «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ».

١٣٥

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

تفسير المفردات

فى مقام أمين : أي فى مجلس أمنوا فيه من كل همّ وحزن ، سندس : أي ديباج رقيق ، إستبرق : أي حرير فيه بريق ولمعان ، زوّجناهم : أي قرناهم ، بحور عين :

أي بجوار بيض حسان واسعات العيون ، يدعون : أي يطلبون ، وقاهم : أي حفظهم ارتقب : أي انتظر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر وعيد الكافرين وما يرونه من الأهوال فى ذلك اليوم ـ أعقب هذا بوعد المتقين بما يلاقونه فى جنات النعيم من ضروب التكريم فى الملبس والزوجات والمآكل ، ثم ببيان أن هذا النعيم أبدىّ خالد لا يعقبه موت ولا تحوّل ولا انتقال ، ثم ختم السورة بالمنة على العرب فى نزول القرآن بلغتهم لعلهم يعتبرون ويتعظون به ، ثم توعدهم إذا هم كذبوا بما جاء به الرسول بحلول النقمة بهم ، والنصر له عليهم ، كما هى سنته فى أمثالهم من المكذبين «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي».

١٣٦

الإيضاح

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي إن المتقين لله فى الدنيا الخائفين عقابه ، المنتظرين فضله وثوابه ـ يكونون فى الآخرة فى مجالس يأمنون فيها من الموت ومن كل ما يحزنهم ويصيبهم من الآفات والآلام.

وقد ذكر سبحانه من ضروب نعيمهم خمسة ألوان :

(١) مساكنهم كما قال «فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» والمسكن يطيب بأمرين :

(ا) أن يكون من فيه آمنا من جميع ما يخافه ويحذر منه ، وهو المقام الأمين.

(ب) أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون ، وذلك قوله : «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».

(٢) ملابسهم ، وهى التي عناها سبحانه بقوله :

(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) وقد تقدم بسط الكلام فى ذلك فى سورة الكهف.

(٣) استئناس بعضهم ببعض بجلوسهم على جهة التقابل ، وهو ما أشار إليه بقوله :

(مُتَقابِلِينَ) أي ينظر بعضهم إلى بعض ، وهو أتمّ للأنس.

(٤) الأزواج كما قال :

(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وهذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ.

(٥) المأكول كما قال :

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يطلبون ما يشتهون من أنواع الفاكهة ، وهم آمنون من انقطاعها ، ومن غائلة أذاها ومكروهها ، فهى ليست كفاكهة الدنيا التي نأكلها ونخاف مكروه عاقبتها ، أو نخاف نفادها فى بعض الأحايين.

١٣٧

وبعد أن وصف ما هم فيه من نعيم مقيم ، بيّن أن حياتهم فى هذا النعيم دائمة لا يلحقها موت ولا فناء فقال :

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي لا يخشون فى الجنة موتا ولا فناء أبدا. وقد ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «يؤتى بالموت فى صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت» وقد تقدم هذا فى سورة مريم.

وروى أبو هريرة وأبو سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا» رواه مسلم.

وخلاصة ذلك ـ لا يذوقون فيها الموت ، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها فى الدنيا كذا قال الزجاج والفرّاء.

(وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وهم مع هذا النعيم قد نجاهم من العذاب الأليم ، فى دركات الجحيم ، فأعطاهم ما يطلبون ، ونجاهم مما يهزبون.

(فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي نجاهم من ذلك تفضلا منه وإحسانا.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي أعطيناه هؤلاء المتقين من الكرامة ، هو الفوز العظيم بما كانوا يطلبون إدراكه فى الدنيا ، بأعمالهم ، وطاعتهم لربهم ، واتقائهم إياه ، فيما امتحنهم به من الطاعات ، واجتنابهم للمحرمات.

ولما أتمّ المقاصد التي أراد ذكرها فى هذه السورة لخصها بقوله :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إنما سهلنا إليك قراءة القرآن الذي أنزلناه إليك بلسانك ، ليتذكر به قومك ويتعظوا بعظاته ، ويتفكروا فى آياته إذا تلوتها عليهم ، فينيبوا إلى ربهم ، ويذعنوا للحق الذي تبيّنوه.

ولما كان القرآن مع هذا الوضوح والبيان قد خالف فيه بعض الناس وعاند ، قال تعالى مسليّا رسوله وواعدا له بالنصر ، ومتوعدا من كذبه بالهلاك.

١٣٨

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فانتظر فإنهم منتظرون ، وسيعلمون لمن تكون النصرة والغلبة ، والظفر وعلوّ الكلمة فى الدنيا والآخرة ـ ولا شك أن النصر سيكون لك كما كان لإخوانك من النبيين والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين كما قال : «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ».

وقصارى ذلك ـ ارتقب النصرة من ربك ، إن المشركين مرتقبون بك ما يتمنونه من الغوائل ، وما يتربصونه بك من الدوائر ، ولن يضيرك ذلك بفضل ربك عليك ، وسيتم نصرك ، ويفلج حجتك ، ويعلى كلمتك.

اللهم يا من بيدك الخير ، وأنت على كل شىء قدير ، وفقنا لإتمام تفسير كتابك ، واجعله لنا نورا يوم العرض والحساب.

خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد

(١) بيان بدء نزول القرآن.

(٢) وعيد الكافرين بحلول الجدب والقحط بهم.

(٣) عدم إيمانهم مع توالى النكبات بهم.

(٤) عظة الكافرين بقصص فرعون وقومه مع موسى عليه السلام ، وقد أنجى الله المؤمنين ، وأهلك الكافرين.

(٥) إنكار المشركين للبعث وقولهم : إن هى إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (٦) إقامة الدليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم.

(٧) وصف أهوال يوم القيامة.

(٨) وصف ما يلاقيه المجرمون من النكال والوبال.

(٩) وصف نعيم المتقين وحصولهم على كل ما يرغبون.

١٣٩

سورة الجاثية

هى مكية إلا الآية الثامنة فمدنية.

وعدة آيها سبع وثلاثون ، نزلت بعد سورة الدخان.

ومناسبتها لما قبلها : أن أول هذه مشاكل لآخر سابقتها فى الأغراض والمقاصد.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

تفسير المفردات

لآيات : أي لعبرا ، يبث : أي يفرق وينشر ، اختلاف الليل والنهار : أي تعاقبهما ليل بعد نهار ونهار بعد ليل ، من رزق. أي من مطر ، وسمى بذلك لأنه سبب له ، وتصريف الرياح : أي تغييرها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال.

الإيضاح

(حم) قد عرفت الكلام فى أمثالها من قبل.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي إن هذا الكتاب الكريم

١٤٠