تفسير المراغي - ج ٢٥

أحمد مصطفى المراغي

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

تفسير المفردات

مثلا : أي حجة وبرهانا ، يصدّون (بكسر الصاد) أي يصيحون ويرتفع لهم ضجيج وفرح ، جدلا : أي خصومة بالباطل ، خصمون : أي شديد والخصومة مجبولون على اللجاج وسوء الخلق ، مثلا : أي أمرا عجيبا ، منكم : أي من بعضكم ، يخلفون : أي يخلفونكم فى الأرض ، علم : أي علامة وشرط من أشراطها ، فلا تمترنّ : أي فلا تشكنّ ، البينات : المعجزات ، الحكمة : الشرائع المحكمة التي لا يستطاع نقضها ولا إبطالها.

١٠١

المعنى الجملي

روى محمد بن إسحاق فى السيرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فى المسجد مع الوليد بن المغيرة ، فجاء النضر بن الحارث وجلس معهم وفى المسجد غير واحد من رجالات قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم : «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» الآيات ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقبل عبد الله بن الزّبعرى التميمي وجلس فقال له الوليد بن المغيرة : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد ، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال ابن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، سلوا محمدا ، أكلّ ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى بن مريم ، فعجب الوليد ومن كان معه فى المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته وأنزل الله عز وجل : «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» أي عيسى وعزير ومن عبد معهما ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلال أربابا من دون الله ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه السّلام وأنه يعبد من دون الله «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً» الآية.

الإيضاح

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعبادة النصارى له ، إذا

١٠٢

قومك من هذا المثل يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وسرورا كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا أعيوا فى حجة ثم فتحت عليهم.

وقد روى أن عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم وقد سمعه يقول : «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» أليس النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا صالحا ، فإن كان فى النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ، ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) أي إن آلهتنا ليست خيرا من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون.

(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي ما ضربوا لك المثل إلا لأجل الجدل والغلبة فى القول لا لإظهار الحق ، فإن قوله : «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ» إنما ينطلق على الأصنام والأوثان ولا يتناول عيسى والملائكة ، ولكنهم قوم ذوو لدد فى الخصومة ، مجبولون على سوء الخلق واللجاج.

قال صاحب الكشاف : إن ابن الزبعرى بخبّه وخداعه وخبث دخلته لما رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير ـ وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله ، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقّح فى ذلك ، فتوفّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أجاب عنه ربه بقوله : «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» فدل به على أن الآية خاصة فى الأصنام اه.

أخرج سعيد بن منصور وأحمد فى جماعة عن أبى أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم تلا هذه الآية»

ثم بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله :

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي ما عيسى بن مريم

١٠٣

إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وروادفها ، فهو رفيع المنزلة علىّ القدر ، وقد جعلناه آية ، بأن خلقناه من غير أب ، وشرفناه بالنبوة ، وصيرناه عبرة سائرة ، تفتح للناس باب التذكر والفهم ، وليست مخالفة العادة بموجبة لعبادته كما يزعم النصارى ، بل مذكرة بعبادة الخالق الحكيم.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء لجعلنا ذريتكم ملائكة يخلفونكم فى الأرض كما يخلفكم أولادكم ، كما خلقنا عيسى من أنثى بلا ذكر وجعلناه رجلا.

وقد يكون المعنى على التهديد والتخويف لقريش ويكون المراد ـ لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم فى الأرض ملائكة يعمرونها ويعبدوننا.

والخلاصة ـ إننا لو نشاء لجعلنا فى الأرض عجائب كأمر عيسى بحيث يلد الرجل ملكا فيخلفه ، فباب العجائب وتغير السنن لاحد له عندنا ، فكم من نواميس خافية عليكم بيدنا تصريفها.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي وإن القرآن ليعلمكم بقيام الساعة ، ويخبركم عنها وعن أهوالها ، فلا تشكّنّ فيها واتبعوا هداى ، فهذا الذي أدعوكم إليه هو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه وهو الموصل إلى الحق.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي ولا تغتروا بوساوس الشيطان وشبهه التي يوقعها فى قلوبكم ، فيمنعكم ذلك عن اتباعى ، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه.

ثم علل نهيهم عن اتباعه بعداوته لهم فقال :

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه مظهر لعداوته لكم ، غير متحاش ولا متكتم لها كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين أبيكم آدم من امتناعه عن السجود له ، وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بنى آدم إلا عباد الله المخلصين.

١٠٤

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي ولما جاء عيسى بالمعجزات الواضحة قال قد جئتكم بالشرائع التي فيها صلاح البشر ، ولأبيّن لكم بعض ما اختلف فيه قوم موسى من أحكام الدين دون أمور الدنيا كطرق الفلاحة والتجارة ، فإن الأنبياء لم يبعثوا لبيانها كما يشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام حين نهاهم عن تأبير النخل (تلقيحه بالطلع) ففسد الثمر ولم يغلّ شيئا نافعا «أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم».

ولما بين لهم أصول الدين وفروعه قال :

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاتقوا الله فى مخالفتى ، وخافوا أن يحل بكم عقابه ، وأطيعونى فيما أبلغكم عنه من الشرائع والتكاليف.

ثم فصل ما يأمرهم به بقوله :

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي إن الله الذي يستحق إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له ـ ربى وربكم ، فأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه.

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم ، وكل الديانات جاءت بمثله ، فما هو إلا اعتقاد بوحدانية الله ، وتعبّد بشرائعه.

وقصارى ذلك ـ إنه علم بحقائق ، وعمل بشرائع.

ولما كان الطريق القويم يجب الاجتماع عليه ، والاتفاق على سلوكه ـ بين أنهم خالفوا ذلك فاختلفوا فيه فقال :

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف النصارى وصاروا شيعا ، من ملكانية إلى نسطورية إلى يعقوبية ، فمنهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق ، ومنهم من يدعى أنه ابن الله ، ومنهم من يقول إنه الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي فالويل لهؤلاء المختلفين الذين

١٠٥

أشركوا بالله وقالوا فى عيسى ما كفروا به ـ من عذاب يوم القيامة حين يحاسبون على ما قالو وعلى ما عملوا.

ثم حذرهم وأنذرهم على ما هم فيه من الخلاف دون أن يتبينوا وجه الحق فقال :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون فى شأن عيسى القائلون فيه الباطل من القول ـ إلا أن تقوم الساعة بغتة وهم غافلون عنها لا يعلمون بمجيئها لاشتغالهم بأمر دنياهم وإنكارهم لها ، فيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ولا يدفع ذلك عنهم شيئا.

ونحو الآية قوله تعالى : «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ».

روى ابن مردويه عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعمة ، والرجلان يطويان الثوب ، ثم قرأ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

تفسير المفردات

الأخلاء : واحدهم خليل ، وهو الصديق الحميم ، مسلمين : أي مخلصين منقادين لربهم ، تحبرون : أي تسرون سرورا يظهر حباره (بفتح الحاء) أي أثره من النضرة

١٠٦

والحسن على وجوهكم ، والصحاف : واحدها صحفة وهى كالقصعة ، قال الكسائي : أكبر أوانى الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم المئكلة ، والأكواب : واحدها كوب ، وهو كوز لا أذن له.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أن يوم القيامة سيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ـ أردف ذلك بيان أحوال ذلك اليوم ، فمنها أن الأخلاء يتعادون فيه إلا من تخالّوا على الإيمان والتقوى ، ومنها أن المؤمنين لا يخافون من سلب نعمة يتمتعون بها ، ولا يحزنون على فقد نعمة قد فاتتهم ، ومنها أنهم يتمتعون بفنون من الترف والنعيم فيطاف عليهم بصحاف من ذهب فيها ما لذّ وطاب من المآكل ، وبأكواب وأباريق فيها شهنىّ المشارب ، ويقال لهم هذا النعيم كفاء ما قدمتم من عمل بأوامر الشرع ونواهيه ، وأسلفتم من إخلاص لله وتقوى له.

الإيضاح

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي كل صداقة وخلة فإنها تنقلب فى ذلك اليوم إلى عداوة إلا ما كانت فى الله وفى سبيله ، فإنها تبقى فى الدنيا والآخرة.

ونحو الآية ما قاله إبراهيم لقومه : «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ».

ثم ذكر ما يتلقى به سبحانه عباده المؤمنين المتحابين فى الله تشريفا لهم وتسكينا لروعهم مما يرون من الأهوال فقال :

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي ونقول لهم حينئذ : يا عباد

١٠٧

لا تخافوا من عقابى ، فإنى قد أمّنتكم منه برضاى عنكم ، ولا تحزنوا على فراق الدنيا ، فإن الذي تقدمون عليه خير لكم مما فارقتموه منها.

ثم بين من يستحق هذا النداء وذلك التكريم فقال :

(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي الذين آمنت قلوبهم ، وصفت نفوسهم ، وانقادت لشرع الله بواطنهم وظواهرهم.

ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل البشرى فقال :

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي ادخلوا الجنة أيها المؤمنون أنتم وأزواجكم مغبوطين بكرامة الله ، مسرورين بما أعطاكم من مننه.

وبعدئذ ذكر طرفا مما يتمتعون به من النعيم فقال :

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي وبعد أن يستقروا فى الجنة ويهدأ روعهم يطاف عليهم بجفان من الذهب مترعة بألوان الأطعمة والحلوى ، وبأكواب فيها أصناف الشراب مما لذّ وطاب.

وبعد أن فصل بعض ما فى الجنة من نعيم ، عمّم فى ذلك فقال :

(وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وفى الجنة ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والأشياء المعقولة والمسموعة ونحوها مما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان ، جزاء لهم على ما منعو أنفسهم من الشهوات ، وفيها ما تقرّ أعينهم بمشاهدته ، وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم ، وأنتم لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا.

أخرج ابن أبى شيبة والترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال : «قال رجل يا رسول الله هل فى الجنة خيل فإنى أحب الخيل؟ قال : إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك فى أىّ الجنة شئت إلا فعلت ، وسأله آخر فقال : يا رسول الله هل فى الجنة من إبل فإنى أحب الإبل؟ فقال إن يدخلك الله الجنة يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك».

١٠٨

ثم ذكر أن هذا كان فضلا من ربكم آتاكموه كفاء أعمالكم التي أسلفتموها فقال :

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وهذه الجنة جعلها الله لكم باقية كالميراث الذي يبقى عن المورث ، جزاء ما قدمتم من عمل صالح.

أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «ما من أحد إلا وله منزل فى الجنة ومنزل فى النار ، فالكافر يرث المؤمن منزله فى النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله فى الجنة ، وذلك قوله : «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها».

وبعد أن ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال :

(لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) أي لكم فيها صنوف من الفواكه لا حصر لها ، تأكلون منها حيثما شئتم ، وكيفما اخترتم.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

تفسير المفردات

المراد بالمجرمين هنا الراسخون فى الإجرام وهم الكفار ، يفتّر : أي يخفف ، من قولهم : فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا ، مبلسون : من الإبلاس وهو الحزن المعترض

١٠٩

من شدة اليأس ، والمبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه ، ومن ثم قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته ، قاله الراغب ، مالك : خازن النار ، ليقض علينا ربك : أي ليمتنا ، من قولهم : قضى عليه : أي أماته ، وأبرم الأمر : أحكم تدبيره ، أمرا : هو التحيل فى تكذيب الحق ، والسر : هو ما يحدث به المرء نفسه أو غيره فى مكان خال ، والنجوى : التناجي فيما بينهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما أعدّ لأهل الجنة من النعيم المقيم ، والتمتع بفنون اللذات من المآكل والمشارب والفواكه ـ أعقب ذلك بذكر ما يكون فيه الكفار من العذاب الأليم الدائم الذي لا يخفّف عنهم أبدا ، وهم فى حزن لا ينقطع ، ثم ذكر أن هذا ليس إلا جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من سييء الأعمال ، ثم أردف ذلك بمقال أهل النار لخزنة جهنم وطلبهم من ربهم أن يموتوا حتى يستريحوا مما هم فيه من العذاب ، ثم إجابته لهم عن ذلك ، ثم وبخهم على ما عملوا فى الدنيا واستحقوا به العذاب ، ثم ذكر ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق وإعلاء شأن الباطل ظنا منهم أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم ، وقد وهموا فيما ظنوا ، فإن الله عليم بذلك ورسله يكتبون كل ما صدر عنهم من قول أو فعل.

الإيضاح

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي إن الذين اجترموا الكفر بالله فى الدنيا يجازيهم ربهم بعذاب جهنم خالدين فيه أبدا لا ينفك عنهم ولا يجدون عنه حولا.

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفف عنهم لحظة وهم فيه ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج ، ولا منافاة بين هذا وبين قوله الآتي : ونادوا

١١٠

يا مالك إلخ لأن تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة ، فتختلف بهم الأحوال ، فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا فرج ، ويشتد عليهم العذاب أخرى فيستغيثون.

ثم ذكر أن ذلك العذاب جزاء ما كسبت أيديهم فقال :

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أننا فاعلون بهم ، ولكن هم الذين أساءوا إلى أنفسهم ، فكذبوا الرسل وعصوهم بعد أن أقاموا الحجة عليهم ، فأتوهم بباهر المعجزات.

ثم ذكر ما يقوله أهل النار وما يجيبهم به خزنتها فقال :

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي ونادى المجرمون من شدة العذاب فقالوا : يا مالك ادع لنا ربك أن يقبض أرواحنا ليريحنا مما نحن فيه ، فأجابهم بقوله إنكم ماكثون لا خروج لكم منها ، ولا محيص لكم عنها.

ونحو الآية قوله تعالى : «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها» وقوله : «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى».

ثم خاطبهم خطاب تقريع وتوبيخ وبين سبب مكثهم فيها بقوله :

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي لقد بيّنا لكم الحق على ألسنة رسلنا وأنزلنا إليكم الكتب مرشدة إليه ، ولكن سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه ، وتبغض أهله ، فعودوا على أنفسكم بالملامة ، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.

وبعد أن ذكر كيفية عذابهم فى الآخرة ، بين سببه وهو مكرهم وسوء طويتهم فى الدنيا فقال :

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي بل هم تحيلوا فى رد الحق بالباطل بوجوه من الحيل والمكر ، فكادهم الله تعالى ورد عليهم سوء كيدهم بتخليدهم فى النار معذبين فيها أبدا.

١١١

وقصارى ذلك ـ أحكموا كيد النبي صلّى الله عليه وسلم ، وإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد.

ونحو الآية قوله : «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» وقوله : «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ».

(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي بل أيظنون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك ، ولا ما يتكلمون به فيما بينهم بطريق التناجي.

(بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي بل نسمعهما ونطلع عليهما ، والحفظة يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول وفعل.

والخلاصة ـ إنا نعلم ذلك ، والملائكة يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.

قال يحيى بن معاذ : من ستر من الناس ذنوبه ، وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية ـ فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من أمارات النفاق.

وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها ، قرشيان وثقفىّ ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا ، وقال الثاني : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، وقال الثالث : إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم ، فنزلت الآية.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ

١١٢

الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

تفسير المفردات

سبحان رب السموات : أي تنزيها له عن كل نقص ، يصفون : أي يقولون كذبا بأن له ولدا ، فذرهم : أي فاتركهم ، يخوضوا : أي يسلكوا فى باطلهم مسلك الخائضين فى الماء ، ويلعبوا : أي يفعلوا فى أمورهم الدنيوية فعل اللاعب الغافل عن عاقبة ما يعمل ، يومهم : هو يوم القيامة ، إله : أي معبود بحق لا شريك له ، يدعون : أي يعبدون ، من شهد بالحق : أي من نطق بكلمة التوحيد ، يؤفكون : أي يصرفون ، وقيله : أي قوله : قال أبو عبيدة : يقال قلت قولا وقالا وقيلا ، وفى الخبر «نهى عن قيل وقال» ، فاصفح عنهم : أي اعف عنهم عفو المعرض ولا تقف عن التبليغ ، سلام : أي سلام متاركة لكم بسلامتكم منى وسلامتى منكم.

المعنى الجملي

أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للمشركين إحقاقا للحق : إن مخالفته لهم فى عبادة ما يعبدون لم يكن بغضا منه لهم ولا عداوة لمعبوديهم ، بل لاستحالة نسبة ما نسبوه إليهم وبنوا عليه عبادتهم لهم من كونهم بنات الله ، تنزه ربنا عما يقولون ، ثم أمره أن يتركهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي يلاقون فيه جزاء أعمالهم وأقوالهم

(٨ ـ مراغى ـ الخامس والعشرون)

١١٣

ثم أخبر بأن لا معبود فى السماء ولا فى الأرض سواه ، وهو الحكيم العليم بكل شىء وأن من يعبدونهم لا يشفعون لهم حين الجزاء والحساب ، ثم ذكر أن أقوالهم تناقض أفعالهم ، فهم يعبدون غير الله ، ويقولون إن الخالق للكون : سمائه ، وأرضه هو الله ، ثم أردف هذا أنه لا يعلم الساعة إلا هو ، وأنه يعلم شديد حزنك على عدم إيمانهم ، وعدم استجابتهم لدعوتك ، ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم وتركهم وشأنهم ، سيأتى اليوم الذي يلقون فيه الجزاء على سوء صنيعهم.

الإيضاح

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي قل لهم : إن ثبت ببرهان صحيح توردونه ، وحجة واضحة تدلون بها ـ أن للرحمن ولدا ، كنت أسبقكم إلى طاعته ، والانقياد له ، كما يعظّم الرجل ابن الملك تعظيما لأبيه ـ ولا شك أن هذا أبلغ أسلوب فى نفى الولد ، كما يقول الرجل لمن بناظره ويجادله : إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به ، وهذا ما اختاره ابن جرير ورجحه.

وخلاصته ـ إذا كنت لم أعترف بولد ، بدليل أنى لم أعبده مع أنى أقرب الناس إلى الله ، فالولد لا وجود له حتما ـ وكأنه يقول : إن انتفاء الولد مرتب على انتفاء عبادته ، لما علم من أنه إذا انتفى اللازم لشىء انتفى ذلك الشيء ، كما استدل بعدم فساد نظام الكون على وحدانية الله فى قوله : «لَوْ كانَ فِيهِما ـ السماوات والأرض ـ آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا».

ثم نزه سبحانه نفسه فقال :

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه مالك السموات والأرض وما فيهما من الخلق ، ورب العرش المحيط بذلك كله ـ عما يصفه

١١٤

به المشركون كذبا ، وعما ينسبون إليه من الولد ، إذ كيف تكون هذه العوالم كلها ملكا له ، ويكون شى منها جزءا منه ، تعالى ربنا عن ذلك علوّا كبيرا.

ولما ذكر الدليل القاطع على نفى الولد أمره أن يتركهم وشأنهم فيما يقولون فقال :

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فاترك أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله ، الواصفيه بأن له ولدا ، يخوضوا فى باطلهم ، ويلعبوا فى دنياهم حتى يأتى ذلك اليوم الذي لا محيص عنه ، وحينئذ يعلمون عاقبة أمرهم ، ويذوقون الوبال والنكال جزاء ما اجترحوه من الشرك والآثام.

ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد والتهديد.

ثم أكد هذا التنزيه فقال :

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي وهو الله الذي يعبده أهل السماء وأهل الأرض ، ولا تصلح العبادة إلا له ، وهو الحكيم فى تدبير خلقه وتسخيرهم لما يشاء ، العليم بمصالحهم ، فالحكمة المقترنة بالعلم تخللت كل رطب ويابس وجليل وحقير ، فمن يشاهد إتقان العالم وحسن تنسيقه وإبداعه يجد الحكمة فيه على أتم وجوهها ، ويعجب مما فيه من جمال وكمال ويدهش لما يجد فيه من غرائب يحار فيها اللب ، فأفردوا له العبادة ، ولا تشركوا به شيئا سواه.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي وتقدس خالق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا ندرى كنهها ولا نعلم حقيقتها ، المتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة من أحد ، وهو العلى العظيم الذي بيده أزمّة الأمور نقضا وإبراما.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي وعنده العلم بميقات الساعة لا يجلّيها لوقتها إلا هو.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه المرجع فيجازى كل أحد بما يستحق ، إن خيرا فخير ، وإن شرافشر.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولا تقدر الأصنام والأوثان التي يعبدونها على الشفاعة لهم كما زعموا أنهم شفعاء عند ربهم ،

١١٥

ولكن من نطق بكلمة التوحيد وكان على بصيرة وعلم من ربه كالملائكة وعيسى تنفع شهادتهم عنده بإذنه لمن يستحقها.

وقال سعيد بن جبير : إن معنى الآية ـ لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة.

ثم بين أن هؤلاء المشركين متناقضو الأقوال والأفعال فقال :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء ، المشركين بالله العابدين غيره ، من خلق الخلق جميعا؟ ليعترفنّ بأنه الله تعالى وحده لا شريك له فى ذلك ، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره ، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف ، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع الله أو عبده وحده ـ فقد عبد بعض مخلوقات الله ، فهم فى غاية الجهل والسفه وضعف العقل.

وفى هذا تعجيب شديد من إشراكهم بعد هذا.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم علم الساعة وقوله لربه شاكيا قومه الذين كذبوه ولقى منهم شديد الأذى : يا رب إن هؤلاء الذين أمرتنى بإنذارهم وأرسلتنى إليهم لتبليغهم دينك الحق ـ قوم لا يؤمنون.

ولما شكا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه عدم إيمانهم أجابه بقوله :

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي فأعرض عنهم وأنت آيس من إيمانهم ، ولا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من سيىء الكلام ، بل تألفهم واصفح عنهم قولا وفعلا ، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم ، فإنك ستنتصر عليهم ، ويحل بهم بأسنا الذي لا يردّ.

وقد أنجز الله وعده ، وأنفذ كلمته ، وأعلى دينه ، وشرع الجهاد والجلاد ، فدخل الناس فى دين الله أفواجا ، وانتشر الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها.

١١٦

فله الحمد والمنة على إظهار الحق وإعلاء مناره ، وإزهاق الباطل وكبح جماحه ، تعاليت ربنا يا ذا الجلال والإكرام ، والطّول والإنعام ، وصلواتك على محمد وآله.

خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد

(١) وصف القرآن الكريم.

(٢) الأمر بإنذار قومه صلّى الله عليه وسلّم مع غفلتهم وإسرافهم فى لذات الدنيا ، (٣) شأن هؤلاء المشركين فى تكذيبهم للرسول شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم.

(٤) اعترافهم بأن الله هو خالق السموات والأرض مع عبادتهم للأصنام والأوثان.

(٥) اعتقادهم أن الملائكة بنات الله ثم نعى ذلك عليهم.

(٦) تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد فى شئونهم الدينية.

(٧) قصص الأنبياء من أولى العزم كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.

(٨) وصف نعيم الجنة.

(٩) الأهوال التي يلقاها أهل النار حتى يتمنّوا الموت ليستريحوا مما هم فيه.

(١٠) متاركة أهل الباطل والصفح عنهم حتى يأتى وعد الله.

١١٧

سورة الدخان

هى مكية ، وآيها تسع وخمسون ، نزلت بعد الزخرف.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه :

(١) إنه تعالى ختم ما قبلها بالوعيد والتهديد ، وافتتح هذه بالإنذار الشديد.

(٢) إنه تعالى حكى فيما قبلها قول رسوله صلّى الله عليه وسلم : يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، وحكى هنا عن أخيه موسى : «فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ».

(٣) إنه قال فيما سلف «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ» ، وحكى هنا عن موسى «إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» ، وهو قريب من ذلك.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

تفسير المفردات

ليلة مباركة : هى ليلة القدر ، منذرين : أي مخوّفين ، يفرق : أي يفصل ويبين ، حكيم : أي محكم لا يستطاع أن يطعن فيه بحال ، موقنين أي تطلبون اليقين وتريدونه كما يقال منجد متهم : أي يريد نجدا وتهامة.

١١٨

المعنى الجملي

أقسم جلت قدرته بكتابه الكريم المبين لما فيه صلاح البشر إنه أنزل القرآن فى ليلة القدر لإنذار العباد وتخويفهم من عقابه ، وإن هذه الليلة يفصل فيها كل أمر حكيم ، فيبين فيها التشريع النافع للعباد فى دنياهم وآخرتهم ، وهو رب السموات والأرض وما بينهما فلا تخفى عليه خافية من أمرهم ، وهو الذي بيده إحياؤهم وإماتتهم ، وهو ربهم ورب آبائهم الأولين ، ولكنهم يمترون بعد أن وضح الحق ، وأفصح الصبح لذى عينين.

الإيضاح

(حم) أسلفنا الكلام فى مثل هذا من قبل :

(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أقسم ربنا جلت قدرته بكتابه المجيد إنه بدأ ينزل القرآن فى ليلة مباركة هى ليلة القدر التي هى خير من ألف شهر كما جاء فى قوله «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» من شهر رمضان كما قال سبحانه «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ».

والخلاصة ـ إن بدء نزوله كان فى ليلة القدر ثم نزل منجما بعد ذلك فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع حالا فحالا ، وقد عقد السيوطي فى كتابه «الإتقان» أبوابا لنزول القرآن فقال : باب ما نزل منه صيفا. باب ما نزل منه شتاء. باب ما نزل منه سفرا. باب ما نزل منه حضرا. باب ما نزل منه فى الأرض. باب ما نزل منه فى السماء. باب ما نزل منه بين الأرض والسماء. باب ما نزل منه بمكة. باب ما نزل منه بالمدينة. باب ما نزل بين مكة والمدينة ـ إلى آخر ما قال فليراجع فإن فيه فوائد نفيسة.

١١٩

ثم بين السبب فى إنزاله فقال :

(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي إنا كنا معلمين الناس ما ينفعهم فيعملون به ، وما يضرهم فيجتنبونه ، لتقوم حجة الله على عباده.

ثم بين سبب تخصيص نزوله بتلك الليلة فقال :

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي فى هذه الليلة بدأ يبين سبحانه ما ينفع عباده من أمور محكمة لا تغيير فيها ولا تبديل. بإنزاله ذلك التشريع الكامل الذي فيه صلاح البشر وهدايتهم وسعادتهم فى دنياهم وآخرتهم ، ولا غرو فهى من لدن حكيم عليم بما يصلح شئون عباده فى معاشهم ومعادهم.

ثم بيّن السر فى نزول القرآن على لسان رسوله فقال :

(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إنا أرسلنا الرسول به رحمة منا لعبادنا حتى يستبين لهم ما يضرهم وما ينفعهم وحتى لا يكون لهم حجة بعد إرسال الرسول به.

ثم أكد ربوبيته بقوله :

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه إنما فعل تلك الرحمة ، لأنه هو السميع لأقوالهم ، العليم بما يصلح أحوالهم ، فلا عجب أن أرسله إليهم لحاجتهم إليه.

ثم أكد العلة فى سمعه للأشياء وعلمه بها فقال :

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إنه هو السميع لكل شىء العليم به ، لأنه مالك السموات والأرض وما فيهمان كنتم تطلبون معرفة ذلك معرفة يقين لا شك فيه.

وبعد أن أثبت ربوبيته ووحدانيته ذكر فذلكة لذلك فقال :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو الإله الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو المحيي المميت ، فيحيى ما يشاء مما يقبل الحياة ، ويميت ما يشاء عند انتهاء ما قدر له من الأجل.

١٢٠