مصابيح الظلام - ج ٦

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٦

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-6-X
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٥١

وبالجملة ؛ لم يوجد دليل تامّ كامل على كفاية العمل بالظن ، مع تيسّر العلم من دون حرج أصلا ورأسا بعد تسليم تماميّة ذلك الدليل ، فإنّما يتمّ عند المجتهد لا المقلّد له ، بل المقلّد لا يتأتّى منه الاكتفاء بالظنّ مع العجز عن اليقين إلّا بملاحظة ما أشرنا إليه من المقدّمات الضروريّة إذا تفطّن بها وبكونها ضروريّة أو يقينيّة لا أقلّ منه.

وأمّا استدلاله بقوله تعالى (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) ففيه أنّ ظاهره العلم بالشطر لا المظنّة ، كما عرفت ، وبعد العلم لا تأمّل لأحد.

ومراعاة الأمارات المستفادة ، ليست إلّا لتحصيل ذلك العلم أو الظنّ بها ، ولم يجعل أحد طريق الظن منحصر فيها ، بل هي كغيرها من الظنون ، لا بدّ من اعتبارها حتّى يحصل الظنّ ، ومن دون حصول الظن أيضا كيف يعوّل على الجهة؟

مع أنّها أقوى الظنون عند الكلّ بلا شبهة ، والتحرّي هو مراعاة الأحرى فالأحرى ، والأقوى فالأقوى ، كما هو معناه ، وكيف يستدلّ بالآية على عدم لزوم مراعاة موجبات العلم ولا موجبات المظنّة؟

بل كيف يمكن الاستدلال بها على كفاية أدنى مظنّة مع تيسّر العلم وأقوى الظنون؟

وكذا استدلاله بالأخبار عجيب ، إذ ليس كلّ أحد يكفيه أن يضع الجدي خلف قفاه ، بل ربّما يصير المكلّف بالوضع مستدبر القبلة بالبديهة ، فلا بدّ من معرفة المخاطب بالخطاب المذكور ، ولذا ورد : «اجعل الجدي على يمينك» (٢).

مع أنّ الخبرين غير صحيحين ، مع أنّه ورد المنع عن الاجتهاد في القبلة ،

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٥٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٨١ الحديث ٨٦٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٦ الحديث ٥٢٢٤.

٤٠١

وأنّه يصلّي لأربع وجوه (١) ، وستعرف ذلك.

وكذا استدلاله بما بين المشرق والمغرب ، إذ كثيرا ما كان ما بينهما دبر القبلة.

مع أنّ التوسعة إلى هذا القدر ، خلاف الإجماع والأخبار ، بل خلاف الضرورة من الدين ، كما لا يخفى.

نعم ؛ ذلك القدر قبلة الناسي والخاطئ ، كما ستعرف ، على أنّ لفظ «الشطر» معناه خفي غاية الخفاء ، معركة للآراء يرجع فيه إلى اللغة ونحوه ، كما لا يخفى على من لاحظ «التهذيب» ونحوه (٢) ، وعرف طريق استدلاله (٣) فيه. وأيّ فرق بينه وبين الرجوع إلى علامات الهيئة ، لمعرفة الشطر والجهة.

على أنّ للأصحاب اختلافا كثيرا في معرفة الجهة ، ربّما لا يسلم واحد منها من الخلل ، مع أنّ الكلّ اتّفقوا على أنّ فرض البعيد رعاية العلامات المقرّرة ، والتوجّه إلى السمت الذي عيّنته تلك العلامات ، فإذن معرفة الجهة منوطة بتلك العلامات ، ولذا ، قال المصنّف : ويعرف سمت القبلة باستعمال قوانين الهيئة.

ثمّ اعلم! أنّ طريق استعلام القبلة من الدائرة الهنديّة أنّه بعد تسوية الأرض ، وترسيم الدائرة ، واستخراج الخطّين القاسمين لها أرباعا ، أن يقسم كلّ ربع تسعين قسما متساوية.

قوله : (لأهل اليمن).

أقول : جعل بعض الأصحاب قبلة اليمن في مقابلة قبلة الشام (٤).

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٢٨٦ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣١١ الحديث ٥٢٣٨ و ٥٢٣٩.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٢ ، التبيان : ٢ / ١٤ و ١٥ ، فقه القرآن : ١ / ٩٠.

(٣) في (ز ٣) : استدلال الفقهاء.

(٤) الألفيّة والنفليّة : ٥٣.

٤٠٢

والشهيد الثاني قال : التحقيق أنّ عدن وما والاها يناسب كون قبلته نقطة الشمال ـ أي كما ذكره المصنّف ـ وأمّا صنعاء ، وما ناسبها فهي مقابلة لقبلة الشام (١).

قوله : (والثريا والعيّوق).

أي عند طلوعهما وأوائله ، والعيّوق : نجم مضي‌ء في طرف المجرّة يتلو الثريا ويبعد عنها إلى جهة الشمال ، بجعل الثريا على اليمين ، والعيّوق على اليسار ، معناه أن يتوجّه وسطهما ويستقبله ، وتكون الثريا مقابلة مقاديم اليمين ، والعيّوق مقابل مقاديم اليسار.

قوله : (لأهل السند). إلى آخره.

السند والهند مملكتان وسيعتان في غاية الوسعة ، فكيف يفي لهما ما ذكره؟ ولم يذكر المعروف المشهور من كتب أصحابنا.

فالأولى والأحوط مراعاة طول البلد وعرضه ، وجعل القبلة على ما اقتضاه ، إن علم طوله وعرضه ، وإن لم يعلم ولم يذكر في مظانه ، فيتحرّى المصلّي من مراعاة ما ذكر طوله وعرضه ومناسبته له أو غير ذلك.

قوله : (وجعل الجدي على الخد الأيمن). إلى آخره.

لا يخفى أنّه توهّم وغفلة ، إذ على هذا تصير القبلة ما بين المغرب والشمال ، بل ميلها إلى الشمال أزيد ، فتصير قبلة صنعاء وما والاها من اليمن ، وهي في مقابلة أهل الشام على ما عرفت.

فكيف يناسب أن تكون قبلة أهل المشرق؟ فضلا أن تكون قبلة أهل

__________________

(١) روض الجنان : ٢٠٠.

٤٠٣

العراق التي هي ما بين المشرق والمغرب ، وأهل المشرق قبلتهم مغرب الاعتدال ، يجعلون الجدي على يمينهم ، والجنوب على يسارهم ، والمشرق خلفهم ما بين الكتفين ، وأهل العراق وإن كانوا من أطرافه الشرقية ، وليسوا من أهل المشرق قطعا.

ولا يمكنهم مراعاة علامات أهل المشرق جزما ، فإذا كانوا لا يجوز عليهم استقبال المغرب الاعتدال قطعا ، فكيف يستقبلون ما بين المغرب والشمال؟ سيّما وكون ميلهم إلى الشمال أزيد ، فيكون توجههم إلى دبر قبلتهم.

وأمّا ما قاله جماعة من المتأخّرين من أنّ الأطراف الشرقيّة للعراق تحتاج في قبلتهم إلى زيادة انحراف إلى طرف المغرب (١).

فكلامهم صريح في كون قبلتهم ما بين المشرق والمغرب ، لا ما بين المغرب والشمال ، سيّما وأن يكون أميل إلى الشمال.

ومرادهم أنّ أوائل العراق قبلتهم نقطة الجنوب ، فيجعلون المشرق والمغرب على اليسار واليمين ، والشمس عند الزوال على طرف الحاجب الأيمن ممّا يلي الأنف ، والقمر ليلة السابع من كلّ شهر عند غروب الشمس بين العينين ، وكذا ليلة إحدى وعشرين عند طلوع الفجر.

وأمّا أواسط العراق الذين هم أميل إلى الأوائل من الأواخر ، فقبلتهم (٢) أن يجعلوا الجدي خلف كتفهم ، وأمّا الأواسط فخلف ما بين الكتف والمنكب.

وأمّا أطرافه الشرقيّة كالبصرة وما والاها ، فخلف المنكب الأيمن ، وجعل الشولة : ـ وهي نجمان صغيران مضيئان في منتهى ذنب العقرب ـ حال نزولها ،

__________________

(١) روض الجنان : ١٩٨ ، مدارك الأحكام : ٣ / ١٢٩ و ١٣٠ ، حبل المتين : ١٩٢.

(٢) في (ز ٣) : فعليهم.

٤٠٤

لأجل المغيب بين العينين ، والنسر الطائر عند طلوعه بين الكتفين.

فإنّ ما ذكر قبلتهم إلى أن يقرب قبلة أهل المشرق فإنّ أواخر العراق ـ كجزيرة ، عبادان ، وهي منتهى حدّ العراق طولا وما والاها ـ فقبلتهم ما بين خلف المنكب ، وقبلة أهل المشرق التي كان الجدي على اليمين.

فقولهم : يجعلون الجدي على الخد ، ليس مرادهم ما هو الظاهر منه ، فلا بدّ من تأويله بما يرجع إلى قبلة أهل البصرة ، وجزيرة عبادان وما والاهم ، لأنّ ما ذكرنا هو الموافق للقواعد يقينا ، سيّما علم الهيئة ، وهم صرّحوا بأنّ ذلك مقتضى قاعدة الهيئة والمستفاد منها ، فراجع.

ولا توهّم ما توهّمه القاصرون ، أو غير المتأمّلين ، فيجعلون قبلة العراق قبلة اليمن التي ضدّ العراق.

وربّما يتمسّك القاصر الغافل برسالة شاذان بن جبرئيل القمّي المعروفة المشهورة ، مع ما فيها من التدافع والتخالف الشديد ، وذكرها خالي رحمه‌الله في بحاره (١).

وأورد عليها إيرادات واضحة ، إلّا أنّه تأوّله وتوجّه بتوجيهات ، وهو أعرف بها ، أو يبنى على أنّ القبلة أوسع دائرة ممّا ذكره الفقهاء ، فلم يبق لما ذكره من العلامات فائدة ، مضافا إلى ما فيه من التدافع ، ولم نذكر تلك الرسالة والإيرادات ، لما في ذلك من تطويل زائد كثير الزيادة ، مع عدم فائدة يعتدّ بها.

والعاقل تكفيه الإشارة ، لو عثر بتلك الرسالة ، أو وجد في كلام المتأخّرين ، ذكر الوضع على الخد.

ثمّ أعلم! أنّ الجدي ، وهو النجم المشهور المعروف بذكره مصغرا ، مع أنّه يكبر ويصغر ليتميّز عن البرج ، يدور حول القطب الشمالي ، وينتقل من مكانه

__________________

(١) راجع! بحار الأنوار : ٨١ / ٧٣ ـ ٨٩.

٤٠٥

شرقا وغربا.

ولذا قال الشهيد الثاني : لم يكن علامة إلّا حال غاية ارتفاعه ، بأن يكون إلى جهة السماء ، والفرقدان إلى الأرض ، أو غاية انخفاضه ، عكس الأوّل ، فجعل العبرة بالنجم الخفي الذي هو في وسط الأنجم التي هي بصورة السمك ، لا يكاد يدركه إلّا حديد البصر ، وسمّي قطبا لكونه أقرب إلى القطب فلذا لا يتحرّك إلّا حركة لطيفة ، فيكون علامة دائما ، كالجدي حال استقامته (١).

ونقل ذلك عن المحقّق والعلّامة والشهيد وبعض كتب العامّة (٢) ، لكن المدقّق المقدّس الأردبيلي رحمه‌الله نقل عن بعض الماهرين في فنّ الهيئة أنّ ذلك خطأ ، بل الجدي أقرب إلى القطب منه ، وأن ليس الجدي حال استقامته على القطب ، وأنّه اعتبر ذلك ، فوجد أنّ الجدي أقرب (٣).

قلت : سعة الجهة أغنتنا عن هذه الدقائق ، لما عرفت من معنى الشطر وسعته. ولذا أفتى المشهور بما مرّ ، حتّى أنّهم أفتوا لمجموع العراق بكلّ واحد ممّا ذكروا من العلامات من دون تفصيل وتعيين لكلّ علامة إلى بعض معيّن ، كما فعله بعض (٤).

وورد في موثّقة ابن مسلم ، عن أحدهما عليهم‌السلام أنّه سأله عن القبلة؟ قال : «ضع الجدي في قفاك وصلّ» (٥) والمخاطب كان ساكنا في الكوفة ، لكن لم يظهر كون

__________________

(١) روض الجنان : ١٩٦.

(٢) نقل عنهم في ذخيرة المعاد : ٢٢٠ ، لاحظ! المعتبر : ٢ / ٦٩ ، نهاية الإحكام : ١ / ٣٩٥ ، ذكرى الشيعة : ٢ / ١٦٣ ، فتح العزيز : ٣ / ٢٢٧.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٧٢.

(٤) روض الجنان : ١٩٧.

(٥) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٥ الحديث ١٤٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٦ الحديث ٥٢٢٣.

٤٠٦

سؤاله عن حاله في الكوفة.

بل ربّما يقرب في الظنّ أنّهم كانوا يعتمدون على قبلة مسجد الكوفة ، وغيرها من المساجد المعروفة في زمان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعلى ما ظهر شياعا من طريقته عليه‌السلام وطريقة الحسنين عليهما‌السلام والصحابة.

فربّما كان سؤاله عن حاله في السفر ، وسيّما سفر المدينة ومكّة ، ومعلوم كون القبلة حينئذ نقطة الجنوب واقعا أو تقريبا ، لما عرفت من سعة الجهة عرفا ولغة جزما ، لكن الظاهر من عدم استفصاله في مقام سؤاله ، كون أسفار الكوفة كلّها ، كما ذكر.

وأمّا ما نقلنا عن الصادق عليه‌السلام مرسلا ، فصريح في وروده في السفر حيث سأل عنه عليه‌السلام : أكون في السفر ولا أهتدي إلى الكعبة؟ فأمره بجعل الجدي على يمينه ، وأنّه إذا كان في طريق الحجّ يجعله بين كتفيه (١). فهو مجمل يحتاج إلى التفسير.

فما نقل عن بعض الفضلاء ، من أنّ قبلة مسجد الكوفة يساعد ما ذكره الشهيد الثاني وموافقوه (٢) ، فيه ما فيه ، فتأمّل!

على أنّ ما ذكرنا عن الجماعة أيضا ، ليس فيه الضيق بحيث يضرّه حركة الجدي ، لأنّه غاية ما يبعد عن نقطة الجنوب ، لا يصل قدر شبر ، بل وأنقص منه كثيرا على ما يظن ، فتأمّل!

قوله : (لأهل المشرق كعراق).

ليس مراده من أهل المشرق معناه المصطلح عليه الإضافي ، إذ كلّ بلد واقع في شرق الأرض بالنسبة إلى بلد أهله ، أهل المشرق بالإضافة إليه.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٨١ الحديث ٨٦٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٦ الحديث ٥٢٢٤ نقل بالمعنى.

(٢) لم نعثر عليه في مظانّه.

٤٠٧

وأمّا أهل المشرق على الإطلاق فهم الذين يكونون في مقابلة أهل العراق ، مثل أهل البحرين وعمان وهرمز وما والاها ، ومن ناسبهم مثل أهل بنادر العجم ونحوهم ، فقبلتهم مغرب الاعتدال بلا شبهة يضعون الجدي على المنكب الأيمن ، كما أشرنا من دون تأمّل لأحد فيه.

وأهل العراق ـ كأهل الشام ـ ليسوا بأهل المشرق ، كما أنّهم ليسوا بأهل المغرب ، كما أنّ أهل اليمن أيضا كذلك ، والعراق والشام في مقابل اليمن ، كما عرفت ، ولذا أهل العراق قبلتهم نقطة الجنوب عند المشهور ، وقبلة أوائلهم ذلك ، وقبلة الباقين قريبة إليها ، على حسب ما عرفت ، عند جماعة من المتأخّرين (١).

وكيف كان ؛ لا يناسب جعل العراق أهل المشرق ، سيّما بعد التصريح بجعل المشرق والمغرب على اليمين واليسار ، والشمس عند الزوال على الحاجب الأيمن ، والقمر ليلة السابع ، عند غروب الشمس بين العينين ، وليلة إحدى وعشرين عند طلوعها.

والمصنّف قال : عند طلوع الفجر ، لأنّ القمر يدور حول الفلك ، من ابتداء الشهر إلى انتهائه دورة واحدة ، فإن كان الشهر ثلاثين يوما ، وكلّ سبعة لياله بأيّامها مع اثني عشرة ساعة ، يدور ربع الدائرة ، فمن ابتداء ميلها عن محاذاة الشمس حينما كان تحتها ومقارنا لها إلى انقضاء يوم ونصف تقريبا يتحقّق خروجه عن شعاعها ، وصار بحيث يرى. ففي الليلة السابقة ، يكون محاذيا للجنوب ، وقس على ذلك ليلة إحدى وعشرين ، فإن له إلى أن يصير تحت الشمس سبعة ليالي بأيّامها ، واثني عشرة ساعة ، كما أنّ ليلة المقابلة أيضا بهذا القياس ، فإنّها وإن كانت ليلة الأربع عشرة بالنسبة إلى رؤيته ، إلّا أنّها بالنسبة إلى الخروج عن المقارنة

__________________

(١) روض الجنان : ١٩٨ ، مدارك الأحكام : ٣ / ١٢٩ و ١٣٠.

٤٠٨

خمسة عشر يوما بلياليها.

فعلى هذا ؛ ليلة إحدى وعشرين يصير محاذيا للجنوب بعد أن يمضي اثني عشر ساعة من أوّل الليل تقريبا.

هذا هو الضبط الواقعي التقريبي ، فاعتبار المصنّف طلوع الفجر بالنسبة إلى إحدى وعشرين ، إنّما هو لما ذكرنا ، وأنّه تقريبي ، لأنّ الشهر ربّما يكون ناقصا ، فينقص أربعة وعشرون ساعة من مجموع ما ذكرنا.

وبالجملة ؛ الأولى أن يعتبر ما ذكرنا من كون القمر ليلة إحدى وعشرين ، محاذيا للجنوب بالنسبة إلى طلوع الشمس تقريبا ، فتأمّل جدّا!

ومن ملاحظة ما ذكرنا ، يحصل للفطن ظن بالقبلة ، من حركة القمر في الليالي الاخر أيضا ، فتدبّر!

قوله : (والمشهور). إلى آخره.

وعن ظاهر الشيخ في «النهاية» و «المبسوط» و «الخلاف» الوجوب (١) ، محتجّا في «الخلاف» بإجماع الفرقة.

ورواية المفضّل بن عمر أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السبب فيه؟ فقال : «إنّ الحجر لمّا انزل به من الجنّة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر فهو عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، كلّه اثنا عشر ميلا ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة ، لقلّة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عنه» ، رواه في «الفقيه» ، وفي «العلل» أيضا ، ورواه الشيخ

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ٦٣ ، المبسوط : ١ / ٧٨ ، الخلاف : ١ / ٢٩٧ المسألة ٤٢.

٤٠٩

أيضا (١).

ومرفوعة عليّ بن محمّد أنّه قيل للصادق عليه‌السلام : لم صار الرجل ينحرف في الصلاة إلى اليسار؟ فقال : «لأنّ للكعبة ستة حدود ، أربعة منها على يسارك ، واثنان منها على يمينك ، فمن أجل ذلك وقع التحريف [على] ذات اليسار» ، رواها في «الكافي» والشيخ أيضا (٢).

فظهر أنّ المحمّدين الثلاث كلّهم متّفقون على العمل بالروايات المذكورة ، فيحصل قوّة تامّة لها ، ذكرنا وجهها مرارا ، بل المرفوعة من اليقينيّات عند الكليني.

ورواية المفضّل من الصحاح والحجج عند الصدوق والشيخ ، مضافا إلى دعوى الإجماع ، وثبوت الشهرة العظيمة ، وعدم ظهور متأمّل فيها أصلا.

حتّى أنّ المحقّق المدقّق الطوسي نصير الملّة والدين ، عند ما حضر مجلس درس المحقّق ذكرت هذه المسألة ، فأورد بأنّ الانحراف إلى القبلة ، أو من القبلة ، يعني أنّه إن كان إلى القبلة فواجب ، وإن كان من القبلة فحرام ، فأجابه المحقّق في الحال : بأنّه من القبلة إلى القبلة ، ثمّ كتب رسالة في ذلك ، وبعثها إليه فاستحسنها (٣).

محصّل الجواب أنّه استظهار ، لأنّ المصلّي بعد ما راعى العلامات المعرّفة لها يستحب أن يتياسر عمّا عيّنته بشي‌ء قليل غاية القلّة لا يخرج عن حدّ القبلة في حركاته في الصلاة ، بخلاف ما لو لم ينحرف أصلا ، لأنّ القبلة عن يمين الكعبة قليل ، وعن يسارها كثير ، بحسب مضمون الروايات.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٧٨ الحديث ٨٤٢ ، علل الشرائع : ٣١٨ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٤ الحديث ١٤٢ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٥ الحديث ٥٢٢١ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٨٧ الحديث ٦ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٤ الحديث ١٤١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٥ الحديث ٥٢٢٠ مع اختلاف يسير.

(٣) لاحظ! المهذب البارع : ١ / ٣١٢ ، الرسائل التسع (رسالة تياسر القبلة) : ٣٢٧ ـ ٣٣٢.

٤١٠

وغير خفي أنّ الروايات ظاهرة في كون ذلك على جهة الاستظهار المناسب للاستحباب لا الوجوب ، سيّما بعد ما عرفت من القطع بكون القبلة هي الجهة ، وهي واسعة ليست بالضيق المتوهّم.

وفي «الذخيرة» : أنّ هذا الحكم مبني على كون القبلة هي الحرم ، كما صرّح به المحقّق (١) ، انتهى.

وفيه أنّ الروايات المذكورة ، مثل كلام الأصحاب واضحة الدلالة ، في كون القبلة شي‌ء يكون التياسر عنه مطلوبا ، فلو كانت القبلة هي الحرم ، لم يكن بين أجزائه تفاوت أصلا ، في كونها قبلة ، فأين القبلة التي يكون التياسر عنها مطلوبا؟ سيّما وأن يكون مستحبّا.

والبناء على كون القول بالاستصحاب فاسد قطعا ، وأنّه يجب الانحراف عمّا توهّم العامة كونه قبلة ، وأنّهم خاطئون جزما وأن تسمية المعصوم ذلك قبلة ، تبعا للعامة الخاطئين فاسد قطعا ، لمخالفة ما دلّ عليهم دليلهم ، بل مخالفته لظاهر كلام كلّ الفقهاء أيضا ، مضافا إلى مخالفته للأدلّة اليقينيّة في كون القبلة هي الجهة لا العين للبعيد ، وكون عين الكعبة قبلة للقريب على حسب ما عرفت.

وبالجملة ؛ الروايات واضحة في كون القبلة في الحقيقة هي الكعبة ، وأنّ مراعاة الحرم إنّما هي لأجل الاستظهار ، والاستحباب ليس إلا من حيث كون الحرم متولدا من الكعبة ، والحجر المنصوب فيها ، وتوابعها المتفرعة عليها ، فناسب ذلك مراعاته في الجهة الوسيعة ، لخصوص أهل العراق من البعيدين عن الكعبة.

ويحتمل أن تكون النكتة غير ما ذكر ، ويكون أمرا يعرفه المعصوم عليه‌السلام.

وكيف كان ؛ العمل على مراعاة الجهة جزما ، وأنّه عند التياسر لا يخرج

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٢٢٠ ، لاحظ! شرائع الإسلام : ١ / ٦٥.

٤١١

المكلّف عن الشطر والجهة قطعا ، بل يجعله داخلا فيها بلا شبهة.

نعم ؛ لو كان ميل سهل عمّا يتخيّل كونه مقابلا للكعبة أو يظن ، فلا مانع من الحكم باستحبابه بعد عدم الخروج عن الجهة أصلا ورأسا ، بعنوان القطع والجزم.

فإذا احتمل الخروج عن الجهة ، يكون حراما جزما ، لأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة بلا شبهة.

وأشرنا إلى أدلّته ، وحقّق في محلّه ، بل الانحراف بالنحو الذي ذكرنا وجوّزنا ، لا تأمّل في رجحانه واستحبابه ، لما ظهر لك ، وكون ذلك أحوط أيضا خروجا عن الخلاف ، وعن مقتضى ظاهر الإجماع المنقول واحتمال كون ما ورد في الروايات استظهارا واجبا شرعا ، وإن كان خلاف الظاهر ، فتدبّر.

وممّا يؤيّد الاستحباب ، وقوع قبر علي والكاظمين عليهم‌السلام موافقا للجنوب ، وقبر الحسين عليه‌السلام منحرفا عنه إلى المغرب بشي‌ء ، فتأمّل جدّا!

وأمّا قبر العسكريين عليهما‌السلام ؛ فانحراف بنائه الظاهري من نقطة الجنوب إلى الشرق كثيرا زائدا عن قدر المستحبّ جزما ، فلعلّ وضع الصندوق والضريح كذلك ، مراعاة لوضع البيت الذي قبرهما عليهما‌السلام ، فتأمّل ، وأنّهما عليهما‌السلام كانا مدفونين مثل علي والكاظمين عليهم‌السلام ، أو مثل الحسين عليه‌السلام.

والظاهر أنّه كذلك ، بل المقطوع به بعد العلم بخروج ظاهره عن جهة الكعبة ، أو الظن أيضا ، لأنّ المرعي في قبورهم عليهم‌السلام القبلة الراجحة والمطلوبة لا الفاسدة العياذ بالله منه وإن قلنا بأنّ جميع ما بين المشرق والمغرب قبلة ، مع ما ستعرف من بطلان ذلك أيضا ، وممّا ذكر ظهر حال مسجد الكوفة أيضا.

٤١٢

١٢٩ ـ مفتاح

[وجوب الاجتهاد في تحصيل القبلة]

يجب الاجتهاد في تحصيل القبلة مع القدرة ، ولا يجوز التعويل على الظن مع إمكان العلم ، ولا على أضعف الظنّين مع إمكان أقواهما ، ويجوز بدون ذلك ، بالنصّ (١) والإجماع. وكذا على المحاريب المنصوبة في مساجد المسلمين ، وقبورهم ، وطرقهم ، بلا خلاف.

بل لا يجوز الاجتهاد معها في الجهة ، لأنّ الخطأ فيها مع استمرار الخلق واتّفاقهم بعيد.

وأمّا في التيامن والتياسر فوجهان : أقواهما الجواز.

ومن لم يتمكّن من الاجتهاد عوّل على خبر الواحد وإن كان كافرا ، إذا أفاد الظن ولم يكن هناك أعرف منه. وقيل : بل يصلّي إلى أربع جهات مع السعة ويتخيّر مع الضيق (٢) ، وهو ضعيف.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٧ الباب ٦ من أبواب القبلة.

(٢) الخلاف : ١ / ٣٠٢ المسألة ٤٩.

٤١٣

ومن فقد العلم والظن صلّى حيث شاء ، وفاقا للصدوق والعماني (١) للصحاح (٢) ، والأكثر على وجوب الصلاة إلى أربع جهات (٣) حينئذ ، للخبر (٤) ، وهو ضعيف.

مع أنّ الاحتياط يحصل بالثلاث لأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة ، كما في الصحيح (٥) ، ولا سيما للمتحيّر.

وفي الصحيح : «يجزي للمتحيّر أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (٦).

__________________

(١) نقل عنهما في مختلف الشيعة : ٢ / ٦٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / ٣١١ الحديث ٥٢٣٦ و ٥٢٣٧ و ٣١٤ الحديث ٥٢٤٦.

(٣) المبسوط : ١ / ٧٨ و ٧٩ ، المعتبر : ٢ / ٧٠ ، روض الجنان : ١٩٣.

(٤) وسائل الشيعة : ٤ / ٣١١ الحديث ٥٢٣٩.

(٥) وسائل الشيعة : ٤ / ٣١٤ الحديث ٥٢٤٦.

(٦) وسائل الشيعة : ٤ / ٣١١ الحديث ٥٢٣٦.

٤١٤

قوله : (يجب الاجتهاد). إلى آخره.

قد مرّ شرح ذلك ودليله (١) ، مضافا إلى أنّ قوله عليه‌السلام : «يجزي التحرّي» (٢) ظاهر في الوجوب ، لأن الإجزاء ظاهر في أقلّ الواجب.

وفي قويّة سماعة أنّه سأله عليه‌السلام عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال : «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك» (٣) وفي موثّقته أيضا مثل ذلك (٤).

وفي موثّقة أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام عن قول الله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (٥) قال : «آمره أن يقيم وجهه للقبلة ليس فيه عبادة شي‌ء من الأوثان خالصا مخلصا» (٦).

وبهذا الإسناد عنه عليه‌السلام عن قول الله تعالى (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (٧) قال : «هذه القبلة أيضا» (٨).

وفي رواية أبي جميلة عنه عليه‌السلام في قوله تعالى (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٣٩٧ ـ ٤٠٢ من هذا الكتاب.

(٢) الكافي : ٣ / ٢٨٥ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٥ الحديث ١٤٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٩٥ الحديث ١٠٨٧ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٧ الحديث ٥٢٢٧.

(٣) الكافي : ٣ / ٢٨٤ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٦ الحديث ١٤٧ ، الاستبصار : ١ / ٢٩٥ الحديث ١٠٨٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٨ الحديث ٥٢٢٨.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٤٣ الحديث ٦٦٧ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٨ الحديث ٥٢٢٩.

(٥) الروم (٣٠) : ٣٠.

(٦) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٢ الحديث ١٣٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٥ الحديث ٥١٩٤ مع اختلاف يسير.

(٧) الأعراف (٧) : ٢٨.

(٨) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٣ الحديث ١٣٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٦ الحديث ٥١٩٥.

٤١٥

مَسْجِدٍ)، قال : «مساجد محدثة ، فامروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام» (١) ، وورد غير ذلك من الأخبار ، وستعرفه.

قوله : (بالنصّ والإجماع).

النصّ عرفته ، بل النصوص والإجماع واقعي عند المصنّف ، وواقعا ، كما أشرنا إليه في بيان الحاجة إلى الهيئة ، وكونه حجّة في المقام.

وعن «التذكرة» : أنّ القادر على معرفة القبلة لا يجوز له الاجتهاد عند علمائنا ، وفاقد العلم يجتهد. إلى أن قال : فإن غلب على ظنّه الجهة للأمارات بنى عليه بإجماع العلماء (٢).

وعن «المعتبر» : فاقد العلم يجتهد ، فإن غلب على ظنّه جهة القبلة لأمارات بنى عليه ، وهو اتّفاق أهل العلم (٣). وعن «المنتهى» نحوه (٤).

قوله : (بلا خلاف).

قد عرفت الإجماعات ، مضافا إلى ما نقل عن «التذكرة» : أنّ جواز التعويل على قبلة المسلمين إجماعي (٥).

وفي «المدارك» ـ بعد ما نقل ما ذكره المصنّف ونسبه إلى الأصحاب ـ : أنّ إطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق في ذلك بين ما يفيد العلم أو الظن بالجهة ، ولا بين أن يكون المصلّي متمكّنا من معرفة القبلة ، بما يفيد العلم أو الظن ، أو ينتفي الأمران.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٣ الحديث ١٣٦ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٦ الحديث ٥١٩٧.

(٢) تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٢ المسألة ١٤٤ و ١٤٥.

(٣) المعتبر : ٢ / ٧٠ نقل بالمعنى.

(٤) منتهى المطلب : ٤ / ١٧٢.

(٥) تذكرة الفقهاء : ٣ / ٢٥.

٤١٦

وربّما ظهر من قولهم : ـ فإن جهلها عوّل على الأمارات المفيدة للظن ـ عدم جواز التعويل عليه للمتمكّن من العلم ، إلّا إذا أفادت اليقين ، وهو كذلك ، لأنّ الاستقبال على اليقين ممكن ، فيسقط اعتبار الظن (١) ، انتهى.

وفي «الذخيرة» وافقه (٢) ، وهذا منهما اعتراف بما ذكرنا ، في بيان الحاجة إلى الهيئة من أنّ المتمكّن من العلم ، لا يجوز له العمل بالظن.

فكيف أنكر الاحتياج إلى الهيئة مطلقا؟ مع ما عرفت من حصول العلم بالجهة عندهم واقعا ، وظهور ذلك على من له أدنى معرفة وتفطن ، مع أنّهما في المقام قالا بعدم جواز الاجتهاد في الجهة ، كما قال المصنّف ، وعلّلا بما علّل به المصنّف من أنّ الخطأ فيها مع استمرار الخلق واتّفاقهم ممتنع.

والمصنّف وإن ادعى البعد ، إلّا أنّهما وافقا «الذكرى» في دعوى الامتناع (٣).

وغير خفي أنّ عادة المسلمين ، وطريقتهم التعويل على الهيئة في البلاد البعيدة ، الخالية عن محراب المعصوم عليه‌السلام ، وغيره من موجبات العلم عندهما.

بل لا تأمّل لفقهائنا وفقهاء العامّة ، في التعويل على الهيئة ، وكون البناء عليه ، بل وتقديمه على غيره ، على ما هو المشهور منهم ، كما اعترفا به ، وهو ظاهر أيضا ، فاتّفاقهم على الهيئة عادتهم المستمرة ، واتّفاقهم على الخطأ ممتنع عندهما.

وأمّا ما علّل المصنّف من كون اتّفاقهم عليه بعيدا ، فلا مانع من الاجتهاد ، لكون مراتب البعد متفاوتة ، إلّا أن يكون مراده أشدّ مراتب البعد ومنتهاها.

وكيف كان ؛ عدم تجويز الاجتهاد بخلافها ، إنّما هو إذا حصل العلم بالامتناع المذكور الناشئ عن كون الهيئة مورثا للعلم بها جزما.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٣ / ١٣٣ و ١٣٤.

(٢) ذخيرة المعاد : ٢١٨.

(٣) ذكرى الشيعة : ٣ / ١٦٨.

٤١٧

والمصنّف مع اعترافه بكون الهيئة مورثا للعلم بها ادّعى البعد المذكور ، ولعلّه لتجويز كون عمل المسلمين بغير الهيئة ، أو أنّهم أخطئوا في الهيئة ، إلّا أنّه مستبعد جدّا.

والحاصل ؛ أنّ بعد حصول العلم لا معنى للاجتهاد ، وكذا الظن المتاخم له الذي لا يكون رجحان أقوى منه.

لكن هذا لا يمنع من الاجتهاد من أوّل الأمر ، بل لا يجوز الاكتفاء به ، إذ لعلّه بعد الاجتهاد يحصل اليقين ، أو أقوى من الأوّل ، وإن كان في ظنّه ونظره أنّه أقوى.

نعم ؛ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع ، إن حصل أقوى منه في جهة اخرى فهو المتّبع ، كما إذا حصل العلم ، وإلّا فإن ساوى الأوّل فهو مخيّر ، وإلّا تعيّن الأوّل ، كما أنّ ذلك الاتّفاق ربّما يورث العلم ، كما هو الحال عندهما وعند «الذكرى» (١).

وربّما لا يورث ، كما هو الحال عند المصنّف ، فربّما لا يورث الظن الأقوى لشخص آخر ، فلا مانع من العمل باجتهاده ، إذا اتّفق كونه أقوى عنده ، إلّا أن يقال : إنّ مثل هذا الشخص غير قابل للاجتهاد قاصر عنه ، لكون ذهنه مؤوفا ، لجمود القريحة ، أو مركوز به الشبهة وعدم التخلية.

والظاهر أنّه كذلك ، فاستقام ما اتّفقوا عليه ، من عدم تجويز الاجتهاد في الجهة.

ثمّ اعلم! أنّ ما ذكر ، إنّما هو بالنسبة إلى البلاد العظيمة والمتوسّطة ونحوهما.

وأمّا القرية الصغيرة النائية عن البلاد ونحوها ؛ فغير معلوم حصول العلم ، إلّا أن يكون هناك قرائن مفيدة له ، وأمّا الخالية عنها فلا ، والله يعلم.

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٣ / ١٦٨.

٤١٨

قوله : (فوجهان). إلى آخره.

وجه المنع ما ظهر من استبعاد اتّفاق المسلمين المتدينين المراعين للصلاة وقبلتها ، مع كثرتهم واستمرارهم على الخطأ ، وأنّ هذا المكلّف شخص واحد ، لا يصير عشر معشار آلاف منهم.

فكيف يكون هذا الإدراك الظنّي من هذا الشخص أقرب إلى الحق من إدراكات لا تحصى؟ كلّ واحد منهم مثل هذا الشخص اعتقد خلاف ما اعتقده.

فكيف صار الكلّ خطأ؟ وهم مع كونهم بحيث لا يحصون عددا ، كان كلّ واحد منهم اعتقد خلاف ما اعتقده ، فلعلّ حال اعتقاده حال اعتقاد شخص منهم ، فضلا عن حال اعتقاد المجموع.

وبالجملة ؛ احتمال خطأ شخص واحد وعدم إصابة الحقّ أقرب من احتمال خطأ المجموع عند الإنصاف ، ورفع اليد عن الاعتساف.

ووجه الجواز ما مرّ من كون المكلّف به هو العلم ، وبعد العجز عنه أقوى الظنون. وهكذا ، فإن اتّفق أنّه باجتهاد حصل له اليقين في التيامن أو التياسر ، فلا شبهة في كونه حجّة.

فكذا إذا اتّفق حصول ظنّ أقوى ، فإذا كان في نظره أنّه أقوى ، فكيف يجوز له ترك الأقوى بالمرجوح الذي معناه أنّه بعيد أن يكون قبلة؟ وأنّ الظاهر أنّه ليس بقبلة.

وهذا ليس محالا من المستجمع لشرائط الاجتهاد التي منها التخلية ، واستقامة السليقة والإنصاف ، مع المعرفة والمهارة في الأمارات.

والظاهر أنّ الأمر مشكل بدون جهاد النفس ، وتحصيل المراتب العالية للمجتهدين من التخلية ، والإنصاف البالغ ، واستقامة السليقة ، والمهارة التامة ، والتأمّل التام ، كما اقتضاه وجه الجواب ، إذ كثيرا ما وجدنا الاجتهاد الواحد

٤١٩

المخالف للاجتهادات خطأ.

بل لا يكاد يوجد مثل ذلك صوابا ، إلّا في غاية الندرة لو كانت ، كما لا يخفى على المتأمّل الكامل المنصف.

ثمّ اعلم! أنّه ظهر ممّا ذكرنا من الأقوال والأخبار ، أنّ بعد العجز عن العلم يجب التحرّي والاجتهاد والبناء عليه ، وأنّ الاجتهاد بعد العجز عن قواعد الهيئة.

وعن «المبسوط» : أنّ من فقد هذه العلامات عليه أن يصلّي الصلاة الواحدة إلى أربع جهات مع الاختيار (١). وكذلك قال في «الاستبصار» (٢).

وعن «المقنعة» : أنّه إذا أطبقت بالغيم فلم يجد الإنسان دليلا عليها بالشمس والنجوم ، فليصلّ إلى أربع جهات ، فإن لم يقدر ، فواحدة إلى أيّ جهة شاء (٣).

ودليلهم أنّ العمل بالظن إنّما يجوز إذا انسدّ باب العلم ، فإذا صلّى أربعا حصل العلم ، ورواية خراش ، عن بعض أصحابنا ، عن الصادق عليه‌السلام : إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا نحن وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : «ليس كما يقولون ، إذا كان كذلك فليصلّ لأربع وجوه» (٤).

والجواب عنها ، أنّها مع ضعف سندها بجهل خراش ، وبالإرسال ، وعدم وثاقة إسماعيل بن عبّاد لا تصلح للحجّية ، فضلا عن معارضتها ، للأخبار المعتبرة الكثيرة التي مضت ، وسيجي‌ء أيضا منها الصحيح ، ومنها كالصحيح.

مع أنّ الظاهر منها عدم جواز الاجتهاد في موضوعات الأحكام الشرعيّة

__________________

(١) المبسوط : ١ / ٧٨.

(٢) الاستبصار : ١ / ٢٩٦ ذيل الحديث ١٠٨٩.

(٣) المقنعة : ٩٦ مع اختلاف.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٥ الحديث ١٤٤ ، الاستبصار : ١ / ٢٩٥ الحديث ١٠٨٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣١١ الحديث ٥٢٣٩ مع اختلاف يسير.

٤٢٠