مصابيح الظلام - ج ٦

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٦

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-6-X
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٥١

قوله : (بالكتاب). إلى آخره.

أي الآية المذكور ، والأخبار المتواترة وستعرف بعضها ، منها قوله عليه‌السلام : في صحيحة زرارة : «لا صلاة إلّا إلى القبلة» (١) ، الحديث.

وأمّا ضرورة الدين فظاهرة ، وأمّا سقوط الوجوب مع الاضطرار ، فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ضرر ولا ضرار [في الإسلام]» (٢) وما مرّ في الصلاة في السفينة وعلى الدابة ، وما ستعرفه من الأخبار.

قوله : (وكذا). إلى آخره.

اختلف الأصحاب في وجوب الاستقبال في النافلة واشتراطها به.

فعن ابن أبي عقيل وجوبه فيها كالفريضة ، إلّا حال الحرب ، والمسافر يصلّي أينما توجّهت به راحلته (٣).

وعن الشيخ عدم اشتراط السفر ، بل يجوز للراكب والماشي مطلقا ، وإن كان في الحضر (٤) ، وهذا هو المشهور.

وعن بعض المتأخّرين ـ ولعلّه المحقّق ـ عدم وجوب الاستقبال فيها ، فجوّز في السفر والحضر لغير الراكب والماشي أيضا ، محتجّا بقوله تعالى (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٥) وأنّه قد استفاض النقل عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّ هذه

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٨٠ الحديث ٨٥٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٠ الحديث ٥٢٠٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٢٤٣ الحديث ٧٧٧ ، وسائل الشيعة : ٢٦ / ١٤ الحديث ٣٢٣٨٢.

(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ٢ / ٧٣.

(٤) المبسوط : ١ / ٧٩ ، الخلاف : ١ / ٢٩٩ المسألة ٤٥.

(٥) البقرة (٢) : ١١٥.

٣٨١

الآية في النافلة (١) (٢).

أقول : في «التبيان» قال : روي ذلك عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ، لكن قال قبله : إنّ هذه الآية نزلت في النافلة في السفر (٣).

قال في «النهاية» ـ بعد نقل هذه الآية ـ : وروي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«هذا في النوافل خاصّة في حال السفر» (٤) ، وقال الطبرسي : نزلت في التطوّع على الراحلة حيث توجّهت به حال السفر (٥).

وفي «الوافي» أيضا ـ بعد ما نقل عن «الفقيه» : إنّ هذه الآية نزلت في قبلة المتحيّر ، واحتمال كون هذا الكلام من الصادق عليه‌السلام ـ قال : وقد ورد في أخبار اخر : أنّها نزلت في النافلة والسفر ، رواها العيّاشي وعلي بن إبراهيم في تفسيرهما ، والشيخ في تبيانه (٦) ، انتهى.

مع أنّ الطبرسي نقل عن بعض المفسّرين معان اخر ، وأنّها نسخت بالآية الأولى (٧) ، مضافا إلى ما عرفت من الصحيح.

وأشرنا إلى الأخبار الدالّة على اشتراط الصلاة بالقبلة ، إذ أيّ فرق بين قوله : «لا صلاة إلّا بطهور» (٨) وقوله : «لا صلاة إلّا إلى القبلة» (٩).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٢ و ٣٣٣ الحديث ٥٣١٢ و ٥٣١٣ و ٥٣١٧.

(٢) المعتبر : ٢ / ٧٦ و ٧٧.

(٣) التبيان : ٢ / ١٥ و ١٦.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي : ٦٤ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٢ الحديث ٥٣١٣.

(٥) مجمع البيان : ١ / ٤٣١ (الجزء ١).

(٦) الوافي : ٧ / ٥٤٩ الحديث ٦٥٦٨ ، لاحظ! من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٧٩ ذيل الحديث ٨٤٦.

(٧) مجمع البيان : ١ / ٤٣١ (الجزء ١).

(٨) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٢ الحديث ٦٧ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٢٠٩ الحديث ٦٠٥ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٦٥ الحديث ٩٦٠.

(٩) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٨٠ الحديث ٨٥٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٠ الحديث ٥٢٠٧.

٣٨٢

ولم يثبت عدم الاشتراط مطلقا في النافلة ، بل القدر الثابت هو حال الركوب وحال المشي ، وإن كانا في الحضر ، مثل صحيحة حمّاد بن عثمان ، عن الكاظم عليه‌السلام : في الرجل يصلّي النافلة على دابّته في الأمصار ، قال : «لا بأس به» (١).

ومرسلة حريز عمّن ذكره ، عن الباقر عليه‌السلام : أنّه لم يكن يرى بأسا أن يصلّي الماشي وهو يمشي ولكن لا يسوق الإبل (٢).

وصحيحة الحلبي أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن صلاة النافلة على البعير والدابّة؟ فقال : «نعم حيث كان متوجّها» ، فقلت : أستقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال : «لا ، ولكن تكبّر حيثما تكون متوجّها ، وكذلك فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٣). إلى غير ذلك من أخبار كثيرة.

مع أنّ العبادات توقيفيّة ، ولم تثبت صحّة النافلة إلى غير القبلة اختيارا حال الاستقرار.

بل المنقول عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم والمسلمين في الأعصار والأمصار الإتيان بها حينئذ مستقبل القبلة مثل الفريضة ، ولم يعهد من واحد من الشرع ، ولا غيره ممّا ذكر إيقاعها إلى غير القبلة.

ولو صحّت إلى غير القبلة لاقتضت العادة صدورها عن واحد من الشرع ، ولو صدر لشاع وذاع لتوفر الدواعي ، وكثرة الصدور عن المكلّفين.

مع أنّه لم يظهر من طريق الآحاد ، بل لو صلّيت كذلك إلى القبلة لتبادر

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٩ الحديث ٥٨٩ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٠ الحديث ٥٣٠٤.

(٢) الكافي : ٣ / ٤٤١ الحديث ٩ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨٩ الحديث ١٣١٨ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٣٠ الحديث ٥٩٢ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٥ الحديث ٥٣٢٣ مع اختلاف يسير.

(٣) الكافي : ٣ / ٤٤٠ الحديث ٥ ، تهذيب الأحكام : ٣ / ٢٢٨ الحديث ٥٨١ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٢٩ الحديث ٥٣٠٠ و ٥٣٠١ مع اختلاف يسير.

٣٨٣

المسلمون إلى الإنكار عليه ، كمبادرتهم في الإنكار على مرتكب خلاف الضرورة ، فتأمّل جدّا!

قوله : (وهي الكعبة).

ما ذكره هو المشهور بين المتأخّرين ، وفاقا للمرتضى ، وابن الجنيد (١) ، وأبي الصلاح ، وابن إدريس من القدماء (٢) ، كما يستفاد من الأخبار المتواترة : أنّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة (٣) ، منها ما مرّ ، ومنها ما سيجي‌ء في استحباب الانحراف ذات اليسار.

ومنها موثّقة عمّار : متى صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر» (٤). إلى غير ذلك من الأخبار ، حتّى أنّه يظهر منها : أنّ كون المسجد والحرم قبلة من جهة الكعبة ، بل صار ذلك نظير الإقرار بربوبيّة الله تعالى ، ورسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامة الأئمّة عليهم‌السلام ، في التلقين واعتقادات الأحياء.

مع أنّ المحقّق ادّعى الإجماع على كون فرض القريب هو استقبال عين الكعبة (٥) ، والإجماع المنقول حجّة.

بل الظاهر كونه حقّا ، فإنّ من خرج عن المسجد إذا رأى عين الكعبة من الباب ، أو من الجبل ومع ذلك لا يصلّي إليها ، بل يجعلها على اليمين أو الشمال ، ويصلّي إلى جزء آخر من المسجد ، مع يقينه أنّه لا يصلّي إلى الكعبة (٦). فالظاهر أنّه

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٢٩ ، نقل عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة : ٢ / ٦٠ و ٦١.

(٢) الكافي في الفقه : ١٣٨ ، السرائر : ١ / ٢٠٤.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٣ الباب ٣ من أبواب القبلة.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٣ الحديث ١٣٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٧ الحديث ٥١٩٩.

(٥) المعتبر : ٢ / ٦٥.

(٦) في (د ٢) : القبلة.

٣٨٤

لا يتأمّل أحد من المسلمين في فساد هذه الصلاة بعنوان اليقين.

وكذلك الحال بالنسبة إلى من صلّى خارج الحرم ، مع قطعه بأنّه لا يستقبل المسجد والكعبة ، بل يصلّي إلى جهة اخرى.

بل الكفّار قاطعون بكون الكعبة هي القبلة ، فضلا عن المسلمين ، فكيف يرضون بالصلاة المذكورة؟ وما أظنّ أنّ الخصم أيضا يرضى بهذه الصلاة ، كما ستعرف.

على أنّه هذا ، كيف يصنع بالآية الواضحة الدلالة ، والأخبار المتواترة في كون الكعبة هي القبلة بعد بيت المقدس (١) ، وأنّها قبلة من تخوم الأرض إلى أعنان السماء (٢)؟ إلى غير ذلك.

وأمّا أنّ جهتها قبلة البعيد ؛ فلقوله تعالى (شَطْرَهُ) (٣) ، والشطر : الجهة والجانب والناحية ، والضمير فيه وإن كان راجعا إلى المسجد ، إلّا أنّ المراد منه الكعبة ، لأنّه ليس قبلة ، كما عرفت ، بل صيرورته قبلة من جهة الكعبة.

وورد في كثير من الأخبار : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حوّل إلى الكعبة ، بعد نزول الآية المذكورة ، وتحويله عن بيت المقدس ، وكذلك حوّل أصحابه (٤) ، منها ما مرّ ، وما سيجي‌ء.

ومنها ؛ كالصحيحة للحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله : هل كان يصلّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس؟ .. إلى أن قال عليه‌السلام «حتّى حوّل إلى الكعبة» (٥).

__________________

(١) راجع! وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٧ الباب ٢ من أبواب القبلة.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٩ الباب ١٨ من أبواب القبلة.

(٣) البقرة (٢) : ١٥٠.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٧ الحديث ٥٢٠٠ ، ٣٠٠ الحديث ٥٢٠٩ و ٥٢١٠.

(٥) الكافي : ٣ / ٢٨٦ الحديث ١٢ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٨ الحديث ٥٢٠٢.

٣٨٥

ورواية أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام : «إنّ بني عبد الأشهل قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس ، فقيل لهم : نبيّكم صرف إلى الكعبة». إلى أن قال عليه‌السلام : «وجعل الركعتين الباقيتين إلى الكعبة» (١). إلى غير ذلك.

قوله : (وقيل). إلى آخره.

القائل الشيخان ، وسلّار ، وابن البرّاج ، وابن حمزة ، والمحقّق في «الشرائع» (٢) ، وظاهر الصدوق أيضا كذلك (٣) ، بل نسبه في «الذكرى» إلى الأكثر (٤).

بل احتجّ الشيخ على ذلك بإجماع الفرقة ، ورواية الحجّال ، عن بعض رجاله ، عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا» (٥) ، ومثله روى أبو الوليد عنه عليه‌السلام (٦). ومثله روي في «العلل» عنه عليه‌السلام (٧) ، وبأنّ الكعبة لا تكون في الجهات كلّها ، مع أنّ لكلّ مصلّ جهة ، بخلاف الحرم فإنّه طويل ، يمكن أن يكون كلّ واحد متوجّها إلى جزء منه (٨).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٣ الحديث ١٣٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٢٩٧ الحديث ٥٢٠٠.

(٢) المقنعة : ٩٥ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٦٢ و ٦٣ ، الخلاف : ١ / ٢٩٥ المسألة ٤١ ، المراسم : ٦٠ ، المهذّب : ١ / ٨٤ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ٨٥ ، شرائع الإسلام : ١ / ٦٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٧٧ و ١٧٨.

(٤) ذكرى الشيعة : ٣ / ١٥٩.

(٥) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٤ الحديث ١٣٩ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٣ الحديث ٥٢١٦.

(٦) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٤ الحديث ١٤٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٤ الحديث ٥٢١٧.

(٧) علل الشرائع : ٤١٥ الحديث ٢.

(٨) الخلاف : ١ / ٢٩٥ و ٢٩٦ المسألة ٤١ نقل بالمعنى.

٣٨٦

واورد على أدلّة الطرفين بضعف الأخبار ، واحتمال إرادة الحرم من المسجد ، كاحتمال إرادة الكعبة ، وضعف الإجماعين المنقولين ، مع احتمال التقيّة في الأخبار الأوّلين ، لموافقة العامّة (١) في كون الكعبة قبلة (٢).

وفيه ؛ أنّ الأخبار الأوّلين متواترة ، إلى أن صار كون الكعبة قبلة داخلا في العقيدة لأهل الإيمان ، معتبرا في تلقين الأموات والمحتضرين وغير ذلك ، والإجماع للأوّلين قد ظهر حاله ، وكون الحرم مرادا من المسجد الحرام في غاية البعد ، وعدم معهوديّة الاستعمال ، مع كون المقام إظهار التوسعة ، فلا وجه لذكر المسجد وإرادة الحرم.

مع أنّه على هذا يتعيّن كون القبلة عندهم شطر الحرم وجهته لا الحرم ، وهو خلاف ما يظهر من كلامهم ، ومع ذلك ربّما رجع إلى توجيه الشهيد (٣) ، فيرتفع النزاع ، فتأمّل!

مع أنّ استعمال لفظ الجزء في الكلّ ، مشروط بأن يكون الكلّ ينتفي بانتفائه ، مثل الرقبة للإنسان.

مع أنّك ستعرف في استحباب التياسر كون الحرم قبلة من جهة الكعبة لا المسجد ، بل كون المسجد قبلة أيضا من جهة الكعبة ، فضلا عن الحرم.

مع أنّه غير لازم توجيه المسجد إلى الكعبة ، بل يبقى على ظاهره ، لكن من جهة اتّحاد جهته لجهة الكعبة للبعيد ـ أي الذي لا يمكنه الظنّ بالكعبة ـ ومناسبة المقام لذكر ما هو أوسع ذكر المسجد واعتبر.

__________________

(١) المغني لابن قدامة : ١ / ٢٦٢ المسألة ٦١٢.

(٢) لاحظ! ذخيرة المعاد : ٢١٤.

(٣) ذكرى الشيعة : ٣ / ١٥٨ و ١٥٩.

٣٨٧

وأمّا جهة المسجد وجهة الحرم ، فبينهما بون بعيد بالنسبة إلى جماعة من المكلّفين.

وأيضا إن أرادوا ما وجّهه الشهيد (١) ـ كما ستعرف ـ فلا نزاع أصلا ، غير الحزازة في عبارات هؤلاء.

وإن أرادوا ظاهر عباراتهم ، ففيه أنّه خلاف الإجماع والأدلّة اليقينيّة ، فإنّ أهل المدينة وأطرافها بأجمعهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة وغيرهم كانوا يصلّون بعلامة واحدة إلى مكّة بجعل القطب بين الكتفين على النهج المعلوم ، لا أن كلّ أربعة فراسخ منهم يصلّون إلى قبلة غير قبلة الآخرين.

فكيف يصير قبلة جميعهم صحيحة مع كونهم متوجّهين إلى غير الحرم؟ ومن توجّه إلى الحرم أيضا لا تصحّ صلاتهم ، لعدم ظنّهم بكونهم بأعيانهم توجّهوا إلى الحرم.

وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل الكوفة والبصرة ، بل وغيرهما أيضا ، للاتّفاق على كونه المدار على العلامات بالنهج المقرّر وسيجي‌ء.

فإن قلت : لعلّهم يريدون من الحرم جهته ، بل لا محيص لهم عن ذلك ، لما ذكر هنا ، وسابقا من عدم تجويز أحد أن يصلّي قريب الحرم المتّصل به ، والمقارب له إلى الجهة المباينة لجهة المسجد والكعبة.

قلت : على هذا عاد النزاع لفظيّا مع حزازة العبارة ، فإنّ الشهيد حمل على ما استدلّ به هؤلاء من الأخبار ، على أنّ المراد من المسجد والحرم جهتهما ، وإنّما ذكرهما على سبيل التقريب إلى أفهام المكلّفين ، إظهارا لسعة الجهة.

فإن قلت : لعلّ مرادهم من الحرم جهته وكذا المسجد ، لكن جهة المسجد

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٢ / ١٥٨ و ١٥٩.

٣٨٨

يكون مغايرا لجهة الحرم ، ويكون ثمرة النزاع أنّ المقارب لهما يجوز له أن يصلّي إلى غير الكعبة ، بل ويجعل الكعبة على يمينه أو يساره ويصلّي إلى غيرها على سبيل القطع ، وتكون صلاته صحيحة.

قلت : فيه ما عرفت ، مضافا إلى أنّ شغل الذمّة اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

ومجرّد احتمال إرادة الحرم من المسجد ، وورود الأخبار الضعيفة الظاهرة في ذلك ، كيف يوجب اليقين؟ مع كون احتمال إرادة الكعبة منها أقوى نصوصا واعتبارا. بل النصوص متواترة.

بل الأصل بقاء المسجد على معناه الحقيقي ، وعلى تقدير تساوي الاحتمال ، لا يحصل الظنّ بالبراءة ، فضلا عن اليقين ، فضلا عن مرجوحيّة الاحتمال ، لو لم ندّع القطع بفساده ، والله يعلم.

قوله : (من صعد). إلى آخره.

أقول : وكذلك من نزل عنه إلى الوادي ، لضرورة الدين ، كما أنّ الأوّل أيضا ضروري الدين ، وادّعي عليهما الإجماع أيضا (١).

وفي «الفقيه» عن الصادق عليه‌السلام : «أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى السماء السابعة العليا» (٢).

وكذلك لو زال البنية ـ والعياذ بالله منه ـ يصلّى إلى جهتها ، كما هو ظاهر الآية ، فهو دليل آخر لكلّ ما ذكر.

__________________

(١) مدارك الأحكام : ٣ / ١٢٢ ، ذخيرة المعاد : ٢١٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ٢ / ١٦٠ الحديث ٦٩٠ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٩ الحديث ٥٣٣٧ مع اختلاف يسير.

٣٨٩

قوله : (في القويّة).

أقول : هي موثّقة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن رجل قال : صلّيت فوق أبي قبيس العصر فهذا يجزي والكعبة تحتي؟ قال : «نعم : إنّها قبلة من موضعها إلى أعنان السماء» (١).

وصحيحة ابن مسكان عن خالد بن أبي إسماعيل إنّه قال للصادق عليه‌السلام : الرجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة ، قال : «لا بأس» (٢).

والموثّقة المذكورة كغيرها ، صريحة في كون الكعبة قبلة للخارج عن المسجد ، كما اختاره المشهور.

وهم صرّحوا بأنّ المصلّي بمكّة يجب عليه مشاهدة الكعبة ، لقدرته على اليقين ، ولو نصب محرابا وعلامة بعد المشاهدة ويعوّل عليه بعد ، جاز ، كما أنّ كلّ من تيقّن جاز له العمل بيقينه.

ولو عرضه الشكّ وجب عليه تحصيل اليقين ، لأنّ الظنّ إنّما يعتبر ويجزي بعد العجز عن اليقين ، ففي أيّ موضع لو تمكّن من تحصيل اليقين بصعود الجبل وجب عليه ، إلّا أن يلزم منه الحرج المنفي.

قوله : (فلو صلّى على سطح البيت). إلى آخره.

هذا هو المشهور ، لعموم ما دلّ على وجوب القيام (٣) ، وما دلّ على وجوب الركوع ، وما دلّ على وجوب السجود (٤) ، وما دلّ على وجوب القعود (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٨٣ الحديث ١٥٩٨ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٩ الحديث ٥٣٣٥ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي : ٣ / ٣٩١ الحديث ١٩ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٧٦ الحديث ١٥٦٥ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٩ الحديث ٥٥٣٦.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٥ / ٤٨١ الباب ١ من أبواب القيام.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ٦ / ٣١٠ الباب ٩ من أبواب الركوع.

(٥) راجع! وسائل الشيعة : ٦ / ٣٩١ الباب ١ من أبواب التشهّد.

٣٩٠

وعن «الخلاف» و «النهاية» يستلقي على ظهره ، ويصلّي إلى البيت المعمور (١) ، وعن الصدوق أيضا مثله (٢). وكذا عن ابن البرّاج (٣) ، هذا إن لم يتمكّن من النزول ، وإلّا فعليه النزول.

واحتجّ في «الخلاف» بإجماع الفرقة. وما رواه عن عبد السلام عن الرضا عليه‌السلام : في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة ، فقال : «إن قام لم يكن له قبلة ، يستلقي على قفاه ويفتح عينيه إلى السماء ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع غمض عينيه ، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه والسجود على نحو ذلك» (٤) (٥).

وفي «التهذيب» في أواخر كتاب الحجّ عن أحمد بن الحسين ، عن علي بن مهزيار ، عن محمّد بن عبد الله بن مروان ، قال : رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن عليه‌السلام : عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة فلم يمكنه الخروج من الكعبة [فقال :] «استلقى على قفاه وصلّى إيماء» وذكر قول الله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٦) (٧) فتأمّل فيه! ومرّ الكلام في مثل المقام.

قوله : (للصحيح).

هو صحيحة معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق عليه‌السلام عن الحجر أمن البيت

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٤٤١ المسألة ١٨٨ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٠١.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٧٨ ذيل الحديث ٨٤٢.

(٣) المهذّب : ١ / ٨٥.

(٤) الكافي : ٣ / ٣٩٢ الحديث ٢١ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٧٦ الحديث ١٥٦٦ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٤٠ الحديث ٥٣٣٩ مع اختلاف يسير.

(٥) الخلاف : ١ / ٤٤١ المسألة ١٨٨.

(٦) البقرة (٢) : ١١٥.

(٧) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٥٣ الحديث ١٥٨٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٣٨ الحديث ٥٣٣٢.

٣٩١

هو ، أو فيه شي‌ء من البيت؟ قال : «لا ؛ ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن امّه فيه فكره أن يوطأ فحجّر عليه وفيه قبور الأنبياء» (١).

وفي الموثّق ـ كالصحيح ـ عن زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الحجر ، هل فيه شي‌ء من البيت؟ قال : «لا ، ولا قلامة ظفر» (٢).

وفي الموثّق ـ كالصحيح ـ عن يونس بن يعقوب أنّه قال للصادق عليه‌السلام : كنت اصلّي في الحجر فقال لي رجل : لا تصلّ المكتوبة في هذا الموضع ، فإنّ في الحجر من البيت ، فقال : «كذب ، صلّ فيه حيث شئت» (٣).

لكن في «الذخيرة» : المنقول عن ظاهر كلام الأصحاب أنّ الحجر من الكعبة ، والمستفاد من النصوص الصحيحة خلاف ذلك. إلى أن قال :

وعن «الذكرى» وقد دلّ النقل على أنّه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل إلى أن بنت قريش الكعبة ، فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه ، وكذلك كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاهتمام بإدخاله ، وبذلك احتجّ ابن الزبير حيث أدخله فيها ، ثمّ أخرجه الحجّاج وردّه إلى ما كان (٤) ، انتهى.

أقول : الظاهر من أخبار الطواف وكونه بالبيت وأنّه المطاف ؛ دخوله في البيت ، مثل خبر ابن مسلم قال : سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي من خرج منه لم يكن طائفا بالبيت؟ قال : «كان الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطوفون بالبيت والمقام وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام والبيت ، فكان الحدّ من موضع المقام اليوم فمن جاوزه فليس بطائف ، والحدّ قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام والبيت

__________________

(١) الكافي : ٤ / ٢١٠ الحديث ١٥ ، وسائل الشيعة : ١٣ / ٣٥٣ الحديث ١٧٩٢٨ مع اختلاف يسير.

(٢) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٦٩ الحديث ١٦٤٣ ، وسائل الشيعة : ٥ / ٢٧٦ الحديث ٦٥٣٥.

(٣) تهذيب الأحكام : ٥ / ٤٧٤ الحديث ١٦٧٠ ، وسائل الشيعة : ٥ / ٢٧٦ الحديث ٦٥٣٤.

(٤) ذخيرة المعاد : ٢١٥ ، لاحظ! ذكرى الشيعة : ٣ / ١٦٩.

٣٩٢

من نواحي البيت كلّها ، فمن طاف فتباعد من نواحيه أكثر من مقدار ذلك كان طائفا بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد ، لأنّه طاف في غير حدّ ولا طواف له» (١). إلى غير ذلك من الأخبار ، فتأمّل فيها وفي الدلالة.

والأخبار متواترة في كون الطواف بالبيت ، وزيارة البيت ، ووداع البيت (٢) ، وأمثال ذلك ممّا يشهد على ذلك ، وعبارة الأصحاب متظافرة فيه ، فلاحظ!

وكيف كان ؛ يشكل الحكم بالدخول وكونه قبلة ، بل الظاهر عدم تحقّق أحكام القبلة ، وآداب داخل البيت وأحكامه فيه ، فتأمّل جدّا!

__________________

(١) الكافي : ٤ / ٤١٣ الحديث ١ ، تهذيب الأحكام : ٥ / ١٠٨ الحديث ٣٥١ ، وسائل الشيعة : ١٣ / ٣٥٠ الحديث ١٧٩٢٠ مع اختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة : ١٤ / ٢٤٣ الباب ١ من أبواب زيارة البيت ، ٢٨٧ الباب ١٨ من أبواب العود إلى منى.

٣٩٣
٣٩٤

١٢٨ ـ مفتاح

[كيفيّة معرفة القبلة]

يعرف سمت القبلة باستعمال قوانين الهيئة ، كما ذكره علماؤنا رحمه‌الله (١) ، وهي مفيدة للظن الغالب بالعين والقطع بالجهة ، كما قاله في «الذكرى» (٢).

والأمارات المشهورة بينهم مأخوذة منها ، كما ذكره فيه (٣) ، مثل : جعل الجدي خلف الكتف اليسرى ، وسهيل عند طلوعه بين العينين وعند غروبه على العين اليمنى ، وبنات النعش عند غيبوبتها خلف الاذن اليمنى لأهل الشام.

وجعل الجدي بين العينين ، وسهيل عند غيبوبته بين الكتفين لأهل اليمن.

وجعل الجدي على الخدّ الأيسر ، والثريّا والعيّوق على اليمين واليسار لأهل المغرب.

وجعل الجدي على الاذن اليمنى ، وسهيل عند طلوعه خلف الاذن اليسرى ، وبنات النعش عند طلوعها على الخدّ الأيمن ، والثريّا عند غيبوبته على العين اليسرى لأهل السند والهند.

__________________

(١) شرائع الإسلام : ١ / ٦٦ ، الروضة البهية : ١ / ١٩٢ ، حبل المتين : ١٩٢ ـ ١٩٥.

(٢) ذكرى الشيعة : ٣ / ١٦٢.

(٣) ذكرى الشيعة : ٣ / ١٦٢.

٣٩٥

وجعل الجدي على الخدّ الأيمن ، والشولة إذا نزلت للمغيب بين العينين ، والنسر الطائر عند طلوعه بين الكتفين لأهل البصرة وفارس.

وجعل الجدي على المنكب الأيمن ، والشمس عند الزوال على طرف الحاجب الأيمن ممّا يلي الأنف ، والمشرق والمغرب على اليمين واليسار ، والقمر ليلة السابع من كلّ شهر عند غروب الشمس بين العينين ، وكذا ليلة إحدى وعشرين عند طلوع الفجر لأهل المشرق كعراق العرب وما والاها.

وقد وردت في العلامة الاولى لهم رواية (١) ، إلّا أنّها لأوساط العراق كبغداد ، والبواقي لأطرافه الغربيّة كالموصل ، وأمّا أطرافه الشرقيّة فيحتاج فيها إلى زيادة تغريب ، فيجعل فيها الجدي على الخدّ الأيمن ، كما قاله جماعة من المتأخّرين (٢) ، لأنّه الموافق للقواعد.

والمشهور استحباب التياسر لأهل العراق ، للخبرين (٣) ، وظاهر الشيخ وجوبه (٤) ، والمستند ضعيف ، مع أنّ البعد الكثير لا يؤمن معه الانحراف الفاحش بالميل اليسير.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٦ الحديث ٥٢٢٣.

(٢) جامع المقاصد : ٢ / ٥٥ ، مدارك الأحكام : ٣ / ١٢٩ و ١٣٠ ، حبل المتين : ١٩٢.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٥ الحديث ٥٢٢٠ و ٥٢٢١.

(٤) المبسوط : ١ / ٧٨ ، الخلاف : ١ / ٢٩٧ المسألة ٤٢ ، النهاية للشيخ الطوسي : ٦٣.

٣٩٦

قوله : (يعرف سمت). إلى آخره.

قد ثبت أنّ القبلة عين الكعبة للقريب ، والمتمكّن من العلم ، أو الظنّ بها ، وجهتها للبعيد لغير المتمكّن ، لقوله تعالى (شَطْرَهُ) (١) ، والشطر هو السمت والجهة معنى.

وهذا معنى لغوي وعرفي ، فما يعد في العرف جهتها ، يكفي لصحّة الصلاة ، ويكون داخلا فيما يجب استقباله في الفريضة وغيرها ، وهي مختلفة بالنسبة إلى الأطراف من البلدان والقرى والمواضع.

فمتى حصل اليقين بالجهة المذكورة ـ كما هو حال القريبين إلى مكّة ، ومن كثر تردّده إليها ، وتفرّسه وتأمّله وتفطّنه بها من القريبين ، وما قارب القريبين على تفاوت المقاربة ، بحسب تفاوت مراتب الممارسة والتفطّن والتأمّل ـ يجب عليه اتّباعه لعلمه ، وإن لم يحصل العلم يجب حينئذ التحرّي ، وأخذ ما هو أحرى في الظنّ أن يكون جهة وجعله قبلة ، لما ورد عنهم عليهم‌السلام «يجزي التحرّي أبدا ، إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (٢).

فالأصل هو العلم بأيّ نحو يتحقّق ، وبعد العجز العمل بما هو أقوى في النظر كونه قبلة أي جهتها ، وأسباب الظنّ والتحرّي أيضا غير مختصّة بشي‌ء دون شي‌ء ، إلّا أنّ الأحرى والأقوى هو المتّبع.

وهذا كما أنّه مدلول ما ورد عنهم عليهم‌السلام موافق للقاعدة في موضوعات الأحكام في الموضع الذي يجب الأخذ به مطلقا ، أي وإن كان ظنّا ، والمقام منه

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٥٠.

(٢) الكافي : ٣ / ٢٨٥ الحديث ٧ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٥ الحديث ١٤٦ ، الاستبصار : ١ / ٢٩٥ الحديث ١٠٨٧ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٧ الحديث ٥٢٢٧.

٣٩٧

قطعا ، للقطع الحاصل من ضرورة الدين أنّ الصلاة المفروضة ونحوها غير موضوعة عن الذين لا يحصل لهم اليقين بالقبلة والجهة والقطع كذلك ؛ لعدم تحريم سكناهم في تلك المواضع وتوطّنهم فيها ، والقطع كذلك بأنّ وجوب الاستقبال إليها غير موضوع عنهم البتّة كغيرهم.

واليقين كذلك بأنّ صلاتهم ونحوها ليست بخالية عن مراعاة القبلة ووجوب المواجهة وبعد سدّ باب العلم يتعيّن العمل بالاجتهاد في التحرّي ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، وعدمه وبطلانه بديهي عند الشيعة والمعتزلة ، بل الأشاعرة أيضا سمعا.

ومن جملة ما يراعى في معرفة الجهة علم الهيئة وقوانينها ، كما ذكره علماؤنا بحصول اليقين بها بالنسبة إلى الجهة بالنسبة إلى كثير من العلماء والعارفين بحال هذا العلم وحصول الظن بالعين بالنسبة إليهم ، كما قاله في «الذكرى» (١) وظهر من «المعتبر» و «المنتهى» (٢).

وواضح على من له أدنى علم ومعرفة بها فهي مقدّمة على الأمارات المفيدة للظنّ بالجهة بالنسبة إلى هؤلاء قطعا ، لما عرفت.

وأمّا بالنسبة إلى المقلّدين ؛ فهي مفيدة للظن الغالب أو الأغلب ، والأقوى على حسب مراتبهم ، والفطانة والإدراك ، بل ربّما يورث لبعضهم اليقين.

وكيف كان ؛ تكون مقدّمة على سائر ما يفيد الظن ، لتقدّمها عليها عند الفقهاء ، كما عرفت ، وهم مقلّدون للفقهاء.

وممّا ذكر ظهر فساد ما في «المدارك» وغيره : أنّ المستفاد من الأدلّة الاكتفاء

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٣ / ١٦٢.

(٢) المعتبر : ٢ / ٦٩ و ٧٠ ، منتهى المطلب : ٤ / ١٦٩ و ١٧٠.

٣٩٨

بالتوجّه إلى ما يصدق أنّه جهة المسجد عرفا ، كقوله تعالى (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (١) ، وقولهم عليهم‌السلام : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (٢) ، و «ضع الجدي خلف قفاك وصلّ» (٣) ، وخلوّ الأخبار ممّا زاد على ذلك ، مع شدّة الحاجة إلى معرفة العلامات ـ لو كانت واجبة ـ وإحالتها إلى علم الهيئة مستبعد جدّا ، لأنّه دقيق كثير المقدّمات ، والتكليف به لعامّة الناس بعيد من قوانين الشرع ، وتقليد أهله غير جائز ، لأنّه لا يعلم إسلامهم ، فضلا عن عدالتهم. وبالجملة ؛ التكليف بذلك ممّا علم انتفاؤه ضرورة (٤) ، انتهى.

إذ موضوعات العبادات ليست موقوفة على النصّ ، سوى هيئة العبادة ، ولذا يرجع هو كغيره إلى قول اللغوي والنحوي والصرفي ، وقول أهل الخبرة في القيمة والأرض ونحوها ، مثل قول الطبيب في ضرر الوضوء والغسل والصوم نحوها ، وعدم ضررها إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

مع أنّ أهل اللغة كفّار بالكفر الإيماني ، وكذا الحال بالنسبة إلى أمثالهم من العارفين بالنحو والصرف والطبّ وغير ذلك ، بل ربّما كانوا كافرين بالكفر الإسلامي.

وعرفت في المقام أنّ التحرّي يجزي بأيّ نحو يحقّق نصّا واعتبارا ، ولذا صرّح هو ومن وافقوه بجواز التعويل على قول الكافر الواحد في معرفة القبلة ، لكونه نوعا من التحرّي (٥).

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٥٠.

(٢) وسائل الشيعة : ٤ / ٣١٤ الحديث ٥٢٤٦ و ٥٢٤٧.

(٣) تهذيب الأحكام : ٢ / ٤٥ الحديث ١٤٣ ، وسائل الشيعة : ٤ / ٣٠٦ الحديث ٥٢٢٣ مع اختلاف يسير.

(٤) مدارك الأحكام : ٣ / ١٢١ ، ذخيرة المعاد : ٢١٤.

(٥) مدارك الأحكام : ٣ / ١٣٣.

٣٩٩

وأيّ فرق بين ما إذا تيسّر هذا الكافر ، أو تيسّر علم الهيئة ، أو تقليد أهله ، أو تقليد الفقهاء فيه.

وعرفت أنّ مقتضى العقل والنقل كون كفاية التحرّي في صورة لم يعلم أين وجه القبلة.

ومقتضى القاعدة كون العمل بالظنّ بعد العجز عن العلم ، لأنّه تعالى أراد من المكلّف استقبال جهة المسجد ، وجهته ليس معناه إلّا ما هو جهته واقعا ، فلا بدّ من استقبالها مهما تيسّر ، وبعد العجز يكفي ظنّ كونه جهته ، والقاعدة معلومة عقلا ونقلا مسلّمة عنده وعند غيره من الفقهاء.

مع أنّ المعروف من الفقهاء (١) أنّ بعد العجز عن العلم يعمل بالظنّ ، لأنّهم قالوا بعد فقد الظنّ : يصلّي إلى أربع جهات ، كما قالوا بعد فقد العلم : يعمل بالظنّ.

والظاهر أنّ الأوّل بعد العجز عن الظنّ ، فكذلك الثاني ، مع أنّ ظاهر «الفقيه» ذلك (٢) ، وهو الموافق لقاعدتهم.

والظاهر من قولهم : يجزي التحرّي إذا لم يعلم ، وإن كان مجرّد عدم العلم كافيا للإجزاء ، وإن تيسّر تحصيل العلم من دون حرج أصلا ، إلّا أنّ الإطلاق ينصرف إلى الأفراد الشائعة ، والصورة المذكورة من الأفراد النادرة.

ولذا في مقام تيسّر الظنّ الأقوى لا يكفي الأضعف ، مثل الاعتماد على كافر واحد ، مع تيسّر المسلمين المؤمنين الثقات الماهرين الكثيرين وأمثاله ، ولذا صرّح هو كغيره : بأنّ من اجتهد فأخبره غيره بخلاف اجتهاده ، عمل على قوله إذا كان أقوى الظنّين عنده ، لتعيّن التعويل على الأقوى (٣) ، فتأمّل!

__________________

(١) في (د ١ ، ٢) و (ك) و (ط) زيادة : والظاهر منهم.

(٢) لاحظ! من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٧٩.

(٣) مدارك الأحكام : ٣ / ١٣٣.

٤٠٠