مصابيح الظلام - ج ٥

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٥

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-5-1
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٤٨

أجاب عليه‌السلام بالمنع من الصلاة عليه ، وأمر بإعلام الموضع حتّى يغسله ، وبعد ما سأل عن الشمس هل تطهر الأرض أم لا؟ أجاب عليه‌السلام بأنّه : إن كان قذارته من البول ونحوه فأصابته الشمس ثمّ يبس ، فالصلاة على الموضع جائزة.

وإن أردت أنّ مجرّد جواز الصلاة على ما جفّفته الشمس ، لا يدلّ على الطهارة ، وإن كان الجواز مشروطا بجفاف الشمس ، إذ لعلّه نجس ، لكن السجدة عليه مشروطة بذلك.

ففيه أوّلا : أنّ المعصوم عليه‌السلام لم يقل فيه : وأعلم الموضع حتّى تغسله ، كما قال أوّلا ، إذ لو كان نجسا لكان أولى بذكر ذلك ، إذ في الأوّل مع أنّه صرّح بعدم جواز الصلاة ، ذكر وجوب الغسل.

وفي الثاني : صرّح بجواز الصلاة عليه ، فيتوهّم منه الطهارة البتة ، لأنّ المدار في فهم النجاسة على المنع من الصلاة ، أو الوضوء وأمثاله كما عرفت.

بل طريق معرفة النجاسة الشرعيّة منحصر في ذلك كما هو ظاهر ، واعترف به المعترض أيضا ، فمن جواز الصلاة عليه وأمثاله ، يفهم عدم النجاسة البتّة ، ولا محيص عنه ، والبناء على ذلك أيضا ، فكيف لم يقل ، وأعلم الموضع حتّى تغسله.

وهذا ينادي بالطهارة ، سيّما وجواز الصلاة في الثاني بإزاء عدم جواز الصلاة في الأوّل وفي مقابله.

مع أنّ وجوب طهارة المسجد واشتراطها إجماعي ، نقل الإجماع عليه الفاضلان في «المعتبر» و «التذكرة» و «المنتهى» و «المختلف» وابن زهرة والشهيد في «الذكرى» (١) ، مع فتاوى الفقهاء ، وورود الأخبار.

منها صحيحة ابن محبوب ، عن أبي الحسن عليه‌السلام عن الجصّ يوقد عليه

__________________

(١) المعتبر : ١ / ٤٣٣ ، تذكرة الفقهاء : ٢ / ٤٠٠ ، منتهى المطلب : ٤ / ٣٠٠ ، مختلف الشيعة : ٢ / ١١٤ ، غنية النزوع : ٦٦ ، ذكرى الشيعة : ٣ / ١٥٠.

٢٢١

بالعذرة وعظام الموتى ، ثمّ يجصّص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب عليه‌السلام بخطّه : «إنّ الماء والنار قد طهّراه» (١).

ومنها ما مرّ من صحيحة زرارة (٢) وغيرها (٣) ، ومنها هذه الموثّقة ، إذ لو لم يكن شرطا ، لما شرط المعصوم عليه‌السلام كون التجفيف بالشمس ، ولما صرّح بأنّ التجفيف إذا كان بغير الشمس لا يجوز الصلاة.

مع أنّ تجويز الصلاة عليه مطلقا من دون اشتراط عدم رطوبة فيما يلاقي ، واضح الدلالة على الطهارة ، إلى غير ذلك.

فإن قلت : الأمر كما ذكرت ، لكن في آخر الرواية إشعار ببقاء النجاسة.

قلنا : الإشعار بذلك لا يكفي في المقام بلا شبهة ، لما عرفت ، مضافا إلى دلالة الأخبار السابقة والإجماع الذي نقله الشيخ وغير ذلك ممّا دلّ على الطهارة ، مضافا إلى ما دلّ على اشتراط المسجد وغيره ، ولهذا فهم المعظم الطهارة ، بل لو كان دلالة لزم تأويلها ، فكيف يغني الإشعار؟

مع أنّ اشتراط جواز السجود بتجفيف الشمس دون الطهارة لا يلائم شيئا ممّا ذكر ، ومخالف لما يظهر من تضاعيف الأخبار الواردة في الطهارة والنجاسة وشرائط الصلاة ، بل هو أمر غريب بالنسبة إلى الكلّ ، فلاحظ وتأمّل!

مع أنّ الإشعار الذي ادّعيت محلّ نظر ، بل الظاهر الإشعار بالطهارة ، بل الظهور فيها ، إذ الظاهر أنّ المعصوم عليه‌السلام جعل الشقوق في جواب السؤال الأخير ثلاثة :

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٣٠ الحديث ٣ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٧٥ الحديث ٨٢٩ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٣٥ الحديث ٩٢٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٥٢٧ الحديث ٤٣٦٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥٧ الحديث ٧٣٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الحديث ٤١٤٦.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الباب ٢٩ من أبواب النجاسات.

٢٢٢

الأوّل : أن تكون الشمس أصابته إلى أن جفّفته ، وحكمه جواز الصلاة عليه مطلقا.

الثاني : أنّ الشمس اصابته لكن لم تجفّفه ، بل هو رطب ، وهذا أيضا لا يجوز الصلاة عليه حتّى تجفّفه الشمس ، وإن كان ما يلاقيه من المصلّي يابسا.

الثالث : عكس الثاني ، وهو أن يكون ما يلاقيه من أعضاء المصلّي أو ثيابه رطبا ، وإن كان الموضع جافّا بغير الشمس ، فإنّه أيضا حكمه حكم الثاني : لعدم الفرق بين الملاقيين في رطوبة.

وفيه أيضا ردّ على العامّة القائلين بأنّ تجفيف الريح والهواء مطهّر للأرض النجس (١).

بل سيجي‌ء أنّ الشيخ رحمه‌الله أيضا قال به ، وتمسّك برواية زرارة وحديد (٢).

فعلى هذا قوله عليه‌السلام : «فإن كانت رجلك». إلى آخره شرط ، وقوله عليه‌السلام : «فلا تصلّ». إلى آخره جزاؤه ، على قياس قوله في الشقّ الثاني : «وإن أصابته الشمس ولم ييبس فلا يجوز الصلاة عليه حتّى ييبس» ويكون قوله عليه‌السلام : «وإن كان غير الشمس» (٣). إلى آخره وصليّة.

فيكون فيه شهادة واضحة على أنّ التجفيف بالشمس ليس كذلك ، وأنّه مطهّر كما ظهر من صدر الرواية ، فيكون أجزاء الرواية كلّها متوافقة ودالّة على مطهّريّة الشمس ، كما نبّهنا عليه وفهم المعظم ، وظهر من الأخبار الصحاح والمعتبرة.

__________________

(١) المغني لابن قدامة : ١ / ٤١٩.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الحديث ٤١٤٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٢ الحديث ٤١٤٩.

٢٢٣

هذا على نسخة غير ـ بالغين المعجمة والراء ـ وأمّا على نسخة عين ـ بالعين المهملة والنون ـ يكون ما ذكرنا أظهر ، إذ الشقّ الثاني أنّ الموضع النجس إن كان رطبا ، وإن كانت الشمس أصابته ، فلا يجوز الصلاة عليه ، حتّى ييبس أي بالشمس ، كما هو المفروض والظاهر من الرواية ، فالشق الثالث عكس الثاني بعينه ، إذ يصير هكذا :

وإذا كانت الرجل أو غيرها من أعضاء المصلّي أو ثيابه تكون رطبة يلاقي الموضع القذر لا يجوز الصلاة عليه وإن أصابته عين الشمس حتّى ييبس بعين الشمس ، على قياس ما قال في الشقّ الثاني ، فإنّه عليه‌السلام أيضا قال فيه : لا يجوز الصلاة على الموضع القذر حتّى ييبس وإن أصابته الشمس.

ويحتمل أيضا احتمالا آخر ينفع المستدلّ ، كما بيّناه في حاشيتنا على «المدارك» (١) ، والرواية من عمّار ، ومن لاحظ رواياته لا يبقى له وثوق بإشعاراتها ، لما فيها من رداءة المتن ، فضلا أن يتمسّك بإشعارها ، ردّا على دلالتها.

ثمّ اعلم! أنّ جمعا من متأخّري المتأخّرين توقّفوا في مطهّريّة الشمس (٢) ، وردّوا على الفقهاء من جهة صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال : سألته عليه‌السلام عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه ، هل تطهّره الشمس من غير ماء؟ قال : «كيف تطهر من غير ماء» (٣).

وفيه ، أنّها مضمرة ، والمضمر لا يقاوم المصرّح بلا شبهة ، وإن كان الظاهر كون السؤال فيه عن المعصوم عليه‌السلام.

__________________

(١) الحاشية على مدارك الأحكام للوحيد رحمه‌الله : ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٦٤.

(٢) مدارك الأحكام : ٢ / ٣٦٤ ، مجمع الفائدة والبرهان : ١ / ٣٥٤ ، الحدائق الناضرة : ٥ / ٤٣٧.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٧٣ الحديث ٨٠٥ ، الاستبصار : ١ / ١٩٣ الحديث ٦٧٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٣ الحديث ٤١٥٢.

٢٢٤

لكن الظاهر لا يقاوم الصريح ، فضلا أن يغلب عليه ، سيّما إذا كان شاذّا ، فإنّ الشاذ لا يقاوم المشتهر بين الأصحاب ، فكيف يغلب عليه؟ بل أمر الشارع بترك العمل بالشاذّ. واتّفق عليه القدماء والمتأخّرون ، مع أنّها موافقة للتقيّة ، ولذا حملت عليه ، ويؤيّد الحمل كون ابن بزيع وزير الخليفة ، وأنّها لم يقل أحد بمضمونها من الشيعة إلى أمثال زماننا.

مع أنّ المعارض أخبار كثيرة معتبرة متأيّدة بالإجماع ونفي الحرج والعسر ، وغير ذلك ممّا مرّ.

فعلى تقدير دلالة المضمرة على عدم مطهّريّة الشمس يكون الأمر على ما ذكرنا ، بل وأشدّ بمراتب ، كما ستعرف أيضا.

لكنّه غير خفيّ عدم دلالتها على ذلك أصلا ، بل ربّما كانت ظاهرة في مطهّريّة الشمس.

وذلك لأنّ الراوي سأل عن حكم الموضع الذي يصيبه البول ونحوه ، هل تطهّره الشمس من دون ماء أصلا ، أم يتوقّف تطهيرها إيّاها على ماء ما؟ ووجه سؤاله هكذا : أنّه يسأل عن حال الموضع الذي تصيبه النجاسة ، وصيغة المضارع تفيد الاستمرار التجدّدي ، كما هو مشهور مسلّم.

ومثل هذا ليس كلّما أصابه بول مثلا جفّفت الشمس ذلك البول البتّة ، سيّما وأن يحصل العلم بأن تجفّفه بالشمس البتّة ، لأنّ النجاسة مستصحبة حتّى يحصل اليقين بالطهارة ، والطهارة ليس إلّا بتجفيف الشمس ، كما هو المفروض ، فسأل أنّ إشراق الشمس على هذا الموضع كاف لتطهيرها ، أم يتوقّف تطهير الشمس إيّاه على صبّ ماء على الموضع حتّى تجفّفه الشمس ويحصل الطهارة من تجفيفه؟ بل ومن العلم بكون التجفيف من الشمس لا غير ، لأنّه المعتبر ، وأنّه الشرط ، كما عرفت.

٢٢٥

فأجاب عليه‌السلام : أنّ ما ذكرت كيف يكون تطهير الشمس إيّاه من دون ماء؟ وغير خفيّ على من تأمّل أدنى تأمّل أنّ سؤاله هكذا. والجواب أيضا هكذا ، كما قال المحقّقون : إنّ تطهير الشمس مثل الموضع المذكور لا يمكن إلّا بصبّ الماء المحيط للموضع حتّى تجفّفه الشمس وتطهّره.

وينادي بما ذكرنا تنكير لفظ «ماء» والإتيان به بعد نسبة التطهير إلى الشمس.

ولو كان سؤاله عن مجرّد مطهّريّة الشمس لكان يسأل هكذا : الشمس تطهّر أم لا؟ ولم يأت بقيد قوله : من غير ماء ، لأنّه مستدرك لغو حينئذ ، بل موهم خلاف المقصود ، بل دالّ عليه ، كما أشرنا.

ويحتمل أن يكون مراده : هل تطهّر الشمس مثل الموضع المذكور دائما من دون حاجة إلى غسل بماء أبدا ـ بناء على أنّ نفس الإشراق كاف للتطهير ـ أم تطهيرها ليس هكذا؟ بل ربّما يتوقّف على غسل ، لعدم تجفيف الشمس إيّاه ، أو لعدم العلم بإسناد زوال إلى تجفيف الشمس ، فأجاب عليه‌السلام : كيف تطهّره الشمس دائما من دون حاجة إلى غسل أصلا؟ وأظهر منه أن يكون المراد من قوله : ماء ، أعم ممّا ذكرنا أوّلا ، وما ذكرنا ثانيا.

ويكون المراد : أنّ تطهير الشمس للمتنجّس ، هل يكون مطلقا من غير توقّف على ماء أصلا في حال من الأحوال ووجه من الوجوه ، أم ليس كذلك؟ بل ربّما يتوقّف على ماء بالنحو الذي ذكرنا أوّلا ، وغسل كما ذكرنا ثانيا ، أي أعم منهما من غير تخصيص بواحد منهما ، ولا بالمجموع من حيث المجموع ، وبسطنا الكلام في المقام في «حاشية المدارك» (١).

ويظهر من المضمرة وغيرها أنّ الطهارة المعروفة للشمس ليس بالمعنى

__________________

(١) الحاشية على مدارك الأحكام للوحيد رحمه‌الله : ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٦٤.

٢٢٦

الغريب الذي قال به الراوندي (١).

فروع :

الأوّل : قال في «المنتهى» : لو جفّ بغير الشمس لم يطهر عندنا قولا واحدا (٢) ، ردّا بذلك على العامّة ، ولعلّه رحمه‌الله ما اعتنى بما سنذكر عن الشيخ رحمه‌الله.

والدليل بعد الإجماع استصحاب النجاسة وبعض لأخبار السابقة ، ولا يعارضها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ، ويغتسل فيهما من الجنابة ، أيصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال : «نعم» (٣) ، فإنّ جواز الصلاة في المحلّ غير جوازها عليه فلا يمكن التشبّث به في ردّ ما ذكر هنا ، ولا ردّ ما ذكر في إثبات مطهّريّة الشمس ، ولا ردّ ما دلّ على اشتراط طهارة المسجد ، كما توهّم بعض (٤).

والفرق بين تجويز الصلاة في مكان ، وتجويزها على شي‌ء مثل البارية ، واضح على الفطن.

الثاني : نقل عن الشيخ رحمه‌الله أنّه قال في «الخلاف» : لو أصاب الأرض نجاسة مثل البول ، وطلعت عليه الشمس أو هبّت عليه الريح حتّى زالت عين النجاسة ، فإنّها تطهر ، ويجوز السجود عليها والتيمّم بترابها ، وإن لم يطرح عليها الماء (٥).

وهذا مخالف للإجماع المنقول في «المنتهى» (٦) وفتاوى الأصحاب ، رضي الله

__________________

(١) نقل عنه المحقّق في المعتبر : ١ / ٤٤٦.

(٢) منتهى المطلب : ٣ / ٢٧٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥٨ الحديث ٧٣٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٣ الحديث ٤١٥٣.

(٤) مدارك الأحكام : ٢ / ٣٦٦.

(٥) الخلاف : ١ / ٢١٨ المسألة ١٨٦.

(٦) منتهى المطلب : ٣ / ٢٧٨.

٢٢٧

عنهم ، حتّى فتاوى الشيخ في كتبه (١) ، حتّى في «الخلاف» في موضع آخر (٢).

ولهذا حمل هبوب الريح على الهبوبة المزيلة للأجزاء الملامسة للنجاسة.

ولا يخفى أنّه بعيد جدّا ، لأنّ قوله : «حتّى زالت». إلى آخره ، متعلّق بقوله : «طلعت الشمس» وقوله : «هبّت» جميعا ، وقيد لهما ، لأنّ مجرّد طلوع الشمس عليها لا يكفي قطعا.

مع أنّه قال : زالت عين النجاسة ، إذ إظهار لفظ «العين» احتراز ظاهر عن أن يتوهّم المتنجّس ، مضافا إلى ظهور النجاسة في غير المتنجّس ، ومع ذلك قال : زالت ، ولم يقل : زال.

ففي عبارته تأكيدات لفهم عين النجاسة وعدم فهم المتنجّس ، والاختلاف في رأي المجتهد غير عزيز.

بل لو لم يختلف عدّ ذلك نقصا في اجتهاده ، لاقتضاء العادة بعدم التوافق دائما ، إلّا أن يسامح ولم يستفرغ الوسع ، أو لم يجدّد النظر أصلا.

مع أنّه رحمه‌الله والكليني رويا صحيحة زرارة وحديد بن الحكم أنّهما قالا للصادق عليه‌السلام : السطح يصيبه البول أيصلّى في ذلك الموضع؟ فقال عليه‌السلام : «إذا كان تصيبه الشمس والريح وكان جافّا فلا بأس به إلّا أن يتّخذ مبالا» (٣) ، فلعلّه رحمه‌الله بنى على أنّ كلمة «واو» بمعنى «أو» ، للإجماع على عدم اشتراط اجتماع الريح مع الشمس للتطهير.

ورواية عمّار عن الصادق عليه‌السلام : البارية يبلّ قصبها بماء قذر ، هل تجوز الصلاة

__________________

(١) النهاية للشيخ الطوسي : ٥٤ ، المبسوط : ١ / ٣٨.

(٢) الخلاف : ١ / ٤٩٥ المسألة ٢٣٦.

(٣) الكافي : ٣ / ٣٩٢ الحديث ٢٣ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٧٦ الحديث ١٥٦٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الحديث ٤١٤٧ مع اختلاف يسير.

٢٢٨

عليها؟ فقال : «إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها» (١).

وصحيحة علي بن جعفر السابقة (٢) في البواري يصيبها البول ، لعدم ذكر الشمس فيها.

فالظاهر الاكتفاء بالريح ، لأنّه الغالب في التجفيف ، ولندرة سكون الهواء من غير تحرّك منه إلى حدّ يحصل اليبس في البواري ، إذ يمتدّ عدم الجفاف امتدادا كثيرا لو لم يحصل تحرّك في الهواء أصلا ، وعدم حركته هذا المقدار في غاية الندرة ، فتقدير الريح للجفاف أقرب من تقدير الشمس في الروايتين.

لكن يرد أنّه لو تمّ ما ذكر لتحقّق التعارض بين الأخبار ، لاشتراط كون الجفاف بالشمس في صحيحة زرارة والموثّقة وغيرهما (٣) ، فتعيّن حينئذ حمل هذه على التقيّة ، لما عرفت من كونه مذهبا معروفا من العامّة.

واشتراط الشمس هو المعروف من الخاصّة ، فتقدير كون الجفاف بالشمس أقرب وأولى ، صونا للأخبار من التنافي والطرح.

وكذا حمل صحيحة زرارة وحديد (٤) على أنّ المراد إصابة الشمس مع الريح مطهّر. ولا يشترط كون الجفاف من خصوص الشمس ، ولا يعتبر خلوصها من الريح.

قال في «المدارك» : لو حصل التجفيف بالشمس والريح معا كان مطهّرا ، لصدق التجفيف بالشمس ، ولأنّ الغالب تلازم الأمرين (٥) ، انتهى.

فلو كان الخلوص شرطا لزم عدم التطهير بالشمس كلّية أو غالبا ، إذ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٤ الحديث ٤١٥٧.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٣ الحديث ٤١٥٣.

(٣) راجع! الصفحة : ٢١٢ من هذا الكتاب.

(٤) وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الحديث ٤١٤٧.

(٥) مدرك الأحكام : ٢ / ٣٦٧.

٢٢٩

الخلوص لا يكاد يتحقّق فضلا عن العلم.

نعم ، يمكن اشتراط كون غالب التجفيف بالشمس ، حتّى يتحقّق الاستناد إليها ، وهو أيضا محلّ تأمّل ، إذ كثيرا ما يكون مع الشمس هبوب الريح أيضا ، ولم يشترط المعصوم عليه‌السلام في خبر من الأخبار ذلك.

نعم ، يمكن أن يقال : المعتبر في الشرع هو الشمس خاصّة وإن كان مع الريح ، مع أنّه لا يضرّ الإسناد إلى الريح أصلا بعد تحقّق ما هو الأصل في الاعتبار بحسب الشرع ، فلا يضرّ ما في صحيحة زرارة وحديد.

الثالث : مقتضي قويّة أبي بكر كون الشمس مطهّرة كلّية (١) ، إلّا ما ظهر أنّها لا تطهّره من إجماع أو نصّ ، وقد عرفت انجبارها بجوابر ، سيّما موافقة الشريعة السهلة السمحة ، كما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) واليسر كما ورد في القرآن (٣) ، بل ولزوم العسر والحرج المنفي أيضا غالبا لو لم يكن مطهّرة كذلك ، لأنّ التجنّب المقتضي للحرج في غاية الكثرة ، وكثيرا ما لا يدري أنّه حرج أم لا فيجتنب ، فينجرّ ذلك إلى الحرج ، بل وربّما يتوهّم عدم الحرجيّة ، فيجرّ إلى الحرج.

وربّما يحصل الضرر المنفي أيضا بسبب الاحتراز عن مساورة المسجد ونحوه ، بل وعن الدخول على قول.

وكذا عن مساورة الناس وأمثال ذلك ، مع أنّ النجاسة مع العفو من جهة الحرج ، معناها عدم العفو في حالة عدم الحرج.

مع أنّه إذا كان البدن أو الثياب وغيرهما إذا صارت نجسة يوجب الاحتراز

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٧٣ الحديث ٨٠٤ ، الاستبصار : ١ / ١٩٣ الحديث ٦٧٧ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٢ الحديث ٤١٥٠.

(٢) الكافي : ٥ / ٤٩٤ الحديث ١ ، عوالي اللآلي : ١ / ٣٨١ الحديث ٣ و ٥ ، وسائل الشيعة : ٢٠ / ١٠٦ الحديث ٢٥١٥٧.

(٣) البقرة (٢) : ١٨٥.

٢٣٠

عنها حال عدم الحرج أيضا ، فيسري إلى الأوقات والأحوال والأشخاص الاخر أيضا ، للزوم الحرج في الاجتناب عمّا ذكر غالبا.

مع أنّ من لم يقل بمطهّريّة الشمس ، وقال ببقاء النجاسة على حالها ، عبارته واضحة في كون حال هذه النجاسة عنده حال سائر النجاسات من وجوب الاجتناب مهما أمكن ، لا أنّه لا يجب الاجتناب عنها إلّا في صورة نادرة ، ولذا ما استثنى إلّا السجود في حال الصلاة ، فبملاحظة عدم القول بالفصل يتمّ ذلك دليلا ، فتأمّل جدّا!

فعلى هذا ظهر فساد التخصيص بالأرض أو البول أو بهما ، أو مع ضمّ خصوص الحصر والبواري ، كما نقل عن بعض الفقهاء (١).

مع أنّ في موثّقة عمّار قال عليه‌السلام : «من البول أو غير ذلك» (٢) ، وفي صحيحة ابن بزيع قال : «يصيبه البول أو ما أشبهه» (٣).

وفي صحيحة علي بن جعفر كان السؤال عن البواري (٤).

وظهر أيضا فساد ما نقل عن العلّامة من حكمه في «النهاية» باستثناء الثمرة على الشجرة (٥) ، وكذا ما تأمّل (٦) بعضهم في مطهّريّة الشمس للخمر (٧).

__________________

(١) كفاية الأحكام : ١٤.

(٢) التهذيب : ٢ / ٣٧٢ الحديث ١٥٤٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٢ الحديث ٤١٤٩.

(٣) التهذيب : ١ / ٢٧٣ الحديث ٨٠٥ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٣ الحديث ٤١٥٢.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٧٣ الحديث ٨٠٣ ، الاستبصار : ١ / ١٩٣ الحديث ٦٧٦ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الحديث ٤١٤٨.

(٥) نهاية الإحكام : ١ / ٢٩٠.

(٦) في (ف) : قال.

(٧) المبسوط : ١ / ٩٣.

٢٣١

الرابع : مقتضى صحيحة زرارة وما ماثلها أنّ كلّ ما جفّفته الشمس طهرت (١).

ويؤيّدها أيضا ما ذكرنا من السهولة ونفي الحرج الشائعة بين المسلمين في الأعصار والأمصار.

فما نسب إلى ظاهر «المنتهى» من أنّ الذي تطهّره الشمس هو ظاهر الأرض دون باطنها (٢) ـ يعني السطح الظاهر الذي أشرقت عليه ضوء الشمس ، لو كانت النسبة صحيحة ـ يكون محلّ نظر ، لأنّ الباطن المتّصل بالظاهر الذي تجفّفه الشمس مع الظاهر ، يطهر أيضا مع الظاهر.

وكذلك الحال في الجدران ، إلّا أن لا يكون متّصلا بالظاهر ، أو يكون متّصلا كوجهي الحائط المتّصل ، لكن النجاسة فيهما غير خارقة ، فيختصّ الطهارة بما صدق الإشراق ، كما نصّ به جماعة من المتأخّرين (٣).

ومقتضى ذلك أنّ النجاسة فيهما لو كانت خارقة متّصلة ، وأشرقت الشمس على السطح الظاهر عليها ، وجفّفت جميع رطوبات تلك النجاسة من الظاهر إلى الباطن إلى الوجه الآخر يصير الكلّ طاهرا ، لتجفيف الشمس إيّاه على سبيل التشريق.

ولو جفّفت من غير تشريق ، بأن لم تكن النجاسة متّصلة إلى السطح الذي أشرق عليه الشمس لم يطهر ، لأنّ المتبادر من التجفيف المذكور في الصحيحة ما هو بعنوان الإشراق وإصابة الضوء ، بل هو الظاهر من الأخبار.

ولهذا لو تجفّفت المواضع التي لا تصيبها الشمس لم يطهر ، وإن كان جفافها من شدّة حرّ الشمس.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ / ١٥٧ الحديث ٧٣٢ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥١ الحديث ٤١٤٦.

(٢) نسب إليه في الحدائق الناضرة : ٥ / ٤٥١ ، لاحظ! منتهى المطلب : ٣ / ٢٧٦.

(٣) مسالك الأفهام : ١٢٩ ، الروضة البهيّة : ١ / ٦٦ ، ذخيرة المعاد : ١٧١.

٢٣٢

٩٢ ـ مفتاح

[طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة والانتقال]

تطهر الأعيان النجسة بالاستحالة ، كأن تصير رمادا أو دخانا أو فحما وخلاف «المبسوط» في الثاني (١) شاذّ ، وكصيرورة العذرة والميتات ترابا أو دودا ، أو الكلب ملحا ، إذ الحكم إنّما تعلّق بالاسم والحقيقة ، وكذلك صيرورة الكافر مسلما ولو باللحوق كمسبيّ المسلم.

وكذا الانتقال إلى ما لا نفس له ، كدم البعوض والبق ، وكذا انقلاب الخمر خلّا ـ كما في المعتبرة (٢) ـ بلا خلاف ، سواء كان بعلاج أو من قبل نفسه ، وسواء كان ما يعالج به عينا باقية أو مستهلكة على المشهور ، وإن كره العلاج ، للخبر (٣).

واستفادة التعميم من المعتبرة ليست من حيث العموم أو المفهوم فحسب ، بل ورد فيه النصّ أيضا : العصير يصير خمرا فيصبّ عليه الخل ، أو

__________________

(١) المبسوط : ٦ / ٢٨٣.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٥٢٤ الحديث ٤٣٥٩.

(٣) وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٧١ الحديث ٣٢١٥٤.

٢٣٣

شي‌ء يغيّره حتّى يصير خلّا ، فقال : «لا بأس به» (١). فلا وجه لتوقّف الشهيد الثاني في العلاج بالأجسام (٢) ، ولا لاشتراط ذهاب عين المعالج به قبل أن يصير خلّا ، لأنّها تنجس ولا مطهّر لها ، كما قيل (٣) ، لانتقاضه بالآنية ، وإلّا لما أمكن الحكم بطهرها ، وإن انقلبت بنفسها.

ولو مزجت بالخلّ فاستهلكت فيه فالمشهور عدم الطهارة ، لتنجّس الخلّ بالملاقاة ولا مطهّر له ، إذ ليس له حالة ينقلب إليها ليطهر بها كالخمر ، خلافا للشيخ والإسكافي فيما إذا مضى زمان يعلم انقلاب الخمر فيه إلى الخلّ (٤) ، وهو الأصح ، وسيّما إذا جوّزنا العلاج مطلقا ، إذ الخلّ لا يقصر عن تلك الأعيان المعالج بها.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٩ / ١١٨ الحديث ٥٠٩ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٣٧٢ الحديث ٣٢١٥٥ مع اختلاف يسير.

(٢) مسالك الأفهام : ١٢ / ١٠٢.

(٣) مسالك الأفهام : ١٢ / ١٠٢.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي : ٥٩٢ و ٥٩٣ ، نقل عن الإسكافي في مختلف الشيعة : ٨ / ٣٤٨.

٢٣٤

قوله : (تطهر). إلى آخره.

المشهور عند علمائنا أنّ النار مطهّرة لما يستحيل بها رمادا أو دخانا ، لما ستعرف من كون الاستحالة من المطهّرات ، وللإجماع الذي نقله في «الخلاف» (١) والإجماع الذي نقله في «المعتبر» من أنّ الناس أجمعوا على عدم توقّي دواخن السراجين النجسة (٢) ، ولو لم تكن طاهرة لما أجمعوا.

لكن قال في «المدارك» بعد ذلك : ولا معارض لذلك إلّا التمسّك بالاستصحاب ، وهو لا يصلح للمعارضة ، لما بيّناه مرارا من أنّ استمرار الحكم يتوقّف على الدليل ، كما يتوقّف ابتداؤه (٣) ، انتهى.

وفيه ، أنّ ما ذكره من الإجماع لو كان دليلا ، فلا شكّ في عدم معارضة الاستصحاب إيّاه على القول بحجّيّته أيضا ، لأنّ الاستصحاب لا يعارض الدليل الشرعي ، فإنّ معناه الحكم ببقاء الحكم إلى أن يثبت من الشرع عدم البقاء.

مع أنّ الأدلّة على حجّية الاستصحاب كثيرة ، إذ الأخبار الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بحكم الشكّ فيه بعد ذلك اليقين كثيرة ، واضحة السند والدلالة ، بل في غير واحد منها عدم جواز نقض اليقين إلّا بيقين مثله (٤).

مع أنّه رحمه‌الله مداره على حجّية الاستصحاب ، مع أنّ الاستصحاب لا يجري بعد تغيّر الماهيّة بالبديهة ، ولم يقل ذلك أحد. فإنّ الكلب نجس ما دام كلبا ، فأمّا إذا صار ملحا أو ترابا فلا يكون نجسا قطعا ، لأنّ المحكوم بالنجاسة لم يكن إلّا الكلب

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٤٩٩ المسألة ٢٣٩.

(٢) المعتبر : ١ / ٤٥٢.

(٣) مدارك الأحكام : ٢ / ٣٦٨.

(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الباب ١ من أبواب الوضوء.

٢٣٥

لا ما ليس بكلب.

وحجّية الاستصحاب ليست إلّا بعد اعتبار بقاء الموضوع وحقيقته ، مثل الماء القليل النجس صار قدر كرّ ، والمتغيّر بالنجس زال تغيّره ، والمتيمّم من جهة عدم وجدان الماء صار واجدا للماء حين دخل في الصلاة ، وأمثال ذلك.

وفي «المدارك» : جواز الاستدلال بصحيحة ابن محبوب عن أبي الحسن عليه‌السلام : عن الجصّ يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثمّ يجصّص به المسجد ، أيسجد عليه؟

فكتب إليه بخطّه : «أنّ الماء والنار قد طهّراه» (١).

والتقريب : أنّ الجصّ خلطه الرماد من العذرة ونحوها ، ولو لم يكن طاهرا ، لما جاز تجصيص المسجد به والسجود عليه ، والماء الممزوج غير مؤثّر في التطهير إجماعا ، كما نقله في «المعتبر» (٢) ، فيتعيّن كون الطهارة بالنار (٣).

وإسناد التطهير إلى الماء أيضا ، بناء على احتمال تنجّس الجصّ من الدسومات الخارجة من عظام الموتى حين الاحتراق.

ومرّ أنّ الرشّ والصبّ يستحبّ لتوهّم النجاسة والشكّ فيها (٤) ، فهذا أيضا نوع تنظيف شرعي ، وإن لم يكن تطهيرا حقيقيّا.

وأمّا تطهير النار ، فلأنّ العذرة المحترقة تدخل الجصّ بعد وقودها عليه عادة ، ويحصل مزج جزما. والمعصوم عليه‌السلام لم يستفصل أنّه خال عن المزج أم لا ، مع أنّ الظاهر أنّ استشكال السائل عن صورة المزج.

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٣٣٠ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ٥ / ٣٥٨ الحديث ٦٧٨٨.

(٢) المعتبر : ١ / ٤٥٢.

(٣) مدارك الأحكام : ٢ / ٣٦٨.

(٤) راجع! الصفحة : ١٦٥ ـ ١٦٨ من هذا الكتاب.

٢٣٦

وأمّا عظام الموتى ، فربّما كانت من الكلب ونحوه ، مع أنّه ربّما لا يخلو عن لحم ما وجلد ما يابسين ، مع أنّه لم يستفصل فيها أيضا أنّها خالية عمّا ذكر أم لا ، ومع جميع ذلك حكم بأنّ الجصّ المذكور طهّره النار ، بناء على مزجه وخلطه بالمحترق منهما ، بل وقبل الاحتراق أيضا ربّما يحصل مزج أو التنجّس بملاقاة دسومات العظام أو نفسها ونفس العذرة أيضا ، لاحتمال رطوبة ما فيها أو في بعضها ، وكذلك في عظام الموتى ، والمعصوم عليه‌السلام لم يستفصل عن هذا أيضا ، فحكم بالتطهير بالنار على الإطلاق.

فظهر من الإطلاق أنّ المتنجّس أيضا يطهر باحتراق نجس العين وطبخ المتنجّس ، كما هو الحال في الآجر ، ولذا استدلّوا لتطهير الآجر بالطبخ بهذه الصحيحة ، كما ستعرف.

وبهذا ظهر وجه جعل النار من جملة المطهّرات من حيث هي نار ، لا أنّ المطهّريّة هو الاستحالة فقط ، سواء وقعت في النار أو غيرها من غير مدخليّة لخصوصيّة النار ، كما فعله المصنّف وخالف المشهور.

وممّا يشهد للمشهور الإجماع المنقول على مطهريّة النار (١) ، كما مرّ (٢) وسيجي‌ء أيضا.

إذا عرفت هذا فاعلم! أنّ صيرورة النجس رمادا بالاحتراق لم يتأمّل فيه أحد من فقهائنا.

وأمّا الدخان ، فظاهر الأصحاب أنّه مثل الرماد (٣) ، بل وادّعى بعضهم الإجماع (٤).

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٤٩٩ مسألة ٢٣٩.

(٢) راجع! الصفحة : ٢٣٥ من هذا الكتاب.

(٣) نهاية الإحكام : ١ / ٢٩٢ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ١٢٥.

(٤) ذكرى الشيعة : ١ / ١٣٠ ، جامع المقاصد : ١ / ١٧٩.

٢٣٧

وربّما قيل : إنّ التغيّر فيه أقوى منه في الرماد ، فالحكم بالطهارة فيه أولى (١) ، وعن «الشرائع» التردّد في طهارته (٢).

ونسب إلى الشيخ رحمه‌الله في «المبسوط» القول بنجاسة دخان الدهن النجس ، معلّلا بأنّه لا بدّ من تصاعد بعض أجزائه قبل إحالة النار لها بواسطة السخونة (٣).

يعني : أنّه في الدخان شي‌ء من عين الدهن النجس ، يصدق عليه أنّه شي‌ء من العين النجسة ، وكان نجسا قطعا ، ولم يثبت خلافه.

والعلّامة في «النهاية» قال ـ بعد الحكم بطهارة الدخان مطلقا ـ : إنّه لو استصحب شيئا من أجزاء النجاسة فهو نجس ، ولذا نهي عن استصباح الدهن النجس تحت الظلال (٤).

وفيه تأمّل ظاهر ، لعدم ورود نهي ، بل الأخبار كلّها ظاهرة في الجواز (٥).

نعم ، ابن إدريس ادّعى الإجماع عليه (٦) ، وبأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، فيكون تطهير النار للجصّ حقيقة ، وأمّا تطهير الماء له ، فهو مجاز بالإجماع ، ومقاومته للنصوص محلّ تأمّل ، وسيجي‌ء تحقيقه.

وألحق بعض الفقهاء بالرماد الفحم ، محتجّا بزوال الصورة والاسم (٧).

وتأمّل بعضهم في ذلك (٨) ، ولعلّه بمكانه ، لما ستعرف في بحث طهارة مثل

__________________

(١) لاحظ! ذخيرة المعاد : ١٧٢.

(٢) شرائع الإسلام : ٣ / ٢٢٦.

(٣) نسب إليه في معالم الدين في الفقه : ٢ / ٧٧٦ ، لاحظ! المبسوط : ٦ / ٢٨٣.

(٤) نهاية الإحكام : ١ / ٢٩٢.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ٢٤ / ١٩٤ الباب ٤٣ من أبواب الأطعمة والمحرّمة.

(٦) السرائر : ٣ / ١٢٢.

(٧) روض الجنان : ١٧٠.

(٨) معالم الدين في الفقه : ٢ / ٧٧ ، كفاية الأحكام : ١٤.

٢٣٨

الكلب إذا صار ملحا.

واعلم! أيضا أنّه اختلف الأصحاب في طهارة الطين النجس إذا صار بالطبخ آجرا أو خزفا.

فعن الشيخ في «الخلاف» ، والعلّامة في «النهاية» و «المنتهى» ، والشهيد في «البيان» : طهارته (١) ، وتوقّف فيها في «المعتبر» (٢) ، وفي موضع آخر من «المنتهى» (٣) ، وجزم جمع من المتأخّرين بعدمها (٤).

احتجّ في «الخلاف» للطهارة بإجماع الفرقة (٥) ، والمنقول منه بخبر الواحد حجّة.

واحتجّ أيضا عليها بصحيحة ابن محبوب السابقة (٦) بالتقريب السابق ، وبأصالة الطهارة بعد المنع من حجّية الاستصحاب ، أو دعوى تغيّر الموضوع بالاسم والصورة.

وحجّة القول بالنجاسة الاستصحاب مع عدم تغيّر الموضوع اسما وصورة ، لإطلاق اسم الأرض عليه.

وفيه ، أنّ النجس كان التراب قبل البلل أو بعده ، وصدق التراب على الآجر والخزف على سبيل الحقيقة كما ترى ، لصحّة السلب ، إلّا أن يقال : التراب أرض

__________________

(١) الخلاف : ١ / ٤٩٩ المسألة ٢٣٩ ، نهاية الإحكام : ١ / ٢٩١ ، منتهى المطلب : ٣ / ٢٨٨ ، البيان : ٩٢ ، لاحظ! مفتاح الكرامة : ٢ / ٢١٢ و ٢١٣.

(٢) المعتبر : ١ / ٤٥٢.

(٣) منتهى المطلب : ٣ / ٢٨٨.

(٤) الروضة البهيّة : ١ / ٦٧ ، مسالك الأفهام : ١ / ١٣٠ ، مجمع الفائدة والبرهان : ١ / ٣٥٥ ، للتوسّع لاحظ! جواهر الكلام : ٦ / ٢٧١.

(٥) الخلاف : ١ / ٥٠٠ مسألة ٢٣٩.

(٦) وسائل الشيعة : ٥ / ٣٥٨ الحديث ٦٧٨٨ ، راجع! الصفحة : ٢٣٦ من هذا الكتاب.

٢٣٩

حقيقة غير مطبوخ ظاهرا ، والمطبوخة (١) وعدمها وصفان ، يتبدّل أحدهما بالآخر ، فليس تغيّر الموضوع بالماهيّة ، بل بالوصف ، وسيجي‌ء تمام التحقيق في ذلك في مبحث طهارة نحو الكلب الصائر ملحا.

ومع ذلك يمكن أن يقال : إنّ الإجماع المنقول والصحيحة المذكورة حجّتان للفقيه ، فلا يضرّ الاستصحاب ، لأنّه لا يعارض النصّ ، والاحتياط واضح.

واعلم! أنّ في «المنتهى» قال : البخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صيقلي وتقاطر فهو نجس ، إلّا أن يعلم تكوّنه من الهواء ، كالقطرات الموجودة على طرف إناء في أسفله جمد نجس ، فإنّها طاهرة (٢) ، انتهى. والاحتياط فيما ذكره.

فأمّا الحكم بالنجاسة ، فربّما لا يخلو عن إشكال ، لأنّ البخار غير معلوم اتّحاد ماهيّته مع ماهيّة الماء النجس ، إذ ما دام بخارا لا يكون ماء قطعا ، ولذا لا تصحّ الطهارة بما عن الحدث والخبث. ولا يكفي في غسل الوجه واليدين مثلا إحاطة البخار إيّاها وشموله لها. وكذا بعد زوال العين من النجس لا يطهر المحلّ بمجرّد شمول البخار له ، بل البخار الذي يصعد من الغائط أو البول في الشتاء غير ظاهر كونه نجسا معفوّا ، أو غير معفوّ ، إذ يصل إلى البدن والثياب البتّة.

نعم ، إن أراد التصعيد (٣) ، بأن يكون (٤) الأجزاء من الماء النجس صعّده النار لسخونتها ، ثمّ جمع على الصيقل وتقاطر ، يكون الأمر كما ذكره ، وسيجي‌ء في المبحث المذكور تحقيق هذا أيضا.

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر أنّ الأصحّ : والمطبوخيّة.

(٢) منتهى المطلب : ٣ / ٢٩٢.

(٣) في بعض النسخ : التصعّد.

(٤) في (ك) : يتكون.

٢٤٠