وصية النبي صلّى الله عليه وآله

علي موسى الكعبي

وصية النبي صلّى الله عليه وآله

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-425-6
الصفحات: ١٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وقد ادّعت تلك المرأة الحاقدة علىٰ وصيّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر ( الصحيحين ) ! أمرين :

أحدهما : أنها آخر الناس عهداً برسول الله ، وقد أكّدته بأخبار اُخرىٰ تفرّدت بها ، منها قولها : مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي (١) ، وقولها : توفّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري (٢).

وهذا الادعاء معارض بعدّة أحاديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، والإمام علي بن الحسين عليه‌السلام ، واُمّ سلمة ، وابن عباس ، وعمر بن الخطاب ، وعائشة نفسها ، وعبد الله بن عمرو ، وحذيفة بن اليمان ، والشعبي وغيرهم ، وكلّها تصرّح بأن عليّاً عليه‌السلام هو آخر الناس عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ادعوا لي حبيبي » أو « أخي » فدعوا عليّاً عليه‌السلام ، فجعل يسارّه ويناجيه وهو مسنده إلىٰ صدره ، وقال عليه‌السلام : « علّمني ألف باب من العلم ، يفتح لي كل باب ألف باب » ولم يزل يحتضنه حتىٰ قُبض في حجره ، وهو الذي تولّى غسله وكفنه ودفنه (٣).

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ولقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن رأسه لعلىٰ صدري ، ولقد سالت نفسه في كفّي ، فأمررتها علىٰ وجهي ، ولقد وليت

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٣٣ / ٤٣٣ ـ كتاب المغازي ـ باب مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٣٦ / ٤٣٨ ـ نفس الكتاب والباب المتقدم.

(٣) راجع : الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٢٦٢ ذكر من قال توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، البداية والنهاية / ابن كثير ٧ : ٣٥٩ ، ترجمة علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٢ : ٤٨٤ / ١٠١٢ و٣ : ١٧ / ١٠٣٦ ـ ١٠٤٠ ، ذخائر العقبى : ٧٢ ، كنز العمال ٧ : ٢٥٢ و ٢٥٣ و ٢٥٥ و ١٦ : ٢٢٨.

١٢١

غسله والملائكة أعواني » (١).

وفي الصحيح عن اُمّ سلمة ، قالت : والذي أحلف به ، إن كان علي رضي‌الله‌عنه لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غداةً ، وهو يقول : « جاء علي ، جاء علي ؟» مراراً ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : « كأنك بعثته في حاجة ؟ » قالت : فجاء بعدُ ، قالت اُم سلمة : فظننت أن له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت ، فقعدنا عند الباب ، وكنت من أدناهم إلى الباب ، فأكبّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يومه ذلك ، فكان علي أقرب الناس به عهداً (٢).

قال سبط ابن الجوزي : هذا الحديث رواه أحمد بن حنبل في ( الفضائل ) (٣) ولم يطعن فيه أحد ، وهوحديث صحيح ، ولو كان معلولاً لتكلموا فيه ... .

ثم قال : : قول اُمّ سلمة مثبت ، وقول عائشة نافي ، ومتىٰ اجتمع المثبت والنافي قدّم المثبت باجماع الأُمّة (٤). مضافاً إلى أن حديث اُمّ سلمة رضي الله عنها مقدّم علىٰ حديث عائشة عند التعارض ، لما ثبت عن اُمّ سلمة من وفور العقل وصواب الرأي وسموّ المقام والفضيلة (٥). بينما ثبت عن عائشة أنها أحدثت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد قيل لها : ندفنك مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقالت : إني قد أحدثت

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣١١ / خ ١٩٧.

(٢) المستدرك / الحاكم ٣ : ٣٩ وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص : صحيح. وراجع أيضاً : مسند أحمد ٦ : ٣٠٠ ، ترجمة علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٣ : ١٨ / ١٠٣٨ ، مجمع الزوائد ٩ : ١١٥ وصححه.

(٣) فضائل الصحابة ٣ : ٦٨٦ / ١١٧١.

(٤) تذكرة الخواص : ٤٨.

(٥) راجع : المراجعات / عبد الحسين شرف الدين : المراجعة ( ٧٥ ـ ٧٨ ).

١٢٢

بعده ، فادفنوني مع أخواتي ، فدفنت بالبقيع (١).

والآخر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يوصِ لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وفيه :

١ ـ إن الذين ذكروا عند عائشة أن علياً عليه‌السلام وصيّ ، لابدّ أنهم من جيل الصحابة أو من الذين أدركوهم ، وأنهم سمعوا بهذا الأمر ، فجاءوا متسائلين ، ربما للاحتجاج عليها بسبب خروجها على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولم يبيّن الراوي ظروف صدور الحديث ، المهم إن التساؤل بهذا الموضوع يدلّ علىٰ كون الوصية أمراً متداولاً منذ عصر الرسالة ، وهو جزء لا يتجزّأ من الثقافة الإسلامية والفكر النبوي الأصيل.

٢ ـ إن الوصية المسؤول عنها في هذا الخبر هي الخلافة ، لهذا جابهت السؤال بالرفض والانكار الشديدين ؛ لأن الجواب بالايجاب يفضي إلى القول بخلافة أهل البيت عليهم‌السلام ، والتي كانت عائشة في صدد التصدّي لها ، ولو كانت الوصية عامة ، أو في اُمور شخصية كالأهل والديون والأولاد ـ كما يقال ـ لما أنكرتها عائشة.

ويدلّ علىٰ ذلك ما نقله ابن حجر عن الزهري فيما رواه جماعة منهم عروة بن الزبير قال : كأنّ عائشة أشارت إلى ما أشاعته الرافضة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى إلىٰ علي بالخلافة (٢).

٣ ـ إن هذه الدعوىٰ معارضة بالأحاديث والأخبار الصحيحة المصرحة بالوصية لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد ذكرناها في الفصلين المتقدمين ، ولو صحّ خبرها هذا فهو يعني نفي الوصية حال الوفاة ، ولا يمنع ذلك من أن تكون قبل

__________________

(١) المعارف / ابن قتيبة : ١٣٤ ـ نشر الشريف الرضي ـ قم ـ ١٤١٥ه‍.

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري / ابن حجر ٨ : ١٢٢.

١٢٣

الوفاة.

قال سبط ابن الجوزي : إن قول عائشة « ما قبض إلاّ بين سحري ونحري » لا ينافي الوصية ؛ لأن في تلك الحالة لا يقدر الإنسان على الكلام ، وإنما يكون قبيل ذلك ، فيحمل على أنه أوصى إليه في ذلك الوقت ، فلما ثقل قبض بين سحرها ونحرها توفيقاً بين الأقوال (١).

وعلّق الإمام السندي على الحديث في حاشيته علىٰ سنن النسائي بالقول : لا يخفىٰ أن هذا لا يمنع الوصية قبل ذلك ، ولا يقتضي أنه مات فجأة بحيث لا تمكن منه الوصية ولا تتصور ، فكيف وقد عُلِم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عَلِم بقرب أجله قبل المرض ، ثمّ مرض أياماً .. (٢).

٤ ـ وتتساءل عائشة : ( متى أوصى إليه ؟ ) فنقول لها : منذ تباشير الدعوة الإسلامية في حديث الدار حيث لم تكوني بعد نطفة في رحم اُمّك يا عائشة ، وحتىٰ مرض موته صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أراد أن يكتب الوصية ، ليؤكّد عهده اللفظي بكتاب لا تضلّ الأُمّة بعده ، فمنع عمر بن الخطاب ذلك الكتاب بزعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر أو غلبه الوجع (٣).

وقد أكّد عمر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يوصي إلىٰ علي عليه‌السلام بالخلافة في حواره مع ابن عباس وفيه : قال عمر لابن عباس : هل بقي في نفس علي شيء من أمر الخلافة ؟ فقال ابن عباس : نعم. فقال عمر : ... ولقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرّح

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٤٨.

(٢) سنن النسائي ٦ : هامش ص ٢٤١ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(٣) راجع : صحيح البخاري ٧ : ٢١٩ / ٣٠ ـ كتاب المرضىٰ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ و ١٢٥٩ ـ كتاب الوصية ، مسند أحمد ١ : ٢٢٢ ، ٣٢٤.

١٢٤

باسمه ، فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطةً على الإسلام ... (١).

ومن سخرية الأقدار أن يكون ابن الخطاب أشفق من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكثر حيطة منه على الإسلام !!

٥ ـ إن المنقول عن عائشة في إنكار الوصية لعلي عليه‌السلام لا يمكن الوثوق به ، لما ثبت من أنها حاربت علياً عليه‌السلام لما بويع بالخلافة ، وشهرت في وجهه السيف بالبصرة ، فكيف إذن تذكر ما يثبت خلافته وهي أشدّ الأُمّة تأليباً عليه.

قال ابن عباس : إن عائشة لا تطيب له نفساً بخير (٢).

وفي الخبر المشهور : أنه لما جاءها نعي أمير المؤمنين عليه‌السلام استبشرت وتمثّلت بقول الشاعر :

فإن يكُ نائياً فلقد نعاه

غلام ليس في فيه الترابُ

فقالت لها زينب بنت اُمّ سلمة : ألعليّ تقولين هذا ؟ فقالت : إن أنسى !! فإذا نسيت فذكّروني ، ثم خرّت ساجدة شكراً على ما بلغها من قتله عليه‌السلام ورفعت رأسها وهي تقول :

فألقت عصاها استقر بها النوى

كما قرّ عيناً بالإياب المسافرُ (٣)

هذا فضلاً عن ثبوت تلوّنها وتقلّبها فمرّة تقول : اقتلوا نعثلاً فقد كفر ، ومرّة تصيح يا لثارات عثمان ! ، ولعلّ هذا ونظائره من سيرتها هو الذي حمل زياد بن

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٢٠ ـ ٢١.

(٢) الطبقات / ابن سعد ٢ : ٢٣٢.

(٣) الجمل / المفيد : ١٥٩ ، الشافي ٤ : ٣٥٥ ـ مؤسسة الصادق ـ طهران ، تلخيص الشافي ٤ : ١٥٧ ، وراجع : تاريخ الطبري ٥ : ١٥٠ ، مقاتل الطالبيين : ٢٦ ـ النجف ـ ١٣٨٥ ه‍ ، الطبقات الكبري ٣ : ٤٠ ، تذكرة الخواص : ١٦٥.

١٢٥

لبيد الأنصاري علىٰ اتّهامها بالكذب كما مرّ في أبياته في الوصية ، فراجع.

٢ ـ اسلوب إبعاد الوصية عن العهد النبوي

رغم اُسلوب التكتم الذي اتبعه أصحاب هذا الاتجاه ، فقد ترشحت بعض الأخبار والأشعار المصرحة بالوصية ، فتصدّوا لها بالانكار ، وشادوا إنكارهم على أساس كون الوصية أمراً محدثاً ومفهوماً طارئاً لا ينتمي إلى زمان النبوة ، ولا يمت بصلة إلى الفكر الإسلامي ، وذلك من خلال ادّعاءين باطلين :

الادعاء الأوّل : أن الوصية من إبدعات عبد الله بن سبأ.

وأقدم من نقل هذا الادعاء علىٰ ما وجدنا هو الطبري في تاريخه ، وقد رواه عن السري ؛ عن شعيب ، عن سيف بن عمر ، عن عطية ، عن يزيد الفقعسي ، وذكر فيه أنّ ابن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء ، فأسلم أيام عثمان ، ثم تنقل في حواضر الإسلام يحاول إضلالهم ، فبثّ عقيدة الرجعة والوصية ، وكان من جملة أقواله في الوصية : إنه كان ألف نبي ، ولكلّ نبي وصي ، وكان علي وصي محمّد ، ومحمّد خاتم الأنبياء ، وعلي خاتم الأوصياء ، .. الخ (١).

وجاء بعد الطبري أقوام وكأنهم وجدوا في هذه الرواية خير وسيلةٍ لتبرير عمل أهل السقيفة وأقوىٰ ذريعة للتنصّل عمّا أراده الله وحكم به وأعلن عنه رسوله وأوصىٰ به ...!!! منهم : ابن كثير ، وابن الأثير ، وابن خلدون ، والمقريزي (٢) ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٤٠ ـ حوادث سنة ٣٥ ه‍.

(٢) البداية والنهاية ٧ : ١٦٧ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٤٦ ، تاريخ ابن خلدون ٣ : ٢١٥ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٨ ه‍ ، الخطط / المقريزي ٢ : ٣٥٢ ـ دار صادر ـ بيروت.

١٢٦

وكثير من المتأخرين (١) ، الذين ربطوا بين الفكر الإمامي الأصيل والمزاعم اليهودية ، وزادوا علىٰ من تقدّم أنّ الوصية من صنع اليهود ، ومنهم انتقلت إلى المسلمين !! وغير ذلك من الترهّات بل السخافات التي روّجتها النفوس المريضة وحاولت بشتّى الطرق الملتوية صرف الناس عن مبدأ الوصية وجديّتها.

وخلاصة القول في هذا الهراء :

١ ـ إن رواية الطبري التي يستند إليها المروّجون لهذا الادعاء لا قيمة لها من الناحية العلمية ؛ لأنها موضوعة لا أصل لها ، وتخالف الواقع التاريخي ومسلّمات التاريخ ، فضلاً عن أنّ الطبري قد تفرّد بنقلها.

وقد رواها الطبري عن السري ، وهو إما السري بن إسماعيل ، وهو كذّاب متروك ليس بشيء ، أو السري بن عاصم ، وهو كذاب وضّاع يسرق الحديث (٢) ، ورواها السري عن شعيب بن إبراهيم ، وهو

__________________

(١) منهم : د. حسن إبراهيم حسن في ( تاريخ الإسلام السياسي : ٣٤٧ ـ مكتبة النهضة المصرية ـ ١٩٦٤ م ) ، و ( تاريخ الدولة الفاطمية : ٢٢ و ٢٥ ) ، ود. سليمان العودة في ( عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام : ٢٣٢ ) ، ود. عبد العزيز محمد نور ولي في ( أثر التشيع على الروايات التاريخية : ١٩ ـ دار الخضيري ـ المدينة ـ ١٤١٧ ه‍ ) ، وعلي مصطفى الغرابي في ( تاريخ الفرق الإسلامية : ١٧ ـ القاهرة ـ ١٣٧٨ ه‍ ) ، ومحمّد أبو زهرة في ( تاريخ المذاهب الإسلامية : ٤٦ ـ دار الفكر العربي ـ ١٩٧٦ م ) ، الشيخ محمّد الخضري في ( تاريخ الدولة الأموية : ٣٥٩ ـ دار القلم ـ بيروت ـ ١٤٠٦ ه‍ ) ، ومحمّد رشيد رضا في ( السنة والشيعة : في عدة صفحات ) ومحمّد فريد وجدي في ( دائرة معارف القرن العشرين ٥ : ١٨ ـ ١٩ ـ دار الفكر ـ بيروت ) ود. مصطفىٰ حلمي في ( نظام الخلافة بين أهل السنة والشيعة : ١٥٧ ـ دار الدعوة ـ ط ١ ـ ١٤٠٨ه‍ ) وغيرهم كثير.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ١١٧ ، لسان الميزان / ابن حجر ٣ : ١٢ ـ مؤسسة الأعلمي

١٢٧

مجهول (١) ، ورواها شعيب عن سيف بن عمر ، وهو ضعيف ، ليس بشيء ، متروك الحديث ، متهم بالزندقة ، عامة أحاديثه منكرة لا يتابع عليها ، وضّاع ، وساقط الرواية (٢) ، ورواها سيف عن عطية ، عن يزيد الفقعسي ، وكلاهما مجهولان.

ترىٰ فهل رأيت حياتك كلّها مثل هذا الاسناد المضحك ، بل التحفة في التفاهة ؟!

٢ ـ إن هذه الرواية هي من مبتدعات المتزلفين إلىٰ سلاطين بني اُمية ، دسّوها في التاريخ لخدمة أغراض السياسة الاموية في تشييد السقيفة ومواجهة فكر أهل البيت عليهم‌السلام الأصيل.

قال د. طه حسين : إن خصوم الشيعة أيام الأُمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلىٰ عثمان وولاته من ناحية ، وليشنّعوا علىٰ علي وشيعته من ناحية اُخرىٰ ، فيردّوا بعض أُمور الشيعة إلىٰ يهودي أسلم كيداً للمسلمين ، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة ! (٣).

وذكر في موضع آخر أن ابن سبأ قد اختُرع بأَخَرةَ حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية ، فأراد خصوم الشيعة أن يُدخلوا في اُصول هذا المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد لهم والنيل منهم.

__________________

ـ بيروت ـ ١٤٠٦ ه‍.

(١) ميزان الاعتدال ٢ : ٢٧٥ ، لسان الميزان ٣ : ١٤٥.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٢٥٦ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٢٥٩ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٤ ه‍.

(٣) الفتنة الكبرى / طه حسين : ١٣٤.

١٢٨

ثم استنتج من خلال عدّة أدلة أن ابن سبأ مجرد وهم لا حقيقة له ، وأنه شخص أدخره خصوم الشيعة للشيعة ، ولا وجود له في الخارج (١) ، وقد تابعه غير واحد من المستشرقين والباحثين (٢) ممن شككوا في شخصية ابن سبأ ، واعتبروا قصته خرافة لا وجود لها في التاريخ الإسلامي ، ولا يصلح على إثباتها دليل علمي قاطع ، وقد أفرد السيد مرتضى العسكري دراسة موسعة خاصة بهذا الموضوع تحت عنوان ( عبد الله بن سبأ وأساطير اُخرىٰ ) انتهىٰ فيها إلى القول بأسطورة هذه الشخصية واختلاقها !

٣ ـ إن إنكار وجود ابن سبأ وإن كان غير صحيح كما ترىٰ ، الا أن الدور الذي أعطي له دور خيالي ، في حين أنه من رؤوس الغلاة الذين ادعوا الأُلوهية لعلي عليه‌السلام ، وادعىٰ هو النبوة لنفسه ، وقد استتابه أمير المؤمنين عليه‌السلام فلم يتب ، فقتله وأصحابه حرقاً بالنار ، وقد لعنه أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم (٣) ، وقد ذكر بعض المؤرخين ما يؤيد هذا أيضاً (٤).

والادعاء الثاني : إن الوصية من صنع متكلمي الشيعة في القرن الثاني.

قالوا : أول من ابتدعها هشام بن الحكم ( ١٩١ ه‍ ) ولم تكن معروفة قبله لا من ابن سبأ ولا من غيره ، وإن كلمة الوصي الواردة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنت أخي

__________________

(١) عليّ وبنوه : المجموعة الكاملة / طه حسين ٤ : ٥١٨ ـ ٥١٩.

(٢) راجع : نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية / د. أحمد محمود صبحي : ٣٧ ـ دار المعارف ـ مصر.

(٣) لاحظ : رجال الكشي : ١٠٦ / ١٧٠ ـ ١٧٤ ـ كلية الإلهيات ـ جامعة مشهد.

(٤) راجع : البدء والتاريخ / المقدسي ٥ : ١٢٥ / المعارف / ابن قتيبة : ٦٢٢ ، الفصل في الملل والنحل / ابن حزم ٤ : ١٨٦ ـ مكتبة المثنىٰ ـ بغداد.

١٢٩

ووصيي » في حديث الدار ، هي من صنع الشيعة الذين وضعوها بدلاً من كلمة وزيري (١).

وهو أيغال في التجنّي على التاريخ الذي حفظ لنا الوصية منذ فجر الرسالة ، بل وحتى علي أُولئك الذين ادعوا أن التشيع ينتمي إلىٰ عبد الله بن سبأ.

ثمّ إن الرواية العامية للحديث جاءت بلفظ « أنت أخي ووصيي » من مصادر معتبرة وأسانيد لا غبار عليها (٢).

ولم يكن هذا الادعاء وليد اليوم ، كما يتبين من ردّ الشوكاني ( ١٢٥٠ ه‍ ) عليه بقوله : اعلم أن جماعة من المبغضين للشيعة عدّوا قولهم أنّ علياً وصي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من خرافاتهم ، وهذا إفراط وتعنّت يأباه الإنصاف ، وكيف يكون الأمر كذلك وقد قال بذلك جماعة من الصحابة ، كما ثبت في الصحيحين أن جماعة ذكروا عند عائشة أن علياً وصيّ ، وكما في غيرهما (٣).

وتلقّف هذا الادعاء المتهافت بعض المتأثّرين بفُتات الفكر السلفي فردّدوه

__________________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية / د. محمّد عمارة : ١٥٥ ـ ١٥٨ ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ ط ١ ـ ١٩٧٧ م.

(٢) راجع : تاريخ الطبري ٢ : ٢١٧ ، معالم التنزيل / البغوي ٤ : ٢٧٨ ، شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٢١٠ و٢٤٤ ، الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٦ ـ ٥٨٧ ، تفسير الخازن ٣ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، وصححه الشيخ أبو جعفر الاسكافي في نقض العثمانية : ٣٠٣ ، وشهاب الدين الخفاجي في نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض ٣ : ٣٥ ، وحكى السيوطي في جمع الجوامع ، كما في ترتيبه ( ٦ / ٣٩٦ ) تصحيح ابن جرير له. راجع : الغدير ٢ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

(٣) العقد الثمين في إثبات وصاية أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٤٥.

١٣٠

ونسجوا علىٰ منواله لأغراض فاسدة (١).

٣ ـ اُسلوب الحذف والتحريف

ومن الأساليب المتبعة من قبل أصحاب هذا الاتجاه هو حذف ما لم يرق لهم من الأحاديث والأخبار أو تحريفها ومحو آثارها ، وهو أسلوب يجافي أمانة العلم والتاريخ ، ويبعد الباحث عن فهم الواقع التاريخي علىٰ حقيقته ، وإليك أمثلة حول موضوع الوصية :

١ ـ جاء في حديث الدار أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال مشيراً إلىٰ علي عليه‌السلام : « إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » وقد أخرجه الخازن في تفسيره والطبري في تاريخه عن ابن إسحاق (٢) ، وليس له عين ولا أثر في سيرة ابن هشام مع أنها تهذيب لسيرة ابن إسحاق ، مما يعني حذف الحديث في سيرة ابن هشام إمّا منه وإمّا من غيره ، والله العالم.

٢ ـ والحديث المتقدم ذكره محمّد حسين هيكل في كتاب ( حياة محمّد ) في الطبعة الأُولىٰ وحذفه في الطبعة الثانية (٣).

٣ ـ وحذف الطبري في تفسيره وابن كثير ألفاظ الحديث الدالة على الخلافة والوصية وأثبتا بدلها ( كذا وكذا ) فجاء اللفظ بهذه الصورة المحرّفة :

__________________

(١) راجع : الشعية والتصحيح / موسى الموسوي : ١٥ ـ ١٦ ـ لوس أنجلس ـ ١٩٨٧ م ـ تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلىٰ ولاية الفقيه / أحمد الكاتب : ٥٦ ـ دار الشورىٰ ـ ط ١ ـ ١٩٩٧ م.

(٢) تفسير الخازن ٣ : ٣٧١ ، تاريخ الطبري ٢ : ٢١٧.

(٣) تفسير الكاشف / مغنية ٥ : ٥٢٢ ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ ط ٣ ـ ١٩٨١ م ، الغدير ٢ : ٣٩٦ و ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

١٣١

« أيّكم يؤازرني علىٰ هذا الأمر على أن يكون كذا وكذا ؟ » فقال : « إن هذا أخي وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا » (١) وكذا فعل غير الطبري وابن كثير دون أن يضع ( وكذا ) (٢).

٤ ـ والحديث ذكره الخازن في تفسيره ، وأسقطه محمّد علي قطب من مختصر تفسير الخازن (٣).

٥ ـ وتعرّض طنطاوي إلىٰ ذكر قصة حديث الدار ، ولكنه لم يذكر لفظ الحديث كاملاً ، بل اكتفىٰ بوضع ( الخ ) (٤).

٦ ـ حديث سلمان رضي‌الله‌عنه الذي جاء فيه : يا رسول الله ، إنه ليس من نبي إلاّ وله وصي وسبطان ... الخ ، وقد قدّمناه في الفصل الثاني ، هذا الحديث مثبت في القسم المطبوع من سيرة ابن إسحاق (٥) ، وليس له أثر في سيرة ابن هشام.

٧ ـ حديث سلمان رضي‌الله‌عنه الذي جاء فيه : « كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله ... الخ » قال ابن أبي الحديد : رواه أحمد في ( المسند ) وفي كتاب ( فضائل علي عليه‌السلام ) ، وذكره صاحب كتاب ( الفردوس ) وزاد فيه : « ثم انتقلنا حتىٰ صرنا في عبد المطلب ، فكان لي النبوة ، ولعلي الوصية » (٦) ولم نجد هذه الزيادة في

__________________

(١) تفسيرالطبري ١٩ : ١٤٠ ، تفسير ابن كثير ٣ : ٣٥٦ ، البداية والنهاية ٣ : ٤٠.

(٢) الدر المنثور / السيوطي ٦ : ٣٢٨.

(٣) مختصر تفسير الخازن ٢ : ٨٩٩ ـ دار المسيرة ـ بيروت.

(٤) الجواهر ١٣ : ١٠٣ ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ ١٣٤٧ ه‍.

(٥) سيرة ابن إسحاق : ١٢٥.

(٦) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٧١.

١٣٢

طبعتين من ( الفردوس ) (١).

٨ ـ خطبة الإمام الحسين عليه‌السلام في عاشوراء نقلها الطبري وغيره بهذا اللفظ : « أما بعد ، فانسبوني فانظروا من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن وصيّه وابن عمّه ... الخ » (٢) هذه الخطبة أوردها ابن كثير بعد أن حذف منها وحرفها أسوأ تحريف « راجعوا أنفسكم وحاسبوها ، هل يصلح لكم قتال مثلي ، وأنا ابن بنت نبيكم ، وليس علىٰ وجه الأرض ابن بنت نبي غيري ، وعلي أبي ، وجعفر ذو الجناحين عمي ... الخ » (٣).

٩ ـ وتعرّض شعر الوصية للحذف والتحريف أيضاً بهدف إسقاط هذا المفهوم من ديوان الشعر العربي ، فقد حُذِف بيتان من أكثر طبعات ديوان المتنبي ، وهما قوله حين عُوتب علىٰ ترك مدح علي أمير المؤمنين عليه‌السلام :

وتركت مدحي للوصي تعمّداً

إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا

وإذا استطال الشيء قام بنفسه

وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

حتى أن الأستاذ عبد الرحمٰن البرقوقي ذكر البيتين في الطبعة ذات الجزءين ج ٢ ص ٥٤٦ ، وحذفهما في الطبعة ذات الأربعة أجزاء (٤).

فانظر أي يد تلك التي أوتمنت علىٰ ودائع التراث ؟!

__________________

(١) الفردوس ٣ : ٢٨٣ / ٤٤٥١ ـ دار الكتب العلمية ـ ١٤٠٦ ه‍ ، و٣ : ٣٣٢ / ٤٨٨٤ ـ دار الكتاب العربي ـ ١٤٠٧ ه‍.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ٤٢٤ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٤١٩ ، حوادث سنة ٦١ ه‍.

(٣) البداية والنهاية ٨ : ١٧٩.

(٤) مصادر نهج البلاغة / عبد الزهراء الحسيني ١ : ١٤٦.

١٣٣

١٠ ـ وحذف بيت يصرّح بالوصية من قصيدة الصحابي النعمان بن عجلان مع أبيات اُخر في رواية ابن عبد البر وابن حجر وابن الأثير (١) وغيرهم ، وورد البيت في رواية ابن بكار وابن أبي الحديد (٢) في نفس القصيدة ، والبيت هو :

وصيّ النبي المصطفىٰ وابن عمّه

وقاتل فرسان الضلالة والكفر

٤ ـ اُسلوب تضعيف الروايات والطعن بالرواة

تضعيف الروايات :

تعرّضت أحاديث الوصية ورواتها لموجة من التشكيك والطعن حتىٰ لا يكاد يسلم منها إلاّ النزر اليسير من قبل من ضاقت بهم السبل وأعجزتهم الحيل في الإنكار والكتمان فوصفوها بكونها موضوعة أو باطلة أو في إسنادها ظلمات (٣) ، وما إلىٰ ذلك من الأوصاف التي لا تليق بروح البحث العلمي ، وذلك لأجل تنفير الباحث وإبعاده عن الحقيقة ، وفيما يلي نورد جملة من أقوال أصحاب هذا الاتجاه :

١ ـ أحمد بن عمر القرطبي الأنصاري ( ٦٥٦ ه‍ ) ذكر أن الأحاديث التي تساق في أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصىٰ من وضع الشيعة (٤) ، وقد مرّ في الفصل الثاني

__________________

(١) الاستيعاب بهامش الاصابة ٣ : ٥٤٩ ، اسد الغابة ٥ : ٣٤٩ ، الإصابة ٣ : ٥٦٢.

(٢) الأخبار الموفقيات : ٥٩٣ ، شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٣١.

(٣) راجع : الموضوعات / ابن الجوزي ١ : ٣٧٤ ـ ٣٧٧ ، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة / الشوكاني : ٣٨٦ ـ ٣٨٧ و ٤٠٢ ـ دار الكتاب العربي ـ ١٤٠٦ ه‍.

(٤) فتح الباري ٥ : ٣٦١.

١٣٤

أن جميع الأحاديث التي ذكرناها هي من طرق العامة ، وقد أكد الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود صحّة الروايات الواردة في الوصية ، ووصفها بالكثرة في كتب أهل السنة (١).

٢ ـ ابن تيمية الحراني ( ٧٢٨ ه‍ ) قال في حديث الانذار : وحديث الانذار إذا كان في بعض كتب التفسير التي يُنقل فيها الصحيح والضعيف مثل : تفسير الثعلبي ، والواحدي ، والبغوي ، بل وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، لم يكن مجرّد رواية واحد من هؤلاء دليلاً علىٰ صحّته (٢).

وقد مرّ من أورد الحديث من المحدثين ومن صححه في الفصل الثاني ، وفيهم من ذكره ابن تيمية ، ثم ان ابن تيمة وصف ابن جرير في موضع آخر بأنه لا يروي الأحاديث الموضوعة ولا الضعيفة ، وقال عن البغوي : لما كان البغوي عالماً بالحديث لم يذكر في تفسيره شيئاً من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي ، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي (٣). فما بال رواية ابن جرير والبغوي وغيرهما هنا ليست دليلاً علىٰ صحة حديث الدار ؟ بالتأكيد لأنها تفضي إلىٰ تصحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام : « وصيي وخليفتي من بعدي ».

٣ ـ ابن كثير الدمشقي ( ٧٧٤ ه‍ ) قال : أما ما يفتريه كثير من جهلة الشيعة والقصّاص الأغبياء من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى إلىٰ علي بالخلافة ، فكذب وبهت وافتراء عظيم ، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده علىٰ ترك إنفاذ

__________________

(١) السقيفة والخلافة : ١٤٢ ـ دار غريب ، القاهرة ـ ١٩٧٧ م.

(٢) منهاج السنة ٤ : ٨٠ ـ المكتبة العلمية ـ بيروت.

(٣) منهاج السنة ٢ : ٩٠.

١٣٥

وصيته وإيصالها إلىٰ من أوصى إليه ، وصرفهم إياها إلىٰ غيره ، لا لمعنىٰ ولا لسبب (١) ... إلى آخر كلامه الذي أوضح فيه سبب تكذيبه حديث الوصية وغيره من الأحاديث الدالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام وإمامته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو ما يلزم منه من تخوين الصحابة وتركهم إنفاذ وصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تبيّن في الصحيحين أن عمر بن الخطاب منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكتب وصيته التي توخّىٰ فيه الهدىٰ وإنقاذ الاُمة من الضلال ، فما المانع من الممالأة علىٰ وصيه بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سيما وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عهد إلىٰ علي عليه‌السلام بأن الأمة ستغدر به بعده (٢) ، وأخبره بضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلا بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتراف أصحابه من بعده فيما يسمّونه بالصحيحين وأنّه لا ينجو منهم يوم القيامة إلاّ كهمل النعم كنايةً عن القلّة القليلة جدّاً.

وقد صرّح أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام بممالأة القوم على اهتضام حقّه الذي جعله الله له في عدّة مواضع من كلامه وخطبه وكتبه ، منها قوله عليه‌السلام : « اللهمّ إني استعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ، ثم قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه ! » (٤).

__________________

(١) البداية والنهاية ٧ : ٢٢٥.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٠ وصححه ، تذكرة الحفاظ ٣ : ٩٩٥ ، تاريخ بغداد ١١ : ٢١٦ ، شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٥ ، الخصائص الكبرى ٢ : ٢٣٥ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤٠٥ ه‍.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٣٩ ، مسند أبي يعلى ١ : ٤٢٦ / ٣٠٥.

(٤) نهج البلاغة / تحقيق صبحي الصالح : ٢٤٦ / خ ١٧٢.

١٣٦

وفي الخطبة الشقشقية (١) التي تشتمل علىٰ شكوى أمير المؤمنين عليه‌السلام من تظاهر القوم عليه ، كفاية لمن التمس الحقّ واهتدىٰ به.

وعقّب ابن كثير علىٰ حديث الوصية الذي رواه الطبراني عن سلمان رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه : « فإن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب ».

قال ابن كثير بعد ذكر تأويل الطبراني الذي قدّمناه : إن هذا الحديث منكر جداً ، ولا يصحّ سنده قولاً واحداً ، وأمراً واكداً ، ففي رجاله من لا يعرف رأساً ، وفيهم المتكلّم فيه بأساً ، وفي تأويل الطبراني ـ يبدو صحة الحديث ، وإن كان غير صحيح ـ نظر ، والله أعلم (٢).

وهذا الحديث رواه أحمد بن حنبل في ( الفضائل ) بلفظ « إن وصيي ووارثي ومنجز وعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام » (٣).

وقال سبط ابن الجوزي : فإن قيل : قد ضعّفوا حديث الوصية ؟

فالجواب : إن الحديث الذي ضعفوه في إسناده إسماعيل بن زياد ، تكلّم فيه الدارقطني ، وإنما تكلّم فيه لأنه روىٰ في الحديث زيادة بعد قوله : منجز وعدي « وهو خير من أترك بعدي » والحديث الذي ذكرناه رواه أحمد في ( الفضائل ) ، وليس في إسناده ابن زياد ، ولا هذه الزيادة ، فذاك حديث ، وهذا آخر (٤).

وهكذا اتضح لك من هو الغبي المعاند وللحقّ جاحد.

__________________

(١) وهي الخطبة الثالثة من نهج البلاغة.

(٢) جامع المسانيد والسنن / ابن كثير ٥ : ٣٨٣ / ٣٦٣٣.

(٣) فضائل الصحابة ٢ : ٦١٥ / ١٠٥٢.

(٤) تذكرة الخواص : ٤٨.

١٣٧

٤ ـ ابن خلدون ( ٨٠٨ ه‍ ) . قال في الفصل الثلاثين من مقدمته : والأمر الثاني هو شأن العهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي‌الله‌عنه وهو أمر لم يصحّ ولا نقله أحد من أئمة النقل.

ثم قال : والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية ، وأن عمر منع من ذلك ، فدليل واضح على أنه لم يقع ، وكذا قول عمر حين طعن وسئل في العهد ، فقال : إن أعهد فقد عهد من هو خير مني ، يعني أبا بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعهد (١).

وقال في تاريخه : ذهب كثير من الشيعة إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصىٰ في مرضه لعلي ، ولم يصح ذلك من وجه يعوّل عليه ، وقد أنكرت هذه الوصية عائشة ، وكفىٰ بأنكارها (٢).

أما قوله : « أمر لم يصح ولا نقله أحد » وقوله : « لم يصح ذلك من وجه » فهو افتراء ، وتجاهل لصحيح السنة ، وعناد للحق.

وأما قوله : « والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة » فانه جعل منع عمر عن كتابة الوصية دليلاً علىٰ عدم وقوع العهد ، ولم يتعرض إلى أن إرادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت الكتابة ، وهي دليل على العهد لولا منع عمر ، وقد اعترف عمر بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يصرح باسم علي عليه‌السلام في الوصية ، فمنع هو من ذلك (٣). ثم إن العهد بالخلافة إذا لم يقع كتابةً فقد وقع لفظاً في مناسبات عديدة استغرقت جميع مراحل تاريخ النبوة.

__________________

(١) المقدمة / ابن خلدون : ٢١٢ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ١٤١٩ ه‍.

(٢) تاريخ ابن خلدون ٣ : ٢١٥.

(٣) راجع جداله مع ابن عباس في شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٢٠ ـ ٢١.

١٣٨

وأما قول عمر : « إن أترك فقد ترك من هو خير مني » فهو مغالطة سافرة ، لأنه مانع من أن يقع العهد ، لا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ترك فاستنّ عمر بسنته. ويكفي في المقام أنه اعترف علىٰ نفسه بمنع النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتابة وصيته ، الأمر الذي يكشف عن عدم صحّة الاحتجاج بكلامه ، لا سيّما وهو في تلك الحال ، ومن يدري فلعلّه كان يهجر هجراً ؟

وأما قوله : « وقد أنكرت هذه الوصية عائشة ، وكفىٰ بإنكارها » ! فهو من مضحكات ابن خلدون حقّاً ، إذ كان عليه أن يثبت صدق عائشة أوّلاً ، وعدم وجود ما ينير في تاريخها إلى اختلاف هذه الأكذوبة ثانياً ، مع مقارنة هذا الإنكار بأدلّة الوصية ومثبتاتها ثالثاً ، ولكن من ينكر أحاديث الإمام المهدي عليه‌السلام حتىٰ صار سخرية عند محدّثي أهل السنة (١) لا جرم عليه في تمسّكه بإنكار من ركبت لقتال الوصي وسبط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جملاً وبغلاً !

تخبط وتناقض

لقد أوقع التشكيك والتضعيف كثيراً من الباحثين المتأخرين بالتهافت والاضطراب ، لأنهم ساروا علىٰ خطى الأولين وسلكوا نهجهم في الشكّ والرفض لمبدأ الوصية دون أدنىٰ تدبّر وتعمّق ، وبعيداً عن متطلّبات البحث العلمي النزيه ، ففي الوقت الذي تجد بعضهم يشكّك في نسبة نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه‌السلام لما ذُكِر فيه من الوصية والوصي (٢) ، تجد الآخر يقول : إننا لا نجد في

__________________

(١) راجع كتاب : المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي للسيّد ثامر العميدي ، وهو الإصدار الأوّل من إصدارات مركز الرسالة ، ستجد فيه سخرية أعلام أهل السنّة من ابن خلدون في إنكاره أحاديث المهدي عليه‌السلام.

(٢) أثر التشيع في الأدب العربي / محمّد سيد گيلاني : ٦٦ ـ القاهره.

١٣٩

خطب علي وكلامه ومراسلاته التي ضمّها نهج البلاغة وصفه بهذا اللفظ ، أي ( الوصيّ ) (١).

وفي ذلك دلالة على التخبّط الأعمىٰ والتناقض المفضوح ، وأنّهم لم يخضعوا القضية لميزان النقد الصحيح ، وإنّما تناولوها على أساس متبنّياتهم المذهبية المقيتة.

طعن الرواة

وتكلّموا في غالب رواة الوصية ونبزوهم بعدم الثقة والضعف والجهالة والكذب والوضع والرفض والترك وغيرها (٢) ، وجعلوا رواية حديث الوصية من علامات غلو الراوي في مذهبه (٣) ، ودليلاً على رفضه وكذبه (٤). وإن كان من أهل الثقة والصدق والجلالة ، ونذكر علىٰ سبيل المثال :

١ ـ إبراهيم بن محمد بن ميمون

روىٰ عنه أبو بكر بن أبي شيبة وغيره ، وذكره ابن حبان في الثقات (٥).

وقال إبراهيم بن أبي بكر بن شيبة : سمعت عمّي عثمان بن أبي شيبة يقول : لولا رجلان من الشيعة ما صحّ لكم حديث. فقلت له : من هما يا عمّ ؟ قال :

__________________

(١) الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية / د. محمد عمارة : ٣٣.

(٢) راجع : اللآلئ المصنوعة / السيوطي ١ : ٣٥٨ ، ٣٦٢ ـ دار المعرفة ـ بيروت ، الموضوعات / ابن الجوزي ١ : ٣٧٤ ـ ٣٧٧.

(٣) تهذيب الكمال / المزي ٥ : هامش صفحة ٤٨ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط ٤ ـ ١٤٠٦ ه‍.

(٤) ميزان الاعتدال ١ : ٥٢١ / ١٩٤٣.

(٥) الثقات / ابن حبان ٨ : ٧٤ ـ مؤسسة الكتب الثقافية ـ بيروت.

١٤٠