بلغة الفقيّة - ج ١

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٥

حيث أن الظاهر منه : ان بعضها ـ وهو ما عد الأكثر ـ للمستحق ، جعله الله له.

الى غير ذلك من أخبار الزكاة وأدلة الخمس ، كالآية الشريفة (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ). (١)

وما عن الشيخ والكليني ـ قدس سرهما ـ في الصحيح : «عن محمد ابن مسلم ـ رضي الله عنه ـ عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن معادن الفضة والصفر والحديد والرصاص؟ فقال ـ عليه السلام ـ عليها الخمس جميعا» (٢).

وأظهر منها صحيح الحلبي ـ رض ـ في حديث قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الكنز : كم فيه؟ قال عليه السلام الخمس ، وعن المعادن : كم فيها؟ قال عليه السلام الخمس ، وعن الرصاص والصفر والحديد وما كان من المعادن كم فيها؟ قال : (ع) : يؤخذ منه كما يؤخذ من معادن الذهب والفضة» (٣).

الى غير ذلك مما هو ظاهر في الشركة في المال بنحو الكسر المشاع.

هذا ، ولكن الالتزام بذلك والأخذ بهذا الظهور لا يجتمع مع بعض التصريحات والأمارات في غير واحد من الاخبار ، وكلمات الأصحاب والفروع المسلمة عندهم على الظاهر ، بل لا يتناسب مع آية الزكاة من قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) إلخ فإن ظاهرها ومفادها : أن

__________________

(١) سورة الأنفال ـ ٤١ (٢) راجع : التهذيب للشيخ الطوسي (ج ٤ ، كتاب الزكاة ، باب الخمس والغنائم) حديث (٣٤٥) طبع النجف الأشرف.

(٣) راجع : التهذيب للشيخ الطوسي (ج ٤ ص ١٢١ باب الخمس والغنائم) طبع النجف الأشرف.

٤١

ما فرضه الله تعالى في أموال الأغنياء للفقراء هو صدقة يجب على الغني دفعها من ماله تقربا الى الله تعالى ، ولا محصل للتصدق على شخص بما يملكه فعلا.

هذا مضافا الى أن الظاهر ان استحقاق الفقير في الأموال التي يستحب أداء زكاتها كمال التجارة والخيل والإناث وما يكال أو يوزن من الحبوب عدا الغلاة الأربع وغير ذلك مما يستحب أداؤه ، مساو لما فرض فيه الزكاة كالغلاة الأربعة والأنعام الثلاثة والنقدين ـ كما يشهد بذلك اشتمال بعض الروايات الواردة في بيان ما ثبت فيه الزكاة على الواجب والمستحب (١) فان الظاهر من سياقها اتحاد نحو الاستحقاق غير أن بعضه فرض والآخر ندب وهو ما سوى الأعيان التسعة.

ومن المعلوم عدم إمكان الشركة الحقيقية والملكية الفعلية في المستحب أداؤه ، على ان المال المشترك بين مالكين بنحو الإشاعة ليس لأحدهما التصرف فيه إلا بإذن الشريك.

ولا إشكال بل الظاهر عدم الخلاف في جواز تصرف المالك فيما عدا مقدار الزكاة من النصاب مع العزم على الأداء من الباقي.

بل الذي يظهر من صحيحة عبد الرحمن ، صحة بيع جميع النصاب ولزومه لو أدى البائع مقدار الزكاة من ماله للآخر ـ وأن ما يؤديه هو عين الزكاة لا بد لها : قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام : رجل لم يزك إبله أو شاته عامين ، فباعها على من اشتراها أن يزكيها لما مضى؟ قال (ع) : نعم يؤخذ زكاتها ويتبع بها البائع أو يؤدي زكاتها البائع» (٢)

__________________

(١) راجع ذلك في كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي أوائل كتاب الزكاة بأبواب متفرقة.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٦ كتاب الزكاة ، باب لو باع النصاب قبل أداء الزكاة طبع جديد طهران.

٤٢

ومن الواضح أن مؤدى هذه الصحيحة لا يجتمع مع الشركة الحقيقية بل ولا مع الملكية الفعلية ، ولو كانت بنحو الكلي في المعين فان مقتضى ذلك كون البيع المذكور بالنسبة إلى مقدار الفريضة فضوليا يتوقف نفوذه على اجازة من له الولاية على الزكاة ، فيأخذ من الثمن للمستحق مقدار حصته ، ولا يجدي في نفوذه أداء البائع مقدار الزكاة من ماله الآخر كما هو مفاد الصحيحة المذكورة.

ثم ان ظاهرها من حيث سكوتها عن نماء حصة المستحق في المدة المذكورة في السؤال : أنه ليس على المالك أداء الموجود منه ، ولا ضمان ما استوفاه أو فات وتلف تحت يده ، وأنه ليس عليه إلا أداء الزكاة فقط ، وهو خلاف ما تقتضيه قاعدة تبعية النماء للملك.

وبالجملة : فالذي يستفاد من الآية الشريفة ، ومجموع الأخبار والفروع المتسالم عليها من الأصحاب : أن فريضة الزكاة متعلقة بالعين لا بالذمة ، وان تعلقها لم يكن بنحو الملك الفعلي في العين ـ لا بنحو الشركة الحقيقية ولا بنحو الكلي في المعين ـ وانما هو حق معين فرضه الله تعالى على المالك متعلق بماله المعين. وعلى ما استظهره الأستاذ النائيني ـ قدس سره ـ في تعليقته على العروة الوثقى : كونه حقا متعلقا بمالية النصاب ، لا ملكا في العين بشي‌ء من الوجهين (١) وعليه فيلزم المالك أداؤه من نفس العين أو من ماله الآخر ، فهو ملك للمستحق شأنا لا فعلا.

وباصطلاح الفقهاء : حق ، لا ملك. وعلى ما عبر به البعض : ملك غير ناضج.

ثم ان الظاهر عدم كونه من قبيل حق الرهانة حيث أن مرجع كونه من قبيله : أن فريضة الزكاة في ذمة المالك ، والعين الزكوية وثيقة عليها

__________________

(١) أي الآنفي الذكر ، وهما : الشركة الحقيقية ، والكلي في المعين.

٤٣

كما أن الرهن وثيقة على الدين الذي هو في ذمة الراهن ، ومن آثاره كون المالك ممنوعا من التصرف في شي‌ء من النصاب ما دام لم يؤد الفريضة ، كما أن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن قبل فكه من الرهانة ، كما أن مقتضاه كون تلف النصاب بلا تفريط كلا أو بعضها إنما يكون من المالك ، ولا يرد شي‌ء منه على المستحق ، كما أن تلف الرهن بلا تفريط انما هو من الراهن ، ولا ينقص شي‌ء بسببه من دين المرتهن.

وكل ذلك خلاف ما هو المتسالم عليه في باب الزكاة.

أما كون فريضة الزكاة متعلقة بذمة المالك فلم ينقل عن أحد معين من أصحابنا ، نعم عن ابن حمزة نسبته الى بعض غير معين. بل المتسالم عليه بينهم أنها متعلقة بالعين ـ على اختلاف مشاربهم في نحو التعلق.

وأما منع المالك من التصرف في النصاب قبل أداء الفريضة فإنه لا إشكال في جوازه فيما سوى مقدار الفريضة ، مع العزم على الأداء من الباقي : ولعله مما لا خلاف فيه.

نعم مقتضى القول بالشركة الحقيقية توقفه على اذن الحاكم الشرعي.

وأما ورود التلف ـ كلا أو بعضا ـ على المالك فقط فهو مبني على تعلق الحق بالذمة لا بالعين. وأما بناء على تعلقه بالعين ، فظاهر النص والفتوى : أن ما يتلف من النصاب بلا تفريط من المالك يرد على المستحق منه بنسبة حصته من النصاب. نعم مع التفريط ـ ومنه تأخير دفعها وإيصالها إلى المستحق مع التمكن من ذلك ـ يضمن المالك حصة المستحق.

وبالجملة فالظاهر عدم كون حق الزكاة من قبيل حق الرهانة ، كما انه ليس من قبيل حق الفقير بالمال المنذور التصدق به عليه ، إذ لا إشكال في أن المال المنذور التصدق به لا يجوز التصرف فيه بما ينافي الصدقة ، ويتعين على الناذر التصدق به. ولا يجدي إبداله بمال آخر. ولا إشكال ولا

٤٤

إشكال ولا خلاف ـ على الظاهر ـ في جواز دفع معادل فريضة الزكاة من مال آخر.

هذا ، وليس تعلقها بالعين من قبيل تعلق حق غرماء الميت بتركته فان حق الغرماء غير المستوعب للتركة يتعلق بمجموع التركة بحيث لو تلف منها شي‌ء وكان الباقي بمقدار دينهم على الميت ، كان لهم استيفاء الدين بكماله من الباقي ولا يرد عليهم النقص بسبب التلف ـ على الظاهر ـ وهذا بخلاف حق المستحق المتعلق بالنصاب ، فان تعلقه بنحو البسط والسريان في جميع النصاب بحيث لو تلف منه شي‌ء بلا تفريط من المالك يسقط عن المالك جزء من الفريضة نسبته إليها كنسبة التالف الى مجموع النصاب.

وبعبارة أخصر : ان التلف ـ هناك ـ يختص به الوارث ، وهنا يتوزع على المالك والمستحق بالنسبة. ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف سنخ الحق في الموردين بحسب ما يستفاد من الأدلة ، فإن الغرماء لهم دين معين على الميت اشتغلت به ذمته حال الحياة وقد جعل الله تعالى لهم حق استيفاء دينهم بتمامه من تركته ـ مهما بلغت قليلة كانت أم كثيرة ـ بقيت أم تلف بعضها ـ ما دامت التركة وافية بذلك الدين.

وما هو للوارث من تلك التركة ـ حسب المستفاد من الأدلة كتابا وسنة ـ متأخر عن حق الغرماء ، وفي طوله. ومقتضى ذلك ورود التلف على ما يخص الوارث من المال المتروك وسلامة حق الغرماء ، ولا فرق في ذلك بين القول بأن التركة باقية على حكم مال الميت ما دام الدين باقيا ـ وبين القول بأنها تنتقل الى الوارث محقوقة للغرماء.

وأما فريضة الزكاة ، فإنها متعلقة بنفس النصاب لا بذمة المالك ـ كما ذكرنا ـ ولا فرق بين ما يملكه المالك من النصاب وما يستحقه الفقير ـ مثلا ـ منه سوى أن ملكية المالك تامة فعلية ، وملكية المستحق ناقصة

٤٥

شأنية معبر عنها بالحق ـ اصطلاحا ـ وعلى كل هما في عرض واحد والتلف الوارد على العين كما يرد على ملك المالك كذلك هو وارد على متعلق حق الفقير ـ مثلا ـ فاختصاص ما يتلف من العين بالمالك بلا وجه. نعم لو كان التلف بتفريط المالك ـ ومنه تأخير دفعها وإيصالها إلى المستحق عند التمكن من الدفع والإهمال في الأداء ـ فقد ذكرنا أن المالك ضامن لحصة المستحق.

ففي صحيحة محمد بن مسلم ـ أو حسنته ـ : «قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : رجل بعث بزكاة ماله لتقسم ، فضاعت هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال عليه السلام : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن حتى يدفعها وان لم يجد لها من يدفعها اليه فبعث بها إلى أهلها فليس عليه ضمان لأنها خرجت من يده وكذلك الوصي الذي يوصى اليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه اليه ، وان لم يجد فليس عليه ضمان» (١).

وصحيحة زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل بعث إليه أخ له زكاته ليقسمها فضاعت ، فقال : ليس على الرسول ولا على المؤدي ضمان قلت : فإنه لم يجد لها أهلا ففسدت وتغيرت أيضمنها؟ قال : لا ولكن إذا عرف لها أهلا فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن حتى يخرجها» (٢).

هذا وليس تعلق حق الزكاة بالعين نظير تعلق أرش الجناية برقبة العبد الجاني خطأ ، وان كان يشبهه في الجملة من حيث ان مالك العبد يخير بين دفعه للمجني عليه أو وليه ليتملكه أو يتملك ما قابل الجناية فيما لو كان أرشها أقل من قيمته ، وبين أن يفديه بأرش الجناية أو بأقل الأمرين من الأرش وقيمته ـ على الخلاف ما بين الشيخ قدس سره والمشهور

__________________

(١) الكافي للكليني : كتاب الزكاة ، باب (الزكاة تبعث من بلد الى بلد فتضيع) حديث ١.

(٢) الكافي للكليني : كتاب الزكاة ، باب (الزكاة تبعث من بلد الى بلد فتضيع) حديث ٤.

٤٦

وعلى كل يتخير المالك بين دفعه وبين فدائه ، كما ان المالك ـ في باب الزكاة ـ يتخير بين دفع الفريضة من العين وبين القيمة ـ كما ان العبد الجاني يجوز بيعه ، ولكن نفوذه يتوقف على فك رقبته بأداء فدائه ، وإلا كان للمجني عليه أو وليه تملكه ، فيبطل البيع ، وكذلك العين المتعلقة لحق الزكاة لا مانع من بيعها ، وينفذ البيع لو أدى المالك الزكاة من ماله الآخر ، وإلا كان لمن له الولاية على الزكاة أخذها من العين فيبطل البيع بالنسبة إلى مقدار الزكاة.

ولكن فرق حق الجناية عن الزكاة : أن حق الجناية ليس امرا مفروضا على مالك العبد يلزمه أداؤه لمستحقه ، وإنما هو كسائر الحقوق موكول لمن له الحق إن شاء أخذ به ـ وحكمه ما ذكرنا ـ وان شاء عفا فيسقط بخلاف حق الزكاة فإنه فرض من الله تعالى على مالك النصاب ، يلزمه أداؤه ـ من العين أو بدلها ـ لمستحقه ، وليس لأحد إسقاطه والعفو عنه من غير فرق بين من له الحق ، وبين من له الولاية عليه كالحاكم الشرعي.

ولعل السر في ذلك : أن من له الحق لم يكن شخصا معينا جعل زمام الحق بيده كسائر الحقوق المجعولة لأشخاص معينين لهم الأخذ بالحق وإسقاطه ، وانما جعل هذا الحق لطوائف وأصناف.

وببيان آخر : الحق المذكور مجعول للكلي ، لا لفرد أو أفراد ، وإنما يملك الفرد ما وصل اليه من الحق ملكية فعلية تامة ، فمن جعل له الحق ـ وهو الصنف بنحو الكلي ـ لا معنى لإسقاطه ، والفرد أو الأفراد لا أثر لإسقاطهم ، إذ لم يجعل الحق لهم.

ومن هنا : ليس لهم أخذ الحق من المالك جبرا ، أو استيفاء بنحو من أنحاء الاستيفاءات ، كما يجوز ذلك للمغصوب حقه من الغاصب إلا بإذن من الحاكم الشرعي ، وتوكيل خاص له بأخذ الحق من المالك الممتنع.

٤٧

وأما من له الولاية ـ على هذا الحق ـ وهو الحاكم الشرعي ـ فولايته مقصورة على أخذ الحق ممن هو عليه ، وإيصاله لأربابه وصرفه في مصارفه ، ولا تتعدى ولايته إلى جهة إسقاط الحق الذي هو خلاف مصلحة الأصناف وحكمة جعل ذلك الحق لهم.

ومن هنا : ليس له بخس حق المستحق بالمصالحة مع من عليه الحق على شي‌ء يسير لا يعادل الحق المجعول للمستحق.

والحاصل : إن هذا الحق من هذه الجهة كالحكم الشرعي على موضوعه غير قابل للإسقاط ، كما أنه غير قابل للانتقال الى الغير ـ لا بإرث ولا بغيره ـ كما لا يخفى.

هذا وقد ظهر لك مما ذكرنا الوجه في عدم قابلية حق الزكاة للإسقاط والانتقال ، كما أنه ظهر أن فريضة الزكاة من سنخ الحقوق ، وليست ملكا في العين لا بنحو الإشاعة ولا بنحو الكلي في المعين.

وظهر أيضا أنه ليس من قبيل ما ذكرناه من الحقوق وان كان ربما يشبه بعضها من بعض الجهات ، بل هو حق مستقل متعلق بمالية العين لا بخصوصيتها ، فهو من هذه الجهة يشبه إرث الزوجة مما سوى الأرض كالأبنية والنخيل والأشجار فإنه حق متعلق بماليتها غير أنه من قبيل الملك الفعلي للزوجة ، وليس من سنخ الحقوق اصطلاحا مما هو ملك شأنا ، إذ لا شبهة في اتحاد كيفية إرث الزوجة من الأموال المنقولة وغير المنقولة سوى أن إرثها من الأول يتعلق بالعين ، ومن الثاني يتعلق بماليتها وقيمتها ولا إشكال في أن إرثها من المنقول بنحو الملك الفعلي ، فليكن إرثها من غير المنقول كذلك ومقتضاه جواز المصالحة على حقها مع الوارث أو الأجنبي فينتقل ما تستحق من القيمة اليه.

ولا أظن أن فقيها يلتزم بجواز المصالحة على الزكاة قبل أخذها ممن

٤٨

هي عليه : لما ذكرنا من أن الحق المذكور غير صالح للنقل مطلقا ـ لا الى من هو عليه ولا الى غيره.

وفرق آخر بين إرث الزوجة من غير المنقول وبين حق الزكاة ، وهو أنه لا إشكال ولا خلاف في أن الخيار في الزكاة للمالك بين دفعها من العين المتعلقة للحق وبين دفعها من مال آخر للمالك وليس للمستحق ولا للحاكم الشرعي المشاحة مع المالك بخلاف إرث الزوجة من غير المنقول فان الوارث لو اختار دفع حقها من نفس العين دون القيمة ، في إجبار الزوجة على القبول إشكال وخلاف.

ولعل منشأ الفرق بين الحقين ـ مع ان كلا منهما متعلق بالمالية ـ : هو أن ظاهر أدلة باب الزكاة أنها في العين ، ولكن ثبت أيضا ـ نصا وإجماعا ـ جواز دفع المالك القيمة إرفاقا به ، بخلاف إرث الزوجة ، فان ظاهر الأدلة تعلقه بنفس القيمة ، وإن ظهر من بعضها : أن علة حرمانها من العين الإرفاق بالوارث لكن لا يبعد كون ذلك من قبيل حكمة الجعل والحرمان من العين.

وبالجملة ، لا دليل على جواز إجبارها على أخذ العين بدلا عما تستحقه من القيمة ولم يثبت ذلك بنص أو إجماع ، كما ثبت في باب الزكاة جواز دفع القيمة بدلا عن العين ، فاجبارها على أخذ استحقاقها من العين في غاية الإشكال ، فلا يترك الاحتياط بالمصالحة معها على ذلك.

ثم ان الكلام في الخمس هو الكلام في الزكاة والمختار فيه هو المختار فيها ، إذ الظاهر أنه حق فرضه الله تعالى لأربابه ـ وهم بنو هاشم ـ في أموال خاصة عوضا عما فرضه لغيرهم من الصدقات التي حرمها عليهم من غيرهم تكريما لهم وإعلاء لشأنهم.

وبالجملة ، فالظاهر اتحاد نحو الحقين ، والله تعالى هو العالم.

٤٩

ثم إن مقتضى ما ذكرنا من أن الحق نحو من الملك ومرتبة من مراتبه : كونه بحسب طبعه قابلاً للانتقال بالإرث ، ويشمله النبوي المشهور : «ما ترك الميت من حق فهو لوارثه» (١) وغيره ، ما لم يستفد من دليله ـ أو من الخارج ـ أنه متقوم بخصوص ذي الحق ، وليس له قابلية الانتقال بالإرث فمثل حق القسم الذي هو للزوجة على الزوج ـ وان كان قابلاً للنقل إلى ضرتها (٢) بالصلح عليه مجانا فقط ـ كما عن جماعة من أصحابنا ـ قدس سرهم ـ أو حتى إذا كان بالمعاوضة عليه ـ كما هو مقتضى القاعدة ما لم يقم إجماع على خصوص المجانية ـ ولكنه غير قابل للانتقال بالإرث ، حتى إلى الضرة ، كما لو تزوج شخص بامرأة ، ثم تزوج بعمتها أو خالتها ، ثم ماتت إحداهما وكان الوارث لها ضرتها ، فإنها لا ترث حق القسم منها

ولعل الفرق بين النقل والانتقال بالإرث : أن الحق المذكور انما هو للزوجة ما دام الحياة بمعنى أن قوامه الحياة فلها نقله وتفويضه الى مثلها ، وبموت الزوجة ينعدم موضوع الحق وينتهي أمده ، فلا متروك حتى يورث.

وبالجملة ، فظاهرهم التسالم على عدم انتقال الحق المذكور الى الوارث مطلقا.

ومن الحقوق ـ غير القابلة للنقل بل ولا الانتقال على الظاهر : ـ ما كان من قبيل حق الغيبة والشتم والضرب والإيذاء ـ بناء على كونها من الحقوق وعدم كفاية التوبة فيها بل لا بد من إرضاء ذي الحق وإبرائه

__________________

(١) راجع : كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري ، باب الخيارات ، الكلام في أحكام الخيار.

(٢) الضرة ـ بالفتح والتضعيف ـ : تطلق على كل من زوجتي الرجل أو زوجاته ، فهما ضرتان ، وهن ضرائر.

٥٠

والأظهر : أنها ليست من الحقوق بالمعنى الذي ذكرناه من الحق وان قلنا بعدم كفاية التوبة فيها ، فإنها لم تكن من مقولة الملك ومن مراتبه ووجوب استحلال الإنسان ممن استغابه أو آذاه بالضرب أو الشتم ـ على فرضه ـ إنما هو من حيث ظلمه له بهتك عرضه أو إيذائه ، لا لثبوت حق له عليه بمعنى الملك.

ثم إنه لا ملازمة بين قبول الحق للنقل وبين قبوله للانتقال بالإرث ، فقد يكون الحق قابلاً للنقل ولا يقبل الانتقال ، كما ذكرنا من حق القسم وقد يقبل الانتقال بالإرث ولا يقبل النقل كحق الرهانة وحق الشفعة وحق الخيار ـ على الأظهر ـ من عدم قبوله للنقل ، وقد لا يقبلهما بل ولا الإسقاط كما ذكرنا من حق الخمس والزكاة ، وقد يقبلها جميعا كحق التحجير على موات من الأرض ـ مثلا ـ

ثم إن ما يقبل النقل قد يكون قابلاً للنقل الى كل أحد كحق التحجير فإنه قابل للنقل الى كل أحد بالمصالحة عليه مع العوض وبدونه ، بخلاف حق القسم للزوجة ، فإنه إنما يقبل النقل إلى الضرة ـ فقط.

فان قلت : إذا كان حق الرهانة وحق الشفعة وحق الخيار قابلاً للانتقال الى الوارث ، ولم يكن متقوما بذي الحق ، فلم لا يكون قابلاً للنقل الى الغير بالمصالحة عليه.؟

قلت : وجه الفرق بين انتقال الحقوق المذكورة بالإرث وبين نقلها بالمصالحة متوقف على بيان حقيقتها فنقول :

إن حق الرهانة مرجعه إلى سلطنة للمرتهن حاصلة له بعقدها على استيفاء دينه الذي هو على الراهن من العين المرهونة ببيعها وأخذ مقدار دينه من ثمنها عند حلول الدين بالشروط المذكورة في باب الرهن ، وهذه السلطنة لا يعقل نقلها الى الراهن ـ كما لا يخفى ـ وأما نقلها الى ثالث له دين

٥١

أيضا على الراهن ، وان كان غير ممتنع عقلا ولكنه يتوقف على أن يكون العقد الواقع بين الراهن والمرتهن مقتضاه كون الرهن وثيقة على ما يعم دينه ودين غيره على البدل ، ليصح للمرتهن تحويل ماله من الحق في العين المرهونة إلى غيره ممن له دين على الراهن ، ومن الواضح أن عقد الرهانة الواقع بين الراهن والمرتهن إنما يقتضي كون الرهن وثيقة على خصوص دينه الذي هو على الراهن ، لا الأعم من دينه ودين غيره ، فالسلطنة الحاصلة للمرتهن محدودة غير صالحة للتعدية والتحويل الى الغير.

وبالجملة فكما لا يمكن نقل الحق المذكور وتحويله الى من هو عليه كذلك لا يمكن تحويله ونقله الى ثالث وان كان ذا دين أيضا على الراهن بل الحق خاص بالمرتهن إن شاء أخذ به ، وان شاء أسقطه.

نعم لو نقل المرتهن الدين الذي له على الراهن الى ثالث بالبيع ونحوه فالظاهر أن الرهن يتبعه في الانتقال الى المنقول اليه ، فيكون ذا الحق في العين المرهونة فإن العقد الواقع بين الراهن والمرتهن مفاده ومقتضاه كون الرهن وثيقة على شخص الدين الذي كان للمرتهن على الراهن ، وبانتقال الدين الى مشتريه ـ مثلا ـ لم يكن المنقول الا نفس ما كان الرهن وثيقة عليه. لا غيره. غاية الأمر اختلف مالك الدين ، وهو غير ضائر.

وبالجملة ليس هذا كنقل الحق إلى ثالث له دين آخر على الراهن الذي منعنا منه ـ كما لا يخفى.

وأما حق الشفعة الذي هو عبارة عن ملكية الشريك وسلطنته على المشتري لحصة شريكه المبيعة حال شركته لتملك تلك الحصة وأخذها منه قهرا بالثمن الذي اشتراها به من شريكه ، فهذا المعنى غير قابل للنقل الى من عليه الحق ، وهو المشتري ، إذ هو مالك لتلك الحصة بالاشتراء ، فلا معنى لنقل حق التملك منه اليه. وكذا لا يقبل النقل الى ثالث ، إذ لو كان

٥٢

النقل اليه بمعنى تسليطه على أخذ الحصة من المشتري الى ذي الحق ، وهو الشريك نفسه ، فهذا ليس من نقل الحق اليه ، وإنما هو توكيل واستنابة في الأخذ بحق الشفعة لذي الحق وهو الشريك.

وان كان المراد تسليط الغير على أخذ الحصة من المشتري وتملكها لنفسه ، فهذا التسليط لم يجعل للشريك ، فان الحق المجعول له من الشارع إرفاقا به هو السلطنة على تملك الحصة المبيعة في شركته من مشتريها بالثمن الذي اشتراها به وإضافتها إلى حصته ، ومن هنا سمي الحق المذكور بحق الشفعة ، إذ الشفيع بأخذه به وإعماله يشفع حصته ويجعلها شفعا وزوجا بنصيب شريكه الذي ابتاعه المشتري منه.

وبالجملة ، فليس الذي هو للشريك من الحق مجرد تملك الحصة من مشتريها قهرا عليه ليمكن نقل ذلك الى الغير ، بل الذي له من الحق تملكها بما أنها شفعة ، وأنه شفيع وجاعلها منضمة إلى حصته وشفعا بها ، والحق بهذا المعنى لا يمكن نقله الى الغير. نعم إذا أخذ بشفعته وتملكها وصارت له فلينقلها الى من شاء ، فان الناس مسلطون على أموالهم ، وأما قبل التملك فليس له نقل الحق المذكور وتحويله الى غيره.

هذا ، وأما نقل حق الخيار الى غير من جعل الحق له ، وتحويله إليه ، ففي إمكان ذلك وعدمه خلاف ، فصريح شيخنا الأنصاري ـ قدس سره ـ في أول كتاب البيع من (مكاسبه) عدم قابليته للنقل (١) وصريح سيدنا ـ قدس سره ـ فيما سبق من كلامه : قابليته للنقل حيث يقول : «فالظاهر جواز المعاوضة عليه بما يوجب نقله ...»

__________________

(١) قال : «وأما الحقوق فان لم تقبل المعاوضة بالمال كحق الحضانة والولاية فلا إشكال ، وكذا لو لم يقبل النقل كحق الشفعة وحق الخيار».

٥٣

وقبل بيان ما هو المختار من الرأيين وتحقيق ذلك نقول :

المتبايعان ـ تارة ـ ينشآن البيع بينهما بالتعاطي فيعطي كل منهما ماله للآخر قاصدا تمليكه إياه بعوض ما يأخذه منه. وأخرى ـ ينشآن البيع بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول كبعت واشتريت. أما في صورة إنشاء البيع بالتعاطي فان فعلهما الخارجي ، وان كان على ما هو المختار ، مصداقا للبيع حيث أن مفهومه تمليك عين بعوض أو تبديل طرف إضافة مالكية بطرف اضافة مثلها لآخر كما هو المختار أو مبادلة مال بمال مع كون المعوض عينا ، كيف ما كان ، فالمفاهيم المذكورة تنطبق على فعلهما الخارجي وتشمله آية (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) وآية التجارة (عَنْ تَراضٍ) (٢) ويصح بذلك ويحصل الملك لكل منهما فيما أخذه من صاحبه ، ولكنه ملك جائز ليس فيه اقتضاء اللزوم ، فإن غاية ما يستفاد من تعاطيهما بقصد الملك ملكية كل منهما ما أخذه من الآخر. وأما التعهد والالتزام من كل منهما بالثبات والبقاء على ما ملكه للآخر ، فلا دلالة لفعلهما عليه ، والآيتان إمضاء وتصحيح لما يستفاد من فعلهما ، وهو أصل الملكية ليس إلا كما أن السيرة التي استدل بها على حصول الملك بالمعاطاة غاية ما يستفاد منها معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك وترتيب آثاره عليه ، وأما لزوم الملك وعدم جواز الرجوع فيه ، فلا دلالة لها عليه ، ولعل منشأ تسالم الأصحاب ممن قال بإفادتها الملك أو الإباحة على عدم اللزوم : هو القصور في المقتضي لا لوجود دليل على عدمه ـ من إجماع ونحوه.

هذا إذا كان إنشاء البيع بالفعل. وأما في صورة إنشائه بين المتبايعين

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) النساء : ٢٩.

٥٤

بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول ، فهيأة الماضي ـ مثلا ـ الواردة على مادة البيع والشراء ، وان دلت على تمليك العين بالعوض وتملكها به ، كالتعاطي بقصد الملك إلا أن إنشاء التمليك والتملك بالقول كما يدل على ما دل عليه الإنشاء بالفعل بالمطابقة وهو تمليك العين وتملكها بالعوض ، كذلك يدل بالدلالة الالتزامية العرفية على التعهد والالتزام من كل من المتعاقدين بهذا المدلول المطابقي ، والثبات عليه ما لم يكن في البين خيار مجعول له ، ومن هنا أطلق العقد على الإنشاء بالقول فإنه : العهد الموثق المحكم ، لما فيه من الأحكام.

ويشهد لذلك : أن المعاملات الخطيرة ذات الشأن إنما تنشأ ـ نوعا ـ بالعقود دون المعاطاة من جهة فقدان المعاطاة لما كان العقد واجدا له من الالتزام والإحكام. وآية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).(١) إنما تمضي وتلزم بالوفاء بالعقود باعتبار وجود المدلول الالتزامي فيها ، وهو التزام كل من المتعاقدين لصاحبه بالثبات والبقاء على ما يقتضيه العقد من التمليك والتملك بالعوض.

ودليل الخيار المجعول بأسبابه وموارده ـ ومنها اشتراط ذلك في ضمن العقد ـ يكون مخصصا لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وحقيقة الخيار نظرة ومهلة لمن هو له فيما التزمه لطرفه بإنشاء العقد من الثبات عليه والالتزام بمقتضاه ، وسلطنة له على نقضه وحله أو إقراره وإبرامه ، وهو ـ بهذا المعنى ـ حق بالمعنى الأخص لمن هو له.

وهل هو متعلق بالعقد من حيث أنه يملك فسخه وإقراره ، أو أن متعلقة العين الخارجة من ملكه الى طرفه من حيث أن ذا الخيار يملك إعادتها إلى نفسه بفسخ العقد؟ وجهان : ـ بل قولان ـ وعليهما يبتني جواز تصرف من

__________________

(١) سورة المائدة : ١.

٥٥

عليه الخيار في العين المنقولة إليه ممن له الخيار تصرفا منافيا لحق ذي الخيار وعدم جوازه ، كما هو مذكور في فصل أحكام الخيار.

فان قلنا : إن متعلق حق الخيار لمن جعل له ، هو العين الخارجة عن ملكه الى ملك طرفه وانه يملك إرجاعها إليه بفسخ العقد ، فلا يجوز لطرفه التصرف المنافي لحقه فيما انتقل منه إليه ، إذ هو تصرف في متعلق حقه مناف له فإنه لو اختار فسخ العقد لا يقدر على إرجاع العين اليه فيما لو كان تصرف من عليه الخيار فيها بالبيع ـ مثلا ـ أو العتق أو الإتلاف.

نعم لو قلنا بأن متعلق حق ذي الخيار نفس العقد من حيث قدرته على فسخه وإقراره ، فإن التصرف بالبيع والعتق ونحوه ممن عليه الخيار لا ينافي حق ذي الخيار من حيث الاقتدار على فسخ العقد لو كان هو المختار. غاية الأمر ان المتصرف يضمن له عند فسخه مثل ما تصرف فيه أو قيمته.

وهل الخلاف بين سيدنا الخال المصنف ، والشيخ الأنصاري ـ قدس سرهما ـ في جواز نقل الخيار وتحويله الى غير من هو له وعدم جوازه مبنيّ على الخلاف في متعلقة؟ الظاهر عدم الابتناء عليه ، فان الشيخ ـ قدس سره ـ في فصل أحكام الخيار ـ يختار ـ أو يقرب ـ تعلقه بالعقد ، حيث أنه بعد أن يذكر حجة القول بمنع التصرف وان الخيار حق يتعلق بالعقد المتعلق بالعوضين من حيث إرجاعهما بحل العقد الى ملكهما السابق ، فالحق ـ بالآخرة ـ متعلق بالعين التي انتقلت منه الى صاحبه فلا يجوز أن يتصرف فيها بما يبطل ذلك الحق بإتلافها أو نقلها الى شخص آخر ـ يقول : «هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه المنع ، لكنه لا يخلو عن نظر ، فان الثابت من خيار الفسخ بعد ملاحظة جواز التفاسخ في حال تلف العينين هي سلطنة ذي الخيار على فسخ العقد المتمكن في حالتي وجود العين وفقدها

٥٦

فلا دلالة في مجرد ثبوت الخيار على حكم التلف جوازا ومنعا ، فالمرجع فيه سلطنة الناس على أموالهم ـ الى أن يقول ـ : فالجواز لا يخلو عن قوة في الخيارات الأصلية».

وهنا يجزم بعدم قابليته للنقل ، حيث يقول ـ في أول كتاب البيع ـ : «وأما الحقوق فان لم تقبل المعاوضة بالمال كحق الحضانة والولاية ، فلا إشكال وكذا لو لم تقبل النقل كحق الشفعة وحق الخيار».

وعلى كل ، فالظاهر عدم قابلية نقل حق الخيار وتحويله الى غير من جعل له ـ مطلقا ـ سواء قلنا إنه متعلق بالعين المنقولة منه الى صاحبه أم إنه متعلق بالعقد.

أما على القول بتعلقه بالعين ، بمعنى أن ذا الخيار فيما إذا كان هو البائع ـ مثلا ـ يملك إرجاع المبيع الى ملكه قهرا على المشتري بفسخ العقد فعدم صلاحية نقل الحق المذكور بهذا المعنى إلى المشتري من الوضوح بمكان ، فإنه إذا صار ذا خيار ـ فرضا ـ بنقل البائع خياره اليه ، فمرجع ذلك الى أنه يملك إعادة الثمن اليه قهرا على البائع بفسخ العقد ، وهذا غير ما كان للبائع من الحق ، وإنما هو حق جديد له إذ العلقة والإضافة الضعيفة المعبر عنها بالحق كانت بين البائع وبين ما نقله بالبيع إلى المشتري ، وهو المبيع والحادثة اضافة ناقصة بين المشتري وبين الثمن ، وهي غير الإضافة التي كانت للبائع. ومن الواضح ان ذا الحق إنما يتسلط على نقل حقه الى الغير فيما إذا كان قابلاً للنقل والتحويل ، وليس له جعل حق للغير لم يكن هو المجعول له إذ جعل الحقوق لأربابها من وضائف الشارع المقدس.

هذا إذا قلنا : إن متعلق حق البائع هو العين المبيعة. وأما إذا قلنا إن متعلق الحق هو العقد الواقع بينهما ، فعدم جواز نقله وتحويله الى الغير

٥٧

وان لم يكن بذلك الوضوح ، فإنه يمكن أن يقال : إن العقد الواقع بين البائع والمشتري كان متعلق حق البائع فيما لو كان الخيار له ، فزمامه بيده فله حله ونقضه ، وله إقراره ، وإحكامه.

وهذا الحق الذي كان للبائع بالمعنى المذكور ، أعني السلطنة على فسخ العقد وإقراره يمكن نقله وتحويله إلى المشتري بالمصالحة عليه بعوض أو بدونه ، وعمومات الصلح تشمله ، فيكون المشتري ذا الخيار بعد الصلح ، وتسليم زمام الحق إليه.

هذا ولكن لقائل أن يقول : إنا ذكرنا فيما سبق أن إنشاء البيع الذي حقيقته تبديل طرف إضافة مالك المثمن بطرف إضافة مالك الثمن إذا كان بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول فإنه كما يدل بالمطابقة على تبديل كل من المتعاقدين المثمن بالثمن في عالم الاعتبار والإنشاء ، كذلك يدل بالدلالة الالتزامية على التزام كل منهما لصاحبه بالثبات والبقاء على هذا التبديل وبمقتضى إمضاء الشارع وحكمه بلزوم ما التزمه كل منهما لطرفه بإنشائه بقوله تبارك وتعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يملك كل منهما على صاحبه ـ مضافا الى المال الذي ملكه إياه ـ ثباته والتزامه بعدم التعدي عن حدود التبديل المنشأ بالعقد. ومن هنا سمي اللزوم المذكور «لزوما حقيا» فان كلا منهما له على طرفه حق الالتزام بما تعهده له من الثبات والبقاء على ما أنشأه من التبديل.

هذا إذا لم يكن لأحد المتعاقدين خيار مجعول من الشارع المقدس أو من المتعاقدين بالشرط في ضمن العقد.

وأما لو كان لأحدهما خيار مجعول من الشارع أو من المتعاقدين فمن له الخيار منهما كما يملك ما التزم به صاحبه له ، كذلك يملك ما التزمه هو لصاحبه ، فمن حيث ملكيته لما التزمه صاحبه له يكون العقد بالنسبة الى صاحبه لازما لا ينفسخ بفسخه ، ومن حيث ملكيته لما التزمه لصاحبه يكون

٥٨

العقد بالنسبة إليه جائزا.

وبالجملة ، فغاية ما يمكن أن يستفاد من جعل الخيار أن يكون للمجعول له من الحق مهلة النظر في مدة الخيار في التزامه الذي التزمه لصاحبه بأن يحكمه ويبرمه أو ينقضه ويحله ، وأما نقل هذا الحق وتحويله الى صاحبه الذي هو ملزم بالتزامه والعقد لازم بالنسبة إليه ليكون هو صاحب الحق عليه ، بعد أن كان الحق له عليه ، فاستفادة السلطنة على هذا التحويل من جعل الخيار لشخص من الشارع أو من المتعاقدين بالشرط مشكل غايته.

هذا ، وأما نقل الخيار الى ثالث ، فتارة يجعله من له الخيار كوكيل عنه في إنشاء الفسخ والإقرار مع رعاية مصلحة ذي الخيار فيما يختاره من الفسخ أو الإقرار ، فالظاهر عدم الإشكال في ذلك ، فإنه ليس من نقل حق الخيار وتحويله الى الغير ، بل هو كتوكيل منه على اعمال خياره واعتماد منه على حسن اختياره.

وأما نقله الى الغير على نحو ما ذكرنا من التحويل الى طرفه بمعنى تسليم زمام الحق إليه بأن يكون هو ذا الخيار بعد التسليم ومن كان له الخيار مسلوب الاختيار في أمر العقد ، فهو ما ذكرنا أنه مشكل غاية الإشكال ، بل الظاهر عدم قابلية حقه المجعول له لنقله الى الغير بالمعنى المذكور.

فان قلت : أليس للبائع ـ مثلا ـ حين إنشاء البيع جعل الخيار للغير بالشرط في ضمن العقد بنحو يكون المجعول له هو صاحب الحق ، والجاعل لا خيار له ، ولا اختيار في أمر عقده ، بل تكون سلطنة الفسخ والإقرار لذلك الغير ، فاذا صح له جعل السلطنة المعبر عنها بالحق عند العقد للغير فلم لا يصح نقلها الى الغير بعد أن جعلت له عند العقد.

قلت : الفرق بين جعل العاقد الخيار للأجنبي عند العقد ، وبين نقله الخيار المجعول له اليه بعد العقد واضح ، فإنه عند العقد له السلطنة

٥٩

التامة على ماله ، ومقتضى عموم سلطنته عليه جواز نقله الى الغير بالبيع اللازم أو البيع غير اللازم أي المجعول فيه الخيار له أو لغيره بالشرط في ضمن العقد ، فجواز جعل الخيار للغير حال العقد من مقتضيات سلطنته على ماله. أما نقل حق الخيار المجعول له حال العقد وتحويله الى الغير بعد العقد ، فليس من مقتضيات سلطنته على ماله ، فإنه حال نقل الخيار لم يكن المال له ، بل للمشتري ، والخيار المجعول له حال العقد من الشارع أو بسبب الشرط في ضمن العقد مقتضاه سلطنته على إقرار العقد أو حله ونقضه ، لا الأعم من ذلك ومن توليته الغير على البدل.

وبالجملة ، لم يتضح قابلية نقل حق الخيار الى الغير كما اختاره سيدنا المصنف ـ قدس سره.

ومع الشك ، فالأصل عدم الانتقال بنقله.

هذا ما كان من أمر نقل الحقوق الثلاثة إلى الغير ، وأما قابلية انتقالها الى الوارث ، فيمكن أن يقال في وجهه بأن الوارث يقوم مقام المورث فيما كان له من مالكية وواجدية اعتبارية ، فيكون له ما كان لمورثه من ملك وحق بانتقال ذلك منه اليه ، ففيما نحن فيه من حق الشفعة ، كما تنتقل إليه بالإرث ملكية الشقص الذي كان مملوكا لمورثه عند الموت ، فكذا ينتقل إليه بالإرث حق الشفعة الذي كان لمورثه في الشقص المبيع في شركته.

وعليه ، فله الأخذ بحق الشفعة الذي كان لمورثه وورثه منه الذي مرجعه السلطنة على تملك حصة شريكه المبيعة في شركته من مشتريها بالثمن الذي اشتراها به ، قهرا عليه ـ فيقوم الوارث مقام المورث ويكون له ما كان لمورثه من حق تملك الشقص من مشتريه بذلك الثمن.

وكذا حق الرهانة الذي مرجعه سلطنة المرتهن على استيفاء دينه الذي

٦٠