بلغة الفقيّة - ج ١

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٥

المسائل) (١) بإرادة جواز وقوع الصلح عليه ، بمعنى سقوط حق الرجوع الثابت للزوج بالصلح عليه ، لا نقله به منه الى غيره ، حتى يقال فيه : من المحتمل أنه من الحقوق المتقومة بالزوج ومختص به ، فلا ينتقل الى غيره ، بل هو من الصلح الواقع في مورد الاسقاط والإبراء ، مع منع كون الموجب له علة تامة ، حتى يمنع عن ذلك أيضا ، فيكون الشك في نفوذ الصلح المتضمن للسقوط وعدمه من الشك في التخصيص الذي يرجع فيه الى العموم ، دون الشك في التخصص.

نعم ، تبقى المناقشة معه في كونه حقا ، بل الظاهر أنه من الأحكام لا من الحقوق.

توضيح ذلك : أن المطلقة إن كانت زوجة ـ بعد ـ كما يعطيه صدق «وَبُعُولَتُهُنَّ» الظاهر في الاتصاف الفعلي ، وترتب أحكام الزوجية الظاهر في كونها زوجة حقيقة ، فمرجعه الى ضعف سبب الفرقة وهو الطلاق وأنه لم يؤثر قطع علقة الزوجية بالكلية ، فالقدرة على الرجوع من آثار بقاء علقة الزوجية التي مرجعها إلى إبقاء تلك العلقة وإرجاعها كما كانت ، وكما أن قطع العلقة بمعنى فكها عن الزوجية بيده ، كالعتق في فك الملك بيد المالك فكذلك إبقاؤها على الزوجية. فكل من الإمساك والتسريح بيد الزوج ومن أحكام سلطنته على الزوجة ، لأنّها من عوارضها المتعلقة بها ، فيكون الرجوع في العدة للزوج من قبيل جواز الرجوع في العقود الجائزة الذي هو من الأحكام ، لكونه من آثار علقة الملكية السابقة ، بناء على ضعف سببية العقد الجائز في قطع علاقة الملكية.

وان قلنا بخروجها عن الزوجية بالطلاق ، وان ترتب عليها حكم

__________________

(١) راجع : جامع الشتات للمحقق القمي المعروف بـ (أجوبة المسائل) كما في المتن : كتاب الطلاق باب جواز الصلح على الطلاق.

٢١

الزوجة ـ تعبدا ـ كما يشعر به قوله تعالى : (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) (١) لظهور الرد في الرجوع بعد الخروج. غير أنه تحدث للزوج سلطنة جديدة على إرجاعها وإبطال سببية الطلاق للفرقة. كما تحدث لذي الخيار سلطنة على فسخ العقد اللازم ، وأن زمان العدة ـ نظير ثلاثة أيام الخيار الحيوان ـ كان حقا ، لا حكما ، كحق الخيار في العقود اللازمة. وحيث أن المستفاد من الأخبار ، وكلمات علمائنا الأخيار : أنها زوجة ـ حقيقة ـ لا حكما تعبديا ، وان علقة الزوجية باقية ، لا جرم اتجه كونه حكما ، لاحقا ، فلا يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل بالنواقل.

هذا ، وقد حكى المحقق المتقدم عن بعض معاصريه : أن اثر الصلح مع الزوج على حق الرجوع ليس إلا الحرمة التكليفية ، وإلا فلو رجع بعده نفذ رجوعه في إبطال الطلاق. وتعجب من ذلك غاية العجب.

قلت : وتعجبه في محله ان أراد تأثير الرجوع بعد سقوط حقه بالصلح عليه ، إذ لا حق بالفرض حتى يرجع به. ولكن من المحتمل ـ قويا ـ أن يريد بوقوع الصلح كون المصالح عليه ترك الرجوع ونفس عدم الفعل الذي مرجعه الى مجرد الالتزام بعدم استيفاء حقه ، لا سقوط الحقية من أصله.

وعليه ، فله وجه وجيه يتمسك على صحته بعموم أدلة الصلح بناء على الأقوى من كونه عقدا مستقلا إن كان المصالح عليه نفس الترك ومجرد عدم الرجوع ، لا نفس جوازه الذي هو حكم الحق وأثر من آثاره ، لما عرفت من أن الحكم لا يسقط ولا ينقل لأن أمره بيد الحاكم ، بل ويجوز

__________________

(١) تمام الآية (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) : البقرة ـ ٢٢٨.

٢٢

الصلح على هذه الكيفية ، حتى لو قلنا بأن حق الرجوع في العدة من الأحكام لا من الحقوق ، لأن المصالح عليه بالفرض نفس الترك وعدم الرجوع ، لا الحكم بجوازه.

فلا فرق في جواز الصلح على هذا التقرير بين كونه مصداقا للحق أو للحكم ، غير أنه على التقديرين ينفذ رجوعه لو رجع بها ، وإن أثم به ، إلا أن الغالب وقوع الصلح في أمثال المقام لئلا يتمكن من الرجوع بحيث لا ينفذ رجوعه لو رجع ، وهو لا يتم إلا بالصلح على الحق ، لا مجرد عدم الرجوع مع بقاء الحق ، فافهم.

ومنها ـ الخيارات ، فإنها من الحقوق ـ قطعا ـ لكونها سلطنة مجعولة بأحد أسبابها للمتعاقدين أو الأجنبي على إبطال العقد اللازم وحله ، وموردها العقود اللازمة ، وإلا فالعقد الجائز لا خيار فيه ما دام جائزا ، إلا إذا عرض عليه اللزوم بسبب ، فيؤثر ـ حينئذ ـ سبب الخيار فيه خيارا.

وكيف كان ، فالظاهر جواز المعاوضة عليه بما يوجب نقله ، فضلا عن سقوطه لعمومات أدلة المعاوضة ، مضافا الى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) بعد إحراز القابلية بما دل على سقوطه بالإسقاط وانتقاله بالإرث الكاشفين عن عدم كون الموجب له علة تامة ، وعدم كون الحق متقوما بذاته من حيث هو ذاته ، وإلا لم يكن لينتقل عنه بالإرث.

ومنها ـ الأولوية بالسبق في المساجد والمدارس والقناطر والرباطات والطرق النافذة ، ونحو ذلك من الحقوق الراجعة إلى عموم الناس أو المتلبس بعنوان منهم.

فالذي يظهر من كثير منهم أنه من الحقوق ، ولعله نظرا إلى إطلاق الحق عليه في حديث : «من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد كان

__________________

(١) تمام الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة ـ ١

٢٣

أحق به» وفي آخر : «كان له» بدل قوله «أحق به» (١) بناء على ظهور اللام فيه.

ويحتمل ـ قويا ، بل لعله الأقوى ـ كونها من الأحكام ، بمعنى تحريم مزاحمة السابق فيما سبق اليه مما له فيه حق بجعل الواقف الذي هو وغيره فيه شرع ـ سواء بذلك الجعل ، ضرورة أن الواقف لم يجعله وقفا على السابق منهم حتى يختص به هو دون غيره ، ولا أحدث السابق حقا جديدا له وراء ما جعل له الواقف حتى يكون له حقان : استحق أحدهما بالوقف كغيره ، والآخر استحقه بالسبق دون غيره ، فيسقط هو بالإعراض عنه دون المجعول بالوقف ، بل السبق سبب لحرمة مزاحمته فيه ومدافعته عنه مطلقا. ولو كان المزاحم من مصاديق عنوان الموقوف عليه ، فتقديم السابق في تزاحم الحقوق كتقديم الأهم في تزاحم الواجبات في كونه من الأحكام. فبالاعراض عن المحل يرتفع التزاحم الذي هو موضوع الحكم بالتحريم ، بل لعله يشعر به التعبير بالأحق في الحديث ، والزيادة لاختصاص الاستيفاء ، واللام لمطلق الاختصاص.

وان أبيت إلا عن كونه حقا ، كما لعله المشهور أو الأشهر بتقريب أن السبق يوجب تعيين العنوان الكلي في المصداق الخاص ما دام سابقا وشاغلا للمحل أو غير معرض عنه كتعيين مصداق المالك بالقبض في الخمس والزكاة من السادة والفقراء ، فليس ـ هناك ـ للسابق إلا الحق المجعول بالوقف للعنوان أو الجهة المتعين له بالسبق ، فيكون ـ حينئذ ـ من الحقوق ، لا من الأحكام ، فتظهر الثمرة.

مع انه على القولين ـ يسقط بالاعراض ، ولا ينقل ولا يورث فيما

__________________

(١) في (الجامع الصغير للسيوطي) و (كنوز الحقائق للمناوي ـ بمادة من ـ الحديث هكذا «من سبق الى ما لم يسبقه اليه مسلم فهو له».

٢٤

لو زوحم ودفع عن المحل كان المزاحم غاصبا ، وصحة الصلاة فيه مبنية على مسألة اجتماع الأمر والنهي (١) بناء على كونه حقا ، وأما على كونه حكما ، فيصح تصرفه فيه ، لأنه من التصرف في حقه بجعل الواقف ، وان فعل محرما بدفع السابق عنه ، بل لعله ينعكس الأمر بعده ، فيحرم على المدفوع مزاحمة الدافع. ولو تنزلنا وقلنا ببقاء الحرمة ما لم يعرض المدفوع عنه ، فصحة الصلاة فيه ـ حينئذ ـ مبنية على مسألة الضد (٢) لا مسألة اجتماع الأمر والنهي. فافهم.

ومنها ـ جواز الصلح على حق الدعوى ونفوذه قال في (القواعد): «لو صالح الأجنبي المدعي لنفسه ليكون المطالبة له ، صح ـ دينا كانت الدعوى أو عينا» (٣).

__________________

(١) في شخص واحد ومصداق معين ، لكن مع تعدد الجهة والحيثية كالمثال في المتن ، فان شخص الصلاة مأمور بها من حيث كونها صلاة وعبادة ، ومنهي عنها من حيث كونها تعديا وغصبا والمسألة خلافية ، وان كان المشهور امتناع ذلك ، يقول الشيخ حسن صاحب المعالم في (معالمه) : «الحق امتناع توجه الأمر والنهي إلى شي‌ء واحد ، ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا ووافقنا عليه كثير ممن خالفنا.» راجع في تفصيل ذلك عامة كتب الأصول : باب مباحث الألفاظ.

(٢) المشهور ان الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن الضد العام بمعنى الترك ، لا الضد الخاص ، ولا عن أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. وان زعم البعض اقتضاء الأمر النهي عن مطلق الأمر النهي عن مطلق الأضداد : العامة والخاصة ، والمثال في المتن يمكن تصويره من باب الضد الخاص فان الدافع مأمور بإتيان الصلاة ، وذلك الأمر يقتضي نهي المدفوع عن إيجادها في الخارج. راجع عن تفصيل هذه المسألة ـ مباحث الألفاظ من كتب الأصول.

(٣) راجع : قواعد العلامة الحلي : كتاب الصلح ، الفصل الثالث في التنازع.

٢٥

قلت : الصلح مع المدعي : اما أن يكون من الأجنبي لنفسه «أو من المدعى عليه. وعلى التقديرين ، فاما أن يكون الصلح على المدعى به ، أو على مجرد حق الدعوى لأنه من الحقوق لا من الأحكام ، فان كان على المدعى به ـ وكان من الأجنبي ـ انتقل اليه حق الدعوى ، تبعا لما انتقل اليه بالصلح من المدعى به ـ عينا كان أو دينا ـ وان كان من المدعى عليه ، سقط الحق عنه ، لأنه لا يملك على نفسه ، وينتقل إليه المدعى به إن كان عينا ولم يكن له في الواقع مع فرض صحة الصلح منه. وان كان على حق الدعوى مجردا عن المدعى به ، فالظاهر بطلان الصلح وعدم نفوذه لعدم استقلالية هذا الحق لنفسه حتى يصح الصلح عليه ، ضرورة كونه منتزعا من الحق المدعى به ومسببا عنه ، دائرا مداره وجودا وعدما ، فلا استقلالية له في الوجود : بل وجوده وجود عرضي يتحقق بوجود معروضة. كيف ، وما كان كذلك يستحيل تفكيكه عنه ونقله بالصلح ، لأنه من تخلف المعلول عن علته التامة ، وهو الوجه في عدم جواز الصلح عليه مجردا ، إلا ما قيل : من أنه لو صالح عليه وأثبت المدعي به ليس له أخذه ، لأنه لم يصالح عليه حتى يجاب عنه ـ كما في جامع الكركي ـ بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي في أخذ المدعي به بعد إثباته (١).

__________________

(١) راجع : جامع المقاصد في شرح قواعد العلامة : ج ١ كتاب الصلح : الفصل الثالث في التنازع ، فإنه علق على نفس عبارة العلامة الآنفة بعبارة طويلة آخرها قوله : «وكذا لقائل أن يقول : لم لا يجوز الصلح على استحقاق الدعوى فقط ، فان ذلك حق ويجوز الصلح على كل حق ، لكن يرد عليه ـ حينئذ ـ أنه لو ثبت الحق امتنع أخذه لعدم جريان الصلح عليه. ويجاب بان الصلح لو جرى على أصل الاستحقاق ، فان ثبت الحق أخذه والا كان له استحقاق الدعوى وطلب اليمين. وبالجملة : فيقوم مقام المدعى».

٢٦

هذا ، ولكن الأظهر بطلان الصلح على المدعى به قبل إثباته لأنه محكوم ظاهرا بملكيته للمدعي عليه ، وهو مستلزم لبطلان الصلح عليه ظاهرا لأنه من الصلح على مال الغير شرعا ، وهو باطل. فمرجع الصلح ـ حينئذ ـ ليس إلا الصلح عن حق الدعوى الذي يكفي في ثبوته احتمال صحته ، وانتقاله اليه بهذا المعنى مستلزم لانتقال متعلقة في الواقع إن كان له ليقوم الاحتمال في حقه أيضا ، تصحيحا للمعاملة ، وان لم يكن له فالمصالح عليه هو نفس هذا الحق المنتزع من احتمال كون متعلقة له.

ولعله مراد (الكركي) في الجواب ، بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي في أخذ المدعي به بعد إثباته ، وإلا فكيف يستحق المدعى به بعد الإثبات مع انه لم يجر الصلح عليه؟.

وكيف كان ، فالصلح يبطل ان وقع عن المدعى به ـ فقط ـ وكذا إن وقع عن حق الدعوى بشرط التجرد عنه ، وإنما يصح لو جرى على حق الدعوى ـ لا بشرط ـ هذا ، ولو جرى الصلح على نفس ترك الدعوى دون حقها لم يسقط حقه وكانت دعواه مسموعة ، وإن وجب عليه الترك ، ولكن ، هل يجوز له أن ينقله الى غيره ، فيطالب الغير به؟ الأقرب ذلك ، لعدم منافاته لما التزم به بالصلح من عدم المطالبة ـ بنفسه أو بوكيله. ولو مات انتقل الحق إلى وارثه فله المطالبة به لعدم التزامه بما التزم به مورثه ، ولو مات من كان عليه الدعوى ـ في الفرض ـ فله المطالبة من وارثه لأنه غير من التزم له بتركها إن وقع الصلح على ترك مطالبته ، وان وقع على ترك الدعوى على العين استمر المنع الى ما بعد الموت ـ أيضا ـ لأن الملتزم به ترك الدعوى على العين لا على من كانت بيده ، بخلاف الأول ، ومثله يجري التفصيل بين الإطلاق والتقييد فيما لو نقل العين الى غيره ، فافهم.

ومنها ـ حق اليمين فإنه من الحقوق التي يصح الصلح عليها حيث

٢٧

ما يستحق الإحلاف فيكون مفاد الصلح عليه هو الاسقاط.

ومنها ـ حق الغيبة ، وسائر أنواع الإهانة لأخيه المؤمن مما يوجب إدخال النقص عليه فإنها تسقط بالاستحلال لو أسقط ، ولا ينقل ولا يورث. فالذي يتراءى ـ في بادئ النظر أن هذه الأفعال من الغيبة والشتم والإيذاء ونحو ذلك ، أسباب توجب حدوث حق جديد للمغتاب ونحوه.

ولكن في الحقيقة ليس الأمر كذلك ، بل هي متلفات للحق الثابت له بأصل الشرع ، فهي من تضييع الحق وإتلافه ، وليس عليه إلا ما ضيعه من الحق التالف.

توضيح ذلك : إن للمؤمن ـ أو المسلم ـ حقوقا على أخيه ، منها واجبة ومنها مندوبة. ومن الأول احترام عرضه ، فإنه حق له مستمر على أخيه المسلم واحترام ماله من احترام نفسه. ولذا من لا حرمة له في نفسه لا حرمة لماله ، كالحربي الذي يملك ماله ، ولذا كان مكلفا بالعبادات المالية كالخمس والزكاة ، وان لم يصح منه إلا بالإسلام ، غير أنه يجوز لنا مزاحمته في ماله ، لعدم احترامه. والمسلم ، وان كان ماله محترما ، إلا أن زمام احترام ماله بيده ، فله إسقاطه لعدم منافاته لاحترام نفسه ، ولا كذلك احترام عرضه ، فليس بيده زمامه حتى يسقط بإسقاطه. ولذا لا تحل غيبة من جعل الناس في حل من غيبته ، وحرمة عرضه مستلزمة لتحريم كل ما يلزم منه عدمها ، لأنها موجب لإتلاف حقه وتضييعه وعليه بدل التالف لاحق جديد ، ووجوب الاستحلال مع عدم المحذور ـ لو قلنا به ـ فإنما هو للتخلص عن ضمان البدل الأخروي من تحمل ذنوبه أو تحويل حسناته اليه ، كما ورد في بعض الأخبار ، وهو أمر آخر ، مع أنه يحتمل أن يكون ذلك كله أصلا وفرعا من الأحكام ، وان أطلق عليها لفظ الحق فتأمل.

ومنها ـ حق الشفعة الذي دل الإجماع ـ بقسميه ـ والسنة المستفيضة

٢٨

بل المتواترة معنى ـ على ثبوته للشريك ببيع شريكه حصته ، فله سلطنة انتزاع المبيع ـ قهرا ـ من المشتري بنفسه ، وهو يسقط بالإسقاط ، إجماعا من المسلمين لكونه رخصة ، لا عزيمة ، شرع إرفاقا للشفيع بدفع ضرر الشركة عن نفسه ، ولعدم كون الموجب له علة تامة ، وينتقل بالإرث على الأشهر ـ بل المشهور ـ للإجماع المحكي نصا وظاهرا ، المعتضد بالشهرة العظيمة ، وللنبوي المنجبر : «ما ترك الميت من حق فلوارثه» (١) المؤيد بعمومات أدلة الإرث ، كتابا وسنة.

وأما نقله بمعنى تحويله منه الى غيره ، فلم أعثر على من جوزه ، بل الظاهر ، اتفاقهم على عدمه ، من غير فرق بين نقله مستقلا أو منضما الى حصته.

وفي سقوطه ببيع حصته ، فللمشتري الشفعة فيه أو بقاؤه للأصل مع كون الشركة علة الحدوث دون البقاء ـ وجهان : ولعل الأول هو الأقوى.

نعم يصح الصلح المتضمن للإسقاط عليه مطلقا ، ولو من الأجنبي فيسقط بمجرده من دون حاجة الى إنشاء الإسقاط ، إلا إذا صالحه على نفس الاسقاط فيجب عليه فعله ، ولا يسقط بدونه ، ولكن ، لو تركه وأخذ بحقه ، ملكه ، وإن أثم بالترك. ومثله ما لو وقع الصلح على مجرد ترك استيفاء الحق دون نفس الحق ، فله استيفاؤه لبقاء الحق بالفرض ، وان أثم به.

اللهم إلا أن أن تدعى الملازمة بين السقوط والالتزام بعدم الاستيفاء ولكنه على عهدة مدعيها.

نعم يبقى هنا سؤال الفرق بين الانتقال القهري بالإرث والنقل الاختياري إلى الأجنبي بأحد النوافل منضما معه حصته ـ أيضا ـ كي ينتقل

__________________

(١) راجع : كتاب الرياض للسيد الطباطبائي : ج ١ فصل ٣ الخيار ، باب أن الخيار يورث.

٢٩

في الأول ، ولا ينتقل في الثاني مع اتحادهما في تحقيق الشركة وتجددها ، ولعله لكون الإرث مرجعه الى قيام الوارث مقام المورث ، وتنزيله منزلته. ولذا كان له ما ترك من حق ، ولا كذلك النقل بالنواقل ، فإنه من تحويل الملك من المالك الى غيره ، لا من قيام الغير مقام المالك.

وان أبيت عن ذلك ، فنقول : الفارق بينهما هو قيام الدليل على ثبوت هذا الحكم المخالف للأصول والقواعد في الانتقال القهري من الإجماع وغيره وعدم قيامه في غيره مع منع عموم يقضي بصحة النقل في كل حق إلا ما خرج ، مع أنه قد يقال : إن مرجع الشك ـ هنا ـ الى الشك في القابلية التي لا يمكن إجراؤها بالعموم ، لو فرض وجوده ـ فتأمل.

ومنها ـ النفقات. والأقرب : أن بعضها حقوق ، وبعضها أحكام.

أما نفقة الزوجة ، فهي من الحقوق ـ قطعا ـ لإطلاق الحق عليها في بعض النصوص. ولذا تقضى لو أخل بها الزوج مع تمكينه من نفسها ـ إجماعا ـ بقسميه ، ومنقوله فوق الاستفاضة ، معتضدا بدعوى غير واحد عدم الخلاف فيه ، فيسقط بالإسقاط وينقل بالنواقل وينتقل بالإرث كغيره من الديون.

وأما نفقة الأقارب من الأبوين ـ مطلقا ـ أو الأدنين منهما والأولاد ، فالأقرب إنها من الأحكام ، إذ غاية ما يستفاد من أدلتها وجوب البذل للمواساة وسد الخلة ، ولذا لا يقضيها من وجب عليه البذل لو أخل به ، وإن أثم ـ بلا خلاف ـ كما عن جماعة بل إجماعا كما عن غير واحد (١)

__________________

(١) قال المحقق في (الشرائع آخر كتاب النكاح باب القول في نفقة الأقارب «ولا تقضي نفقة الأقارب لأنها مواساة لسد الخلة فلا تستقر في الذمة». وقال سيدنا في (الرياض ـ في هذا الكتاب والباب) «وتقضى نفقتها (اي الزوجة) دون نفقتهم (أي الأقارب) بلا خلاف في شي‌ء من ذلك ، بل حكى جماعة الإجماع =

٣٠

وليس إلا لما ذكرناه من كونه حكما لا حقا ، والا فالأصل في الحقوق المالية أن تقضى ، ودعوى الخروج عنه في المقام بالإجماع وأنه من الإجماع على خلاف القاعدة ـ كما صرح به شيخنا في (الجواهر) (١) ممنوعة جدا ، إذ لا موجب للالتزام بكونه حقا ، حتى نلتزم بالخروج عن القاعدة للإجماع. وحينئذ ، فلا تسقط بالإسقاط ولا تنقل بالنواقل. ومثلها نفقة المملوك ، فإنها تجب على المالك للمواساة وسد الخلة ـ أيضا ـ مضافا الى عدم إمكان فرض حق له عليه.

ومنها ـ الوصية التي هي عبارة عن إعطاء ولاية التصرف للوصي من الموصي في ثلث ماله بعد الموت. فهي من الحقوق ، لأنها منتزعة من سلطنة المالك في ملكه ، بل هي هي بعد تنزيل الوصي منزلة الموصي بأدلة الوصية ، فانتقل منه ما كان له من ملكية التصرف إليه ، فهي لا تسقط ولا تنقل بوجه من الوجوه.

__________________

عليه وهو الحجة فيه مع النص الآتي في الأول مع تأمل يظهر وجهه. وعللوا الثاني بأن وجوب النفقة فيه على وجه المعاوضة في مقابلة الاستمتاع بخلاف نفقة القريب فإنها انما وجبت للمواساة ورفع الخلة. فلا تستقر في الذمة ولا يجب قضاؤها» وبمثل هذا الحكم والتعليل في اللمعة وشرحها للشهيدين والجواهر ـ في نفس الكتاب والباب.

(١) قال شيخنا في (الجواهر ـ كتاب النكاح ، باب نفقة الأقارب) في شرح قول المحقق (ولا تقضى نفقة الأقارب) «نعم قد يشكل أصل عدم وجوب القضاء بأن الأصل القضاء في كل حق مالي لآدمي ، ودعوى كون الحق هنا خصوص السد الذي لا يمكن تداركه ، واضحة المنع بعد إطلاق الأدلة المزبورة وحرمة للعلة المستنبطة عندنا. فالعمدة حكم الإجماع فهو مع فرض تماميته في غير المفروض».

٣١

ولعل مثلها الوكالة على بيع الرهن في ضمن عقد الرهانة ، فإنه من التولية عليه دون التوكيل ، ولذا لا يملك عزله ـ على الأقوى ـ بخلاف غيره من العقود اللازمة لو اندرجت وكالة فيه ، فإنه يملك عزله وينعزل به ، وإن أثم فيه ـ على رأي قوي ـ بل ولو شرط عدم نفوذ العزل كان من الشرط الفاسد الموجب للخيار ، ضرورة منافاته لماهية الوكالة وحقيقتها التي هي عبارة عن مجرد الاذن الخاص في التصرف ومحض الرخصة فيه ولذا كان جواز التصرف فيها من الأحكام لا من الحقوق. ولتفصيل الكلام فيه محل آخر. وبالجملة ، غير بعيد دعوى الفرق بين جعله وكيلا على بيع الرهن في عقد الرهانة ليحصل الوثوق التام بالاستيفاء والوكالة على غيره في سائر العقود اللازمة بجعل الأول من التولية التي لا بأس بها لو قلنا بأنه لا يملك عزله ، والثاني من الوكالة التي ينافيها عدم نفوذ العزل فيه.

ومنها ـ إجازة المالك في بيع الفضولي ، فإنها من الأحكام لأن معناها إمضاء البيع الواقع في ملكه ، فهو كما لو باعه بنفسه من الآثار المتعلقة بنفس السلطنة التي هي له ، ومثلها الرد الذي مرجعه إلى إبقاء ملكه على ما كان ، وكل من النقل والبقاء من الأحكام ، لا من الحقوق.

هذا ما وسعني من الكلام في هذا المقام على تشتت البال وضيق المجال وهو الموفق للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد.

٣٢

التعليق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

قال سيدنا الحجة خالنا المرحوم السيد محمد آل بحر العلوم ـ تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته ـ في رسالته في (تحقيق الفرق بين الحق والحكم): «أما الحكم فهو جعل بالتكليف أو الوضع» الى أن يقول ـ قدس سره ـ : «وأما الحق فهو يطلق مرة ـ في مقابل ، الملك وأخرى ما يرادفه.» الى آخر كلامه ـ رحمه الله.

أقول : قد يطلق الحق على عنوان عام شامل لكل ما جعله الشارع المقدس بالجعل التأسيسي ، والإمضائي. وهو بهذا الإطلاق عبارة عن التحقق والثبوت. ويشمل الحكم الشرعي تكليفا وإمضاء.

وله إطلاق آخر أخص من هذا العنوان العام في اصطلاح الفقهاء ، خصوصا المتأخرين منهم ، وهو عبارة عن مرتبة ضعيفة من الملك ، وإضافة ناقصة مجعولة من المالك الحقيقي ـ تبارك وتعالى ـ لذي الحق ، أعم من وجود من عليه الحق أو عدمه.

وعبر عنها بعض المعاصرين بالملكية غير الناضجة ، وهو تعبير حسن فان المرتهن للعين المجعولة من الراهن وثيقة لدينه الذي له عليه ـ وان كان ذا إضافة وسلطنة عليها ـ ومن هنا يمنع الراهن من التصرف فيما ملكه من العين المرهونة ـ مطلقا ـ أو خصوص التصرف المنافي لحق المرتهن ـ على

٣٣

الخلاف ـ ولكن ليس للمرتهن بالنسبة إلى الرهن من التصرف فيه ، سوى استيفاء دينه منه ببيعه وأخذ مقدار حقه من ثمنه عند امتناع تحصيله من المديون. وكذا من له الخيار في عقد البيع ـ مثلا ـ فإنه ـ وان كان ذا حق متعلق بالعقد وسلطنة عليه من حيث القدرة على فسخه وإقراره أو متعلق بالعين التي خرجت عن ملكه الى ملك طرفه بالتسلط على إعادتها إلى ملكه بفسخ العقد ، ومن هنا يمنع طرفه من التصرفات المنافية لحقه فيما انتقل اليه وملكه بالعقد ـ لكن حقه المجعول له لا يتجاوز التسلط على فسخ العقد أو إقراره ، أو التسلط على استرجاع العين التي نقلها الى طرفه اليه ـ بناء على تعلق حقه بنفس العين المنقولة إلى طرفه ـ

وهكذا كل من له حق بالمعنى الأخص ، فإن له شأنا من شئون الملك. فان من له حق الشفعة فيما باعه شريكه في شركته ، له أخذ الشقص (١) وتملكه من مشتريه بما اشتراه من الثمن ـ قهرا عليه ـ ومن حجر على موات من الأرض ، أو سبق الى وقف على عنوان يشمله ، فأشغله بنفسه أو بمتاعه ، فما له من الحق هو اختصاصه به وعدم الحق لآخر في مزاحمته عليه ، وان كان ممن يشمله عنوان الموقوف عليه ـ بناء على ما هو المشهور من كون ذلك من قبيل الحقوق ـ وان احتمل سيدنا المصنف بل قوى كون ذلك من قبيل الأحكام ـ على ما سبق من رسالته ـ فراجع.

ومثله حق الاختصاص فيما لم يكن متمولا من الأشياء كالخمرة القابلة للتخليل ، ونحو ذلك.

والحاصل : إن العلقة والإضافة الحاصلة بين المضاف والمضاف إليه إذا كانت تامة صالحة لأنحاء التقلبات تسمى ملكا. وإذا كانت ناقصة

__________________

(١) الشقص ـ بالكسر ـ السهم والنصيب ، مأخوذ من قولهم : شقص الذبيحة أي قطعها سهاما معتدلة بين الشركاء.

٣٤

لا تصلح إلا لنحو من التقلب لقصور في نفسها أو متعلقها ـ تسمى حقا ، كالإضافة الحاصلة للمرتهن بالنسبة إلى العين المرهونة والحاصلة للشفيع بالنسبة إلى حصة شريكه المبيعة في شركته ، فان المرتهن ليس له سوى استيفاء دينه من الرهن إذا لم يفه المديون. والشفيع ليس له من السلطنة إلا تملك ما اشتراه المشتري من الحصة بالثمن الذي اشتراه به. وكذا الإضافة الحاصلة لذي الخيار ، فإنه ـ بناء على تعلق حقه بما خرج عن ملكه الى ملك طرفه ـ ليس له الا التسلط على إعادته إلى ملكه بفسخ العقد.

وأما بناء على تعلق حقه بالعقد وتسلطه على فسخه وإقراره ، فالقصور في متعلق الإضافة.

ونظيره من هذه الجهة : حق التحجير على موات من الأرض وحق السبق الى مكان مباح أو وقف عام ، فان الموات لا يملك بالتحجير عليه ، والمباح والوقف لا يملكان بالسبق إليهما. وغاية ما يحصل لمن حجر أو سبق حق اختصاص فيما حجر عليه أو سبق اليه لا يجوز غصبه منه ومزاحمته عليه.

ثم ان المائز بين الحكم والحق : هو ان الحكم لا يسقط بالإسقاط إذ هو مجعول من الشارع المقدس على موضوعه ، فزمامه بيده ، وأمر وضعه ورفعه اليه بخلاف الحق ، فإن قوامه قابليته للإسقاط والعفو ممن جعل له وهو ـ وان كان كالحكم من حيث الجعل من الشارع الأقدس ـ إلا أن نحو الجعل مختلف ، فان الحق جعل لصاحبه بنحو يكون زمامه بيده ، فله الأخذ به ، وله العفو والإسقاط ، بخلاف الحكم فإنه مجعول من الشارع المقدس على موضوعه بنحو يكون رفعه بيد جاعله كوضعه.

وبالجملة : فان الحق سلطنة مجعول زمامها بيد ذي الحق فله القدرة على الإعمال والاسقاط.

٣٥

فما ذكره سيدنا الخال ـ قدس سره ـ حيث يقول : «منها ـ أي من الحقوق ـ : ما لا يجوز عليه شي‌ء من ذلك فلا يسقط بالإسقاط ولا ينقل بالنواقل ولا ينتقل بالإرث كحق الأبوة وولاية الحاكم ، وحق الاستمتاع بالزوجة وحق الجار على جاره والمؤمن على أخيه فإنها حقوق لأربابها لا تسقط ولا تنتقل بوجه من الوجوه» انتهى.

قابل للمناقشة ، إذ الحق الذي هو سلطنة ضعيفة على الشي‌ء ومرتبة ناقصة من الملك بجميع اقسامه وأنحائه ، قابل وصالح للإسقاط بمقتضى طبعه ـ كما حكي ذلك عن شيخنا الشهيد ـ قدس سره ـ وجعل ذلك هو الضابط في الفرق بين الحكم والحق.

وما افاده سيدنا : من تنظير ما لا يسقط بالإسقاط بحق الأبوة وولاية الحاكم. الى آخر ما ذكره من الأمثلة.

غير واضح ، فإن جملة ما ذكر من الأمثلة ليس من الحق بالمعنى المصطلح الذي هو مرتبة ناقصة من مراتب الملك وانما هي من قبيل الأحكام.

فان ما مثل به من (حق الأبوة) إن كان مراده بحق الأبوة وجوب إطاعة الولد للأب وحرمة معصيته مما كان مستلزما لعقوقه وسخطه ، فإنه ليس من قبيل ما نحن فيه من الحق الذي هو بمعنى الملكية الضعيفة ، وانما هو حكم شرعي إلزامي على الولد بالنسبة إلى والديه ثبت بدليله الخاص ـ احتراما لهما وجزاء على إحسانهما اليه ، كما أنه لو كان المراد سلطنته على التصرف في مال ولده الصغير بما يحصل به حفظه عن التلف وما يرجع الى مصلحته من البيع أو الشراء له بما له ، ونحو ذلك ، فإنه ـ أيضا ـ من الحكم الشرعي الثابت بدليله للأب فيما يرجع الى مال الولد والترخيص في تصرفه فيه ونفوذه عليه ، وليس من الحق الاصطلاحي المذكور لمن له الحق مما يعود فيه نفع لذي الحق.

٣٦

نعم ، ثبت للأب عند مسيس الحاجة ـ جواز أخذ مال الولد وصرفه على نفسه وعلى من يعول به ، ما لم يكن مجحفا ومسرفا في ذلك.

فعن الشيخ ـ قدس سره ـ بإسناده «عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله ـ صلوات الله عليه ـ قال : سألته عن الرجل يحتاج الى مال ابنه قال عليه السلام يأكل منه ما شاء من غير سرف» قال وقال ـ ع ـ وفي كتاب علي (ع) : إن الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا باذنه ، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء. الى قوله : وذكر أن رسول الله (ص) قال لرجل : أنت ومالك لأبيك».

وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام : «أن رسول الله (ص) قال لرجل : أنت ومالك لأبيك ، ثم قال أبو جعفر عليه السلام : ما أحب أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج اليه مما لا بد منه ، إن الله (لا يُحِبُّ الْفَسادَ)» (١).

ولعل سيدنا ـ قدس سره ـ يريد من حق الأبوة ما ذكرناه ـ أخيرا ـ وعلى كلّ ، فالظاهر كون ذلك ـ أيضا ـ ليس من الملك الضعيف الذي هو حق اصطلاحا ، وانما هو حكم من الشارع وترخيص منه بأخذه ما يحتاج اليه من مال ابنه عند الحاجة الماسة اليه ، ولا معنى لسقوطه بالإسقاط ولا نقله بالنواقل ، ولا انتقاله بالإرث.

وأما ولاية الحاكم ، فما لا إشكال فيه كون الفقيه الجامع للشرائط له ولاية التصرف في مال الطفل والغائب ـ في الجملة ـ لمصلحتهما ـ وسيأتي

__________________

(١) راجع هذين الحديثين في كتاب التهذيب ـ المكاسب ـ ج ٦ ص ٣٤٣ طبع النجف الأشرف.

وحديث «أنت ومالك لأبيك» تذكره عامة الصحاح عن النبي (ص) راجع كشف الخفاء للعجلوني : ج ١ ص ٢٠٧ حديث (٦٢٨)

٣٧

بيانه في مبحث الولاية. وهي بالمعنى المذكور ليست من الحق الاصطلاحي أيضا ، وانما ذلك حكم من الشارع وترخيص منه للحاكم في التصدي لذلك رعاية لمصلحة المولى عليه ، ولا يعود منه نفع للحاكم غير الأجر والثواب.

وأما حق الاستمتاع للزوج بالنسبة إلى زوجته ، فعدم كونه من الحق ـ بمعنى الملك ـ واضح ، فان مرجعه الى حكم من الشارع على الزوجة بعدم جواز امتناعها وترفعها عن ذلك عند ارادة الزوج له فيما لو كان ملتزما بحقوقها الواجبة عليه ، ولا مناسبة بينه بالمعنى المذكور ـ وبين الحق بمعنى الملك.

كما أن مرجع حق الجار على جاره أو الأخ المؤمن على أخيه : المحافظة على مقام الاخوة والجوار وعدم التصدي الى ما ينافيه.

وبالجملة ، هذه الحقوق ونظائرها ، وما ذكره سيدنا بعد ذلك من حق الغيبة والإيذاء بضرب وشتم أو إهانة أو نحو ذلك : الظاهر أنها من الأحكام ، وليست من الحقوق بمعنى الملك ، ووجوب الاستحلال من المستغاب أو المتاذي أو المهان ـ على فرضه ـ انما هو من جهة ظلمه بهتك عرضه أو إيذائه ونحوه ، لا لثبوت حق مملوك له عليه.

كما أن حق التولية المجعول من الواقف للمتولي على الوقف وحق الوصاية المجعول من الموصي لشخص خاص على أطفاله أو على التصرف في ثلث ماله ، ونحو ذلك مما يكون من شئون ولايته على الأطفال وسلطنته على نفسه أو على ماله ، كل ذلك ـ على الظاهر ـ أنها من قبيل الحكم لا الحق بالمعنى المصطلح.

وما ثبت بالدليل أن الموصى إليه له رد الوصية في حياة الموصي فتبطل وصايته بشرط بلوغ الرد للموصى ، وإمكان نصبه غيره على وجه موافق للاحتياط

٣٨

ليس ذلك من حيث كون الوصاية حقا للوصي والرد إسقاطا له وإلا لجاز له ذلك وصلح ـ مطلقا ـ بلا شرط.

وبالجملة ، فالظاهر أن الولايات على إطلاقها وشعبها المجعولة ممن له الجعل والنصب لأشخاص أو أنواع من حيث الترخيص في تصرفاتهم في مال الغير أو نفسه وصحتها ونفوذها ـ ومنها باب الوصاية ـ من قبيل الأحكام الثابتة لموضوعاتها في مواردها ـ ترخيصا أو إمضاء ـ ومن هنا لا تقبل الإسقاط ، فهي من قسم الحق بالمعنى العام ، لا من الحق بالمعنى الأخص الذي هو من مراتب الملك القابل للإسقاط بمقتضى طبعه.

فما ذكره سيدنا ـ قدس سره ـ : «من أن الوصية من الحقوق ، لأنها منتزعة من سلطنة المالك في ملكه ، بل هي هي بعد تنزيل الوصي منزلة الموصي بأدلة الوصية ، فانتقل منه ما كان له من ملكية التصرف فهي لا تسقط ولا تنتقل بوجه من الوجوه.»

غير واضح ، فإن أصل سلطنة الشخص على ماله من قبيل الحكم المجعول من الشارع بقوله : «الناس مسلطون على أموالهم» لا من الحق بمعنى الملك الضعيف ، ولذلك لا يسقط بالإسقاط فكيف ما ينتزع منها ويتفرع عليها؟.

نعم ربما يكون بعض ما هو حق بالمعنى الأخص غير قابل للإسقاط عمن هو عليه ، فيكون ـ من هذه الجهة ـ بمنزلة الحكم في عدم قبوله للإسقاط. وذلك كحق الخمس والزكاة المتعلق بمال الغير لأربابه ومستحقيه ـ بناء على كونهما من الحق ـ بالمعنى الأخص كما هو الأقوى ـ

وقبل بيان وجه عدم قابلية هذا النوع من الحق للإسقاط ـ مع أنا ذكرنا أن قوام الحق قبوله للإسقاط ـ : لا بد من توضيح نحو هذا النوع من الحق وكيفية تعلقه بموضوعه ، فنقول :

لا إشكال ـ بل لا خلاف ـ في عدم كون الحق المذكور من قبيل

٣٩

التكليف الصرف ومحض الوجوب على المالك نظير وجوب نفقة الأقارب وانما هو من قبيل الوضع.

وعليه ، فهل الحق المذكور إنما يتعلق بذمة المالك والعين الزكوية ، مثلا ليست محقوقة به؟ ربما يحكى عن بعض الأصحاب ذلك ، وينسب الى بعض العامة وهو خلاف ظاهر آية الزكاة ، وآية الخمس. بل خلاف صريح بعض الأخبار ، وكلمات الأصحاب ، والفروع المتسالم عليها عندهم فإنها صريحة بتعلق الفريضة بنفس العين.

وعليه ، فهل الحق المذكور المجعول لأربابه من قبيل الملك في العين وأن الفقراء ـ مثلا ـ يملكون قسطا من مال المالك بنحو الشركة الحقيقية والكسر المشاع ـ كما نسب الى ظاهر المشهور ـ أو من قبيل الكلي في المعين كما يظهر من بعض آخر ـ ولعل ذلك لما يظهر ـ من بعض الاخبار من قوله ـ عليه السلام ـ «. فيما سقت السماء العشر» (١) و «في كل عشرين مثقالا من الذهب نصف مثقال» (٢) وقوله عليه السلام : «إن الله تعالى شرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال» وقول علي عليه الصلاة والسلام ـ كما في نهج البلاغة فيما كان يكتبه لمن يستعمله على الصدقات ـ : «فان كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه ، فإن أكثرها له» (٣)

__________________

(١) بهذه الألفاظ وبقريب منها يذكر الحديث عن النبي (ص) في عامة كتب الصحاح ، وكتب الأخبار في كتاب الزكاة باب زكاة الغلاة.

(٢) بهذا اللفظ وبهذا المضمون ذكره (الكافي في كتاب الزكاة ، باب زكاة الذهب والفضة).

(٣) راجع : شرح ابن أبي الحديد (ج ١٥ ص ١٥١) طبع دار احياء الكتب العربية.

٤٠