بلغة الفقيّة - ج ١

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٥

مع إمكان منعه وجحده ، ولو بالإنكار عليه ، فالثاني وان تعين المقبوض زكاة بالقسمة والعزل لثبوته بالتفريط في الذمة ، مثلا ، ان كان مثليا ، أو قيمة ان كان قيميا ، ومع عدم إمكانه فالأول لعدم التفريط فيه بالفرض ، وبه يجمع بين الأخبار. ويشهد له الصحيحة المتقدمة (١). ولا كذلك الحكم في الخراج ، بل تبرأ الذمة منه بالدفع إلى الجائر مطلقا وإن تمكن من جحده لوجود تقبل الأراضي منه ولو بالتخيير بينه وبين الحاكم ـ كما هو مدلول الأخبار ، ومعاقد الإجماعات ـ حسبما تقدم ، ولم يوجد مثله في دفع الزكاة إلى الجائر ، فظهر الفرق بما ذكرنا بين الزكاة والخراج بعد دفعهما إليه في السقوط مطلقا في الثاني ، والتفصيل فيه في الأول.

ودعوى عدم تعيين الزكاة بالعزل الذي يلزم من تحققه التلف ، وان كانت ولاية العزل والقسمة للمالك إرفاقا به لكن ما لم يكن كذلك ، وإجبار الشخص على إعطاء الزكاة لا يوجب احتساب المدفوع من حق الفقراء ، لأن المشاع لا يتميز بغير رضا الشركاء ، غاية الأمر أنه يجب على المكره أن يدفع الى المكره ما يكفيه شره ، وأما احتسابه من حق الفقراء فلا ، ومن هنا يعلم أن الإكراه على تعيين قسمة أحد الشريكين لا ينفع في التعيين.

فيها : إن ذلك اجتهاد في مقابل النص. نعم هو مقتضى القواعد الأولية التي يجب الخروج عنها بظواهر النصوص المتقدمة (٢).

هذا كله في حكم الأخذ من الجائر مما يأخذه باسم الزكاة والخراج.

__________________

(١) يشير إلى صحيحة العيص المتقدمة ص ٣١٨.

(٢) راجع : ص ٣١٨ ـ ٣٢٠ من هذا الكتاب.

٣٢١

واما حكم جوائزه مما لا يعلم كونه منهما بل جوائز الظالم مطلقا ، فلا يخلو : إما أن يعلم بكونه حراما بعينه ، أو يعلم بكونه حلالا كذلك ، أو لا يعلم شيئا منهما بل هو مشتبه الحال.

أما الأول فلا إشكال في حرمة أخذه وتناوله إلا مع قصد إرجاعه إلى مالكه مع التمكن منه والتصدق عنه مع عدمه ، فيجوز ذلك ـ حينئذ ـ بل يستحب ويكون أمانة في يده لا يضمنها إلا مع التعدي أو التفريط ، ومع عدم قصد ذلك يضمنه لو تلف ولو بغير تفريط مطلقا ، ولو علم بها بعد القبض ، لأن يده ـ حينئذ ـ عادية والقبض لمصلحته.

أما لو تلف في يده مع سبق القبض على العلم بالحرمة مع القصد المذكور عنده ، ففي ضمانه لعموم «على اليد» وعدم منافاة جواز التصرف للضمان ، وعدمه لجواز التصرف مع قصد الإحسان على المالك بالفرض : قولان ، أقربهما الأول.

وبالجملة ، فصور المسألة في الضمان وعدمه أربع ، لأن المجاز بذلك : إما أن يقصد الإرجاع إلى المالك ، أو لا. وعلى التقديرين : إما أن يعلم بالحرمة قبل القبض ، أو بعده.

لا إشكال في الضمان مع عدم القصد ـ مطلقا ـ ولو كان العلم بها بعد القبض لكونه غاصبا ـ حينئذ ـ كما لا ينبغي الإشكال في عدمه معه لو سبق العلم بها عليه ، لأنه أمين محسن فلا سبيل عليه. وكون القبض ـ حينئذ ـ حسبيا مأمورا به من الشارع رعاية لمصلحة المالك وعدم تضرره ، فكيف يكون ذلك بتضرر القابض حسبة ، وهل هو إلا من دفع الضرر بالضرر المساوي له في درجة الملاحظة.

وفي ضمانه معه ـ لو قبض ثم علم بها ـ قولان : اختار ثانيهما في (المسالك) حيث قال : «والأقوى التفصيل وهو أنه ان كان قد قبضها

٣٢٢

من الظالم عالما بكونها مغصوبة ضمن واستمر الضمان وإن أخذت منه قهرا وإن لم يعلم حالها حتى قبضها ثم تبين كونها مغصوبة ولم يقصر في إيصالها إلى مالكها ولا في حفظها ، لم يضمن ، والفرق بين الحالتين واضح فان يده في الأول عادية فيستصحب حكم الضمان كما لو تلف بغير تفريط ، وفي الثاني يد أمانة فيستصحب كما لو تلف بغير تفريط» (١)

وتبعه على ذلك جدنا العلامة ـ رحمه الله ـ في (المصابيح) حيث قال : «ولو علم بالتحريم لم يجز الأخذ إلا بقصد الإعادة على المالك فيجوز ـ حينئذ ـ بل يستحب ، ولا يضمن على تقدير التلف لجواز التصرف كما لو قبضها ثم علم بالتحريم» انتهى (٢).

وظاهرهما ـ بل صريح الأول ـ عدم الضمان رأسا. وظاهر السيد جدنا ـ رحمه الله ـ في (الرياض) التوقف في المسألة لاقتصاره فيها على نقل القولين من دون اختيار لأحدهما (٣).

والأقوى هو الأول ، لما عرفت من عموم «على اليد» مع منع كونها عند القبض والاستيلاء عليه أمانة. كيف ولم يقبضها إلا لمصلحة نفسه وأقدم في الأخذ على كونها له.

ويؤيده ـ بل يدل عليه ـ : إطلاق كلامهم بالضمان في مسألة تعاقب الأيدي من غير تفصيل بين العلم بالغصب والجهل به ، مستمرا كان

__________________

(١) راجع : كتاب التجارة منه ضمن مسائل : السادسة ـ جوائز الجائر ، في شرح قول المحقق : ولا يجوز إعادتها ..

(٢) راجع منه : كتاب المتاجر ، مصباح (يجوز أخذ الجوائز من الظالمين والتصرف فيها.).

(٣) راجع ذلك في كتاب التجارة في شرح قول المحقق : السادسة : جوائز السلطان ..

٣٢٣

الجهل به أو لا ـ ورجوع المالك على من شاء منهم.

نعم ربما يحتمل القول بسقوطه عند العلم به مع قصد إرجاعه إلى المالك لكون القبض ـ حينئذ ـ مأذونا فيه من الشارع ويكون بالقصد المزبور محسنا على المالك ، فيتبدل عنوان اليد من الضمان إلى الأمانة الشرعية التي هي من مسقطات الضمان ، بل هو أقوى من القول بعدم الضمان ـ أصلا.

ولكنه مع ذلك ، فيه ـ أيضا ـ : منع تبدلها إلى الأمانة بمجرد العلم ، مع القصد المزبور وإن كان مأذونا فيه. أما بناء على أن القبض المستدام قبض واحد ، بناء على بقاء الأكوان وعدم احتياج الباقي الى المؤثر ، فواضح ، لأنه قبض مضمون عليه بالفرض ، فيستصحب ضمانه ، وأما بناء على عدم بقاء الأكوان وأنه قبوضات متعددة متجددة ، ففيه ـ أيضا ـ إن القبض المأذون فيه المتجدد عند العلم ـ لو سلم ـ فغايته أنه لا يوجب ضمانا ولا ينافي ثبوته بالقبض الأول.

والذي يجدي في المقام : كونه مسقطا للضمان ، لا مجرد عدم كونه موجبا له ، إلا بدعوى الملازمة الممنوعة بين عدم سببيته للضمان وبين سببيته لعدمه ، وليس كل مأذون فيه أمانة شرعية ، فإن الإذن لازم أعم للأمانة ، لا مساويا لها.

هذا ، وهل يتقدر الفحص المتوقف عليه الإيصال الواجب إلى سنة تنزيلا له منزلة اللقطة ، لخبر حفص بن غياث : «سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا ـ واللص ـ مسلم ـ : هل يرده عليه؟ فقال : لا يرده عليه فان أمكنه أن يرده على صاحبه فعل ، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة. يصيبها ، فيعرفها حولا ، فإن أصاب صاحبها ردها عليه وإلا تصدق بها ، فان جاء صاحبها

٣٢٤

بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم ، فان اختار الأجر فله الأجر ، وان اختار الغرم فله الغرم» (١) مع التعدي عن مورده من اللص إلى غيره ، ومن الوديعة إلى غيرها.

أو الى حد اليأس لكونه الأصل فيه ، بعد الاقتصار في الخبر على مورده؟ وجهان.

ولو توقف الفحص على الأجرة ، ففي وجوبها عليه ـ مطلقا ـ ويرجع بها مع الجهل على من غرّه ، أو ما لم يكن أمينا بأن كانت يده يد ضمان مطلقا ، ومع الغرور يرجع به الى الغار ، أو في خصوص ما لو كانت يده عدوانا إثما؟ فيه احتمالات. فان عرف المالك بعينه ولو بعد الفحص عنه دفعه اليه مع بقاء العين ، ومع التلف دفع بدله المثل أو القيمة لو كانت مضمونة عليه ، وإلا فإن كان مشتبها بين محصورين تخلص عنه بالصلح معهم ، فان امتنعوا عنه توصل بالدفع الى الحاكم ليجبرهم عليه ، ويحتمل التعيين بالقرعة ، لأنها لكل أمر مشكل. وان كان في غير المحصورين ، أو كان مجهولا بالكلية ، تخير بين الدفع الى الحاكم ـ مطلقا ـ لأنه وليه فيكون يده يد المالك المولى عليه ، وبين التصدق عنه بنفسه كذلك ، لورود الأخبار المستفيضة بالتصدق عنه ـ حينئذ ـ فيستفاد منها ثبوت ولاية التصدق للمتصدق أيضا ، كما أن ولاية تعيين الزكاة وعزلها للمالك.

ويحتمل التفصيل بين العين المتصدق بها وبين الدين الثابت في الذمة ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ـ أبواب القضايا والأحكام ، ٩١ باب ما يكون حكمه حكم اللقطة حديث تسلسل (٨٥٦ ـ ١) ج ٣ طبع النجف الأشرف بسنده : روى سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث ، وفي آخر الحديث : وإن اختار الغرم غرم له وكان الأجر له.

٣٢٥

لأنه كلي لا يتشخص إلا بقبض الديان أو وكيله ، فتعين فيه بالخصوص دفعه الى الحاكم ، وبقبضه يتعين كونه للمالك فيتصدق بماله عنه.

اللهم إلا أن يستفاد من إطلاق أخبار الصدقة ثبوت ولاية تشخص العين للمديون هنا ـ أيضا ـ ولا ريب أن الأحوط دفعه الى الحاكم مطلقا لما يظهر من بعض الروايات : أن مجهول المالك مال الإمام ، كرواية داود بن ابي زيد : «إني أصبت مالا ، واني قد خفت منه على نفسي فلو أصبت صاحبه دفعته اليه وتخلصت عنه ، فقال أبو عبد الله (ع) : لو أصبت كنت تدفعه اليه؟ فقال : إي والله ، فقال : والله ما له صاحب غيري ، قال فاستحلفه أن يدفعه الى من يأمره ، فحلف ، قال : فاذهب وقسمه بين إخوانك ولك الأمن مما خفته ، قال : فقسمه بين إخوانه» (١).

ولا يجب عليه الحفظ والوصية به ، والاحتياط بحفظه للمالك لعله خلاف الاحتياط لأدائه ـ غالبا ـ الى حرمانه عن العين والبدل ، بناء على عدم عموم المنزلة في خبر حفص بن غياث المتقدم ، وأن التنزيل منزلة اللقطة في حد الفحص إلى سنة والتصدق بعده ، مؤيدا بخلو أخبار حكم مجهول المالك بالصدقة عن حفظه للمالك ، كما ورد الأمر به ، ولو تخييرا في اللقطة.

فما عن الحلي : من إبقائها أمانة في يده والوصية بها مع كونها معرضا للتلف ، ضعيف لما عرفت.

وكيف كان ، فلو ظهر المالك بعد التصدق فله الخيار بين إمضاء

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه للصدوق ـ رحمه الله ـ في أبواب القضايا والأحكام ٩٠ باب اللقطة والضالة ، حديث تسلسل (٨٥٤) ـ ١٧ ـ ج ٣ طبع النجف الأشرف. وفي بعض النسخ (بين أصحابه) بدل (بين إخوانه).

٣٢٦

الصدقة وقبول الأجر والثواب ، وبين ردها وغرامة المتصدق المثل أو القيمة. وليس له الرجوع على المتصدق عليه ولو مع بقاء العين في يده ، لأصالة لزوم الصدقة وثبوت الضمان على المتصدق بعد التصدق مطلقا ، ولو كانت يده أمانة ، للأخبار المستفيضة المصرحة بذلك ، وقاعدة الإتلاف مع إمكان المناقشة فيها بالخصوص في المقام ، لكونه من الإتلاف له لا الإتلاف عليه. ولذا يمكن أن يقال : لو لا الاخبار كان مقتضى القاعدة عدم الضمان بعد الأمر به ، بناء على أن التصدق به نوع إيصال إلى المالك ، ونحو من الطرق الموصلة اليه.

ولو مات المالك ، ففي قيام وارثه في الخيار مقامه وعدمه احتمالان ، لكلي منهما وجه.

ولو مات المتصدق (يعني من عليه التصدق) قبل التصدق به ، فان كانت العين باقية وظهر المالك أخذها وان كانت تالفة مضمونة عليه ولم يتصدق ببدلها حتى مات ، رجع به على تركته مطلقا ، ولو بعد القسمة ، وفي ضمانه بعد الصدقة وإجراء حكم ديونه عليه لو أراد المالك بدله المالي : وجهان ، والأقوى العدم ، بل تعين عليه قبول الأجر والثواب ، سيما بناء على ثبوت الحق للمالك بظهوره أو بمطالبته ، لا عند التصدق به ، كما عليه غير واحد من الأصحاب. وتفصيل الكلام موكول الى محله في باب اللقطة.

ومما ذكرنا يظهر حكم الظالم نفسه فيما عليه من المظالم المجهولة المالك فإنه يجبره الحاكم في أخذ المظالم منه في حال حياته ويتصدق بها عن أربابها وتخرج من أصل تركته بعد موته كالدين مقدما على مواريثه ووصاياه ، خلافا لشيخنا الأكبر كاشف الغطاء في شرحه على (القواعد) حيث قال ما لفظه : «عازما على الضمان أي بعد الصدقة. ثم الأداء لو ظهر فاختار انه يرد اليه ثواب الصدقة ويأخذ ماله ولا يحسب من ديونه ـ الى

٣٢٧

أن قال ـ : وتؤخذ من الظالم قهرا مع الإمكان ، إن بقيت في يده ، وعوضها مع التلف ، ويقاص بها من أمواله ما لم يجبر على الأخذ ـ على الأقوى ـ مع حياته ، ولو كانت ودائع على نحو ما سيجي‌ء في كتاب الغصب ، إلا أن ما في يده من المظالم ثم تلف لا يلحقه حكم الديون في التفريع على الوصايا والمواريث ، لعدم انصراف الدين اليه وإن كان منه ، وبقاء عموم الوصية والمواريث على حاله ، والسيرة المأخوذة يدا بيد من مبدء الإسلام إلى يومنا هذا ، فعلى هذا لو أوصى بها بعد التلف خرجت من الثلث» انتهى.

وتبعه على ذلك ولده في (أنوار الفقاهة) حيث قال : «وضمان المتصدق للصدقة لو ظهر أهلها لا يجري فيه حكم الدين في حياته ، ولا يجب أن يوصي به ويعزل عند وفاته ، نعم لو ظهر أهلها بعد موته وقبل تلف التركة قوي جواز الرجوع إلى التركة والأخذ منها ، وأما بعد التلف فلا يبعد سقوط حق الرجوع بها ، وأما الظالم نفسه فيرجع عليه بما أخذه عينا مع وجود أهله ، ولو أتلفه رجعوا عليه بمثله أو قيمته حيا أو ميتا ، ويكون عليه كسائر الديون ، وان كان مجهولا رجع الحاكم عليه في حياته ، وأما بعد موته فالأظهر أنه لا يؤخذ من تركته ولا يحتسب كديونه الخاصة بحيث تقدم على وصاياه ومواريثه ، بل لو اوصى بها خرجت من الثلث» انتهى.

قلت : دعوى الانصراف غير مسلمة ، ولو سلمت فمن الانصرافات البدوية التي لا يعول عليها ، والسيرة الكاشفة ممنوعة ، والمنبعثة عن عدم المبالاة غير مجدية.

فظهر بما ذكرناه حكم صور المسألة ، وان الأقوى في إجراء حكم الدين عليه ، وعدمه التفصيل بين ما قبل الصدقة وبعدها. وفي الثانية :

٣٢٨

بين ظهور المالك في حياة المتصدق وبعد موته ، وأنه دين تجري فيه أحكام ديونه قبل التصدق ـ مطلقا ـ ظهر المالك أم لم يظهر ، في حياته أو بعد موته ـ ولا كذلك بعد الصدقة إلا فيما لو ظهر المالك في حال حياته ، فله الرد والرجوع بالبدل المالي ، للأخبار مع الاقتصار فيها على ظاهرها من الرجوع عليه في حياته وأنه القدر المتيقن من ثبوت الحق للمالك بظهوره أو بعد مطالبته.

ثم إن مصرف هذه الصدقة ـ كغيرها ـ من الصدقات ـ هو فقراء المؤمنين حتى لو كان المالك المجهول من غير أهل الحق من مخترمي المال ، لأنه المتبادر منها ولإطلاق الأمر بها ، وإن لم ينتفع بثوابه الأخروي ، لإمكان تعويضه ببدله الدنيوي أو التخفيف عن عذابه في الجحيم ، كما هو المأمول من لطفه العميم.

وفي جواز التصدق بها على الهاشمي ، بناء على تحريم مطلق الصدقة الواجبة عليه لا خصوص الزكاة منها ، وعدمه : وجهان ، بل قولان.

ولعل الأقرب هو الأول ، لأنها من المندوبة على المالك ، وان وجب على من بيده المال دفعه صدقة ، فهو مما يجب دفعه صدقة ، لا من الصدقات الواجبة ، والفرق بينهما واضح.

أما الثاني وهو ما لو كان المأخوذ مما علم كونه حلالا بعينه ، فلا إشكال في حكمه من جواز التصرف فيه ، وإن كان يندب التنزه عنه لأنه موجب لمحبتهم ، فان النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها. ولما ورد في الصحيح : «إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله». ولو لا ما قبل من عدم القول بالكراهة لقلنا بها فيه ، وان كان لا ملازمة بينها وبين ترك المندوب ، بل لإشعار الصحيحة بها

٣٢٩

مع التسامح في أدلتها وجبلية النفوس ، المتقدمة.

أما الثالث وهو المشتبه بين كونه من الحلال أو الحرام أو منهما فلا كلام في كونه من الشبهة المحصورة ـ لو علم في أمواله محرما ـ وإن أصر شيخنا في (الجواهر) بخروجه عنها ـ موضوعا ـ وإن أدرجه في الشبهة غير المحصورة بملاحظة كلي الظالم وصنفه من كل ذي مال مختلط حرامه بحلاله كالعشار والسارق والمرابي والمرتشي ومن لم يخرج الحقوق ونحوهم الذي منه الجائر ـ فإن ما في أيدي كل واحد من هؤلاء ـ وان كان من الشبهة لو اشتبه الحرام منه بالحلال ـ إلا ان المجموع من حيث المجموع الملحوظ بلحاظ الوحدة صنفا مخرج لها من المحصورة الى غير المحصورة. وإن كان بالنظر الى آحاد أفرادهم كان من المحصورة حتى صارت غير محصورة ، فيجري عليها حكم عدم الاجتناب.

وفيه ـ مع لزوم فتح هذا الباب سد باب الشبهة المحصورة ـ غالبا ـ أنه ـ حينئذ ـ من شبهة الكثير في الكثير المساوي لحكم المتصف بضده في وجوب الاجتناب عنه ـ على الأقوى ـ كما تقرر في محله. كما أنه لا كلام أيضا في خروجه ـ في الجملة ـ عن حكم الشبهة المحصورة ، فيجوز تناول ما يعطيه والمعاملة معه عليه إجماعا بقسميه.

فمن منقوله : ما حكاه جدنا العلامة في (المصابيح) حيث قال : «يجوز أخذ الجوائز من الظالمين والتصرف فيها ما لم يعلم حرمتها ـ بعينها ـ بالإجماع والنصوص المستفيضة» انتهى (١) ـ المعتضد بدعوى غير واحد ـ ومنهم السيد جدنا في الرياض ـ عدم الخلاف فيه ، مضافا

__________________

(١) راجع ـ كتاب التجارة منه ، مصباح : يجوز أخذ الجوائز من الظالمين ..

٣٣٠

الى النصوص المستفيضة ـ بل المتواترة معنى ، الصريحة في ذلك (١).

إنما الكلام في خروج المقام عن حكم الشبهة المحصورة مطلقا ، أو في خصوص ما إذا حصل منهم تصرف خاص كإعطاء وبيع ونحو ذلك : وجهان :

قال شيخنا في (الجواهر) : «إنما الكلام في أن ذلك يقتضي خروج ما في أيديهم وتحت تصرفهم ـ وان علم اشتماله على محرم ـ عن حكم الشبهة المحصورة ، فيجوز المقاصة منه والأكل للمارة والتصرف بالفحوى ونحو ذلك حتى يعلم الحرام منه بعينه فيترك أو يختص ذلك بما إذا حصل تصرف خاص منهم كإعطاء وبيع وإذن ونحو ذلك مما يحتمل فيه القصد إلى الحلال ، فلا تجوز المقاصة وأضرابها ، ويجوز الأخذ مع مقارنة أحد تلك الأفعال المحمولة على الصحة شرعا ـ من غير فرق بين ما كان في صندوق فيه غصب ، أو ليس كذلك ، أو دار أو غيرها ما لم يعلم إقدامه على المشتبه المحصور عنده : احتمالان. ظاهر الأستاد في شرحه : الثاني منهما. قال : ولو لم يعلم كونها ـ أي الجوائز ـ غصبا ، جاز أخذها من الجائر مطلقا ، للإجماع والأخبار ، ومن غيره ما لم يعلم إقدامه على المشتبه المحصور ، لقضاء اليد وأصالة الصحة ، فيجوز الأخذ ـ حينئذ ـ وإن جاء بها من دار أو دكان أو صندوق فيه غصب ، أو أشار الى معين من جملة كذلك ، ولا يعلم حصوله في المدفوع والمعين إلا أن التجنب مع الانحصار من شيم الأبرار ، وتختلف مراتب الرجحان باختلافه ، ولو أشار الى مبهم قوي المنع كالأخذ للمقاصة والأكل للمارة ـ لو جاز ـ

__________________

(١) راجع هذا الموضوع في كتاب التجارة منه ـ في شرح قول المحقق : السادسة : جوائز السلطان الظالم محرمة إن علمت حرمتها بعينها ، وإلا فهي حلال ..

٣٣١

وللدخول تحت رفع الجناح إلا بعلاج ، عملا بالأصل في غير محل النص. والظاهر إرادته من الإطلاق في الجائر بالنسبة إلى كونه سلطانا أو عاملا أو عشارا ، لا أن المراد ـ وان علم إقدامه على المشتبه المحصور حتى يكون الاشتراط في كلامه مختصا بغير الجائر ، بل الظاهر تعميمه لهما ، كما يقضي به التأمل لتمام كلامه.

ويمكن أن يريد اختصاص الجائر بهذا الحكم ، وهو جواز التناول منه ، وإن علم إقدامه على المشتبه المحصور ، كما هو مقتضى حال الجائر للنصوص ، وغيرها مما ستعرفه. وعلى كل حال ، فوجهه : ما أشار اليه.

ويحتمل الأول ، بل ربما أوهمه التقييد بالعين في المتن ، والنافع ، ومحكي نهاية الأحكام والدروس والكفاية ومعقد إجماع المصابيح» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه (١).

وقال في (المسالك ـ في شرح قوله : جوائز الظالم. إلخ): «التقييد بالعين إشارة إلى جواز أخذها. وان علم ان في ماله مظالم كما

__________________

(١) راجع منه : كتاب المتاجر في شرح قول المحقق : المسألة السادسة ـ جوائز الجائر .. والنصوص المشار إليها في هذا الموضوع كثيرة ، منها ـ صحيح أبي ولاد : «قلت لأبي عبد الله (ع) : ما ترى في الرجل يلي أعمال السلطان ليس له مكسب إلا من أعمالهم ، وأنا أمر به وأنزل عليه فيعطيني ويحسن إلي ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة ـ وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : «خذ وكل لك المهنا وعليه الوزر».

وصحيح محمد بن مسلم وزرارة : قال : «سمعناه يقول : جوائز السلطان ليس بها بأس» وغيرهما كثير.

٣٣٢

هو مقتضى حال الظالم ، ولا يكون حكمه حكم المال المختلط في وجوب اجتناب الجميع للنص على ذلك» انتهى (١).

قلت : لم أجد وجها لتخصيص القاعدة في حكم الشبهة المحصورة من وجوب الاجتناب عن أطرافها ، بعد تنجز الخطاب بالاجتناب عن الحرام منها المشروط بابتلاء المكلف بجميع أطرافها بما يعطيه الجائر وغيره من الجوائز وغيرها ، بعد أن كان غير الجائزة من أمواله ـ مثلا ـ خارجا عن ابتلاء المجاز ، فلا يكون التكليف بالحرام ـ على تقدير أن يكون غيرها منجزا في حقه ـ حتى يجب الاجتناب عن المشتبه به من باب المقدمة ، فالقاعدة لا تقتضي الاجتناب عنه بعد اختصاص الابتلاء به ، وإن كان من الشبهة المحصورة لانتفاء شرط جريان حكمها فيه ، وهو الابتلاء بجميع أطرافها المفروض عدمه ـ هنا.

نعم ، لو فرض الابتلاء بأطرافها ، كما لو أراد المقاصة من أمواله ، أو أكل المارة حيث جاز دخوله تحت رفع الجناح في قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا). الآية (٢) ، أو فيما لو أشار المجيز الى غير معين من أمواله المشتملة على الغصب الموضوعة في صندوق أو قبة ونحوها أو الى مبهم من كيس أو صرة من الصرر المتعددة المشتبه حلالها بحرامها

__________________

(١) راجع : كتاب التجارة منه ، مسائل .. السادسة ـ جوائز الجائر إن علمت بعينها فهي حرام ..

(٢) سورة النور آية ، ٦١. وتمام الآية (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ، وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً)

٣٣٣

وجب الاجتناب عنها بالكلية وحرم أخذ شي‌ء منها ، ولم يعلم ورود دليل على الجواز في أمثال المقام بعد أن كانت النصوص في حل جوائز الجائر وصحة معاملاته واردة فيما خص الابتلاء به من أمواله ، لا مطلقا.

هذا ، والوجه هو ما ذكرناه ، لا ما ذكره مشايخنا من الوجه المتقدم ذكره في كلامهم : من حمل الفعل على الصحة ، ومنه يظهر جواز الأخذ منه ولو علم الاقدام منه على المشتبه عنده ، خلافا لما تقدم من مشايخنا من اشتراطه بما لم يكن الاقدام كذلك ، ضرورة وضوح الفرق بين المدركين : ما هو المدرك عندنا ، وما هو المدرك عندهم.

وإنما يتجه اعتبار ذلك بناء على الثاني دون الأول.

ثم إن مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى عدم الفرق في الحكم المذكور بين ما علم ثبوت مال حلال للظالم أو لا ، وان كان ربما يوهم اعتبار ذلك فيه بعض الأخبار ، مثل ما عن (الاحتجاج) : «عن الحميري : أنه كتب إلى صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ يسأله عن الرجل يكون من وكلاء الوقف مستحلا لما في يده ولا يتورع عن أخذ ماله ، ربما نزلت في قرية ، وهو فيها ، أو أدخل منزله ـ وقد حضر طعامه ـ فيدعوني إليه ، فان لم آكل من طعامه ـ عاداني ، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدق بصدقة ، وكم مقدار الصدقة؟ وإن أهدى إلى هذا الوكيل ، فيدعوني إلى أن أنال منها ، وأنا أعلم أن الوكيل لا يتورع عن أخذ ما في يده ، فهل عليّ شي‌ء ان أنا نلت منها؟ الجواب : إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه ، واقبل بره ، وإلا فلا» (١).

__________________

(١) الحديث مفصل يذكره الطبرسي في (الاحتجاج) ج ٢ ص ٣٠٦ طبع النجف الأشرف.

٣٣٤

إلا أنه ـ لقصوره وعدم مقاومته لما تقدم (١) ـ محمول على ما لو حصل منه العلم بالحرمة.

هذا ، ولكن يستحب التنزه عن نحو هذه الأموال ، بل يكره تناولها بلا خلاف أجده فيه.

مضافا الى جبلية النفوس على حب من أحسن إليها ، وإلى النصوص المستفيضة ، نحو قوله : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» (٢) وقوله في الصحيح المتقدم : «ان أحدكم لا يصيب من دنياهم.» وفي الخبر : عن الورع عن الناس فقال : «الذي يتورع عن محارم الله عز وجل ويتجنب هؤلاء ، وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه» وقوله : «من ترك الشبهات نجا من الهلكات» الى غير ذلك (٣).

إلا أن الكراهة ترتفع بأمور :

منها ـ إخباره بالحلية أو بما يفيدها كقوله : هو من مال تجارتي ـ كما ادعاه غير واحد من الأصحاب. بل في الرياض : «نفى الريب عنه حينئذ» (٣). والوجه فيه : هو ما دل على قبول قول ذي اليد. والأولى تقييده بما إذا كان مأمونا في قوله ، وإلا كان قوله كيده. ومنها ـ إخراج الخمس منه ، لفحوى ما دل على تطهيره المختلط

__________________

(١) من الأخبار المجوزة. راجع عنها ص ٣٠٥ ـ ٣٠٨ من هذا الكتاب.

(٢) راجع : كشف الخفاء للعجلوني : ج ٢ رقم الحديث (١٣٠٧).

(٣) من أمثال هذه الأخبار الدالة على التورع والحيطة ، يذكرها الشيخ الأنصاري وعامة الفقهاء في (المكاسب المحرمة : باب جوائز السلطان وعماله) ، ويذكر قسما منها الكليني في باب عمل السلطان وجوائزهم.

(٤) راجع منه : كتاب التجارة ، المكاسب المحرمة ، باب جوائز السلطان في شرح قول مصنفه : جوائز السلطان الظالم محرمة ان علمت حرمتها بعينها ، وإلا فهي حلال ..

٣٣٥

بالحرام يقينا ، وقد تمسك بالأولوية المزبورة جماعة ، منهم العلامة في (المنتهى) وجدنا بحر العلوم في (المصابيح) (١) وجدنا السيد في (الرياض) (٢).

قيل : ويمكن الخدشة في أصل الاستدلال بأن الخمس إنما يطهر المختلط بالحرام حيث أن بعضه حرام وبعضه حلال ، فكأن الشارع جعل الخمس بدل ما فيه من الحرام ، فمعنى تطهيره تخليصه بإخراج الخمس مما فيه من الحرام ، فكان المقدار الحلال طاهرا في نفسه الا أنه قد تلوث بسبب الاختلاط مع الحرام بحكم الحرام ، وهو وجوب الاجتناب فإخراج الخمس مطهر له عن هذه القذرة العرضية. وأما المال المحتمل لكونه بنفسه حراما وقذرا ذاتيا ، فلا معنى لتطهيره بإخراج خمسة ، بل المناسب لحكم الأصل ـ حيث جعل الاختلاط قذرة عرضية ـ كون الحرام قذر العين ، ولازمه : أن المال المحتمل الحرمة غير قابل للتطهير ، فلا بد من الاجتناب عنه. انتهى.

وهو حسن ، غير أنه منقوض عليه في المختلط بالحرام يقينا بما لو كان مقدار الحرام في الواقع أكثر من الخمس المدفوع منه ، فإن الزائد عليه ـ حينئذ ـ من قذر العين المفروض تطهيره بدفع بعضه.

فالأحسن : التمسك بالأولوية ، سيما مع كون الاحتمال في المشتبه ثلاثيا مرددا بين كونه حلالا أو حراما أو مشتملا عليهما.

بل ، وأولى منه : التمسك بها فيما لو كان ثنائيا مرددا بين الأول

__________________

(١) ذكر ذلك في كتاب التجارة ، مصباح : يجوز أخذ الجوائز من الظالمين ..

(٢) ذكر ذلك في كتاب التجارة ـ في شرح قول المحقق : جوائز الظالم محرمة ..

٣٣٦

والثالث ، فافهمه.

ويدل على نفي الكراهة به من النصوص : الموثق المسؤول فيه عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال عليه السلام : «لا إلا أن لا يقدر فان فعل ، فصار في يده شي‌ء فليبعث بخمسه الى أهل البيت» (١).

فان موردها ـ وان كان ما يقع في يده بإزاء العمل ـ إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين ما يقع في اليد على وجه الجائزة.

ومنها ـ ما لو قصد بذلك مواساة الاخوان وصرفها في حوائجهم ، بل في مطلق المصالح التي تكون في نظر الشارع أرجح من الاجتناب عنه كما ورد عن الامام الكاظم (ع) ـ فيما أهدي إليه من قوله : «لو لا أني أرى من أزوجه من عزاب آل أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلته» (٢).

وعلى ذلك ينزل ما ورد من قبولهم عليهم السلام لجوائز الأمويين والعباسيين ، أو على الضرورة ، أو بيان الجواز ، أو على كونه تخليصا لأموالهم المغصوبة ، أو غير ذلك من الوجوه التي هم أعرف بها ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

__________________

(١) ذكره (الرياض ج ١) المصدر نفسه.

(٢) يذكره الشيخ الأنصاري في (مكاسبه المحرمة باب جوائز السلطان) وعامة الفقهاء في نفس الباب.

٣٣٧

خاتمة في الأراضي المندرسة

وهي التي خربت بعد أن كانت معمورة مملوكة لمالكها فلا تخلو إما أن يكون المالك قد ملكها بغير الأحياء من الأسباب المملكة والنواقل الشرعية ، ولو بالاغتنام كالمفتوحة عنوة ، أو ملكها بالإحياء.

فإن كان الأول فالذي يظهر من عبارة غير واحد من الأصحاب التسالم فيه على بقاء الملكية ، وعدم زوالها بالخراب. بل في (الجواهر) عن التذكرة : دعوى عدم الخلاف فيه. بل عنه في (المسالك) و (الروضة) : نقل الإجماع عليه (١).

قال في (الروضة) : «ولو جرى عليه ملك مسلم معروف فهو له ولوارثه بعده كغيره من الاملاك ، ولا ينتقل عنه بصيرورته مواتا مطلقا لأصالة بقاء الملك ، وخروجه يحتاج الى سبب ناقل ، وهو محصور وليس منه الخراب. وقيل : يملكه المحيي بعد صيرورتها مواتا ، ويبطل حق السابق ـ الى أن قال ـ : وهذا هو الأقوى. وموضع الخلاف ما إذا كان السابق قد ملكها بالإحياء ، فلو كان قد ملكها بالشراء ونحوه لم يزل ملكه عنها إجماعا ـ على ما نقله العلامة في التذكرة عن جميع أهل العلم ..» انتهى (٢).

وقال في (المسالك) : «إذا جرى على الأرض ملك مسلم معروف ومن في حكمه ، فما دامت عامرة فهي له ولورثته بعده ، وإن ترك

__________________

(١) راجع ذلك ـ مفصلا ـ في خاتمة كتاب الجهاد منه ـ في شرح قول المحقق : كل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها كان أحق بها.

(٢) شرح اللمعة للشهيدين ، أوائل كتاب (إحياء الموات).

٣٣٨

الانتفاع بها أصلا ـ إجماعا ـ فإن خربت ، فان كان انتقالها اليه بالقهر والغلبة كالمفتوح عنوة بالنسبة إلى المسلمين أو بالشراء أو العطية ونحوها ، لم يزل ملكه عنها ـ أيضا ـ إجماعا ، على ما نقله في (التذكرة) عن جميع أهل العلم ، وإن ملكها بالإحياء ثم تركها حتى عادت مواتا ، فعند المصنف ـ وقبله الشيخ وجماعة ـ أن الحكم كذلك ـ ثم استدل عليه بأدلة ـ الى أن قال ـ : وذهب جماعة ـ منهم العلامة في بعض فتاوى كتبه ، ومال إليه في التذكرة ـ إلى صحة إحيائها وكون الثاني أحق بها من الأول ، ثم استدل على هذا القول بأدلة ـ ثم قال بعدها ـ : وهذا القول قوي لدلالة الروايات الصحيحة عليه» انتهى (١).

وفيما حضرني من نسخ (التذكرة) ما هذا لفظه : «لو لم تكن الأرض التي في بلاد الإسلام معمورة في الحال ، ولكنها كانت قبل ذلك معمورة جرى عليها ملك مسلم ، فلا يخلو : إما أن يكون المالك معينا أو غير معين. فان كان معينا ، فاما أن ينتقل اليه بالشراء أو العطية وشبههما أو بالإحياء ، فإن ملكها بالشراء وشبهه لم تملك بالاحياء ، قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه» انتهى.

وليس فيه دعوى عدم الخلاف ، كما حكاه عنه في الجواهر ، ولو سلم ذلك فليس بصريح في الإجماع ، وصريحه منقول عن ابن عبد البر ، ولا نعرفه ، ولعله من العامة. فإن تم في المقام إجماع ، وإلا فللمناقشة فيه مجال.

وأما الثاني وهو ما كانت مملوكة بالإحياء ، فاختلفت كلمات الأصحاب فيه على قولين بل أقوال. وصريح الروضة ، وظاهر المسالك ، وغيره ـ كما تقدم ـ حصر الخلاف بينهم في هذه الصورة. ولا أرى

__________________

(١) راجع هذا الموضوع ـ مفصلا ـ في أوائل كتاب إحياء الموات من المسالك.

٣٣٩

وجها للتفصيل بين الملكية الحاصلة بغير سبب الإحياء من النواقل الشرعية وبين الحاصلة بالإحياء وحصر موضع الخلاف في الثاني دون الأول ، إلا التشبث بذيل الأخبار تعبدا ان تم ، وهو غير معلوم كما ستعرف. كيف والنواقل الشرعية لا توجب إلا نقل ما كان للمنتقل عنه إلى المنتقل إليه.

فإن كانت الملكية الحاصلة للأول ملكية في الجملة وما دامت العمارة موجودة كالملكية بالإحياء ـ بناء عليه فيه ـ انتقلت كذلك الى من انتقلت اليه.

وان كانت الملكية دائمة ، فتنتقل كذلك ، فالعقود ونحوها من النواقل تنقل ما كان للأول الى الثاني ، ان دائما فدائما ، وان كان في الجملة ففي الجملة ، من غير فرق بين وجود الواسطة وعدمها وتعددها وعدمه ، والأغلب ـ بل الغالب ـ تنتهي سلسلة المملوكات صعودا إلى المملوكة بالاحياء ، وتتدرج الكيفية الحاصلة ـ أولا ـ في التنزل بالسلسلة الطولية بعينها الى حصول الخراب من دون زيادة في كيفية الملكية. اللهم إلا أن يكون منشأ الخلاف في المملوكة بالإحياء هو الاختلاف في كيفية سببية الإحياء في الموات المملوكة للإمام بالنقل ، وأنه هل يوجب الملكية ـ كما هو الظاهر من اللام في عموم «من أحيى أرضا ميتة ..» ـ (١) وكونه سببا تاما للملك ، بناء على سقوط إذن الامام في زمن الغيبة أو تحقق المستفاد من تلك العمومات ، أو لا يوجب إلا الأحقية ، بناء على كون اللام للاختصاص ، وان قلنا بمجازيته ، لقرينة ما دل من الروايات على دفع خراجه للإمام (ع) من أهل بيته وانتزاعها من أيديهم عند ظهوره ـ عجل الله فرجه ـ الا ما كان في أيدي شيعتهم فيقاطعهم عليه (٢) وإلا

__________________

(١) راجع هذا الحديث فيما مضى من هذا الكتاب ص ٢٧١.

(٢) راجع عنها ما مر من الكتاب ص ٢٦٦ ، ٢٦٨ ، ٢٧٤.

٣٤٠