بلغة الفقيّة - ج ١

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٥

أحق بها وهي لهم» (١).

ومنها : ـ صحيحة محمد بن مسلم ، قال : «سألته عن شراء أراضيهم فقال : لا بأس أن تشتريها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم ، فتؤدي فيها كما يؤدون فيها» (٢).

ومنها : ـ رواية أبي بصير ، قال : «سألت أبا عبد الله (ع) عن شراء الأرضين من أهل الذمة؟ فقال : لا بأس ان يشتري منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم. وقد كان رسول الله (ص) حين ظهر على خيبر وفيها ، خارجهم على أمر وترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها» (٣).

ومنها : ـ رواية محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (ع) ، قال : «سألته عن ذلك فقال : لا بأس بشرائها ، فإنها ان كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدى عنها كما تؤدي عنها» (٤).

ومنها : ـ رواية إبراهيم بن ابي زياد قال : «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الشراء من أرض الجزية؟ فقال : اشترها فان لك من الحق ما هو أكثر من ذلك (٥).

__________________

(١) تهذيب الشيخ : كتاب التجارات ، باب أحكام الأرضين ، حديث تسلسل ٦٥٥.

(٢) راجع : تهذيب الشيخ الطوسي ، كتاب التجارات ، ١١ باب أحكام الأرض ، حديث تسلسل ٦٥٦.

(٣) المصدر نفسه ، حديث تسلسل ٦٥٧.

(٤) المصدر نفسه ، حديث تسلسل ٦٦٢ ، باختلاف بسيط في بعض الكلمات.

(٥) راجع كفاية الأحكام للسبزواري كتاب الجهاد ، القول في أحكام الأرضين المبحث السابع.

٢٤١

ومنها ـ خبر حريز عن أبي عبد الله (ع) قال : «سمعته يقول : رفع إلى أمير المؤمنين (ع) : رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج فقال (ع) له ما لنا وعليه ما علينا ، مسلما كان أو كافرا ، له ما لأهل الله وعليه ما عليهم» (١).

ومنها ـ رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، عن رجل اشترى أرضا من أراضي الخراج ، فبني بها أو لم يبن ، غير أن أناسا من أهل الذمة نزلوها ، أله أن يأخذ منهم أجرة البيوت إذا أدوا جزية رءوسهم ، قال : يشارطهم ، فما أخذ بعد الشرط ، فهو حلال» (٢).

ومنها ـ ذيل رواية صفوان ـ المتقدمة ـ الناطقة بعد النهي عنه بقوله قلت : يبيعها الذي هو في يده ، قال : ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال : لا بأس ، اشتر حقه منها ، وتحول حق المسلمين عليه ، ولعله يكون أقوى عليه وأملأ بخراجهم منه» (٣).

وفيه ـ مع أن مورد جملة منها ـ بل أغلبها ـ أرض الجزية المحتمل فيها لإجمالها كون الأرض ملكا لهم ، وصولحوا على أنها لهم والجزية فيها على أعناقهم وإن سميت بالأرض الخراجية لكون الخراج للمسلمين ـ كما في الجواهر ـ (٤)

__________________

(١) راجع ـ كتاب البيع من الجواهر ـ في شرح قول المحقق (يجوز بيعها تبعا لآثار التصرف) والوافي ، أبواب أحكام الأرضين ، باب ١٥٩.

(٢) تهذيب الشيخ ، كتاب التجارات ، باب أحكام الأراضين ، حديث تسلسل ٦٦٣ ، و ٦٧٩ باختلاف الطريق إلى إسماعيل بن الفضل.

(٣) راجع الرواية ـ كاملة ـ في تهذيب الشيخ ، كتاب التجارات ، آخر باب أحكام الأرضين ، حديث تسلسل ٦٨٦ وتقدمت في هذا الكتاب ص ٢١٢.

(٤) راجع منه : كتاب الجهاد ـ في شرح قول المحقق : وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها ـ فإنه يرى ذلك بعد عرضه لقسم من الروايات المذكورة في المتن ـ وكتاب البيع ـ في شرح قول المحقق (ويجوز بيعها تبعا لآثار التصرف).

٢٤٢

وان كان فيه من البعد ما لا يخفى ـ :

أنها لا تدل على ملكيتها ـ مطلقا ـ حتى مع تجردها عن الآثار ، بل لعلها بعد التأمل يظهر كونها عند الشراء مشغولة بالآثار التي هي مملوكة للبائع ، ـ كما يومئ اليه ذيل خبر صفوان ـ بناء على أن المراد من (الحق) هو الآثار المبنية كيف ـ ومع التجرد عنها هو كغيره من المسلمين لا يملك بالخصوص شيئا حتى ينقله إلى المشتري.

ولو سلم ظهور بعضها ـ ولو بالإطلاق ـ إلى ما كانت مجردة عن الآثار فهو محمول على إرادة صورة الشراء ، ولو بضرب من التسامح بإرادة مجرد رفع ذي اليد يده عنها ، دون الشراء الحقيقي المتوقف على تملك البائع لها ، إذ لا بيع إلا في ملك. ومثل هذا النحو من اليد يعبر عنه في عرفنا ـ الآن ـ بـ «اللزمة» وليست هي يدا تفيد الملكية أو الاختصاص إذ لا شي‌ء له فيها حتى يوجب شيئا من ذلك.

حجة القول بتملكها ـ تبعا للآثار ، فيجوز بيعها كذلك : هو الجمع بين ما دل على المنع من الأخبار بحمله على بيعها مجردة عن الآثار ، وبين ما دل على الجواز بحمله على بيعها تبعا لها.

مضافا إلى دعوى السيرة القائمة بين الناس : خلفا عن سلف على بيعها وشرائها ، سيما الدور والعقارات ، ووقفها مدارس ومساجد أو غيرها غير وليس إلا لكون الأرض مملوكة لمالك الآثار بالتبع.

وفيه : إن هذا النحو من الجمع يتوقف على وجود شاهد له غير موجود في المقام ، ودعوى السيرة على ذلك على عهدة مدعيها ، سيما في الدور والعقار كالمزارع ونحوها.

والإنصاف : انه لا يستفاد من الأدلة ـ سيما بعد ملاحظة الأخبار الناهية ومقتضى الأصول الأولية ـ أزيد من ثبوت حق الاختصاص والأولوية

٢٤٣

بالتصرف في الأرض لمن له الآثار فيها ، فاذا بيعت الآثار المملوكة لبائعها لحق المشتري ما كان للبائع في نفس الأرض من حق الاختصاص والأحقية بالتصرف.

هذا ، ويشكل الحكم في الأوقاف العامة المبنية على الدوام ، سيما في المساجد لتعلق الغرض الأصلي في وقف المسجد بأرضها ، وان قلنا بملكية الأرض تبعا للآثار الموجب لزوال الوقفية بزوالها الموجودة في الأراضي المفتوحة عنوة ، سيما فيما كان معلوما منها كأرض العراق فضلا عما لو قلنا بعدم ثبوت غير حق الاختصاص فيها بترتب أحكام المسجدية ـ حينئذ ـ في نفس الأرض ، حتى مع وجود الآثار التي لم يتعلق الوقف ـ حينئذ ـ إلا بها ـ خاصة ـ وهذا الالتزام من الشناعة بمكان كشناعة الحكم ببطلان المساجد المبنية في العراق عند خرابها وزوال آثارها. مع أن السيرة القطعية قائمة بين الخواص والعوام على بقاء الأوقاف ـ خصوصا المساجد ـ على وقفيتها ، وترتيب أحكام مسجديتها وإن زالت الآثار بجملتها.

فلا بد من توجيه ذلك بما ينطبق على ما ذكرناه من حكم المفتوحة عنوة ، فنقول :

أما بناء على بقاء الملكية التبعية في الأرض ـ بعد زوال الآثار ـ : فواضح ، وأما بناء على زوالها بزوال الآثار ، فيمكن أن يوجه بوجوه :

الأول ـ : إن المساجد الموجودة في المفتوحة عنوة ـ مثلا ـ مما يشك في كون أرضها بالخصوص كانت عامرة عند الفتح حتى يملكها المسلمون والأصل يقتضي عدمه ، وهو كاف في الحكم بدوام الوقفية ، وان زالت الآثار. نعم ، لو فرض ـ نادرا ـ تحقق العلم بذلك في أرض مسجد ـ مثلا ـ فلا نمنع من انقطاع الوقفية بعد اندراس الآثار بالكلية ، ولا يلزم من الالتزام بذلك ـ لغاية ندرتها ـ شناعة ولا مخالفة للسيرة ، إذ نمنع قيامها

٢٤٤

على مثل ذلك ـ أيضا.

الثاني ـ إن اليد النوعية عليه كاليد الشخصية بالنسبة إلى ما هي عليه من الدلالة والأمارية والمساجد والمدارس ونحوها من الأوقاف العامة عليها يد المسلمين نوعا فيحكم بمفادها كما يحكم بمفاد اليد الشخصية ، بناء على اعتبارها في إفادة الملكية المطلقة بالنسبة إلى ما كانت هي عليه في المفتوحة عنوة ـ كما يأتي ـ بل اليد النوعية منتهية إلى اليد الشخصية ، وهي يد الواقف الممكن في حقه التملك على بعض الوجوه المصححة له.

الثالث ـ إن الملكية الكلية المرددة بين ما يقتضي دوامها ، كما لو كانت مواتا عند الفتح يملكها المحيي لها ـ دائما ـ لكونها للإمام عليه السلام دون المسلمين ، وبين ما لا يقتضي ذلك ، كما لو كانت محياة عنده مستصحبة وهي كافية في الحكم بالدوام ، ضرورة أن الحكم بانقطاع الوقف بعد زوال الآثار من أحكام الملكية المقيدة بها وجودا وعدما ، دون مطلق الملكية أو الملكية المطلقة.

غير أن هذا الوجه الأخير لا يتم على ما اخترناه من عدم ثبوت غير حق الاختصاص في الأرض ، إذ لا وقف إلا في ملك.

الأمر العاشر لا إشكال في ثبوت كون الأرض من المفتوحة عنوة ، أو من العامر في وقتها بما يفيد العلم : من التواتر والشياع والقرائن القطعية المفيدة له.

وهل يثبت بما يفيد الظن من الأمارات الظنية كقول المؤرخين وغيرهم؟.

وبعبارة أخرى : هل الظن يقوم مقام العلم وما بحكمه في ثبوت ذلك أو لا؟ ذهب جماعة ـ ومنهم شيخنا في الجواهر ـ الى عدم اعتبار الظن هنا.

وذهب غير واحد ـ ولعله الأكثر ـ إلى اعتباره.

حجة المنع عن العمل بالظن : الأصل ، وعدم الدليل عليه ،

٢٤٥

بل الدليل على عدمه من الكتاب والسنة ، فيجب الرجوع ـ حينئذ ـ مع عدم العلم أو ما في حكمه كالبينة ـ إلى ما تقتضيه الأصول المعتبرة.

وحينئذ ، فما كان الشك في كونها من المفتوحة عنوة ، أو لا ، فمقتضى الأصل عدمه وعدم تحقق ما هو سبب الملكية للمسلمين. وان كان الشك في عمارتها عند الفتح بعد إحراز كونها منه. فان علم كونها معمورة قبل الفتح وشك في خرابها قبله أو بعده كان الحياة مستصحبة إلى ما بعده فيكون للمسلمين ، وان لم يثبت به عنوان الموات بعده ، لكونه من الأصل المثبت ، إذ الحكم المزبور مرتب على الحياة عند الفتح وإن لم يعلم ذلك ، سواء علم بعمارته وشك في تقدمها على الفتح أو حدوثها بعده أو لم يعلم بها أصلا ، وكانت محتملة ، فالأصل يقتضي العدم.

لا يقال : إنا نعلم كون الأراضي منها ما هي عنوة وما بحكمها ، ومنها ما هي ليست كذلك واشتبه علينا وكان من الشبهة المحصورة من الكثير في الكثير ، فيجب الاجتناب عن جميعها ، إذ لا مجرى للأصول في أطرافها ـ على الأقوى ـ كما تقرر في محله. ومثله الشبهة في كونها عامرة أو غامرة عند الفتح لعدم الابتلاء بجميع أطرافها بالنسبة إلى من يجري الأصل في قطعة منها التي هي محل ابتلائه.

واستدل : في (الكفاية) على كفاية الظن مطلقا ، وقيامه مقام العلم بما نصه ـ في البلد المشكوك ـ : «فاما ان يجرى عليه خصوص حكم بلا أمر دال عليه أو امارة ظنية ، ففيه ترجيح حكم بلا مرجح ، أو يرجع فيه إلى الظن. وإذا بطل الأول تعين الثاني ، وأيضا ، إن كان المظنون فيه أمرا كان خلافه مرجوحا ، فاما أن يعمل فيه بالراجح أو بالمرجوح أو لا يعمل بشي‌ء منهما. لا وجه للثالث ، وهو ظاهر ، ولا وجه للعمل بالمرجوح ، فتعين المصير إلى الأول» انتهى موضع الحاجة من

٢٤٦

كلامه (١).

وفيه : إن العمل بما تقتضيه الأصول ليس من الترجيح بلا مرجح ، فضلا عن كونه ترجيحا للمرجوح بل هو من العمل بالدليل الشرعي ، واعتبار رجحان الظن أو الكلام ، سيما ومقتضى الأصل عدمه.

هذا ، ولعل الأقوى في المقام ونحوه مما يتعذر العلم وما بحكمه من البينة في تشخيص الموضوعات التي يترتب عليها الأحكام ـ الرجوع إلى الظن الحاصل من أهل الخبرة في تشخيصها سواء كان الشك في مفهوم الموضوعات أو في مصاديقها ، فان المرجع في ذلك العرف الخاص ، كما عليه بناء العقلاء في معرفة ما يتعلق به أغراضهم من ذلك ، ومنه الظنون الرجالية والحاصل من قول اللغويين.

ويرشد إليه صحيحة عمار الساباطي في معرفة المواقيت عن الصادق عليه السلام ، قال : «يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك» (٢).

وكلمة (يجزيك) ظاهرة في كفاية الظن ، إذ ما وراء العلم من شي‌ء.

__________________

(١) قبل هذه العبارة ـ كما في المبحث الثالث من كتاب الجهاد ـ القول في أحكام الأرضين «فإن علم كون بلد آخر كذلك (أي مفتوحة عنوة) فذاك ، وما لم نعلم فيه ذلك وكان مشتبها فالظاهر أن يعمل بالظن هنا ، بيان ذلك أنا نعلم أن بعض البلاد كان مفتوحا عنوة وبعضها صلحا ، وما كان صلحا اشتبه أمره في أن الصلح وقع على أن تكون الأرض لهم أو وقع على ان تكون الأرض للمسلمين فيكون حكمه حكم المفتوح عنوة ، فهذا البلد المشتبه إما أن يكون على سبيل الأولين فيكون للمسلمين وعليه الخراج ، أو على سبيل الثالث فلم يكن عليه خراج».

(٢) وسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب الحج ، باب جواز سؤال الناس عن الميقات مع الجهل به .. حديث تسلسل (١).

٢٤٧

ويمكن أن يقرر الدليل بنحو أسد من ذلك بما يرجع إلى دليل الانسداد

وتقريره : هو انسداد باب العلم وما بحكمه في المقام لتطاول الزمان وخراب العمران وعدم إمكان الرجوع إلى الأصل ، للزوم المخالفة القطعية ـ كثيرا ـ وعدم إمكان تعطيل حكم تلك الأراضي ، والعمل بالاحتياط متعذر أو متعسر ، فلا مناص عن العمل بالظن الحاصل من القرائن والآثار القديمة وكلام السير والتواريخ المعتبرة والتدرج في العمل بالظن إلى الأقوى فالأقوى كما هو جار في كثير من الموضوعات العامة البلوى التي انسد فيها باب العلم وما بحكمه من البينة كموضوع النسب ونحوه.

والظاهر : عدم التعويل على ضرب الخراج ، وإن عول عليه غير واحد من الفقهاء لأن اعتباره إن كان من جهة حمل فعل المسلمين على الصحة ، ففيه : أنها منتفية بفساد أساسه ـ كما تقدم ـ فلا صحة حتى يحمل عليها. ودعوى وجوب الحمل على ما يوجب أخفية الفساد عند الدوران بينه وبين الأشد والأفسد ، لا دليل عليه.

وإن كان من جهة إفادته الظن ، فالصغرى ممنوعة ـ بعد أن كان الخراج مضروبا على الأراضي الخراجية وغيرها من الأنفال والتي صولحوا عليها ، على أن الأرض لهم والجزية في أعناقهم. ومنه يعلم أن المشكوكة منها المحياة ـ فعلا ـ المردد حالها بين كونها خراجية أو مجهولة المالك أو هي للإمام عليه السلام من تركة من لا وارث له ، لدورانها في نفس الأمر بين كونها من عامرة (المفتوحة عنوة) أو من غيرها ، فملكها المحيي لها ، غير أنه مجهول المالك ، إن كان هو أو وارثه موجودا لا نعلمه ، وإلا فهو ميراث الإمام لأنه وارث من لا وارث له ، وإن دخل في أطراف الشك كونها مما انجلى عنها أهلها ، احتمل كونها للإمام من هذه الجهة ـ أيضا ـ يرجع في أمرها إلى الحاكم ، وإن كان عليها يد الجائر أو يد

٢٤٨

من أخذها منه بالخراج ، إذ لا يد له في الحقيقة عليها لكونها عادية في الخراجية ـ أيضا ـ فلا يثبت كونها خراجية بقول ذي اليد ، ولا بضرب الخراج ، لما عرفت. ويعمل فيها الحاكم : إما بالقرعة ، لكونها لكل أمر مشكل ـ وإن كان العمل بها مع عدم الجابر لها أشكل ـ أو يصرف أجرتها فيما ينطبق عليه كل من العناوين المتقدمة.

نعم ، لو كانت تحت يد مدعي الملكية لها حكم بها له ، لليد ، لإمكان تملكها بوجوه من الصحة ، بل يحكم بكونها له ، وان علم كونها من (المفتوحة عنوة) بعد إمكان فرض الصحة فيها على وجوه ، منها تملكه بالاحتساب عليه من الخمس أو الشراء من المستحق المحتسب عليه خمسا ، أو من طرف حصة الإمام المباح للشيعة ، وغير ذلك.

الأمر الحادي عشر : يجوز للإمام عليه السلام ـ ومن يقوم مقامه إقطاع شي‌ء من أرض (العنوة) لبعض ، ولا تخرج به عن كونها خراجية لأن معناه كون خراجها له ، لا خروجها عن الخراجية. وهل يجوز له بيع شي‌ء منها ، وان اقتضت المصلحة ما لم تبلغ نحو حفظ بيضة الإسلام؟ إشكال. والظاهر العدم ، للأصل ، وظاهر قوله (ع) ـ فيما تقدم (من يبيعها وهي للمسلمين) لظهور كون السبب في إنكاره (ع) كونها للمسلمين لا كون البائع غيره ، فإنه في قوة قوله (لا تباع) لكونها للمسلمين ، وقوله عليه السلام في مرسلة حماد المتقدمة له «فهي موقوفة متروكة بيدي من يعمرها» (١) الظاهر في إرادة التأبيد والدوام وصرف الارتفاع في مصالحهم ولزوم مراعاة الأصلحية عند تعارض المصلحتين ، ومقتضاه العدم ـ غالبا.

__________________

(١) راجع : ص ٢١٣ من هذا الكتاب. وراجع : مستند النراقي ج ٢ كتاب المكاسب المسألة التاسعة ـ في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.

٢٤٩

تنبيه : ما تداول في عصرنا ـ الآن ـ في (دولة آل عثمان) من بيع الأراضي الخراجية وغيرها ، معبرين عنها بـ (الطابو) يجعلونها في ميدان المزايدة ، ويعطونها لمن دفع الزيادة ، ثم من بعده لأولاده الذكور والإناث بالتساوي بينهم ـ ليس هو بيعا حقيقيا ولا تمليكا واقعيا ، بل إنما هو تفويض وتقبيل بالمقاسمة على الخمس من حاصلاتها. غير أنه آلى على نفسه السلطان أن لا يغير المتقبل ما دام حيا ، ويقبل أولاده من بعده ذكورا وإناثا ، تقبيلا جديدا ، قرره بهذا النحو على نفسه من أول الأمر ولذا يسترد الصكوك المعبر عنها بـ (الأوراق الخاقانية) المدفوعة ـ أولا ـ ويعطي أولاده ـ مطلقا كل واحد منهم ورقة خاقانية مستقلا مهينا فيها مقدار سهمه بحسب التوزيع على رءوسهم بالسوية ، وكيفية التقبيل وكمية القبالة منوطتان برائية ، فلا تمليك ولا تملك ولا إرث ولا ميراث ، حتى ينكر ذلك بمخالفتها لحكم الأراضي الخراجية وقواعد المواريث.

كما وقع الإنكار من جماعة ممن لا خبرة له بحقيقة الأمر ، وما يأخذه من النقود ـ أولا ـ عند المزايدة ليس ثمنا ـ كما توهم ـ بل هو للتقديم ، في التقبيل ولعله يصرفه في محله ـ ليس علينا حسابه.

الأمر الثاني عشر : ولاية التقبيل والتسليط للإمام عليه السلام فيقبلها ممن يشاء وبأي كيفية يشاء من الخراج ـ وهو الضريبة ـ بقدر مخصوص من المال يأخذها من طرف أجرة الأرض أو بالمقاسمة ، وهي القدر المخصوص من حاصلاتها : من النصف أو الثلث أو الربع ـ مثلا.

وقد يطلق اسم (الخراج) على (المقاسمة) أيضا ، ويأخذ القبالة ويصرفها في المصالح العامة. وان عين مدة فله أخذها من المتقبل بعد انقضاء المدة وتقبلها من آخر بما يراه من كمية الخراج وكيفيته.

٢٥٠

ويدل عليه ـ مضافا الى أن له الرئاسة الكبرى ، وهي من آثارها وأحكامها.

جملة من الأخبار التي منها ـ رواية صفوان ، والبزنطي ، قال : ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج ـ إلى أن قال ـ : «وما أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر ، قبل سوادها وبياضها ـ يعني أرضها ونخلها ـ إلى أن قال ـ : إن أهل مكة دخلها رسول الله (ص) عنوة وكانوا أسرى في يده ، فأعتقهم فقال : اذهبوا أنتم الطلقاء» (١).

ومنها ـ صحيحة البزنطي ، وفيها : «وما أخذ بالسيف فذلك الى الامام (ع) يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر ، قبل أرضها ونخلها ..» الحديث (٢).

ومنها ـ ما تقدم من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أهل العراق التي هي إمام لسائر الأرضين (٣).

وبالجملة ، فلا كلام في أن النظر وولاية التصرف في هذه الأراضي بالأصل للإمام ـ عليه السلام ـ في زمان حضوره وبسط يده.

ومع عدمها ـ كما في زمان الغيبة ـ ففي سقوط الولاية من أصلها ، فيجوز التصرف لكل أحد بلا توقف على الاذن ، أو ثبوتها للنائب العام إن كان مبسوط اليد متمكنا من التقبيل وصرف القبالة في وجهها ، بناء على عموم أدلة الولاية وكونه مفوضا اليه ما هو أعظم من ذلك كإقامة

__________________

(١) راجع : مستند النراقي ج ٢ كتاب المكاسب ، المسألة التاسعة من المقصد الرابع في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.

(٢) راجع : مستند النراقي ج ٢ كتاب المكاسب ، المسألة التاسعة من المقصد الرابع في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.

(٣) تقدم هذا الحديث ص ٢٢٨ من هذا الكتاب وراجع : مستند النراقي كتاب المكاسب المسألة التاسعة من المقصد الرابع.

٢٥١

الحدود. ومع عدم بسط يده فالى السلطان ـ وبعبارة أخرى ، لا بد من الاذن في جواز التصرف من الحاكم مع بسط يده ، وإلا فمن السلطان :

قولان : المشهور هو الثاني. بل في (الكفاية) : القول به هو قضية كلام الأصحاب (١). وفي (المسالك) : في حكم هذه الأرضين في زمان الغيبة : «وهل يتوقف التصرف في هذا القسم منها على اذن الحاكم الشرعي إن كان متمكنا من صرفها في وجهها ـ بناء على كونه نائبا عن المستحق مفوضا اليه ما هو أعظم من ذلك؟ الظاهر ذلك ، وحينئذ فيجب عليه صرف حاصلها في مصالح المسلمين. ومع عدم التمكن أمرها إلى الجائر وأما جواز التصرف فيها كيف اتفق لكل أحد من المسلمين ، فبعيد جدا بل لم أقف على قائل به ، لأن المسلمين بين قائل بأولوية الجائر وتوقف التصرف على اذنه ، وبين مفوض الأمر الى الامام العدل عليه السلام ، فمع غيبته يرجع الأمر إلى نائبه ، فالتصرف بدونهما لا دليل عليه. وليس هذا من باب الأنفال التي أذنوا ـ عليهم السلام ـ لشيعتهم في التصرف فيها في حال الغيبة ، لأن ذلك حقهم ، فلهم الاذن فيه ـ مطلقا ـ بخلاف المفتوحة عنوة ، فإنها للمسلمين قاطبة ولم ينقل عنهم الاذن في هذا النوع» انتهى (٢).

واستدل عليه ـ أيضا ـ بدعوى غير واحد الاتفاق على وجوب دفع الخراج إلى السلطان الذي هو بمنزلة العوض وأجرة الأرض ، فإذا كان له الولاية على العوض كان له الولاية على المعوض ـ أيضا.

__________________

(١) راجع : كفاية الأحكام للسبزواري ، كتاب الجهاد ، القول في أحكام الأرضين ، المبحث السادس.

(٢) راجع كتاب الجهاد من المسالك ـ في حكم الأراضي المفتوحة عنوة في شرح قول المحقق «والنظر فيها إلى الامام».

٢٥٢

وذهب بعض إلى الأول ، واحتمله في (الكفاية) بعد أن حكاه عن بعض (١) واختاره في (المستند) ونسب القول به إلى ظاهر الشيخ في (التهذيب) مستظهرا ذلك من عبارته فيه ، وهي قوله : «وأما أراضي الخراج وأراضي الأنفال والتي قد انجلى أهلها عنها ، فانا قد أبحنا ـ أيضا ـ التصرف فيها ما دام الامام مستترا» انتهى (٢) وان كان في الاستظهار منها تأمل.

قلت : تنقيح المسألة هو أن يقال : إن ما كان منها تحت يد السلطان وكان متوليا عليه ، فيرجع إليه في التقبل ويدفع إليه القبالة على ما خارجه عليه من الخراج والمقاسمة ، إجماعا عليه ـ بقسميه ـ مع دلالة بعض المعتبرة عليه ، بل قيل بعدم جواز منعهما وجحدهما ، بل صريح غير واحد دعوى الاتفاق عليه ـ أيضا.

__________________

(١) راجع ذلك في المبحث السادس من أحكام الأرضين ، ضمن كتاب الجهاد.

(٢) قال النراقي في (المستند ج ٢ كتاب المكاسب) المسألة التاسعة من المقصد الرابع ، بعنوان ان الموات من الأراضي المفتوحة عنوة مخصوصة بالإمام : «والمعروف من مذهب الأصحاب والمدلول عليه بالأخبار .. أن توليه هذه الأراضي والنظر فيها الى الامام يصنع فيها ما يراه من تقبيلها ممن يريد كيف يريد ، وظاهر ذلك بل صريح قوله (وذلك للإمام أو اليه) ومقتضى أصالة عدم جواز التصرف في ملك الغير بدون إذنه ـ على ما ذكرنا من ملكية هذه الأراضي فيه سبحانه أو للإمام ـ عدم جواز التصرف لأحد فيها إلا باذنه ، وهو كذلك مع ظهوره واستقلاله واما بدونهما فقد وقع الخلاف فيمن له التصرف فيها : فظاهر الشيخ في (التهذيب) جواز التصرف فيها وإباحته لكل أحد من الشيعة ، قال : وأما أراضي الخراج ..».

٢٥٣

وأما ما لا يد له عليه منها ، فيرجع في التصرف إلى الحاكم مع بسط يده. ومع عدمه : ففي جواز استقلاله بالتصرف ، أو الرجوع الى السلطان وجهان ، مبنيان على أن إمضاء الشارع لأعماله : هل هو للتقية وتسهيلا لأمر الشيعة في انتفاعهم بها ، فلا يجب إلا عند الضرورة التي تتقدر بقدرها أو لتنزيله منزلة الإمام العادل ، بعد تغلبه وقيامه بمنصب الإمامة عدوانا في حفظ البيضة وحماية الحوزة ، صيانة للدين وخوفا من تفرق كلمة المسلمين ، إلى أن يظهر من يبسطها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ويرجع الأمر إلى أهله ويدور الحق على مركزه ـ عجل الله فرجه ـ كما يشعر به سيرة علي ـ عليه السلام ـ وأصحابه مع الخلفاء. وعليه ، فيجب الاستئذان منه والرجوع اليه ، ولو مع التمكن من عدمه.

لا يقال : إنه ـ حينئذ ـ يجب تقديمه على الحاكم حتى مع بسط يده ـ أيضا.

لأنا نقول : الحاكم وكيل عن الإمام ، فإذا فرض بسط يده ، كان كما لو كان الامام ـ عليه السلام ـ مبسوط اليد. هذا بالنسبة إلى التصرف في نفس الأرض. وأما في ارتفاعها فهو تابع لها في الابتناء المذكور ، فيجب دفعه اليه ـ على الثاني ـ وإن تمكن من عدمه ولا يجب ـ على الأول ـ إن تمكن من ذلك.

ودعوى الاتفاق على عدم جواز منعهما وجحدهما ـ لو سلمت ـ فمسلمة بالنسبة إلى جحدهما بالكلية ، لا بالنسبة إلى خصوص الجائر ، ولو تنزلنا فهي مسلمة بالنسبة إلى ما كانت تحت يده وخارجة عليها ـ لا مطلقا.

وبالجملة ، فالكلام في وجوب ذلك ، وعدمه ـ أرضا وارتفاعا ـ مبني على ما تقدم من وجهي إمضاء الشارع لإعمال السلطان.

هذا ، ومقتضى التنزيل المتقدم عدم الفرق في المتغلب الجائر بين

٢٥٤

المخالف والمؤالف من غير مدخلية اعتقاد حلية أخذ الخراج واستحقاق الإمرة على المسلمين في ذلك ، بعد أن كان المناط حفظ النظام وإعلاء كلمة الإسلام.

ويحتمل قصر الحكم فيما خالف الأصل من إمضاء عمل الجائر على الأول ، اقتصارا فيه على القدر المتيقن ثبوته من الشرع ، سيما ولم يكن لغيره سلطان في زمن ورود الأخبار الآمرة بذلك ، ومع تعدد ذي الشوكة والسلطان ، ففي التخيير بينهما أو التوزيع عليهما ، أو تقديم المخالف منهما مع التخالف للاحتياط ، أو تقديم غيره ، أو الأقوى منهما شوكة أو الأضعف تقوية له ، أو تعيين الدفع إلى من تقبل منه : ـ احتمالات ، كلها ـ عدا الأول منها ـ استحسانات ضعيفة.

ثم إن ها هنا ـ كلاما لشيخنا صاحب (الجواهر) لا يخلو عن تأمل وهو أنه قال : «ثم إن مقتضى السيرة بين العوام والعلماء عدم وجوب صرف ما ينفق حصوله من حاصلها في يد أحد من الشيعة ـ من جائر أو غيره في زمان الغيبة في المصالح العامة ، بل له التصرف فيه بمصالحه الخاصة ، بل قد يقال بحصول الاذن منهم في ذلك للشيعة من غير حاجة الى رجوع إلى نائب الغيبة ، وان كان الأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ استئذانه ، والظاهر أن له الاذن ـ مجانا ـ مع حاجة المستأذن ، كما أن الظاهر حل تناوله من الجائر بشراء أو اتهاب وغيرهما» (١) ثم قال بعد ذلك في شرح قول مصنفه ـ : يصرف الامام حاصلها في المصالح العامة .. إلخ ـ : «وهل تجب مراعاة ذلك إن حصل منها في يده في زمن الغيبة ولو بإذن نائبها

__________________

(١) راجع هذه الجملة في كتاب الجهاد من (الجواهر) القسم الثاني في أحكام الأرضين ، في أخريات شرح قول المحقق (كل أرض فتحت عنوة وكانت محياة فهي للمسلمين).

٢٥٥

وجهان ، أحوطهما ذلك ، وأقواهما العدم ، لظاهر نصوص الإباحة وللسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بين العلماء والعوام ، بل قد تمكن جملة من علمائنا كالمرتضى والرضي والعلامة ـ رحمهم الله ـ وغيرهم من جملة منها ، ولم يحك عن أحد منهم التزام الصرف في نحو ذلك ، بل لعل المعلوم خلافه من المعاملة معه معاملة غيره من الأملاك» انتهى.

قلت : وعبارته في المقامين كما ترى ـ صريحة في جواز صرف ما كان من الخراج والمقاسمة في مصلحته الخاصة ومشعرة بعدم الرجوع إلى الجائر في شي‌ء من ذلك.

مع أن المصرح به في كلمات الأصحاب والمدلول عليه بالأخبار : اختصاص صرفهما في خصوص المصالح العامة ، بل لم أعثر على من اكتفى في مصرفهما بمطلق المصلحة ، وان كانت خاصة مستدلا (يعني صاحب الجواهر قده) على دعواه بنصوص الإباحة ، وبالسيرة.

وفيهما نظر :

أما استدلاله بالأخبار ، فإن أراد به الاستدلال على جواز الاستبداد بالتصرف في الأرض وخراجها من دون إذن بناء على أن ولاية التصرف من حقوق الامام عليه السلام وما كان لهم فقد أباحوه لشيعتهم.

ففيه انها من وظائف الإمامة لا من الحقوق المالية حتى تتعلق بها الإباحة. وان أراد الاستدلال بها على جواز تناوله وصرفه في مصالح نفسه ففيه انه للمسلمين ، فلا يكون مشمولا لأخبار إباحة ما هو لهم لشيعتهم.

وأما استدلاله بالسيرة ، ففيه : منع قيامها على مدعاه ، وكيفية عمل المرتضى وغيره ، غير معلوم لنا.

وكان الأحسن له أن يستدل على عدم تعيين الصرف في المصالح العامة بجواز أخذ جوائز السلطان ، ولو كانت من الخراج والمقاسمة ، من

٢٥٦

الصلات والهبات المدلول عليه بمنقول الإجماعات ، بل كاد أن يكون جوازه من الضروريات والمسلمات ، مع كون نحو ذلك من العطيات من المصالح الخاصة ، حتى أن من نقل عنه الاحتياط والتوقف من ذلك لم يستند في وجه ذلك إلا لكون الجائر غاصبا ويده يد عدوان ، ولو كان متعينا صرفه في المصالح العامة لكان الاستناد إلى كونه من صرف المال في غير مصرفه وبذله لغير مستحقه أولى ، وليس إلا لكون جواز التناول عندهم من المسلمات

ودعوى أن ذلك سن باب (لنا المهنا وعليه الوزر) بعيدة جدا (١).

اللهم إلا أن يجاب عنها بما أشرنا إليه ـ سابقا ـ من كون إعطاء الجوائز الذي هو من لوازم الرئاسة محسوبا من المؤن معدودا من المصالح العامة ، فهو من قبيل (الاذن في الشي‌ء إذن في لوازمه).

وأما تمكن المرتضى والرضي وغيرهما من العلماء من تلك الأراضي ومعاملتهم لها معاملة أملاكهم ، فالظاهر أنها كانت من الاقطاعات التي قد تقدم الكلام فيها ، مع إمكان أن يكون على وجوه أخر من الصحة فلا يصلح أن يكون شاهدا له على صحة دعواه.

الأمر الثالث عشر : يلحق بالعمران : حريمها ومرافقها ، وان كانت مواتا لتبعيتها لها والحاجة إليها ـ كمطرح القمامة ومركض الخيل ومرعى المواشي ـ بما لا يخرج في البعد عن العادة ، ولعلها بحيث تسرح في الغداة وتروح في العشي.

الأمر الرابع عشر : لو فتحت بلدة بالعنوة من سمت ، وبالصلح من سمت آخر ـ كما وقع على ما قيل ـ في زمان الثاني في بعض بلاد الشام دخلها أبو عبيدة بالصلح من باب ، وخالد بن الوليد بالعنوة من باب

__________________

(١) مضمون حديث عن الإمام الصادق (ع) ذكره الشيخ في التهذيب برقم (٩٤٠).

٢٥٧

آخر ، وكل لا يعلم بما فعله الآخر ، حتى التقى الفريقان عند كنيسة مريم فرقة بالسيف ، وفرقة بالأمان ، فهل هي من المفتوحة عنوة أو صلحا؟. لعل الظاهر انها ليست من العنوة ، لعدم تحقق تمامية الاستيلاء بها ، ولا عبرة بلوائح الفتح وعلاماته قبل أن تضع الحرب أوزارها ، كما لا عبرة بالكر والفر في الغلبة قبل ذلك ، ويحتمل أن يكون المدار ـ حينئذ ـ على ما فعله أمير الجيش.

الأمر الخامس عشر : في تعيين المفتوحة عنوة ، وما أخذ بها ـ وحيث لم تسعني المراجعة التامة إلى كتب التواريخ والسير ، فلا جرم اقتصرت في بيان ذلك على ما ذكره (الكركي في قاطعة اللجاج) لكونه مشتملا على جملة من كلمات الأصحاب ، وشطر من روايات الباب.

قال المحقق المذكور في (رسالته) (١) : «اعلم ، إن الذي ذكره الأصحاب من ذلك مكة ـ زادها الله شرفا ـ والعراق والشام وخراسان وبعض الأقطار ببلاد العجم.

وقد تقدم في بعض الأخبار السابقة : أن البحرين من الأنفال (٢).

فأما (مكة) : فإن للأصحاب في كونها فتحت عنوة أو صلحا خلافا ، أشهره أنها فتحت عنوة ، قال الشيخ في (المبسوط) : ظاهر المذهب أن النبي (ص) فتح مكة عنوة بالسيف ، ثم آمنهم بعد ذلك ،

__________________

(١) راجع هذا الكلام المنقول بطوله في المقدمة الرابعة في تعيين ما فتح عنوة من الأرضين من الرسالة المذكورة.

(٢) يشير إلى حديث سماعة بن مهران ـ كما في تهذيب الشيخ ، كتاب الزكاة باب الأنفال حديث (٣٧٣) : «قال : سألته عن الأنفال ، فقال كل أرض خربة أو شي‌ء كان للملوك ، فهو خالص للإمام ليس للناس فيها سهم ـ وقال ـ : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب».

٢٥٨

وانما لم يقسم الأرضين والدور ، لأنها لجميع المسلمين قاطبة ومنّ النبي على رجال من المشركين فأطلقهم ، وعندنا أن للإمام عليه السلام أن يفعل ذلك ، وكذلك أموالهم منّ عليهم بها.

وقال العلامة ـ رحمه الله ـ في (التذكرة) : وأما أرض مكة فالظاهر من المذهب أن النبي (ص) فتحها بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك. وكذا قال في (المنتهى) ، ونحوه قال في (التحرير). وشيخنا في (الدروس) لم يصرح بشي‌ء.

واحتج العلامة على ذلك : بما رواه الجمهور عن النبي (ص) : أنه قال لأهل مكة ما تروني صانعا بكم؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم فقال : أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ) أنتم الطلقاء.

ومن طرق الخاصة : بما رواه الشيخ عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : «ذكرنا له الكوفة ـ إلى أن قال ـ : إن أهل الطائف أسلموا وجعل عليهم العشر ونصف العشر ، وإن مكة دخلها رسول الله (ص) عنوة ، وكانوا أسراء بيده فأعتقهم وقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء» (١).

وأجاب عن حجة القائلين بأنها فتحت صلحا ـ حيث أن النبي (ص) ـ دخلها بأمان ـ بما ورد في قصة العباس وأبي سفيان ، وقوله (ص) لأهل مكة : (من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) إلا جماعة معينين وأنه (ص) لم يقسم أموالهم ولا أراضيهم : بأنه ـ على تقدير تسليم ذلك ـ إنما لم يقسم الأرضين والدور ، لأنها لجميع المسلمين لا يختص بها الغانمون ، على ما تقرر : من أن الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين ـ قاطبة ـ والأموال والأنفس يجوز أن يمن عليهم بها ، مراعاة للمصلحة ، لأن للإمام

__________________

(١) ذكره الشيخ في التهذيب ، كتاب الخمس باب الخراج عمارة الأرضين.

٢٥٩

أن يفعل مثل ذلك. وهذا قريب من كلام (المبسوط).

وأما أرض العراق ـ وهي التي تسمى بـ (أرض السواد) وهي المفتوحة عنوة من أرض الفرس التي فتحت في أيام الثاني.

فلا خلاف في أنها فتحت عنوة. وإنما سميت (سوادا) لأن الجيش لما خرجوا من البادية ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سموها (السواد) لذلك كما ذكره العلامة في (المنتهى والتذكرة).

قال في (المبسوط) ـ وهذه عبارته ـ : «وأما أرض السواد» فهي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها (عمر) وهي سواد العراق. فلما فتحت بعث عمر عمار بن ياسر : أميرا ، وابن مسعود : قاضيا وواليا على بيت المال ، وعثمان بن حنيف ماسحا ، فمسح عثمان الأرض. فاختلفوا في مبلغها : فقال الساجي : اثنان وثلاثون ألف ألف جريب (١) ، وهي ما بين (عبادان والموصل (٢)) ـ طولا ـ وبين (القادسية

__________________

(١) الجريب ـ من الأرض والطعام ـ : مقدار معلوم ونقل عن قدامة الكاتب أنه ثلاثة آلاف وستمائة ذراع ، وقيل : إنه عشرة آلاف ذراع (أقرب الموارد).

(٢) عبادان ـ بتشديد ثانية وفتح أوله : تحت البصرة قرب البحر الملح ، فان دجلة إذا قاربت البحر انفرقت فرقتين عند قرية تسمى (المحرزي) ففرقة يركب فيها إلى ناحية البحرين نحو بر العرب وهي اليمن ، فأما اليسرى فيركب فيها إلى سراف وجنابة فارس ، فهي مثلثة الشكل ، وعبادان في هذه الجزيرة التي بين النهرين فيها مشاهد ورباطات وهي موضع ردي‌ء سبخ لا خير فيه وماؤه ملح.

الموصل ـ بالفتح وكسر الصاد ـ : المدينة المشهورة العظيمة ، إحدى قواعد بلاد الإسلام ، فهي باب العراق ومفتاح خراسان .. قالوا. وسميت (الموصل) لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق ، وقيل : وصلت بين دجلة والفرات (معجم البلدان للحموي).

٢٦٠