بلغة الفقيّة - ج ١

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٦٥

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين لقد نوهنا ـ عدة مرات في عامة منشورات (مكتبتنا العامة) عن الأهداف الباعثة على تأسيسها : من نشر الثقافة العامة في المجتمع ، وتشجيع المؤلفين والكتاب ، وتحقيق وتأليف الكتب الاسلامية ـ على اختلاف بحوثها ـ وتركيز النوعية الفكرية باعطاء الكتاب الاسلامي مكانته اللائقة به من حيث أناقة الاخراج وروعة التبويب ودقة التحقيق والتعليق ، وإيصاله إلى أبعد الحدود من أنحاء العالم المتحضر بالتوزيع والاهداء ، حتى لقد ناهز سجل إهداء (المكتبة) ـ إلى حين التاريخ ـ (العشرة آلاف كتاب) من منشوراتها وغير منشوراتها ـ.

وواصلت (مكتبتنا) سيرها الفكري الاسلامي ـ قدما ـ منذ تاريخ تأسيسها حتى الآن ـ : ففي سنة (١٣٨٣ أي في سنة تأسيسها) كانت باكورة مطبوعاتها : كتاب (تلخيص الشافي ـ في الإمامة) تأليف شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي ـ قدس سره تقديم وتعليق سماحة العلامة الجليل السيد حسين بحر العلوم ، تم طبعه في أربعة مجلدات.

وفي سنة (١٣٨٥) ظهر المجهود الثاني للمكتبة ، وهو كتاب (رجال السيد بحر العلوم ـ المعروف بالفوائد الرجالية) الموسوعة الضخمة في علم الرجال والحديث والدراية والتراجم ، تأليف سيد الطائفة وصاحب الكرامات الباهرة السيد محمد المهدي بحر العلوم ـ قدس سره ـ أشرف على إخراجه والتعليق عليه كل من العلمين : الحجة الثبت السيد محمد صادق بحر العلوم ، والعلامة المفضال السيد حسين بحر العلوم ، فتم طبعه ـ بأروع إخراج ـ في أربعة مجلدات ضخام ، مفعما بالشروح والتعليقات القيمة.

٣

وفي مطلع هذا العام المبارك ـ ١٣٨٨ ه‍ ـ : نقدم إلى رواد الفقه. وعلماء القانون والتشريع الاسلامي : الكتاب القيم والمجموع الضخم من الرسائل والبحوث الفقهية التي عالجت مهمات أبواب الفقه التي قل أن يتطرق إليها الفقهاء في موسوعاتهم الفقهية. وهو كتاب (بلغة الفقيه) تصنيف الحجة المحقق والعالم المدقق السيد محمد ابن السيد محمد تقي ابن السيد رضا ابن السيد بحر العلوم ـ تغمدهم الله برضوانه ـ وشرح وتعليق آية الله الفقيه الورع السيد محمد تقي آل بحر العلوم ـ دام ظله ـ

ولنقف وقفة بسيطة بين يدي الكتاب ، ومصنفه ، وشارحه :

(كتاب بلغة الفقيه) : عرض وتحقيق وغور في مجموعة رسائل فقهية وبحوث علمية دقيقة ، كان يلقيها بشكل أمالي يومية على تلامذته ، فجمعها في حياته ـ بعد أن كف بصره ـ فكانت هذا المجموع القيم والتراث النادر.

ومجموعة الرسائل التي احتواها الكتاب هي : الفرق بين الحق والحكم وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، والقبض وحقيقته ، وقاعدة تلف المبيع قبل قبضه ، والأراضي الخراجية ، وأخذ الأجرة على الواجبات وبيع المعاطاة ، وبيع الفضولي ومسألة الضمان ، ومنجزات المريض ، وحرمان الزوجة من بعض الميراث ، والرضاع ، والولايات ، وقاعدة اليد وفروعها وبعض أحكام الدعاوى ، والقرض ، والوصية ، والمواريث ...

طبع الكتاب ـ أولا ـ في تبريز سنة ١٣٢٥ في حياة مصنفه ، طبعة غير خالية من الأغلاط بالقطع الصغير.

وطبع ـ ثانيا ـ سنة ١٣٢٩ بعد وفاته في طهران ـ بالقطع الحجري المتوسط في مجلد ضخم تقارب صفحاته (٥٠٠ صفحة). ولا تخلوا من الأغلاط أيضا ـ.

وحين رأينا ندرة وجوده وكثرة الطلب عليه ، وضرورة ابراز الكتاب على واقعه الدقيق المصحح ، وبحلة قشيبة من حيث الاخراج والتبويب

٤

والتعليق ـ كما يقتضيه عرف اليوم ـ.

صممنا ـ بعون الله ـ على إعادة طبعه ، فلم نألو جهدا في تصحيحه وعرضه على عامة نسخه المخطوطة والمطبوعة ـ الموجودة تحت أيدينا ـ. وأكثر اعتمادنا في تصحيحه ومقابلته على النسخة المصححة على نسخة المصنف وعليها تعليقات المصنف ـ نفسه ـ أدرجناها تحت الهامش بعلامة هكذا (*)

وتوجد النسخة في مكتبة الحجة الثبت المحقق السيد محمد صادق بحر العلوم ـ دام تأييده ـ وتكملة للفائدة وتوسعة في الأفق العلمي ، عرضنا ملازم الكتاب ـ قبل إرسالها إلى المطبعة ـ على سماحة آية الله الفقيه الورع السيد محمد تقي آل بحر العلوم ـ دام ظله ـ فكان يقف عند كل رسالة رسالة وقفة المتأمل فيعلق على ما يحتاج إلى التعليق ، ويترك الآخر ، حتى إذا جهز ما يكفي إلى الجزء الأول قدمناه إلى المطبعة ، مستعينين بالله تعالى ـ في إكمال الأجزاء الأخر.

مصنف الكتاب ـ باقتضاب من مقدمة رجال السيد بحر العلوم ـ : هو السيد محمد ابن السيد محمد تقي ابن السيد رضا ابن السيد محمد المهدي بحر العلوم ـ قدس الله أسرارهم ـ وينتهي نسبه الشريف ـ بثلاثين واسطة ـ إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ـ حسبما تستعرضه الشجرة المباركة لأسرة آل بحر العلوم المثبتة بخط زعيم الأسرة وسيد الطائفة السيد بحر العلوم ـ قدس سره ـ

ولد ـ رحمه الله ـ في النجف الأشرف ليلة الأحد ٢٤ محرم الحرام سنة ١٢٦١ ه‍ ، ونشأ على أبيه (التقي) نشأة علم وشرف وكرامة ، وكان أية في الذكاء ، ووقدة في الذهنية.

تلمذ ـ في ريعان شبابه ـ في الفقه والأصول على الحجج الأعلام من

٥

أقطاب عصره ، أمثال : عمه السيد علي ـ صاحب البرهان ـ والفقيه الشيخ راضي ، والسيد حسين الترك ، واختص في الأصول ـ أكثر ـ بالميرزا عبد الرحيم النهاوندي. وفي العلوم العقلية بالحكيم الإلهي الميرزا محمد باقر النجفي.

وتلمذ عليه جم غفير من جهابذة العلم وعيون الأدب ، لا يسع المجال لاستعراضهم.

وما إن ناهز الثلاثين من عمره ، حتى أصبح من أقطاب العلم والفضيلة ومن أساتذة المنبر العلمي المشار إليهم بالبنان. وتولى ـ بعد وفاة عمه السيد علي صاحب البرهان ـ أي سنة ١٢٩٨ ـ زعامة الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، وأنيط به أمر التدريس والبحث العلمي وشؤون المرجعية والتقليد إلى أن نقله الله إلى حظيرة قدسه.

كان مثابرا على التدريس والبحث والكتابة والمطالعة ، ليل نهار ، وكثيرا ما كان يقطع الليل كله في المطالعة والكتابة حتى كف بصره ـ في أخريات أيامه ـ

وكان مطلعا على عامة العلوم العقلية والنقلية ، قال عنه سيدنا الأمين في (أعيان الشيعة) : (.. سمعته ـ مرة ـ يقول : نظرت في أكثر العلوم حتى الطب ، ثم تركت النظر فيه ، لأنه ، ليس لي فرصة للتعمق فيه).

وكان ـ بالإضافة إلى مقامه العلمي ـ مثال الورع ، أريحى الطبع مرن السلوك ، بهي المنظر ، ترف اللباس ، دمث الأخلاق ، يملأ المجلس بالهيبة والوقار.

وكانت عنده مكتبة ضخمة من أعظم مكتبات العراق من حيث احتوائها على صنوف الكتب ، وأنواع المخطوطات. ولقد أعجب بها وكتب عنها جرجي زيدان في (آداب اللغة العربية) ، وقال عنها السيد الأمين

٦

في (أعيانه) : (ولم يكن في العراق أجمع منها لكتب الفقه والأصول والحديث). ومن المؤسف أنها تبعثرت ـ بعد وفاته ـ بالبيع والاهمال.

كتب وألف وصنف ـ كثيرا ـ إلا أن عامة كتاباته كانت مسودات تلفت ـ بعد وفاته ـ ولم يحتفظ لنا الزمن إلا بهذه المجموعة القيمة من الفقه الاسلامي التي أسماها ب‍ (بلغة الفقيه) حيث كانت عنايته بها أكثر حتى طبعت في حياته.

توفي ـ رحمه الله ـ ليلة الخميس ٢٢ شهر رجب سنة ١٣٢٦ بموت الفجأة ، فكان لفقده المصاب الجلل والوقع الممض في عامة أنحاء العراق وإيران ، وعطلت لوفاته الدروس العلمية ـ عدة أيام ـ وأقيمت على روحه الطاهر عشرات الفواتح ، ورثاه جم غفير من شعراء عصره : أمثال الشيخ يعقوب النجفي ، والشيخ محمد حسن سميسم والشيخ عبد الحسين الحويزي والشيخ حسن الحلي ، والسيد رضا الهندي ، وغيرهم كثير.

واستقر في مثواه الأخير في (مقبرة آل بحر العلوم) في النجف الأشرف تغمده الله برضوانه.

خلف ـ من الذكور ـ خمسة ، وهم : السيد مهدي ، والسيد مير علي ، والسيد جعفر ـ والد الحجة السيد موسى آل بحر العلوم ـ والسيد عباس ، والسيد حسن.

وأما صاحب التعليق : ـ باقتضاب من مقدمة رجال السيد بحر العلوم ـ : فهو السيد محمد تقي ابن السيد حسن ابن السيد إبراهيم ابن السيد حسين ابن السيد رضا ابن السيد محمد المهدي بحر العلوم ـ قدس الله أسرارهم ـ ويتصل نسبه الوضاح باثنين وثلاثين واسطة ـ بالإمام الزكي الحسن بن علي (عليه السلام).

ولد ـ دام ظله ـ في النجف الأشرف ، سنة ١٣١٨ ه‍ ونشأ في بيت والده نشأة علم وشرف.

٧

درس علوم العربية والبلاغة والتفسير وقسما من الرياضيات وسطوح الفقه والأصول على العلماء المتخصصين لتلك العلوم ـ يومئذ ـ.

وما إن بلغ عمره (الثلاثين عاما) حتى امتطى صهوة (البحث الخارج) فحضر الأصول والفقه على أستاذ العلماء المحقق النائيني ـ قدس سره ـ أكثر من عشر سنين ، وحضر الأصول أيضا على المحققين الآيتين : الشيخ ضياء الدين العراقي والشيخ محمد حسين الأصفهاني.

ولازم ـ أخيرا في الفقه ـ أستاذيه الجليلين الآيتين الورعين : الشيخ محمد رضا آل يسين ، والسيد عبد الهادي الشيرازي ـ تغمدهما الله برضوانه ـ

وحضر عليه ـ ولا يزال ـ جم غفير من رواد العلم وأرباب الفضل من العرب والفرس بحيث لا يسع المجال لاستعراضهم ، فقل أن تجد من فضلاء العصر ـ اليوم ـ إلا وقد حضر عليه قسما من دروسه الفقهية أو الأصولية

ولقد أصبح ـ اليوم من مراجع الشيعة وفقهاء الأمة ، يعترف بمكانته العلمية الخاص والعام. هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به (سيدنا التقي) من خلق وورع نادرين. ويقيم إمامة الجماعة ـ صباحا ومغربا ـ في جامع الشيخ الطوسي ـ قدس سره ـ وظهرا في جامع الشيخ الأنصاري ـ رحمه الله ـ

كتب وألف في الفقه والأصول وغيرهما من العلوم الدينية كثيرا ، من ذلك : تقريرات أساتذته العظام في الفقه والأصول ، وتعليقة على مكاسب الشيخ الأنصاري ، وتعليقة على رسالة المغفور له آية الله أستاذه الشيرازي ، وكتاب واقعة الطف ، ورسالة عملية.

وأخيرا طلبنا من سماحته أن يقوم بدور الملاحظة والتعليق على هذا السفر القيم (بلغة الفقيه) فكان هذا المجهود الثمين نقدمه إلى المطبعة مستعينين بالله تعالى على اكماله والله ولي التوفيق.

إدارة مكتبة العلمين العامة

في النجف الأشرف

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله جاعل العلم حياة القلوب من الردى ، ونور الأبصار من العمى ، ورافع قدر العلماء بتفضيل مدادهم على دماء الشهداء (١).

والشكر له على انتظامنا في عدادهم ، أو مكثري سوادهم. وأفضل صلواته وأكمل تحياته على أهل علمه المخزون ، وسره المكنون ، حملة علم الكتاب : محمد وآله الأطهار الأطياب.

وبعد فيقول الراجي عفو ربه الغني محمد بن محمد تقي آل بحر العلوم الطباطبائي : إني ـ وان كنت أول الأمر عند استقبال العمر لم أقصر في طلب العلوم حسب إمكاني ، ولم يضع في غيره إلا القليل من زماني ، فكم سهرت لتحصيلها طوال الليالي ، واستخرجت بغوص الفكر في بحارها غوالي اللئالي ، أجيل في مضاميرها سوابق أفكاري ، وأصيب غوامضها بصوائب سهام انظاري ـ لكني لم أحفظ بالتحرير ما استحصلته من

__________________

(١) هذا مضمون أحاديث نبوية كثيرة متقاربة اللفظ ، منها ما «عن الإمام الصادق عليه السّلام عن آبائه عن علي ـ عليه السلام ـ قال قال رسول الله (ص) إذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء».

راجع ـ عن فضل العلم والعلماء ـ كتاب العلم من (بحار الأنوار ج ١ ـ ٢) من الطبعة الجديدة. فقد جمع فأوعى كل الآيات والأحاديث الواردة في ذلك الموضوع :

وذكر العجلوني في (كشف الخفاء ج ٢ برقم ٢٢٧٦) الحديث بلفظ «مداد العلماء أفضل من دم الشهداء» واستعرض ألفاظ الحديث المختلفة ، فراجع.

٩

الضياع ، إذ كل علم ليس في القرطاس ضاع.

حتى إذا تألب (١) عليّ صروف الزمان ، واختلف باختلاف أغراضي الجديدان (٢) وولى من العمر أفضله ، وأدبر مستقبلة ، وذهب بصري ، فخفت أن يذهب ـ كذهاب عيني ـ أثري.

فهممت بتحرير بعض المسائل المهمة ـ لو ينفع بالشيخ الهمّ بذل الهمة ـ أخذا بقولهم ـ سلام الله عليهم ـ : «ما لا يدرك كله لا يترك كله» (٣) والميسور لا يسقط بالمعسور (٤).

قصرت أملي على من حضرني ـ على اختلاف معرفتهم واختلاف شئونهم في تشتيت البال وكثرة المعوقات من الاشتغال.

فحيثما عثرت على تعقيد في التعبير ، أو سماجة (٥) في التحرير فقد عرفت أمره وأسلفنا لك عذره.

وقد سميتها (بلغة الفقيه لما يرتجيه) رجاء أن يبلغنا الله تعالى بها مبالغ رضاه ، ويجعلها من أحسن الوسائل يوم نلقاه.

فنقول :

__________________

(١) تآلب : تجمّع وتحشّد.

(٢) الجديدان والأجدان : الليل والنهار ، لأنهما لا يبليان أبدا ، وهما لا يفردان فلا يقال : للواحد منهما : الجديد أو الأجد.

(٣) حديث نبوي شريف ، ذكره العجلوني في (كشف الخفاء ج ٢ رقم ٢٢٥٨).

وذكر ابن أبي جمهور الأحسائي في كتابه (غوالي اللئالي) : أنه علوي.

(٤) حديث علوي ـ كما ذكره في كتاب (غوالي اللئالي) ـ راجع الحديثين أيضا في (حاشية الاشتياني على رسائل الشيخ الأنصاري ص ١٨٩) طبع إيران.

(٥) سمج ـ بالضم ـ سماجة وسموجة : قبح.

١٠

رسالة

في الفرق بين الحقّ والحكم

١١
١٢

مسألة

لما خفي الفرق على كثير بين الحق والحكم ، والتبس الأمر بينهما ، مع ابتناء كثير من الفروع الفقهية عليهما ، والفرق في الحقوق بين ما يقبل النقل والاسقاط ، وبين ما لا يقبلهما أو يقبل أحدهما دون الآخر.

أحببت أن أشير إلى الفرق بينهما بحسب المفهوم والحقيقة ، وتحصيل ما هو الميزان الفارق بينهما والثمرات المترتبة عليهما ، وميزان الفرق في الحقوق بين ما يسقط بالإسقاط وما لا يسقط به ، وما تصح المعاملة عليه ـ مجانا ـ أو بعوض ، وما لا تصح بهما أو بأحدهما ، ومعرفة مصاديق الحكم أو الحق مما وقع الخلاف فيه ، ومصاديق الحقوق القابلة للإسقاط والنقل وغير القابلة لهما أو لأحدهما ، وحكم صورة الشك في كل من الأمرين بحسب ما تقتضيه الأصول والقواعد. فنقول ـ وبالله المستعان ـ :

اما الحكم : فهو جعل بالتكليف أو بالوضع ، متعلق بفعل الإنسان من حيث المنع عنه والرخصة فيه ، أو ترتب الأثر عليه. فجعل الرخصة ـ مثلا ـ حكم ، والشخص مورده ومحله ، وفعله موضوعه. وهو لا يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل بالنواقل ـ بالبديهة ـ لأن أمر الحكم بيد الحاكم لا بيد المحكوم عليه. نعم ، لو كان معلقا على موضوع ، وكان داخلا فيه ، كان له الخروج عنه ، فيسقط به ـ حينئذ ـ لا بالإسقاط.

وأما الحق فهو يطلق ـ مرة ـ في مقابل الملك ، وأخرى ـ ما يرادفه.

وهو ـ بمعنييه ـ : سلطنة مجعولة للإنسان من حيث هو على غيره ولو بالاعتبار : من مال أو شخص أو هما معا ، كالعين المستأجرة ، فإن للمستأجر سلطنة على المؤجر في ماله الخاص.

١٣

وهو أضعف من مرتبة الملك ، أو أول مرتبة من مراتبه المختلفة في الشدة والضعف.

وله طرفان : أحدهما ـ طرف النسبة والإضافة ، ويعبر عن المنسوب اليه بصاحب السلطنة ، وذي السلطان ، والآخر ـ طرف التعلق ، ويعبر عن متعلقة بالمسلط عليه.

وهو : قد يكون مستقلا بنفسه كحق التحجير ، وقد لا يكون مستقلا بنفسه ، بل متقوم بغيره كحق المجني عليه على الجاني ، وحق القصاص ، فهو كالملك الذي قد يكون متعلقة مستقلا ، وقد لا يكون كالكلي في الذمة وقد يتحدان في المورد ، وإنما يختلفان بالاعتبار كسلطنة الإنسان على نفسه ولذا قيل : «الإنسان أملك بنفسه من غيره». ومنه قوله تعالى ـ حكاية عن كليمه ـ (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلّا نَفْسِي وَأَخِي) (١) فما به التعلق عين ما إليه الإضافة ، وانما يختلف بالاعتبار.

ومن فروع هذه السلطنة : تملكه للمباح الأصلي والعرضي بالحيازة ، الذي مرجعه الى حصول الربط بها بين الحائز والمحوز ، وإرجاع أمر المال الى نفسه ، وجعل نفسه في وثاق المال وبعهدته ، بحيث لو كان مما يجب عليه الإنفاق وكسوته وحفظه لاحترامه ، كان أولى به ، فتعلق المال بالمالك معنى له طرفان : الغنم ، والغرم ، وأولويته به ليس في خصوص النفع وكل ذلك من فعل نفسه بنفسه ، وليس إلا لسلطنته عليها ، ومنه يظهر للوجه في توقف نفوذ التمليكات المجانية كالهبة والوصية على قبول المتهب والموصى له ، لأن المالك لا سلطنة له على غيره حتى يدخل المال في ملكه قهرا عليه ، وإلّا لكان من الإيقاعات لا من العقود. نعم ، له التمليك

__________________

(١) وتمام الآية (قالَ : رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) سورة المائدة : آية ٢٥.

١٤

لأنه من آثار سلطنته على ماله.

وأما التملك ، فمن آثار سلطنة المتملك على نفسه. فالسلطنة المجعولة حق ، وصاحبها مالك ، وذو سلطان ، وان كان جعلها له حكما.

وكذا الآثار العارضة لها والمتعلقة بنفسها بحيث تكون نسبتها إليها نسبة العارض الى المعروض ، فيكون الحق موضوعا لذلك الحكم ، دون ما كان منتزعا منها ، بحيث تعد من شعبها وتطوراتها ، فإنها من الحقوق أيضا.

وهنا كثيرا ما يقع الاشتباه بين القسمين من الآثار في المصداق وأنه من العوارض على السلطنة أو من شعبها.

ثم الإسقاط الذي مرجعه الى العفو : عبارة عن قطع طرف التعلق عن متعلقة ، ومورده الإنسان ، ويشبهه في الأعيان الأعراض ، بناء على خروج المعرض عنه عن الملك وعوده إلى الإباحة الأصلية ، وإلّا ـ كما هو المقرر في محله من عدم الخروج به عنه كما هو المشهور ـ انحصر مورده بالحقوق المتعلقة بالإنسان ، ولو في ماله ، بناء على ما هو الحق : من أن أولوية السبق في المساجد والمدارس والخانات والرباطات والقناطر والطرق النافذة ، ونحو ذلك من الأحكام التي تنتفي بانتفاء موضوعها بالإعراض عن المحل ، وهو التزاحم الذي هو موضوع المنع والحرمة ، لا من الحقوق التي تسقط بالاعراض.

ولعلك تقف على توضيح ذلك في بيان المصاديق المشتبهة بينهما.

والنقل : هو تحويل طرف الإضافة منه الى غيره : بعوض ، أو مجانا فكل من النقل والاسقاط من عوارض السلطنة وأحكامها.

ثم الحق قد يضاف اليه تعالى ، فيكون متعلقة ما سواه من الممكن ، وسلطنته عليه من أتم مراتب السلطنة وأكملها ، لأنه سلطنة عليه بالإيجاد والربوبية ، ضرورة افتقار الممكن في تحققه الى الواجب ، لعدم الاستقلالية

١٥

له في الوجود.

ومن فروع هذه السلطنة وحقه على الممكن أن يعبد ويوحّد.

ومن رشحاتها : ولاية النبي (ص) على المؤمنين (١) وهي ـ وان لم تكن من سنخ سلطنة الله تعالى ـ إلا أنها سلطنة عنه تعالى بالاستخلاف. وولاية خلفائه الطاهرين ، ونوابهم المجتهدين.

فهي في طول سلطنة الله على خلقه. ولذا كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ خليفته في أرضه والأئمة خلفاءه في أمته ، والعلماء نوابهم في شيعتهم.

وهي أقوى وأشد وأولى وأكمل من سلطنة الإنسان على نفسه مع كونها في غاية الشدة والكمال ، لأن منشأ انتزاعها هو كون الشي‌ء نفسه.

والى السلطنتين واكملية الأولى من الثانية أشار (ص) في قوله بغدير خم : «ألست (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)» ثم جعلها بعد الاعتراف منهم توطئة لبيان ولاية علي عليه السلام ، فقال : ـ بعده ـ : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (٢) فولايته على الأمة التي هي بمعنى الأولوية بالتصرف : مشتقة من أولوية النبي (ص) المشتقة من سلطنته تعالى على خلقه.

ثم إن الحق ـ بما هو حق ـ يختلف بحسب اختلافه في سقوطه بالإسقاط ، وعدمه ، ونقله الى غيره مجانا أو بعوض ، وعدمه ، وانتقاله قهرا بالإرث ، وعدمه ـ إلى أنحاء شتى :

__________________

(١) قال الله تعالى في كتابه المجيد ـ سورة الأحزاب ـ ٦ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

(٢) راجع ـ في هذا الموضوع سندا ودلالة ـ : الجزء الأول من كتاب الغدير للحجة الأميني حفظه الله.

١٦

منها ـ ما لا يجوز عليه شي‌ء من ذلك ، فلا يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل بالنواقل ، ولا ينتقل بالإرث ونحوه : كحق الأبوة ، وولاية الحاكم وحق الاستمتاع بالزوجة للزوج ، وحق الجار على جاره ، والمؤمن على أخيه. ئفإنها حقوق لأربابها لا تسقط ، ولا تنتقل الى غيرهم بوجه من الوجوه.

ومنها ـ ما يجوز فيه كل ذلك ، كحق الخيار ، وحق القصاص ، وحق الرهانة ، وحق التحجير ، وحق الشرط المطلق.

ومنها ـ ما يسقط بالإسقاط ، ولا ينقل ولا ينتقل ، كحق الغيبة ، والإيذاء بضرب أو شتم أو إهانة أو نحو ذلك ـ بناء على كونه حقا ـ ولذا يجب الاستحلال منه ، ولا يكتفى بالتوبة في التخلص عنه (١).

ومنها ـ ما يسقط بالإسقاط ، وينتقل بالإرث ـ على قول ـ ولا ينقل بالنواقل كحق الشفعة للشريك المسبب عن بيع شريكه.

ومنها ـ ما ينقل ـ مجانا لا بعوض ـ كحق القسم بين الزوجات بناء على عدم مقابلته بالأعواض.

ومنها ـ المصاديق المشتبهة بين كونها حكما أو حقا.

وان وقع الخلاف في ذلك في بعض ما تقدم ـ أيضا ـ كحق الرجوع في المطلقة الرجعية وحق السبق في المسجد ، والأوقاف العامة ، والطرق النافذة.

ومنشأ هذا الاختلاف : هو ان الموجب للحق : إما أن يكون علة تامة ، فيستحيل انفكاكه عنه بسقوط أو انتقال ، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة ، كولاية الآباء والأقارب ، والحاكم ، ومنصوبة. والعزال

__________________

(١) وربما قيل : إنها محض الحكم بالإثم ، ويكفي بالتخلص عنه بمحض التوبة شأن كل إثم بين العبد وربه.

١٧

المنصوب بالعزل إخراج له عن الموضوع ، لا إسقاط للحق مع بقاء منشأ انتزاعه.

وإما أن يكون من قبيل المقتضي فيمكن فيه التخلف بحسب ما يوجبه من السقوط أو النقل أو الانتقال ، إلا إذا كان المنع عنه من جهة قصور في كيفيته بحسب الجعل ، كأن يكون الحق متقوما بشخص خاص أو عنوان خاص ، كحق التولية في الوقف إلى المتولي الخاص أو الحاكم ، فلا يجوز العدول الى غير المجعول له بجعل الواقف من الشخص أو أفراد عنوان آخر وكذا حق الوصاية المجعول من الموصي لشخص خاص من حيث هو هو ، أو كان مختصا له بالشرط ، كحق الخيار المجعول لصاحبه بشرط مباشرته للفسخ بنفسه. فإن أمثال هذه الحقوق إنما هي متقومة بذوات مخصوصة أو عناوين خاصة ، فلا تنتقل الى غيرها لعدم التقوم إلا بها ، وان جاز إسقاطها لعدم كون الموجب لها من العلة التامة.

فتلخص مما ذكرنا : أن الحق : إن كان موجبه علة تامة له ، امتنع انفكاكه عنه مطلقا من غير فرق بين السقوط بالإسقاط ، والنقل بالنواقل والانتقال القهري بالإرث.

وان كان من قبيل المقتضى له ، وكان مختصا ومتقوما بشخص خاص ، فهو ، وان جاز سقوطه بالإسقاط لكونه مالكا ، وليس الموجب علة تامة حتى يلزم التخلف المستحيل ، إلا أنه لا يجوز نقله لمنافاته الاختصاص المجعول بالأصل أو بالعارض بشرط ونحوه.

وان لم يكن كذلك بأن لم يكن الموجب علة تامة ، ولا الحق مختصا ومتقوما بشخص خاص ، جاز إسقاطه ونقله وانتقاله ، لوجود المقتضي ، وهو كونه مالكا للحق ، وعدم المانع من علية الموجب له أو الاختصاص بما يوجب الخصوصية ، كحق الخيار المطلق الذي يجوز إسقاطه ونقله وانتقاله.

١٨

هذا ، واستفادة ما يتميز به الحكم من الحق وكيفية الحق من بين سائر الحقوق من الموازين المتقدمة ، إنما هي من الأدلة بحسب ما يستفيده الفقيه منها ، لا ما قيل في إثبات ذلك بالرجوع الى ثبوت الآثار وعدمه من النقل والسقوط ، لأن ذلك ـ مع كونه مستلزما للدور ـ غير مطرد ، ضرورة أن الحكم مما لا يسقط ولا ينقل ، لا كل ما لا يسقط ولا ينقل كان حكما ، فان الحقوق بعضها كالأحكام لا يسقط بالإسقاط ولا ينقل بالنواقل ـ كما عرفت.

نعم ، لو دل الدليل على السقوط أو الانتقال أفاد كونه حقا ، لأن الأحكام بأسرها لا تقبل شيئا من ذلك. وحيثما شك في شي‌ء من ذلك كان المرجع فيه الى ما تقتضيه الأصول والقواعد. فلو شك في شي‌ء بين كونه حكما أو حقا نفي كل أثر وجودي مترتب على كل منهما بالأصل ، فلا يبنى على السقوط بالإسقاط ، ولا على الانتقال بالنواقل ، لابتناء ذلك على إحراز كونه حقا ، ويكفى الشك فيه ، فضلا عن كون مقتضى الأصل عدمه ، وإن لم يثبت بذلك كونه حكما ، لأنه من الأصل المثبت. وكذا لو شك في قابلية إسقاط الحق ونقله بعد إحراز كونه حقا ، للشك في علية الموجب وعدمها ، أو في اعتبار ما يوجب الاختصاص وعدمه ، وان أحرز كون الموجب مقتضيا ، فإنه لا يترتب عليه شي‌ء مما يتوقف ترتبه على إحراز القابلية ـ أولا ـ نعم ، يجوز التمسك بالعمومات بعد إحراز الصدق العرفي والقابلية العرفية عند الشك في القابلية الشرعية المنبعث عن الشك في تخطئة الشارع لما هو عند العرف ، أو تصرّف منه فيه باعتبار شي‌ء فيه ، أو مانعية شي‌ء عنه. فيدفع بالعمومات المتوجهة نحوهم الدالة على إمضاء ما هو المتعارف عندهم. إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لمعلومية اختلاف الحقوق شرعا في جواز الاسقاط وعدمه ، وجواز النقل وعدمه. وانما الشك في اندراج المشكوك في أي قسم منهما مصداقا ، وبالعموم لا يتميز المصداق ـ قطعا.

١٩

إذا عرفت ذلك ، فلنذكر المصاديق المشتبهة بين كونها حقا أو حكما والحق من بين سائر الحقوق :

فمنها ـ جواز الرجوع في المطلقة الرجعية.

فقد ذهب المحقق القمي ـ قدس سره ـ وتبعه بعض من تأخر عنه ـ إلى كونه حقا يجوز الصلح عليه ، مستدلا بعمومات أدلة الصلح التي منها : «الصلح جائز بين المسلمين» (١) أي : نافذ ، من : جاز السهم : إذا نفذ :

وأنت خبير بما فيه ، لأن الشك فيه : إن كان للشك في كونه حكما أو حقا ، فهو من الشبهات المصداقية التي لا يجوز فيها التمسك بالعمومات ـ قطعا ـ وإن كان للشك في كونه من الحقوق التي تنقل بالصلح أو لا تنقل بعد البناء على كونه حقا ـ فمرجع الشك فيه إلى الشك في القابلية التي لا يتمسك لإثباتها بالعمومات ـ أيضا ـ اللهم إلا أن يجاب عن تمسكه بها ـ بعد البناء منه على كونه حقا كما هو صريح عبارته في كتاب (أجوبة

__________________

(١) وهو حديث نبوي ـ من طريق الخاصة. وتتمة الحديث «إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا» راجع : شرح اللمعة للشهيد الثاني ووسائل الشيعة للحر العاملي ، كتاب الصلح. وفي الوسائل : عن أبي عبد الله (ع) : «الصلح جائز بين الناس»

والمراد بالمحقق القمي هو الميرزا أبو القاسم القمي. قال في كتابه المشار إليه في المتن بأجوبة المسائل ، المسمى بـ (جامع الشتات) كتاب الطلاق ، باب جواز الصلح على الطلاق : ص ٥٣٥ طبع حجري إيران : «واما اندراجه في الصلح فبأن يجعله عوضا للصلح ، فتقول المرأة : صالحتك هذه الفدية بأن تطلقني ، وطلقها في عوضه ، ويشمله عمومات أدلة الصلح ، وأنه جائز بين المسلمين إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا».

٢٠