مصابيح الظلام - ج ٣

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٣

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-0-0
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٥٢

نعم ؛ في أواسط الحافظة تصير غفلة فلا تؤثّر ، كما هو في أواخرها ، فإنّه يصير نسيانا ، ودرجات الأواسط والأواخر متفاوتة بتفاوت مراتب الغفلة والنسيان شدّة وضعفا.

والجعفي ما اعتبر وجوب المقارنة ، حيث قال : لا بأس إن تقدّمت النيّة العمل أو كانت معه. (١)

ومع جميع ما ذكر قلنا لك : إنّ الأحوط مراعاة القائل بوجوب الإخطار في أوّل الفعل مقارنة لأوّله ، لكن هذا احتياط ، وربّما يصير تركه احتياطا ، بل ربّما يصير تركه واجبا إذا وقع في الوسواس ، أو ضاق الوقت أو المجال أو الفرصة.

السابع : متى أخلّ بالاستدامة بطل الفعل مطلقا ، بناء على اشتراط استدامة النيّة واتّصالها ، كما سيجي‌ء في كتاب الصلاة ، أو إذا لم يستدرك النيّة بحيث لم تفت الموالاة ، بناء على وقوعه بأسره في حال النيّة ، وأصالة عدم اشتراط أكثر من ذلك ، وسيجي‌ء الكلام في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.

الثامن : هل يجوز تفريق النيّة على الأعضاء ، بناء على كون النيّة هي المخطرة بالبال؟

قيل : نعم (٢) ، لما ذكر الآن. وقيل : لا (٣) ، وهو الأظهر ، إذ بعض الأعضاء ليس بعبادة جزما ما لم ينضمّ إليه البواقي ، فكيف يجوز قصده فقط قربة إلى الله وامتثالا له؟

التاسع : قد عرفت وجوب نيّة التعيين لتحصيل الامتثال ، وهذه بالنسبة إلى

__________________

(١) نقل عنه في ذكرى الشيعة : ٢ / ١٠٥ ، ذخيرة المعاد : ٢٣.

(٢) نهاية الإحكام : ١ / ٣٤.

(٣) الدروس الشرعية : ١ / ٩٠ ، لاحظ! مفتاح الكرامة : ٢ / ٣٥١ ـ ٣٥٣.

٤٠١

التكليفين المستقلّين ـ مثل فريضة الظهر والعصر ، أو القضاء مع الأداء من الظهر ، أو الفريضة والنافلة من صلاة الفجر ـ واضح.

وأمّا إذا كان الواجب والمندوب أجزاء فعل واحد واجب أو ندب ، مثل الصلاة والوضوء أو غيرهما ، ممّا يتركّب من الواجب والمندوب من الأجزاء ، فهل يجب قصد الوجوب في الواجب من الأجزاء ، والمندوب في المندوب منها أم لا؟

ظاهر جمع من الفقهاء ذلك ، لدخوله في عموم كلامهم ، وصريح كلام بعض المتأخّرين عدم الوجوب (١) ، لصدور الأمر بفعل المجموع من الشرع من دون أمر بقصد تشخيص ، مثلا أمروا بالتكبيرات السبعة وبالقراءة وبذكر الركوع والسجود وبالتشهّد وبالسلام وبالتكبير في كلّ حركة فيها بانتقال من فعل إلى فعل ، وبرفع اليد فيه ، والقنوت من دون التعرّض لما ذكر.

مع أنّ كلّ واحد ممّا ذكر مركّب من واجب ومستحب قطعا ووفاقا ، أو صارت معركة للآراء ، أو نفس وجوبه وندبه صار كذلك.

ولو كانوا أمروا بما ذكر لارتفع الإشكال والنزاع قطعا ، فلو كان الواجب قصد الوجوب والاستحباب في القراءة الواجبة والمستحبّة لكانوا أمروا في قراءة السورة ـ مثلا ـ بوجوب قصد الاستحباب لو كانت مستحبّة ، أو الوجوب لو كانت واجبة ، ولم يصل ذلك في خبر أصلا ، ولذا وقع النزاع.

وكذلك الحال في ذكر الركوع والسجود ، حيث قالوا : سبّح كذا وكذا ، وفي التشهّد قالوا : تشهّد كذا وكذا ، وفي السلام قالوا : كذا وكذا .. إلى غير ذلك من أجزاء العبادات التي صارت معركة للآراء في الوجوب والاستحباب ، والقدر الواجب منها.

__________________

(١) المعتبر : ١ / ١٣٩ ، ذخيرة المعاد : ٢٥.

٤٠٢

وبالاستقراء في الكلّ ، ربّما يحصل القطع بأنّهم ما أوجبوا على المكلّفين قصد التعيين في الوجوب والندب في أمثال المقام.

وحمل الجميع على حصول المعرفة للمكلّفين في التعيين قبل وقت الحاجة ، وصار الخفاء على القدماء والمتأخّرين من الفقهاء بذهاب المعرف في الكلّ مستبعد جدّا ، سيّما مع ملاحظة أصل العدم ، وكون المقام ممّا يعم به البلوى ويكثر لديه الحاجة ويشتدّ الاحتياج غاية الشدّة ، والموارد من جهة الكثرة صارت بحيث لا تحصى ، كما لا يخفى.

ومع ذلك يعدّ في العرف ممتثلا على خلاف التكليفين المتعدّدين.

ولو صدق الامتثال فيهما عرفا لصحّا أيضا ، وفيه إشكال فتأمّل ، لكن الاحتياط ظاهر.

العاشر : من جهة وجوب قصد التعيين لا يرضى الفقهاء بالترديد في النيّة لمنافاته للتعيين ، وغير المعيّن لا يتحقّق به الامتثال ، هذا فيما حصل المعرفة بالتعيين.

وأمّا إذا لم يحصل ، إمّا للتردّد في المسألة ، أو لأنّه ذهب عن باله التعيين ، أو لأنّه ليس بمجتهد ولا مقلّد ، فلا يجب قصد التعيين أو التشخيص في الوجوب أو الاستحباب ، أو القضاء أو الأداء ، أو أنّه ظهر أو عصر أو أمثال ذلك ، لكونه تكليفا بما لا يطاق.

نعم ؛ يجب قصدها في الذمّة إذا كان معيّنا واقعا معلوما عنده وأنّه كذلك ، فإنّ هذا قصد التعيين قطعا.

ويجوز الترديد أيضا بأنّه إن كان واجبا في الواقع فيكون هذا واجبا ، وإن كان مستحبا يكون مستحبا.

وقس عليهما غيرهما ، وهذا الترديد غير مضرّ قطعا ، بل أولى من تركه بالنظر إلى الأدلّة لو لم نقل بوجوبه.

٤٠٣

وهذا غير ما منعه الفقهاء ، فإنّ الممنوع إنّما هو فيما يتوقّف عليه التعيين. والتعيين إنّما يجب فيما إذا لم يكن معيّنا ويحتمل التعدّد.

وأمّا إذا لم يحتمل التعدّد أصلا ، فقصد النعيين يتحقّق بنفس قصد ذلك الفعل ، فلا مانع من الترديد في الوجوب والندب وغيرهما ، لعدم المدخلية (١) في التعيين ، مثلا غسل الجمعة معيّن قطعا إلّا أنّه لا يدري أنّه واجب أو مستحب.

وهذا غير مضرّ لتحقّق التعيين اللازم ، فلا بأس إذا لم يعيّن. بل مع العلم بالاستحباب أيضا لا يجب قصده للتعيّن بل يجب قطعا لو كان قصد الوجه لازما.

ولو ردّد في النيّة في وجوبه أو ندبه ـ إذا لم يعلمهما ـ لا يضرّ أيضا ، بل هو أولى من الترك وأحوط ، لأنّ «لكلّ امرئ ما نوى» (٢) ، ولعموم الدليل الثاني الذي ذكره القائل بوجوب قصد الوجه (٣) ، فحيث لا يمكن التعيين يكتفي بالترديد ، فتأمّل!

وأمّا إذا لم يكن معيّنا عنده نفس المطلوبيّة ، بأنّه يحتمل وجوبه وندبه (٤) وإباحته. وأمثال ذلك ، فينوي الفعل احتياطا ، لأنّ الاحتياط مطلوب الشارع ، كما حقّق في محلّه.

وكذا إذا كان الفعل من باب المقدّمة لتحقّق الامتثال ينوي كذلك ، فإنّه احتياط واجب شرعا.

الحادي عشر : لو توضّأ بنيّة الاستحباب باعتقاد عدم دخول الوقت وكان الوقت داخلا ، أو كان عليه مشروط به ولا يعلمه ، أو بنيّة الوجوب باعتقاد دخول

__________________

(١) في (ك) : مدخليته.

(٢) أمالي الطوسي : ٦١٨ الحديث ١٢٧٤ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٨ الحديث ٩٢.

(٣) ذكرى الشيعة : ٢ / ١٠٧ ، روض الجنان : ٢٨ ، مدارك الأحكام : ١ / ١٨٨ ، ذخيرة المعاد : ٢٣.

(٤) لم ترد في (ز ١ ، ٣) و (د ١ ، ٢) و (ف) و (ط) : وندبه.

٤٠٤

الوقت ولمّا يدخل ، أو وجوب مشروط به ولم يكن ، فالظاهر تحقّق الامتثال ، لأنّه قصد الأمر المعيّن عليه واقعا ، إلّا أنّه أخطأ في اعتقاده في كون ذلك المعيّن عليه موصوفا بصفة ، وكان الواقع خلافه.

ولا شكّ في صدق الامتثال العرفي ، لأنّه أتى بذلك المعيّن المطلوب منه.

والخطأ في اعتقاد صفة فيه لا يخرجه عن المطلوب المعيّن منه البتة ، مثلا ؛ لو قال المولى لعبده : ايتني بتمر ، وأتى به معتقدا أنّه بارد يابس ، يكون ممتثلا يقينا ، وكذا الحال لو كان هذا الخطأ غفلة منه.

وأمّا إذا تعمّد ذلك بأن يعلم أنّ المطلوب المعيّن مستحب ، وقصد ذلك المطلوب المعيّن ، إلّا أنّه نوى كونه واجبا ، فالظاهر صحّته وامتثاله للأمر ، إلّا أنّه قصد لغوا ، لأنّ الداعي على الفعل هو قصد الامتثال ، وذلك القصد اللغو من إخطاره الفاسد.

نعم ؛ لو اعتقد وجوبه فهو كافر ، وكذا الحال بالعكس فيه ، أو في جميع القصود.

وأمّا إذا لم يقصد المطلوب المعيّن منه ، فليس بصحيح بل لغو ، وأمّا إذا كان عنده غير معيّن ، بأن كان متعدّدا أو جاز تعدّده ، فقصد أحدهما أو أحدها ، ثمّ بان أنّ الذي قصده لم يكن مطلوب الشارع بطل أيضا.

وكذا لو تردّد في كونه مطلوب الشارع من أوّل الأمر ، أو قبل الدخول في الصلاة ، بل وقبل خروج الوقت.

وأمّا بعده ؛ فلو كان القضاء بفرض جديد ـ كما هو الأظهر ـ فالظاهر عدم وجوبه ، وإن كان أحوط ، ولو كان تابعا للأداء يجب كالأداء ، هذا كلّه بالنسبة إلى المجتهد ومقلّده.

٤٠٥

الثاني عشر : لو فعل بعض الأجزاء بقصد الرياء ، أو القصود الاخر التي ليست قصد الامتثال ، أو (١) ما يؤدّي مؤدّاه ، ويكون ذلك البعض من المستحبّات ، كالقنوت في الصلاة ، والمضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل ، فالظاهر عدم الضرر فيما ذكر للوضوء والغسل بالنسبة إليهما ، إلّا أنّه فعل حراما إن كان رياء.

وأمّا مثل القنوت ؛ فيحتمل مع التحريم بطلان الصلاة أيضا ، لما سيجي‌ء في مبحثها من وجوب اتّصال نيّتها ، وعدم الخروج عنها في أثنائها ، مع احتمال كونه فعلا كثيرا في أثنائها إذا طال فيه ، مع احتمال دخولها في الأخبار الدالّة على حرمة الرياء في الأفعال أو العجب ، وكذا الحال في الوضوء والغسل وأمثالهما.

__________________

(١) في (ز ١ ، ٣) و (د ١ ، ٢) و (ف) و (ط) : وما.

٤٠٦

٥٥ ـ مفتاح

[أحكام الوضوء]

من شكّ في شي‌ء من أفعال الوضوء ، فإن كان قبل انصرافه منه أتى به وبما بعده ، وإن كان بعد ذلك لم يلتفت ، بلا خلاف فيهما للصحاح (١).

ومن كان في موضع غسله جبيرة ولم يمكنه إجراء الماء تحتها بنزع أو تكرير مسح عليها على المشهور للحسان (٢) ، وفي الصحيح وغيره (٣) الاقتصار على غسل ما حوله ، فيمكن حمل المسح على الاستحباب. أمّا في غير الجبيرة ؛ فيقتصر عليه قطعا ، وفي محلّ المسح يتعيّن إلصاق الماسح مع الإمكان وإلّا مسح عليها.

ولو كان ظاهرها نجسا فيهما فالأولى وضع طاهر عليها ثمّ مسحه ، كما قالوه (٤).

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الباب ٤٢ من أبواب الوضوء.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٣ ـ ٤٦٥ الحديث ١٢٢٨ و ١٢٣٠ و ١٢٣٥.

(٣) وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٣ و ٤٦٤ الحديث ١٢٢٧ و ١٢٢٩ و ١٢٣٠.

(٤) جامع المقاصد : ١ / ٢٣٣ ، مدارك الأحكام : ١ / ٢٣٧ ، الحدائق الناضرة : ٢ / ٣٧٧.

٤٠٧

ويستفاد من بعض الصحاح (١) جواز التيمم في أمثال هذا ، وربّما يجمع بالتخيير ، أو بحمل ذلك على ما إذا تضرّر بغسل ما حولها (٢) ، والثاني أقرب وأحوط.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٣٤٧ و ٣٤٨ الحديث ٣٨٢٨ و ٣٨٣١ و ٣٨٣٤.

(٢) مدارك الأحكام : ١ / ٢٣٩.

٤٠٨

قوله : (من شكّ في شي‌ء من أفعال الوضوء) .. إلى آخره.

أمّا عدم وجوب الاستئناف فإجماعي ، وأمّا وجوب الإتيان بالمشكوك فيه وما بعده إذا كان قبل الانصراف فيدلّ عليهما ـ مضافا إلى وجوب تحصيل البراءة اليقينية الثابت من الاستصحاب ، والرجوع إلى العرف في الإطاعة والإجماع .. وغير ذلك ـ الإجماع الذي نقله جماعة من الأصحاب (١).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله أو تمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال اخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك فيه وضوءه فلا شي‌ء عليك» (٢).

هذا ؛ مضافا إلى العمومات التي مرّت في وجوب الترتيب في الوضوء مطلقا (٣) ، مع أنّه لم يقل أحد بالفصل.

فأمّا ما روي في الصحيح عن زرارة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا زرارة! إذا خرجت من شي‌ء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشي‌ء» (٤). فإنّه وإن كان بظاهره يدلّ على أنّ الشكّ في شي‌ء من أفعال الوضوء مع التعدّي عن ذلك الفعل لا يلتفت إليه وإن كان بعد في حال الوضوء ، لكن يجاب عنه بمنع دلالته على عموم يشمل المقام أيضا ، لأنّ كلمة (إذا) من أداة الإهمال ، ولا يفهم منها سوى العموم

__________________

(١) الروضة البهية : ١ / ٨٠ و ٨١ ، مدارك الأحكام : ١ / ٢٥٦ ، ذخيرة المعاد : ٤٤.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ١٠٠ الحديث ٢٦١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الحديث ١٢٤٣ مع اختلاف يسير.

(٣) راجع! وسائل الشيعة : ١ / ٤٤٨ الباب ٣٤ من أبواب الوضوء.

(٤) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٥٢ الحديث ١٤٥٩ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٣٧ الحديث ١٠٥٢٤.

٤٠٩

العرفي ، والمعصوم عليه‌السلام كان في صدد بيان حكم الشكّ في الصلاة ، فإذا قال عليه‌السلام بعد ذلك هذا الحكم لا يفهم العرف سوى عموم حكم الشكّ في الصلاة ، لا حكم الشكّ في غير الصلاة أيضا ، فليتأمّل!

نعم ؛ ورد في موثّقة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (١).

فإنّها شاملة للمقام أيضا ، لكنّها عام ، والصحيح المذكور خاص ، والخاص مقدّم ، سيّما مع اعتضاده بالإجماع والاستصحاب.

على أنّ ابن مسلم روى بطريق آخر عن الباقر عليه‌السلام هكذا : «كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد» (٢).

فيحتمل اتّحادهما وكون أحدهما نقلا بالمعنى واكتفاء بالقرينة ، وهذا غير بعيد ، لما مرّ مرارا ، ولذا ذكرهما الأصحاب في الشك في الصلاة ، فتأمّل! وأمّا ما روى ابن أبي يعفور ـ في الموثّق ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس [شكّك] بشي‌ء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه» (٣).

فلا بدّ من إرجاع ضمير «غيره» إلى «الوضوء» ، وإن كان خلاف الظاهر ، لئلّا يعارض الصحيح المعتضد بالامور المذكورة.

وأمّا كلمة «شي‌ء» الثانية ، فلا يلزم أن يكون هي الاولى.

ولذا قيل : اليسر يسران في قوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٤٤ الحديث ١٤٢٦ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٣٧ الحديث ١٠٥٢٦.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٥٢ الحديث ١٤٦٠ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٤٦ الحديث ١٠٥٥١.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ١٠١ الحديث ٢٦٢ ، مستطرفات السرائر : ٢٥ و ٢٦ الحديث ٣ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الحديث ١٢٤٤.

٤١٠

الْعُسْرِ يُسْراً) (١) لأنّه نكرة ، والعسر عسر واحد ، لأنّه معرّف باللام (٢).

مع أنّك عرفت أنّ الشاذّ ليس بحجّة ، بل أمرونا بترك العمل به صريحا ، فلا يضرّ هذه الموثّقة ، ولا موثّقة ابن مسلم ، ولا غيرهما إن عارضت.

وأمّا عدم وجوب الإتيان بالمشكوك فيه بعد الانصراف ؛ فادّعي عليه الإجماع أيضا.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة المتقدّمة ، وصحيحة ابن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة ، قال : «يمضي في صلاته ولا يعيد» (٣) ، ولا قائل بالفصل بين أن يكون الشكّ في كلّ الوضوء أو جزئه إذا فرغ من الصلاة ، وبين أن يكون الشكّ بعد الوضوء قبل الصلاة أو بعدها.

ويدلّ عليه أيضا موثّقة ابن مسلم الثانية المذكورة آنفا ، فتأمّل جدّا!

ثمّ المراد من الانصراف من الوضوء الفراغ منه ، ولا يلزم الاشتغال بأمر آخر أو مكث طويل.

ويظهر هذا من قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «ما دمت في حال الوضوء» (٤) ، إذ هو صريح في أنّ الأمر بالإعادة على المشكوك منحصر في حال الوضوء.

ولا يعارضه قوله عليه‌السلام : «فإذا قمت من الوضوء» (٥). إلى آخره ، لأنّه كناية عن الفراغ ، ولذا عطف عليه قوله : «وفرغت منه» تنبيها على أنّ المراد منه الفراغ ، والعطف تفسيري.

__________________

(١) الانشراح (٩٤) : ٥ و ٦.

(٢) لاحظ! مجمع البيان : ٦ / ١٧٤ (الجزء ٣).

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ١٠١ الحديث ٢٦٤ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٧٠ الحديث ١٢٤٧.

(٤) وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الحديث ١٢٤٣.

(٥) وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الحديث ١٢٤٣.

٤١١

ولو كان القيام بعد الفراغ أمرا على حدة وشرطا لما ناسب ذكره قوله عليه‌السلام : «وفرغت منه» بعد قوله : «إذا قمت» ، بل كان المناسب أن يقول : إذا فرغت وقمت.

وأيضا تفريعه القيام على ما سبق بقوله : «فإذا قمت» ، بإتيان كلمة «الفاء» شاهد آخر ، لأنّ المتفرّع على قوله : «ما دمت في حال الوضوء» ليس إلّا ما لم يكن في حال الوضوء ، بل يكون بعد الفراغ خاصّة ، كما هو ظاهر ، على أنّ القيام من الشي‌ء لا معنى له سوى الفراغ منه ، كما فسّره المعصوم عليه‌السلام ، وفرعه على حال الوضوء.

وأيضا قوله عليه‌السلام : «إذا كنت قاعدا على وضوئك» (١) ليس معناه إلّا الاشتغال ، ولذا عدّي بكلمة (على) ، لا بكلمة (في) ، إذ غير مأخوذ في الوضوء القعود.

نعم ؛ لمّا كان في الغالب يقعدون حال الوضوء ويقومون بالفراغ منه ، كنّى عن الدخول بالقعود وعن الفراغ بالقيام ، ولذا لم يذكر في سائر الأخبار ، ولا اعتبر أحد من الفقهاء سوى الفراغ ، ولم يفهموا إلّا ذاك.

ولذا قال المصنّف : (بلا خلاف فيهما) ، وادّعى الإجماع على ذلك الشهيد الثاني وصاحب «المدارك» (٢) ، على أنّ اعتبار القيام فاسد بالضرورة من الدين ، إذ ربّما لم يتمكّن المكلّف من القيام ، وربّما كان حال قعوده يشتغل بالصلاة ، وغيرها من الامور المغايرة الكثيرة.

مع أنّه ربّما لم يكن الوضوء حال القعود ، والمعصوم عليه‌السلام في صدد بيان حكم الشكّ في الوضوء ، لا حكم شكّ وضوء القاعد خاصّة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الحديث ١٢٤٣.

(٢) الروضة البهية : ١ / ٨١ ، مدارك الأحكام : ١ / ٢٥٧.

٤١٢

مع أنّ القعود ليس شرطا لاعتبار الشكّ ولا القيام ، لعدم اعتباره بالبديهة ، سيّما وأن يكون شرطه القيام بعده ، وأنّه لو لم يقم لم يذكر حكم شكّه.

على أنّ قوله عليه‌السلام : «وقد صرت في حال اخرى» (١) بعد قوله : «وفرغت منه» مشعر بأنّ المكلّف بالفراغ صار في حالة اخرى من صلاة أو غيرها ، أيّ حال يكون ، إذ لا يخلو عن الأكوان الأربعة ، فلا جرم يكون في حالة اخرى ، وإن كانت الاستراحة والسكون عن الوضوء.

على أنّا لو لم نأخذ ـ كما ذكرنا ـ يصير بين المفهوم الأوّل و (٢) الثاني تدافع ، ويكون الشرط في عدم اعتبار الشكّ هو الدخول في صلاة أو غيرها ، وأنّ الشرط في الاعتبار كونه في حال الوضوء ، وفيه ما فيه.

وعلى تقدير التسليم ، نقول : المفهوم الأوّل أقوى دلالة ، والآخر أضعف دلالة من وجوه كثيرة عرفت أكثرها ، فيقدّم على الآخر حتّى يوافق الفتاوى وسائر الأخبار ، ويخلص عن الحزازات ، ويكون الأضعف يرجع إلى الأقوى ، لا العكس.

ويؤيّد ما ذكرنا موثّقة ابن مسلم حيث قال : «ممّا قد مضى» (٣) ، ولا شكّ في أنّه حين الفراغ من الوضوء يقال : مضى الوضوء.

ويدلّ عليه أيضا مضمرة ابن بكير حيث قال : قلت له : الرجل يشكّ بعد ما يتوضّأ ، قال : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٤).

وجه الظهور جوابه عليه‌السلام على حسب سؤال الراوي ، ولم يقل عليه‌السلام : إن كان

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الحديث ١٢٤٣ ، راجع! الصفحة : ٤٠٩ من هذا الكتاب.

(٢) في (د ٢) : والمفهوم.

(٣) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٣٧ الحديث ١٠٥٢٦.

(٤) وسائل الشيعة : ١ / ٤٧١ الحديث ١٢٤٩.

٤١٣

شكّه بعد الوضوء واشتغل بأمر آخر أو مكث طويلا ، لا شي‌ء عليه ، بل قرّره على سؤاله المطلق ، وأجابه عليه‌السلام على الإطلاق ، لأنّ البعدية أعم من أن يكون بلا فصل أو معه.

وإن قيل : ما تقول في موثّقة ابن أبي يعفور المتقدّمة؟ حيث قال عليه‌السلام : «وقد دخلت في غيره» (١) ، فإنّ ظاهرها اشتراط الدخول في الغير.

يقال : إنّ المراد منه أيضا الفراغ من الوضوء بقرينة ما قال عليه‌السلام بعده : «إنّما الشكّ إذا كنت في شي‌ء لم تجزه».

ولا ريب في أنّ الذي فرغ من الوضوء ولمّا (٢) يشتغل بأمر آخر يقال : إنّه جاز عن الوضوء.

وعرفت أنّ المكلّف لا يخلو عن الأكوان ، فهو في فعل أبدا ، فجعل المعصوم عليه‌السلام الجواز عن الوضوء والدخول في غيره معا شخصا واحدا.

ويؤيّدها ما ذكرنا في صحيحة زرارة ، كما أنّها يؤيّد ما قال المعصوم عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال اخرى» (٣) ، حيث جعل عليه‌السلام مجموع الثلاثة أمرا واحدا.

لكن إذا كان الشكّ في الرجل اليسرى ، فحينئذ يشكل الأمر ، لأنّه يرجع إلى الشكّ في نفس الفراغ ووقع النزاع في معرفة الفراغ ، منهم من اعتبر اليقين بكمال الوضوء وتمامه ، فلا يلتفت إلى الشك الحادث بعده ، وهذا صريح كلام ابن زهرة (٤) ،

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٤١٠ من هذا الكتاب.

(٢) في (ف) و (ز ١) و (ط) : فلا.

(٣) وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٩ الحديث ١٢٤٣.

(٤) غنية النزوع : ٦١.

٤١٤

وظاهر المفيد والشيخ في «النهاية» وابن إدريس وابن حمزة وغيرهم (١) ، وهو الأظهر ، كما عرفت.

لكن ظاهر «الذكرى» : اشتراط القيام أو طول القعود في عدم اعتبار الشكّ (٢) ، وفيه ما فيه.

إذ معلوم أنّ الفراغ مبني على اعتقاد المكلّف ، وبناء أمره على الفراغ ، لا القيام وطول القعود وأمثالهما ، إذ ربّما كان في حال القيام عن موضع الوضوء لم يفرغ منه بل يشتغل ببقيّته.

وكذا طول الجلوس بناء على تطويله فيه ، إلّا أن يكون في غاية الطول بحيث لا يحتمل الاشتغال ، فالعبرة في هذا أيضا باعتقاده ، كما أنّه في حال الجلوس غير الطويل ربّما يعتقد الفراغ ، وأنّ هذا الجلوس خارج عن جلوس الوضوء ، فلو شكّ بعد ذلك ، يكون الشك بعد الفراغ والخروج عنه عرفا.

والظاهر من الشيخ والمفيد وابن إدريس وغيرهم أنّ المكلّف إذا كان فراغه عن وضوئه على يقين منه ثمّ عرضه الشكّ لم يلتفت إليه ، وقضى باليقين عليه ، هذا كلام المفيد (٣) ، وكلام الشيخ في الصورة المذكورة : مضى على يقينه. (٤)

وقال ابن إدريس فيها : ليس ينقض الشكّ اليقين (٥) ، ويظهر هذا من مضمرة ابن بكير أيضا (٦).

__________________

(١) المقنعة : ٤٩ ، النهاية للشيخ الطوسي : ١٨ ، السرائر : ١ / ١٠٤ ، الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ٥٣ ، الدروس الشرعيّة : ١ / ٩٤ ، روض الجنان : ٤٤.

(٢) ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٠٤.

(٣) المقنعة : ٤٩.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي : ١٨.

(٥) السرائر : ١ / ١٠٤.

(٦) وسائل الشيعة : ١ / ٤٧١ الحديث ١٢٤٩.

٤١٥

والأحوط الدخول في أمر آخر وما قام مقامه ، حتّى يحصل الخروج عن خلاف «الذكرى».

والعجب من صاحب «الذخيرة» (١) أنّه تمسّك بما ذكر من كلام الفقهاء ردّا على الشهيد الثاني وصاحب «المدارك» في ادّعائهما الإجماع على عدم الالتفات إلى الشكّ إذا وقع بعد الفراغ من الوضوء (٢) ، إذ اليقين بالفراغ ليس مغايرا لما ادّعيا الإجماع عليه ، بل هو عينه.

نعم ؛ ما في «الذكرى» لا يوافقهما (٣) ، مع أنّه في «البيان» وافقهما (٤) ، وعبارة «الدروس» أيضا يحتمل الموافقة (٥) ، فتأمّل!

هذا ؛ ثمّ اعلم! أنّ هذا كلّه إذا لم يكثر شكّه ، وأمّا كثير الشكّ فيمضي على ما هو عليه ، ولا يعيد المشكوك وما بعده ، وإن كان بعد في حال الوضوء.

واستدلّ لهذا الحكم بنفي العسر والحرج في الدين (٦).

وبما علّل في صحيحة زرارة الواردة في حكم الشكّ في الصلاة من قوله عليه‌السلام : «لا تطمعوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة ، فإنّ الشيطان خبيث معتاد لما عوّد» (٧) ، فإنّ التعليل جار في المقام أيضا ، وهو حسن.

ويؤيّده قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان حيث قال : «وأيّ

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٤٤.

(٢) الروضة البهيّة : ١ / ٨٠ و ٨١ ، مدارك الأحكام : ١ / ٢٥٧.

(٣) ذكرى الشيعة : ٢ / ٢٠٤.

(٤) البيان : ٥٢.

(٥) الدروس الشرعيّة : ١ / ٩٤.

(٦) جامع المقاصد : ١ / ٢٣٧.

(٧) الكافي : ٣ / ٣٥٨ الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ١٨٨ الحديث ٧٤٧ ، وسائل الشيعة : ٨ / ٢٢٨ الحديث ١٠٤٩٦ مع اختلاف يسير.

٤١٦

عقل له وهو يطيع الشيطان؟ ، فقيل له : كيف يعلم أنّه يطيع الشيطان؟ فقال : «لأنّه لو سئل عنه لم تفعل كذلك؟ يقول : هو من الشيطان» (١).

ولا ريب في أنّ كثرة الشكّ من الشيطان ، ونحن مأمورون بعدم إطاعته ، فيلزمه عدم الالتفات إلى المشكوك فيه مع كثرة الشكّ.

وأمّا إذا سها عن بعض أفعال الوضوء ، يعيد عليه وعلى ما بعده إن لم يجفّ بلل الأعضاء السابقة على المنسي ، وإن جفّ استأنف.

أمّا الإتيان به وبما بعده ، فادّعى على الأوّل الإجماع المحقّق في «المعتبر» (٢) ، وعلى الثاني العلّامة في «التذكرة» (٣).

ويدلّ عليهما مضافا إلى الإجماع الأخبار المستفيضة ، منها : حسنة زرارة ب ـ إبراهيم بن هاشم ـ قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «تابع بين الوضوء. إلى أن قال ـ فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه ، وأعد على الذراع ، وإن مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ، ثمّ أعد على الرجل ، ابدء بما بدأ الله عزوجل» (٤) .. إلى غير ذلك من الأخبار التي مرّت في بحث الترتيب. (٥)

وأمّا وجوب الاستئناف مع الجفاف ؛ فيدلّ عليه الأخبار الماضية في وجوب الموالاة ، وثبت أنّه تفوت الموالاة بالجفاف ، فراجع.

وأمّا ما ورد في الموثّق عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من نسي مسح

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٢ الحديث ١٠ ، وسائل الشيعة : ١ / ٦٣ الحديث ١٣٧ مع اختلاف يسير.

(٢) المعتبر : ١ / ١٧٢.

(٣) تذكرة الفقهاء : ١ / ٢١٣ المسألة ٦٣.

(٤) الكافي : ٣ / ٣٤ الحديث ٥ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٨ الحديث ٨٩ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٩٧ الحديث ٢٥١ ، الاستبصار : ١ / ٧٣ الحديث ٢٢٣ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٤٨ الحديث ١١٨١.

(٥) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٤٤٨ الباب ٣٤ من أبواب الوضوء.

٤١٧

رأسه أو قدميه ، أو شيئا من الوضوء الذي ذكره الله في القرآن كان عليه إعادة الوضوء والصلاة» (١) ، فمحمول على الجفاف.

وما ورد في الصحيح عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن رجل توضّأ ونسي غسل يساره؟ فقال : «يغسل يساره وحدها ولا يعيد وضوء شي‌ء غيرها» (٢) ، فإمّا محمول على عدم وجوب إعادة غيرها ممّا تقدّمها لا ما يليها أيضا ، أو على أنّه تذكر قبل الإتيان بشي‌ء ممّا بعده ، فحينئذ يغسلها ويأتي بما بعدها ، وليست إعادة شي‌ء عليه ، أو على أنّ بعد غسل اليسار ليس شي‌ء يتوضّأ لغة ، بل يبقى المسح ، فعليه المسح لا غسل شي‌ء ، فيصدق عليه أنّه ليس عليه وضوء شي‌ء ـ أي غسله ـ بل عليه المسح ، والله يعلم.

وأمّا من نسي غسل بعض عضو ؛ فإن جفت الأعضاء السابقة عليه يستأنف الوضوء ، وإن لم تجف ؛ فالمشهور وجوب غسل ذلك الموضع ، والإتيان بما بعده من الغسل والمسح ، للأدلّة المذكورة من الإجماع والأخبار ، وتحصيل البراءة اليقينيّة.

وخالف في ذلك ابن الجنيد وقال : إن كان المنسي دون سعة الدرهم بلّها وصلّى ، وإن كان أوسع أعاد على العضو وما بعده (٣).

وروى في «الفقيه» مرسلا قال : سئل موسى بن جعفر عليه‌السلام عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضّأ موضع لم يصبه الماء؟ قال : «يجزيه أن يبلّه من بعض جسده» (٤).

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ١٠٢ الحديث ٢٦٦ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٥١ الحديث ١١٩٠.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٩٨ الحديث ٢٥٧ ، الاستبصار : ١ / ٧٣ الحديث ٢٢٦ ، قرب الإسناد : ١٧٧ الحديث ٦٥٠ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٥٢ الحديث ١١٩٢.

(٣) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ٣٠٧.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٣٦ الحديث ١٣٣ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٧٢ الحديث ١٢٥١.

٤١٨

ويظهر من هذا أنّ الصدوق رحمه‌الله قال بمضمونها ، لما قال في أوّل كتابه.

لكن قال جدّي رحمه‌الله : أنّه بدا له بعد ما دخل في كتابه. (١)

وكيف كان ؛ يشكل العمل بها ، لشذوذها وعدم صحّة سندها ، ومخالفتها لما ذكر من الأدلّة ، وحملت على صورة الشكّ والوهم بأن وجد الموضع يابسا فتوهّم عدم إصابة الماء.

ويمكن الحمل على السهو قبل الفراغ من الوجه ، أو قبل الدخول في العضو الذي بعده ، أو على كثير الشكّ بقرينة الإتيان بصيغة المضارع ، وهو يفيد الاستمرار التجدّدي ، فتأمّل!

والظاهر أنّها ليست مستند ابن الجنيد ، بل مستنده هو الذي ذكره حيث قال : قد روى «توقيت الدرهم» ابن سعيد ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وابن منصور عن زيد بن علي عليه‌السلام ، ومنه حديث أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، ولم نقف على مأخذه ، فلا يجوز العمل بها لذلك ولمخالفتها للأصول والقواعد والإجماع.

قوله : (ومن كان في موضع غسله جبيرة) .. إلى آخره.

الجبيرة هي العيدان التي تجبر بها العظام المكسورة ، وتكون غالبا مع خرقة.

وقيل : الفقهاء يطلقونها على ما يشدّ به القروح والجروح أيضا ، ويساوون بينهما في الأحكام (٣) ، انتهى.

أقول : الجبيرة إذا كانت على ما يجب غسله في الوضوء ، فلا خلاف في وجوب تطهير موضع تلك الجبيرة ، وغسله مع الإمكان بنزعها من دون ضرر

__________________

(١) روضة المتّقين : ١ / ١٧.

(٢) نقل عنه في مختلف الشيعة : ١ / ٣٠٨.

(٣) ذخيرة المعاد : ٣٧ ، لاحظ! كشف اللثام : ١ / ٥٧٦.

٤١٩

ومشقّة ، أو إجراء الماء تحتها كذلك بتكرار الماء حتّى يصل البشرة ويغسلها إن لم يتيسّر النزع وكان ما تحت الجبيرة طاهرا ، أو أمكن إيصال الماء إلى ما تحتها على وجه التطهير الشرعي ، لعموم الأوامر الواردة بالغسل.

لكن هذا يقتضي جواز إجراء الماء تحتها بالنحو الذي ذكر ، وإن أمكن النزع ، كما هو الظاهر من صاحب «الذخيرة» (١).

لكن على هذا أيضا يجوز وضع العضو في الماء إلى أن يصل الماء تحتها ، ويغسله على الوجه الشرعي ، لشمول تلك العمومات هذا النحو أيضا ، وإن أمكن النزع.

مضافا إلى ما روي ـ في الموثّق ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الرجل ينكسر ساعده ، أو موضع من مواضع الوضوء ، فلا يقدر أن يمسح عليه لحال الجبر إذا جبر كيف يصنع؟ قال : «إذا أراد أن يتوضّأ فليضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبر في الماء حتّى يصل الماء إلى جلده ، وقد أجزأه ذلك من غير أن يحلّه» (٢).

ومع هذا صرّح في «الذخيرة» بعدم جواز هذا الوضع إلّا بعد العجز عن النزع ، وعن التكرار الذي ذكر وادّعى على ذلك الإجماع (٣) ، والمحقّق ما اعتبر هذا الوضع أصلا (٤) ، ووافقه في «المدارك» (٥) ، ولعلّهما اعتبرا وجوب متابعة الوضوءات البيانيّة حتّى يثبت خلافه.

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ٣٧.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٢٦ الحديث ١٣٥٤ ، الاستبصار : ١ / ٧٨ الحديث ٢٤٢ ، وسائل الشيعة : ١ / ٤٦٥ الحديث ١٢٣٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ٣٧.

(٤) لاحظ المعتبر : ١ / ١٦١.

(٥) مدارك الأحكام : ١ / ٢٣٧.

٤٢٠