اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

تارة وبالعدم أخرى. فهذا عقد البيع ـ مثلا ـ إمّا أن يكون واجدا لجميع ما هو معتبر في صحّة العقد أو لا ، فإن كان الأوّل اتّصف بالصحّة ، وإن كان الثاني اتّصف بالفساد. ولكن الملكيّة المسبّبة للعقد يدور أمرها بين الوجود والعدم ؛ لأنّها توجد عند صحّة العقد ، وعند فساده لا توجد أصلا ، لا أنّها توجد فاسدة. فإذا أريد من البيع نفس المسبّب ـ وهو الملكيّة المنتقلة إلى المشتري ـ فلا تتّصف بالصحّة والفساد حتّى يمكن تصوير النزاع فيها (١).

٢. لا ثمرة للنزاع في المعاملات إلاّ في الجملة

قد عرفت أنّه على القول بوضع ألفاظ «العبادات» للصحيحة لا يصحّ التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار شيء فيها جزءا كان أو شرطا ؛ لعدم إحراز صدق الاسم على الفاقد له. وإحراز صدق الاسم على الفاقد شرط في صحّة التمسّك بالإطلاق.

إلاّ أنّ هذا الكلام لا يجري في ألفاظ «المعاملات» ؛ لأنّ معانيها غير مستحدثة ، والشارع بالنسبة إليها كواحد من أهل العرف ، فإذا استعمل أحد ألفاظها فيحمل لفظه على معناه الظاهر فيه عندهم إلاّ إذا نصب قرينة على خلافه.

فإذا شككنا في اعتبار شيء عند الشارع في صحّة البيع ـ مثلا ـ ولم ينصب قرينة على ذلك في كلامه ، فإنّه يصحّ التمسّك بإطلاقه لدفع هذا الاحتمال ، حتّى لو قلنا بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح ؛ لأنّ المراد من الصحيح هو الصحيح عند العرف العامّ ، لا عند الشارع. فإذا اعتبر الشارع قيدا زائدا على ما يعتبره العرف كان ذلك قيدا زائدا على أصل معنى اللفظ ، فلا يكون دخيلا في صدق عنوان المعاملة الموضوعة ـ حسب الفرض ـ للصحيح على المصداق المجرّد عن القيد. وحالها في ذلك حال ألفاظ العبادات لو كانت موضوعة للأعمّ.

__________________

(١) هذا ما قال به المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٤٩. ووافقه المحقّق الحائريّ في درر الفوائد ١ : ٢٥ ، والمحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ٨٩. وخالفه العلاّمة العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ٩٧ ـ ٩٨ ، والسيد الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ١ : ١٧٠ ، والسيد الخوئيّ في المحاضرات ١ : ١٩٥ ، فإنّهم قالوا بدخولها في محلّ النزاع وإن كانت موضوعة للمسبّبات.

٦١

نعم ، إذا احتمل أنّ هذا القيد دخيل في صحّة المعاملة عند أهل العرف أنفسهم أيضا فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال ، بناء على القول بالصحيح ـ كما هو شأن ألفاظ العبادات ـ ؛ لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في صدق عنوان المعاملة. وأمّا على القول بالأعمّ فيصحّ التمسّك بالإطلاق لدفع الاحتمال.

فتظهر ثمرة النزاع ـ على هذا ـ في ألفاظ المعاملات أيضا ، ولكنّها ثمرة نادرة.

تمرينات (٦)

التمرين الأوّل

١. ما هو تعريف الحقيقة الشرعيّة؟

٢. هل الحقيقة الشرعيّة ثابتة أم لا؟

٣. ما الفائدة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدم ثبوتها؟

٤. هل النزاع في وضع ألفاظ العبادات والمعاملات للصحيحة أو الأعمّ متفرّع على ثبوت الحقيقة الشرعيّة أم لا؟

٥. ما المراد من الصحيحة من العبادة أو المعاملة؟

٦. ما هو مختار المصنّف رحمه‌الله في وضع ألفاظ العبادات والمعاملات؟ وما هي أدلّته؟

٧. قد اعترض على مختار المصنّف رحمه‌الله ، فاذكر الاعتراض وما يدفعه.

٨. بيّن ثمرة القولين في العبادات.

٩. هل النزاع يجري في المعاملات؟

١٠. ما هي ثمرة النزاع في المعاملات؟

التمرين الثاني

١. بيّن كلام العلاّمة العراقي والسيّد المحقّق الخوئي والإمام الخميني في كيفيّة جريان النزاع في ألفاظ المعاملات وإن كانت موضوعة للمسبّبات.

٦٢

المقصد الأوّل

مباحث الألفاظ

٦٣
٦٤

تمهيد

المقصود من «مباحث الألفاظ» ، تشخيص ظهور الألفاظ من ناحية عامّة ، إمّا بالوضع ، أو بإطلاق الكلام ، لتكون نتيجتها قواعد كلّيّة تنقّح صغريات أصالة الظهور التي سنبحث عن حجيّتها في المقصد الثالث. وقد سبقت الإشارة إليها (١).

وتلك المباحث تقع في هيئات الكلام التي يقع فيها الشكّ والنزاع ، سواء كانت هيئات المفردات ، كهيئة المشتقّ والأمر والنهي ، أو هيئات الجمل ، كالمفاهيم ونحوها.

أمّا البحث عن موادّ الألفاظ الخاصّة ، وبيان وضعها وظهورها ـ مع أنّها تنقّح أيضا صغريات أصالة الظهور ـ : فإنّه لا يمكن ضبط قاعدة كلّيّة عامّة فيها. فلذا لا يبحث عنها في علم الأصول ، ومعاجم اللغة ونحوها هي المتكفّلة بتشخيص مفرداتها.

وعلى أيّ حال ، فنحن نعقد «مباحث الألفاظ» في سبعة أبواب :

١. المشتق

٢. الأوامر

٣. النواهي

٤. المفاهيم

٥. العامّ والخاصّ

٦. المطلق والمقيّد

٧. المجمل والمبيّن

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٩.

٦٥

الباب الأوّل

المشتقّ

اختلف الأصوليون من القديم في المشتقّ في أنّه حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال ومجاز فيما انقضى عنه التلبّس ، أو أنّه حقيقة في كليهما ، بمعنى أنّه موضوع للأعمّ منهما (١)؟

بعد اتّفاقهم على أنّه مجاز فيما يتلبّس بالمبدإ في المستقبل.

ـ ذهب الأشاعرة (٢) وجماعة من المتأخّرين من أصحابنا إلى الأوّل (٣).

__________________

(١) في قوله : «بمعنى أنّه موضوع للأعمّ منهما» اشارة إلى الخلاف الواقع بين الأصوليّين من أنّ النزاع في المشتقّ هل هو في أمر لغويّ ـ أي في كيفيّة وضع الواضع ـ أو في أمر عقليّ ـ أى في صحّة اطلاقه ـ؟. فذهب الأكثر إلى الأوّل. ومنهم المصنّف رحمه‌الله هاهنا ، حيث قال : «بمعنى أنّه موضوع ...» فالنزاع في أنّه هل الواضع وضع هيئة المشتقّ لخصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال أو الأعمّ منه وممّا انقضى عنه المبدأ؟

ونسب القول الثاني إلى المحقّق الطهرانيّ. فراجع نهاية الدراية ١ : ١١٣.

(٢) وفي جميع النسخ المطبوعة «ذهب المعتزلة» ، كما كان الموجود في جميعها في السطر الآتي أيضا «ذهب الأشاعرة» ، فجاء «المعتزلة» مكان «الاشاعرة» وبالعكس.

والصواب ما أثبتناه في المتن ؛ فإنّ الأشاعرة ذهبت إلى أنّه حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال ، والمعتزلة ذهبت إلى أنّه حقيقة فيه وفيما انقضى عنه المبدأ ، كما في نهاية السئول ٢ : ٨٢ ، إرشاد الفحول : ١٨ ، بدائع الأفكار (الرشتى) : ١٨٠ ، كفاية الأصول : ٦٤.

(٣) منهم : صاحب القوانين ، والمجدّد الشيرازيّ ، والمحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ ، والعلاّمة العراقيّ. راجع قوانين الأصول ١ : ٧٦ ؛ تقريرات المجدّد الشيرازيّ ١ : ٢٦٣ ؛ كفاية الأصول : ٦٤ ؛ فوائد الأصول ١ : ١٢٠ ؛ نهاية الأفكار ١ : ١٣٥.

٦٦

ـ وذهب المعتزلة وجماعة من المتقدّمين من أصحابنا إلى الثاني (١).

والحقّ هو القول الأوّل. وللعلماء أقوال أخر فيها تفصيلات بين هذين القولين لا يهمّنا التعرّض لها (٢) بعد اتّضاح الحقّ فيما يأتي.

وأهمّ شيء يعنينا في هذه المسألة ـ قبل بيان الحقّ فيها وهو أصعب ما فيها ـ أن نفهم محلّ النزاع وموضع النفي والإثبات. ولأجل أن يتّضح في الجملة موضع الخلاف نذكر مثالا له ، فنقول :

إنّه ورد كراهة الوضوء والغسل بالماء المسخن بالشمس ، فمن قال بالأوّل فلا بدّ ألاّ يقول بكراهتهما بالماء الذي برد وانقضى عنه التلبّس ؛ لأنّه عنده لا يصدق عليه حينئذ أنّه مسخن بالشمس ، بل كان مسخنا. ومن قال بالثاني فلا بدّ أن يقول بكراهتهما بالماء حال انقضاء التلبّس أيضا ؛ لأنّه عنده يصدق عليه أنّه مسخن حقيقة بلا مجاز.

ولتوضيح ذلك نذكر الآن أربعة أمور مذلّلة لتلك الصعوبة ، ثمّ نذكر القول المختار ودليله.

١. ما المراد من المشتقّ المبحوث عنه؟

اعلم أنّ «المشتقّ» باصطلاح النحاة ما يقابل الجامد ، ومرادهم واضح (٣). ولكن ليس هو (٤) موضع النزاع هنا ، بل بين المشتقّ بمصطلح النحويّين وبين المشتقّ المبحوث عنه عموم وخصوص من وجه ؛ لأنّ موضع النزاع هنا يشمل كلّ ما يحمل على الذات باعتبار قيام صفة فيها ، خارجة عنها ، تزول عنها وإن كان باصطلاح النحاة معدودا من الجوامد ، كلفظ الزوج والأخ والرقّ ونحو ذلك. ومن جهة أخرى لا يشمل الفعل بأقسامه ولا المصدر وإن كانت تسمّى مشتقّات عند النحويّين.

__________________

(١) ذهب إليه في مبادئ الوصول إلى علم الأصول : ٦٧ ، رسائل المحقّق الكركي ٢ : ٨٢ ؛ زبدة الأصول : ٣٣ ؛ إيضاح الفوائد ٣ : ٥٢.

(٢) وإن شئت فراجع الفصول الغرويّة : ٥٩.

(٣) وهو ما يؤخذ من لفظ آخر مع اشتماله على حروفه وموافقته معه في الترتيب.

(٤) أي المشتقّ عند النجاة على إطلاقه.

٦٧

والسرّ في ذلك أنّ موضع النزاع هنا يعتبر فيه شيئان :

١. أن يكون جاريا على الذات ، بمعنى أنّه يكون حاكيا عنها وعنوانا لها ، نحو اسم الفاعل ، واسم المفعول ، وأسماء المكان والآلة وغيرهما ، وما شابه هذه الأمور من الجوامد. ومن أجل هذا الشرط لا يشمل هذا النزاع الأفعال ولا المصادر ؛ لأنّها كلّها لا تحكي عن الذات ولا تكون عنوانا لها ، وإن كانت تسند إليها.

٢. ألاّ تزول الذات بزوال تلبّسها بالصفة ـ ونعني بالصفة المبدأ الذي منه يكون انتزاع المشتقّ واشتقاقه ، ويصحّ صدقه على الذات ـ بمعنى أن تكون الذات باقية محفوظة لو زال تلبّسها بالصفة ، فهي تتلبّس بها تارة ولا تتلبّس بها أخرى ، والذات تلك الذات في كلا الحالين.

وإنّما نشترط ذلك لأجل أن نتعقّل انقضاء التلبّس بالمبدإ مع بقاء الذات حتّى يصحّ أن نتنازع في صدق المشتقّ حقيقة عليها مع انقضاء حال التلبّس بعد الاتّفاق على صدقه حقيقة عليها حال التلبّس ، وإلاّ لو كانت الذات تزول بزوال التلبّس لا يبقى معنى لفرض صدق المشتقّ على الذات مع انقضاء حال التلبّس ، لا حقيقة ولا مجازا.

وعلى هذا ، لو كان المشتقّ من الأوصاف التي تزول الذات بزوال التلبّس بمبادئها ، فلا يدخل في محلّ النزاع ، وإن صدق عليها اسم المشتقّ ، مثل ما لو كان من الأنواع أو الأجناس أو الفصول بالقياس إلى الذات ، كالناطق والصاهل والحسّاس والمتحرّك بالإرادة.

واعتبر ذلك في مثال كراهة الجلوس للتغوّط تحت الشجرة المثمرة ، فإنّ هذا المثال يدخل في محلّ النزاع لو زالت الثمرة عن الشجرة ، فيقال : هل يبقى اسم «المثمرة» صادقا حقيقة عليها حينئذ فيكره الجلوس أو لا؟ أمّا : لو اجتثّت الشجرة فصارت خشبة فإنّها لا تدخل في محلّ النزاع ؛ لأنّ الذات ـ وهي «الشجرة» ـ قد زالت بزوال الوصف الداخل في حقيقتها ، فلا يتعقّل معه بقاء وصف الشجرة المثمرة لها ، لا حقيقة ولا مجازا. وأمّا الخشب : فهو ذات أخرى لم يكن فيما مضى قد صدق عليه ـ بما أنّه خشب ـ وصف الشجرة المثمرة حقيقة ؛ إذ لم يكن متلبّسا ـ بما هو خشب ـ بالشجرة ثمّ زال عنه التلبّس.

٦٨

وبناء على اعتبار هذين الشرطين يتّضح ما ذكرناه في صدر البحث من أنّ موضع النزاع في المشتقّ يشمل كلّ ما كان جاريا على الذات باعتبار قيام صفة خارجة عن الذات وإن كان معدودا من الجوامد اصطلاحا. ويتّضح أيضا عدم شمول النزاع للأفعال والمصادر.

كما يتّضح أنّ النزاع يشمل كلّ وصف جار على الذات ، ولا يفرق فيه بين أن يكون مبدؤه من الأعراض الخارجيّة المتأصّلة ، كالبياض والسواد والقيام والقعود ، أو من الأمور الانتزاعيّة ، كالفوقيّة والتحتيّة والتقدّم والتأخّر ، أو من الأمور الاعتباريّة المحضة ، كالزوجيّة والملكيّة والوقف والحرّيّة.

٢. جريان النزاع في اسم الزمان

بناء على ما تقدّم قد يظنّ عدم جريان النزاع في اسم الزمان ؛ لأنّه قد تقدّم أنّه يعتبر في جريانه بقاء الذات مع زوال الوصف ، مع أنّ زوال الوصف في اسم الزمان ملازم لزوال الذات ؛ لأنّ الزمان متصرّم الوجود ، فكلّ جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق ، فلا تبقى ذات مستمرّة ؛ فإذا كان يوم الجمعة مقتل زيد ـ مثلا ـ فيوم السبت الذي بعده ذات أخرى من الزمان لم يكن لها وصف القتل فيها ، ويوم الجمعة تصرّم وزال كما زال نفس الوصف (١).

والجواب (٢) : أنّ هذا صحيح لو كان لاسم الزمان لفظ مستقلّ مخصوص ، ولكن الحقّ أنّ اسم الزمان موضوعة لما هو يعمّ اسم الزمان والمكان ويشملهما معا ، فمعنى «المضرب» ـ مثلا ـ الذات المتّصفة بكونها ظرفا للضرب ، والظرف أعمّ من أن يكون زمانا أو مكانا ،

__________________

(١) اعلم أنّ صاحب الفصول ذهب إلى عدم جريانه في اسم الزمان. واستدلّ عليه بغير ما ذكر في المتن. وهذا الدليل المذكور في المتن أوّل من تعرّض له المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٥٨. وراجع : الفصول : ٦٠.

(٢) هكذا أجاب عنه المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ١١٨. وتبعه السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

وأجيب عنه أيضا بوجوه أخر ، فراجع : كفاية الأصول : ٥٨ ، وفوائد الأصول ١ : ٨٩ ؛ وبدائع الأفكار «العراقي» ١ : ١٦٢ ـ ١٦٤ ، ونهاية الأصول ١ : ٦٤. وناقش فيها السيّد الامام الخمينيّ وذهب إلى خروج اسم الزمان عن محلّ النزاع ، فراجع : مناهج الوصول ١ : ١٩٧ ـ ٢٠٠.

٦٩

ويتعيّن أحدهما بالقرينة. والهيئة إذا كانت موضوعة للجامع بين الظرفين فهذا الجامع يكفي في صحّة الوضع له ، وتعميمه لما تلبّس بالمبدإ وما انقضى عنه أن يكون أحد فرديه يمكن أن يتصوّر فيه انقضاء المبدأ وبقاء الذات.

والخلاصة : أنّ النزاع حينئذ يكون في وضع أصل الهيئة التي تصلح للزمان والمكان ، لا لخصوص اسم الزمان. ويكفي في صحّة الوضع للأعمّ إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه ، وإن امتنع الفرد الآخر.

٣. اختلاف المشتقّات من جهة المبادئ

وقد يتوهّم بعضهم (١) أنّ النزاع هنا لا يجري في بعض المشتقّات الجارية على الذات ، مثل النجّار والخيّاط والطبيب والقاضي ، ونحو ذلك ممّا كان للحرف والمهن ، بل في هذه من المتّفق عليه أنّه موضوع للأعمّ. ومنشأ الوهم أنّا نجد صدق هذه المشتقّات حقيقة على من انقضى عنه التلبّس بالمبدإ ـ من غير شكّ ـ ، وذلك نحو صدقها على من كان نائما ـ مثلا ـ مع أنّ النائم غير متلبّس بالنجارة فعلا ، أو الخياطة ، أو الطبابة ، أو القضاء ، ولكنّه كان متلبّسا بها في زمان مضى. وكذلك الحال في أسماء الآلة ، كالمنشار والمقود والمكنسة ؛ فإنّها تصدق على ذواتها حقيقة مع عدم التلبّس بمبادئها.

والجواب عن ذلك : أنّ هذا التوهّم منشؤه الغفلة عن معنى المبدأ المصحّح لصدق المشتقّ ، فإنّه يختلف باختلاف المشتقّات ؛ لأنّه تارة يكون من الفعليّات ، وأخرى من الملكات ، وثالثة من الحرف والصناعات. مثلا : اتّصاف زيد بأنّه قائم إنّما يتحقّق إذا تلبّس بالقيام فعلا ؛ لأنّ القيام يؤخذ على نحو الفعليّة مبدأ لوصف «قائم» ، ويفرض الانقضاء بزوال فعليّة القيام عنه. وأمّا اتّصافه بأنّه عالم بالنحو أو أنّه قاضي البلد : فليس بمعنى أنّه يعلم ذلك فعلا ، أو أنّه مشغول بالقضاء بين الناس فعلا ، بل بمعنى أنّ له ملكة العلم أو منصب القضاء ، فما دامت الملكة أو الوظيفة موجودتين (٢) فهو متلبّس بالمبدإ حالا وإن كان

__________________

(١) وهو الفاضل التونيّ على ما في بدائع الأفكار «الرشتيّ» : ١٧٨ ، وحاشية قوانين الأصول ١ : ٧٨.

(٢) كذا. والأولى : «موجودة» لمكان «أو».

٧٠

نائما أو غافلا. نعم ، يصحّ أن نتعقّل الانقضاء إذا زالت الملكة أو سلبت عنه الوظيفة ، وحينئذ يجري النزاع في أنّ وصف القاضي ـ مثلا ـ هل يصدق حقيقة على من زال عنه منصب القضاء؟

وكذلك الحال في مثل النجّار والخيّاط والمنشار ، فلا يتصوّر فيها الانقضاء إلاّ بزوال حرفة النجارة ، ومهنة الخياطة ، وشأنيّة النشر في المنشار.

والخلاصة : أنّ الزوال والانقضاء في كلّ شيء بحسبه ، والنزاع في المشتقّ إنّما هو في وضع الهيئات ، مع قطع النظر عن خصوصيات المبادئ المدلول عليها بالموادّ التي تختلف اختلافا كثيرا.

٤. استعمال المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة

اعلم أنّ المشتقّات التي هي محلّ النزاع بأجمعها هي من الأسماء.

والأسماء مطلقا لا دلالة لها على الزمان حتّى اسم الفاعل واسم المفعول ، فإنّه كما يصدق العالم حقيقة على من هو عالم فعلا كذلك يصدق حقيقة على من كان عالما فيما مضى ، أو يكون عالما فيما يأتي ، بلا تجوّز إذا كان إطلاقه عليه بلحاظ حال التلبّس بالمبدإ ، كما إذا قلنا : «كان عالما» أو «سيكون عالما» ، فإنّ ذلك حقيقة بلا ريب ، نظير الجوامد لو تقول فيها ـ مثلا ـ : «الرماد كان خشبا» أو «الخشب سيكون رمادا». فإذن إذا كان الأمر كذلك فما موقع النزاع في إطلاق المشتقّ على ما مضى عليه التلبّس أنّه حقيقة أو مجاز؟

نقول : إنّ الإشكال والنزاع هنا إنّما هو فيما إذا انقضى التلبّس بالمبدإ وأريد إطلاق المشتقّ فعلا على الذات التي انقضى عنها التلبّس ، أي إنّ الإطلاق عليها بلحاظ حال النسبة والإسناد الذي هو حال النطق غالبا ، كأن تقول ـ مثلا ـ : «زيد عالم فعلا» ، أي إنّه الآن موصوف بأنّه عالم ؛ لأنّه كان فيما مضى عالما ، كمثال إثبات الكراهة للوضوء بالماء المسخن بالشمس سابقا بتعميم لفظ المسخن في الدليل لما كان مسخنا.

فتحصّل ممّا ذكرناه ثلاثة أمور :

١. إنّ إطلاق المشتقّ بلحاظ حال التلبّس حقيقة مطلقا ، سواء كان بالنظر إلى ما مضى

٧١

أو الحال أو المستقبل. وذلك بالاتّفاق.

٢. إنّ إطلاقه على الذات فعلا بلحاظ حال النسبة والإسناد قبل زمان التلبّس لأنّه سيتلبّس به فيما بعد مجاز بلا اشكال ، وذلك بعلاقة الأول أو المشارفة. وهذا متّفق عليه أيضا.

٣. إنّ إطلاقه على الذات فعلا ـ أي بلحاظ حال النسبة والإسناد ـ لأنّه كان متّصفا به سابقا هو محلّ الخلاف والنزاع ، فقال قوم بأنّه حقيقة ، وقال آخرون بأنّه مجاز.

المختار

إذا عرفت ما تقدّم من الأمور ، فنقول :

الحقّ أنّ المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، ومجاز في غيره.

ودليلنا : التبادر وصحّة السلب عمّن زال عنه الوصف ، فلا يقال لمن هو قاعد بالفعل : «إنّه قائم» ، ولا لمن هو جاهل بالفعل : «إنّه عالم». وذلك لمجرّد أنّه كان قائما أو عالما فيما سبق.

نعم ، يصحّ ذلك على نحو المجاز ، أو يقال : «إنّه كان قائما أو عالما» ، فيكون حقيقة حينئذ ؛ إذ يكون الإطلاق بلحاظ حال التلبّس.

وعدم تفرقة بعضهم (١) بين الإطلاق بلحاظ حال التلبّس وبين الإطلاق بلحاظ حال النسبة والإسناد هو الذي أوهم القول بوضع المشتقّ للأعمّ ؛ إذ وجد أنّ الاستعمال يكون على نحو الحقيقة فعلا مع أنّ التلبّس قد مضى ، ولكنّه غفل عن أنّ الإطلاق كان بلحاظ حال التلبّس ، فلم يستعمله ـ في الحقيقة ـ إلاّ في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، لا فيما مضى عنه التلبّس حتّى يكون شاهدا له.

ثمّ إنّك عرفت ـ فيما سبق (٢) ـ أنّ زوال الوصف يختلف باختلاف الموادّ من جهة كون المبدأ أخذ على نحو الفعليّة أو على نحو الملكة أو الحرفة. فمثل صدق الطبيب حقيقة

__________________

(١) وهو من قال بوضع المشتقّ للأعمّ ، كالمحقّق الكركيّ والعلاّمة الحلّي وفخر المحقّقين كما مرّ.

(٢) راجع الصفحة : ٧٠.

٧٢

على من لا يشتغل بالطبابة فعلا لنوم أو راحة أو أكل لا يكشف عن كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ ـ كما قيل (١) ـ ، وذلك لأنّ المبدأ فيه أخذ على نحو الحرفة أو الملكة ، وهذا لم يزل تلبّسه به حين النوم أو الراحة.

نعم ، إذا زالت الملكة أو الحرفة عنه كان إطلاق الطبيب عليه مجازا ، إذا لم يكن بلحاظ حال التلبّس كما لو قيل : «هذا طبيبنا بالأمس» ، بأن يكون قيد «بالأمس» لبيان حال التلبّس ، فإنّ هذا الاستعمال لا شكّ في كونه على نحو الحقيقة. وقد سبق بيان ذلك (٢).

تمرينات (٧)

التمرين الأوّل

١. ما هو محلّ النزاع في المشتقّ؟

٢. ما هو رأي المعتزلة والأشاعرة في باب المشتقّ؟

٣. ما المراد من المشتقّ المبحوث عنه؟

٤. ما الدليل على جريان النزاع في اسم الزمان؟

٥. هل يختلف تلبّس المبدأ بالذات باختلاف الجهات؟

٦. ما هو مختار المصنّف ودليله؟

التمرين الثاني

١. هل النزاع في المشتقّ لغويّ أو عقليّ؟

__________________

(١) والقائل هو الفاضل التونيّ على ما في بدائع الأفكار «الرشتيّ» : ١٧٨ ، وحاشية قوانين الأصول ١ : ٧٨.

(٢) راجع الصفحة : ٧١.

٧٣

الباب الثاني

الأوامر

وفيه بحثان :

[١]. في مادّة الأمر.

[٢]. وصيغة الأمر.

وخاتمة في تقسيمات الواجب.

المبحث الأوّل : مادّة الأمر

وهي كلمة «الأمر» المؤلّفة من الحروف (أ. م. ر). وفيها ثلاث مسائل :

١. معنى كلمة «الأمر»

قيل (١) : إنّ كلمة «الأمر» لفظ مشترك بين الطلب وغيره ممّا تستعمل فيه هذه الكلمة ، كالحادثة والشأن والفعل ، كما تقول : «جئت لأمر كذا» ، أو «شغلني أمر» أو «أتى فلان بأمر عجيب».

ولا يبعد أن تكون المعاني ـ التي تستعمل فيها كلمة «الأمر» ما خلا الطلب ـ ترجع إلى معنى واحد جامع بينها ، وهو مفهوم «الشيء» ، فيكون لفظ «الأمر» مشتركا بين معنيين فقط : «الطلب» و «الشيء (٢)».

__________________

(١) والقائل أبو الحسين البصريّ من المعتزلة ، فراجع المعتمد في أصول الفقه ١ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) هذا ما اختاره المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٨٢. وتبعه المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ١٥٦.

٧٤

والمراد من الطلب إظهار الإرادة والرغبة بالقول أو الكتابة أو الإشارة أو نحو هذه الأمور ممّا يصحّ إظهار الإرادة والرغبة وإبرازهما به (١) ، فمجرّد الإرادة والرغبة من دون إظهارها بمظهر لا يسمّى طلبا. والظاهر أنّه ليس كلّ طلب يسمّى أمرا ، بل بشرط مخصوص (٢) سيأتي ذكره في المسألة الثانية ، فتفسير «الأمر» بالطلب من باب تعريف الشيء بالأعمّ.

والمراد من الشيء من لفظ «الأمر» أيضا ليس كلّ شيء على الإطلاق ، فيكون تفسيره به من باب تعريف الشيء بالأعمّ أيضا ؛ فإنّ الشيء لا يقال له : «أمر» إلاّ إذا كان من الأفعال والصفات ، ولذا لا يقال : «رأيت أمرا» إذا رأيت إنسانا أو شجرا أو حائطا. ولكن ليس المراد من الفعل والصفة المعنى الحدثيّ ـ أي المعنى المصدريّ ـ ، بل المراد منه نفس الفعل أو الصفة بما هو موجود في نفسه ، ـ يعني لم يلاحظ فيه جهة الصدور من الفاعل والإيجاد وهو المعبّر عنه عند بعضهم بالمعنى الاسم المصدريّ ، أي ما يدلّ عليه اسم المصدر ـ. ولذا لا يشتقّ منه ، فلا يقال : (أمر. يأمر. آمر. مأمور) بالمعنى المأخوذ من الشيء ، ولو كان معنى حدثيّا ، لاشتقّ منه.

بخلاف الأمر بمعنى الطلب ، فإنّ المقصود منه المعنى الحدثيّ وجهة الصدور والإيجاد ، ولذا يشتقّ منه فيقال : (أمر. يأمر. آمر. مأمور).

والدليل على أنّ لفظ الأمر مشترك بين معنيين : الطلب والشيء ، لا أنّه موضوع للجامع بينهما :

١. إنّ «الأمر» ـ كما تقدّم ـ بمعنى الطلب يصحّ الاشتقاق منه ، ولا يصحّ الاشتقاق منه بمعنى الشيء ؛ والاختلاف بالاشتقاق وعدمه دليل على تعدّد الوضع.

__________________

(١) والظاهر أنّ تفسير بعض الأصوليّين * للفظ الأمر بأنّه «الطلب بالقول» ليس القصد منه أنّ لهم اصطلاحا مخصوصا فيه ، بل باعتبار أنّه أحد مصاديق المعنى ؛ فإنّ الأمر كما يصدق على الطلب بالقول يصدق على الطلب بالكتابة أو الإشارة أو نحوهما. ـ منه رحمه‌الله ـ

(٢) وهو اعتبار العلوّ في الآمر.

__________________

* وهو المحقّق القميّ في قوانين الاصول ١ : ٨١.

٧٥

٢. إنّ «الأمر» بمعنى الطلب يجمع على «أوامر» وبمعنى الشيء على «أمور» ؛ واختلاف الجمع في المعنيين دليل على تعدّد الوضع.

٢. اعتبار العلوّ في معنى الأمر

قد سبق أنّ الأمر يكون بمعنى الطلب ، ولكن لا مطلقا بل بمعنى طلب مخصوص. والظاهر أنّ الطلب المخصوص هو الطلب من العالي إلى الداني ، فيعتبر فيه العلوّ في الآمر.

وعليه ، لا يسمّى الطلب من الداني إلى العالي «أمرا» ، بل يسمّى «استدعاء». وكذا لا يسمّى الطلب من المساوي إلى مساويه في العلوّ أو الحطّة (١) «أمرا» ، بل يسمّى «التماسا» ، وإن استعلى الداني أو المساوي وأظهر علوّه وترفّعه وليس هو بعال حقيقة.

أمّا العالي فطلبه يكون أمرا وإن لم يكن متظاهرا بالعلوّ (٢).

كلّ هذا بحكم التبادر وصحّة سلب الأمر عن طلب غير العالي ، ولا يصحّ إطلاق الأمر على الطلب من غير العالي إلاّ بنحو العناية والمجاز وإن استعلى.

٣. دلالة لفظ الأمر على الوجوب

اختلفوا في دلالة لفظ «الأمر» بمعنى الطلب على الوجوب ، فقيل : إنّه موضوع لخصوص الطلب الوجوبيّ (٣). وقيل : للأعمّ منه ومن الطلب الندبيّ (٤). وقيل : مشترك بينهما اشتراكا لفظيّا (٥). وقيل : غير ذلك (٦).

__________________

(١) الحطّة أي النزول.

(٢) فالمعتبر في صدق الأمر هو علوّ الآمر ، خلافا لما يظهر من قوانين الأصول ١ : ٨١ ، فإنّه اعتبر الاستعلاء والعلوّ في الآمر.

(٣) ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٨٣.

(٤) والقائل هو المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ١٦٠. والمراد منه أنّ الأمر حقيقة في مطلق الطلب الجامع بين الوجوبيّ والندبىّ.

(٥) لم أعثر على قائله. نعم ، ذهب السيّد المرتضى ـ على ما في الفصول : ٦٤ ، وقوانين الأصول ١ : ٨٣ ـ إلى أنّ صيغة «افعل» مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكا لفظيّا.

(٦) راجع فوائد الأصول ١ : ١٢٩.

٧٦

والحقّ عندنا أنّه دالّ على الوجوب وظاهر فيه ، فيما إذا كان مجرّدا وعاريا عن قرينة على الاستحباب. واحراز هذا الظهور بهذا المقدار كاف في صحّة استنباط الوجوب من الدليل الذي يتضمّن كلمة «الأمر» ، ولا يحتاج إلى إثبات [أنّ] منشأ هذا الظهور هل هو الوضع أو شيء آخر؟

ولكن من ناحية علميّة صرفة يحسن أن نفهم منشأ هذا الظهور ، فقد قيل : إنّ معنى الوجوب مأخوذ قيدا في الموضوع له لفظ «الأمر» (١). وقيل : مأخوذ قيدا في المستعمل فيه إن لم يكن مأخوذا في الموضوع له (٢).

والحقّ أنّه ليس قيدا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، بل منشأ هذا الظهور من جهة حكم العقل بوجوب طاعة الآمر ؛ فإنّ العقل يستقلّ بلزوم الانبعاث عن بعث المولى والانزجار عن زجره ؛ قضاء لحقّ المولويّة والعبوديّة ، فبمجرّد بعث المولى يجد العقل أنّه لا بدّ للعبد من الطاعة والانبعاث ما لم يرخّص في تركه ويأذن في مخالفته. فليس المدلول للفظ «الأمر» إلاّ الطلب من العالي ، ولكنّ العقل هو الذي يلزم العبد بالانبعاث ويوجب عليه الطاعة لأمر المولى ما لم يصرّح المولى بالترخيص ويأذن بالترك (٣).

وعليه ، فلا يكون استعماله في موارد الندب مغايرا لاستعماله في موارد الوجوب من جهة المعنى المستعمل فيه اللفظ. فليس هو موضوعا للوجوب ، بل ولا موضوعا للأعمّ من الوجوب والندب ؛ لأنّ الوجوب والندب ليسا من التقسيمات اللاحقة للمعنى المستعمل فيه اللفظ ، بل من التقسيمات اللاحقة للأمر بعد استعماله في معناه الموضوع له.

__________________

(١) كما هو الظاهر من كفاية الأصول : ٨٣.

(٢) وهذا يظهر من هداية المسترشدين : ١٣٩.

(٣) هكذا أفاد المحقّق النائينيّ فى طريق استفادة الوجوب من الصيغة. وتبعه تلميذه المحقّق الخوئيّ في المحاضرات. فراجع فوائد الأصول ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، والمحاضرات ٢ : ١٣١.

٧٧

تمرينات (٨)

١. ما معنى الأمر بمادّته؟

٢. ما الدليل على أنّ لفظ «الأمر» مشترك بين الطلب والشيء؟

٣. هل يعتبر العلوّ في معنى الأمر؟

٤. ما هي الأقوال في مدلول لفظ الأمر؟

٥. ما هو منشأ ظهور لفظ الأمر في الوجوب؟

٧٨

المبحث الثاني : صيغة الأمر

١. معنى صيغة الأمر

صيغة الأمر ـ أي هيئته ـ ، كصيغة «افعل» ونحوها (١) تستعمل في موارد كثيرة :

منها : البعث ، كقوله (تعالى) : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٢) ، (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٣).

ومنها : التهديد ، كقوله (تعالى) : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٤).

ومنها : التعجيز ، كقوله (تعالى) : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٥).

وغير ذلك من التسخير (٦) ، والإنذار (٧) ، والترجّي والتمنّي (٨) ، ونحوها (٩). ولكنّ الظاهر أنّ الهيئة في جميع هذه المعاني استعملت في معنى واحد ، لكن ليس هو واحدا من هذه المعاني ؛ لأنّ الهيئة مثل «افعل» شأنها شأن الهيئات الأخرى وضعت لإفادة نسبة خاصّة كالحروف ، ولم توضع لإفادة معان مستقلّة ، فلا يصحّ أن يراد منها مفاهيم هذه المعاني المذكورة التي هي معان اسميّة.

وعليه ، فالحقّ أنّها موضوعة للنسبة الخاصّة القائمة بين المتكلّم والمخاطب والمادّة ، والمقصود من المادّة الحدث الذي وقع عليه مفاد الهيئة ، مثل الضرب والقيام والقعود في «اضرب» و «قم» و «اقعد» ونحو ذلك. وحينئذ ينتزع منها عنوان طالب

__________________

(١) المقصود بنحو صيغة «افعل» أيّة صيغة وكلمة تؤدّي مؤدّاها في الدلالة على الطلب والبعث ، كالفعل المضارع المقرون بلام الأمر أو المجرّد منه إذا قصد به إنشاء الطلب نحو قولنا : «تصلّي. تغتسل. أطلب منك كذا» أو جملة اسميّة نحو : «هذا مطلوب منك» أو اسم فعل نحو : «صه ومه ومهلا» وغير ذلك ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) النساء (٤) : الآية ١٠٣ ؛ الحجّ (٢٢) : الآية ٧٨ ؛ المجادلة (٥٨) : الآية ١٣.

(٣) المائدة (٥) : الآية ١.

(٤) فصّلت (٤) : الآية ٤٠.

(٥) البقرة (٢) : الآية ٢٣.

(٦) كقوله (تعالى) : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) البقرة (٢) الآية : ٦٥ ؛ فإنّ مخاطبتهم بذلك في معرض تذليلهم.

(٧) كقوله (تعالى) : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) الزمر (٣٩) الآية : ٨.

(٨) كقول الشاعر : «ألا أيّها الليل الطويل ألا انجل» ديوان امرئ القيس : ٤٩.

(٩) كالاستعانة والتكذيب والمشورة والتعجّب والاحتقار والدعاء والإهانة والتسوية.

٧٩

ومطلوب منه ومطلوب.

فقولنا : «اضرب» ، يدلّ على النسبة الطلبيّة بين الضرب والمتكلّم والمخاطب ، ومعنى ذلك جعل الضرب على عهدة المخاطب ، وبعثه نحوه وتحريكه إليه ، وجعل الداعي في نفسه للفعل.

وعلى هذا ، فمدلول هيئة الأمر ومفادها هو النسبة الطلبيّة ، وإن شئت فسمّها : «النسبة البعثيّة (١)» ؛ لغرض إبراز جعل المأمور به ـ أي المطلوب ـ في عهدة المخاطب ، وجعل الداعي في نفسه ، وتحريكه وبعثه نحوه ، ما شئت فعبّر ، غير أنّ هذا الجعل أو الإنشاء يختلف فيه الداعي له من قبل المتكلّم ، فتارة ، يكون الداعي له هو البعث الحقيقيّ وجعل الداعي في نفس المخاطب لفعل المأمور به ، فيكون هذا الإنشاء حينئذ مصداقا للبعث والتحريك وجعل الداعي ، أو إن شئت فقل : يكون مصداقا للطلب ، فإنّ المقصود واحد. وأخرى يكون الداعي له هو التهديد ، فيكون مصداقا للتهديد ، ويكون تهديدا بالحمل الشائع. وثالثة يكون الداعي له هو التعجيز ، فيكون مصداقا للتعجيز وتعجيزا بالحمل الشائع ... وهكذا في باقي المعاني المذكورة وغيرها.

وإلى هنا يتجلّى ما نريد أن نوضحه ؛ فإنّا نريد أن نقول بنصّ العبارة إنّ البعث أو التهديد أو التعجيز أو نحوها ليست هي معاني لهيئة الأمر قد استعملت في مفاهيمها ـ كما ظنّه القوم ـ لا معاني حقيقيّة ولا مجازية ؛ بل الحقّ أنّ المنشأ بها ليس إلاّ النسبة الطلبيّة الخاصّة ، وهذا الإنشاء يكون مصداقا لأحد هذه الأمور باختلاف الدواعي ، فيكون تارة بعثا بالحمل الشائع ، وأخرى تهديدا بالحمل الشائع وهكذا. لا أنّ هذه المفاهيم مدلولة للهيئة ومنشأة بها حتّى مفهوم البعث والطلب.

والاختلاط في الوهم بين المفهوم والمصداق هو الذي جعل أولئك يظنّون أنّ هذه الأمور مفاهيم لهيئة الأمر وقد استعملت فيها استعمال اللفظ في معناه ، حتّى اختلفوا في أنّه أيّها المعنى الحقيقيّ الموضوع له الهيئة ، وأيّها المعنى المجازيّ؟

__________________

(١) وقد يقال لها : «النسبة الإرساليّة» كما في نهاية الأفكار ١ : ١٧٨ ، أو يقال لها : «النسبة الإيقاعيّة» كما في فوائد الأصول ١ : ١٢٩.

٨٠