اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

اتّصاليّة باقية لليقين ، ولا لمتعلّقه بعد الشكّ في بقائه واستمراره.

فيتعيّن أن يكون إسناد النقض إلى اليقين على نحو المجاز ، ولكن هذا المجاز له معنيان يدور الأمر بينهما ، وإذا تعدّدت المعاني المجازيّة فلا بدّ أن يحمل اللفظ على أقربها إلى المعنى الحقيقيّ. وهذا (١) يكون قرينة معيّنة للمعنى المجازيّ. وهنا المعنيان المجازيّان أحدهما أقرب من الآخر ، وهما :

١. أن يراد من النقض مطلق رفع اليد عن الشيء ، وترك العمل به ، وترتيب الأثر عليه ولو لعدم المقتضي له ، فيكون المنقوض عامّا شاملا لكلّ يقين.

٢. أن يراد منه رفع الأمر الثابت.

وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى المعنى الحقيقيّ ، فهو الظاهر من إسناد النقض.

وحينئذ فيختصّ متعلّقه بما من شأنه الاستمرار المختصّ بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى.

والظاهر رجحان هذا المعنى الثاني على الأوّل ؛ لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصا لمتعلّقه إذا كان متعلّقه عامّا ، كما في قول القائل : «لا تضرب أحدا» ، فإنّ الضرب يكون قرينة على اختصاص متعلّقه بالأحياء ، ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب.

هذه خلاصة ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، وقد وقعت فيه عدّة مناقشات نذكر أهمّها ، ونذكر ما عندنا ليتّضح مقصوده ، وليتجلّى الحقّ إن شاء الله (تعالى) :

١. المناقشة الأولى (٢) : أنّ النقض يقابل الإبرام. (٣) والنقض ـ كما فسّروه في اللغة (٤) ـ : «إفساد ما أبرم من عقد ، أو بناء ، أو حبل ، أو نحو ذلك». وعليه ، فتفسيره من الشيخ قدس‌سره برفع

__________________

(١) أي كون أحدها أقرب إلى المعنى الحقيقي.

(٢) كما في درر الفوائد ٢ : ١٦١.

(٣) وذهب المحقّق الخراسانيّ وتلميذه المحقّق الحائريّ إلى أنّ تقابلهما تقابل التضادّ.

ومختار المحقّق الأصفهانيّ أنّ تقابلهما ليس تقابل التضادّ ؛ لأنّه ليس هناك صفتان ثبوتيّتان تتعاقبان على موضوع واحد ، بل تقابلهما تقابل العدم والملكة ، فالنقض هو عدم الإبرام عمّا من شأنه أن يكوم مبرما. نهاية الدراية ٣ : ٥١.

(٤) راجع قاموس اللغة ، مادّة (النقض).

٦٤١

الهيئة الاتّصاليّة ليس واضحا ، بل ليس صحيحا ؛ إذ أنّ مقابل الاتّصال الانفصال ، فيكون معنى النقض حينئذ انفصال المتّصل. وهو بعيد جدّا عن معنى نقض العهد والعقد.

أقول : ليس من البعيد أن يريد الشيخ قدس‌سره من الاتّصال ما يقابل الانحلال ، وإن كان ذلك على نحو المسامحة منه في التعبير ، (١) لا ما يقابل الانفصال ، فلا إشكال.

٢. المناقشة الثانية : ـ وهي أهمّ مناقشة ـ عليها تبتني صحّة استدلاله على التفصيل ، أو بطلانه. وحاصلها أنّ هذا التوجيه من الشيخ قدس‌سره للاستدلال يتوقّف على التصرّف في اليقين بإرادة المتيقّن منه ، كما نبّه عليه نفسه ؛ (٢) لأنّه لو كان النقض مستندا إلى نفس اليقين ـ كما هو ظاهر التعبير ـ فإنّ اليقين بنفسه مبرم ومحكم ، فيصحّ إسناد النقض إليه ، ولو لم يكن لمتعلّقه في ذاته استعداد البقاء ؛ ضرورة أنّه لا يحتاج فرض الإبرام في المنقوض إلى فرض أن يكون متعلّق اليقين ثابتا ومبرما في نفسه ، حتى تختصّ حرمة النقض بالشكّ في الرافع.

ولكن لا تصحّ إرادة المتيقّن من اليقين على وجه يكون الإسناد اللفظيّ إلى نفس المتيقّن ؛ لأنّه إنّما يصحّ ذلك إذا كان على نحو المجاز في الكلمة ، أو على نحو حذف المضاف ، وكلا الوجهين بعيد كلّ البعد ؛ إذ لا علاقة بين اليقين والمتيقّن ، حتى يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر على نحو المجاز في الكلمة ، بل ينبغي أن يعدّ ذلك من الأغلاط. (٣) وأمّا : تقدير المضاف ـ بأنّ نقدّر متعلّق اليقين أو نحو ذلك ـ فإنّ تقدير المحذوف يحتاج إلى قرينة لفظيّة ، [وهي] مفقودة.

ومن أجل هذا استظهر المحقّق الآخوند قدس‌سره (٤) عموم الأخبار لموردي الشكّ في المقتضي والرافع ؛ لأنّ النقض إذا كان مسندا إلى نفس اليقين ، فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون المتيقّن ممّا له استعداد للبقاء.

__________________

(١) كما قال المحقّق الأصفهانيّ : «ولعلّ المراد به الاتّصال المقابل للانحلال مسامحة». نهاية الدراية ٣ : ٥٣.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٥٧٥.

(٣) كذا قال المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٤ : ٣٧٤.

(٤) كفاية الأصول : ٤٣٩.

٦٤٢

أقول : إنّ البحث عن هذا الموضوع بجميع أطرافه ، وتعقيب كلّ ما قيل في هذا الشأن من أساتذتنا ، وغيرهم يخرجنا عن طور هذه الرسالة ، (١) فالجدير بنا أن نكتفي بذكر خلاصة ما نراه من الحقّ في المسألة ، متجنّبين الإشارة إلى خصوصيّات الآراء ، والأقوال فيها حدّ الإمكان.

وعليه ، فنقول : ينبغي تقديم مقدّمات قبل بيان المختار ، وهي :

أوّلا : أنّه لا شكّ في أنّ النقض المنهيّ عنه مسند إلى اليقين في لفظ الأخبار ، وظاهرها أنّ وثاقة اليقين من جهة ما هو يقين هي المقتضية للتمسّك به وعدم نقضه في قبال الشكّ الذي هو عين الوهن والتزلزل ، لا سيّما مع التعبير فى بعضها (٢) بقوله عليه‌السلام : «لا ينبغي» ، والتعليل في البعض الآخر (٣) بوجود اليقين المشعر بعلّيته للحكم ، كما سبق بيانه في قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوئه» ، ولا سيّما مع مقابلة اليقين بالشكّ ، ولا شكّ أنّه ليس المراد من الشكّ المشكوك.

وعلى هذا ، فيتّضح جليّا أنّ حمل اليقين على إرادة المتيقّن على وجه يكون الإسناد اللفظي إلى المتيقّن بنحو المجاز في الكلمة ، أو بنحو حذف المضاف خلاف الظاهر منها ، بل خلاف سياقها ، بل مستهجن جدّا ، فيتأيّد ما قاله المعترض. ولذا استعبد شيخنا المحقّق النائينيّ (٤) أن يريد الشيخ الأعظم قدس‌سره من «المجاز» المجاز في الكلمة ، وهو استبعاد في محلّه. وأبعد منه إرادة حذف المضاف.

ثانيا : أنّه من المسلّم به عند الجميع ـ الذي لا شكّ فيه أيضا ـ أنّ النهي عن نقض اليقين في الأخبار ليس على حقيقته. والسرّ واضح ؛ لأنّ اليقين ـ حسب الفرض ـ منتقض فعلا بالشكّ ، فلا يقع تحت اختيار المكلّف ، فلا يصحّ النهي عنه.

__________________

(١) وإن أردت الاطّلاع عليه فراجع كفاية الأصول : ٤٤٢ ـ ٤٤٥ ؛ نهاية الدراية ٣ : ٥١ ـ ٦٧ ؛ فوائد الأصول ٤ : ٣٧٢ ـ ٣٧٧ ؛ نهاية الأفكار ٤ «القسم الأوّل» : ٧٥ ـ ٨٧.

(٢) وهو صحيحة زرارة الثانية.

(٣) وهو صحيحة زرارة الأولى.

(٤) في فوائد الأصول ٤ : ٣٧٤.

٦٤٣

وحينئذ ، فلا معنى للنهي عنه إلاّ أن يراد به عدم الاعتناء بالشكّ عملا ، والبناء عليه كأنّه لم يكن ؛ لغرض ترتيب أحكام اليقين عند الشكّ ، ولكن لا يصحّ أن يقصد أحكام اليقين من جهة أنّه صفة من الصفات ؛ لارتفاع أحكامه بارتفاعه قطعا ، فلم يكن رفع اليد عن الحكم عملا نقضا له بالشكّ ، بل باليقين ؛ لزوال موضوع الحكم قطعا.

وعليه ، فالمراد من «الأحكام» الأحكام الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين به ، فهو تعبير آخر عن الأمر بالعمل بالحالة السابقة في الوقت اللاحق ... بمعنى وجوب العمل في مقام الشكّ بمثل العمل في مقام اليقين ، كأنّ الشكّ لم يكن ، فكأنّه قال : «اعمل في حال شكّك ، كما كنت تعمل في حال يقينك ، ولا تعتني بالشكّ».

إذا عرفت ذلك فيبقى أن نعرف على أيّ وجه يصحّ أن يكون التعبير بحرمة نقض اليقين تعبيرا عن ذلك المعنى؟ فإنّ ذلك لا يخلو بحسب التصوّر عن أحد أمور أربعة :

١. أن يكون المراد من «اليقين» المتيقّن على نحو المجاز في الكلمة.

٢. أن يكون النقض أيضا متعلّقا في لسان الدليل بنفس المتيقّن ، ولكن على حذف المضاف.

٣. أن يكون النقض المنهيّ عنه مسندا إلى اليقين على نحو المجاز في الإسناد ، ويكون في الحقيقة مسندا إلى نفس المتيقّن ، والمصحّح لذلك اتّحاد اليقين والمتيقّن ، أو كون اليقين آلة وطريقا إلى المتيقّن. (١)

٤. أن يكون النهي عن نقض اليقين كناية عن لزوم العمل بالمتيقّن ، وإجراء أحكامه ؛ لأنّ ذلك لازم معناه باعتبار أنّ اليقين بالشيء مقتض للعمل به ، فحلّه يلازم رفع اليد عن ذلك الشيء ، أو عن حكمه ؛ إذ لا يبقى حينئذ ما يقتضي العمل به ، فالنهي عن حلّه يلزمه النهي عن ترك مقتضاه ، أعني النهي عن ترك العمل بمتعلّقة. (٢)

وقد عرفت في المقدّمة الأولى ، وفي مناقشة الشيخ قدس‌سره بعد إرادة الوجهين الأوّلين ، فيدور الأمر بين الثالث والرابع ، والرابع هو الأوجه والأقرب ، ولعلّه هو مراد الشيخ الأعظم قدس‌سره ، وإن كان الذي يبدو من بعض تعبيراته إرادة الوجه الأوّل الذي استبعد شيخنا المحقّق

__________________

(١) كما في كفاية الأصول ٤٤٣ ـ ٤٤٥.

(٢) هذا الوجه يظهر من كلمات المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٦٠ ـ ٦١.

٦٤٤

النائينيّ قدس‌سره أن يكون مقصوده ذلك كما تقدّم.

أمّا هو ـ أعني شيخنا النائينيّ قدس‌سره فلم يصرّح بإرادة أيّ من الوجهين الآخرين ، والأنسب ـ في عبارة بعض المقرّرين لبحثه ـ إرادة الوجه الثالث ؛ إذ قال : «إنّه يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن» (١).

وعلى كلّ حال ، فالوجه الرابع ـ أعني الاستعمال الكنائي ـ أقرب الوجوه وأولاها ، (٢) وفيه من البلاغة في البيان ما ليس في غيره ، كما أنّ فيه المحافظة على ظهور الأخبار وسياقها في إسناد النقض إلى نفس اليقين ، وقد استظهرنا منها ـ كما تقدّم في المقدّمة الأولى ـ أنّ وثاقة اليقين بما هو يقين هي المقتضية للتمسّك به. وفي الكناية ـ كما هو المعروف ـ بيان للمراد ، مع إقامة الدليل عليه ، فإنّ المراد الاستعماليّ هنا ـ الذي هو حرمة نقض اليقين بالشكّ ـ يكون كالدليل والمستند للمراد الجدّيّ المقصود الأصليّ في البيان ، والمراد الجدّيّ هو لزوم العمل على وفق المتيقّن بلسان النهي عن نقض اليقين.

ثالثا : بعد ما تقدّم ينبغي أن نسأل عن المراد من النقض في الأخبار ، هل المراد النقض الحقيقيّ ، أو النقض العمليّ؟ المعروف أنّ إرادة النقض الحقيقيّ محال ، فلا بدّ أن يراد النقض العمليّ ؛ لأنّ نقض اليقين ـ كما تقدّم ـ ليس تحت اختيار المكلّف ، فلا يصحّ النهي عنه. وعلى هذا بنى الشيخ الأعظم ، وصاحب «الكفاية» وغيرهما قدس‌سرهم (٣).

ولكنّ التدقيق في المسألة يعطي غير هذا ، [وهو] إنّما يلزم هذا المحذور لو كان النهي عن نقض اليقين مرادا جدّيّا ، أمّا : على ما ذكرناه ـ من أنّه على وجه الكناية ـ فإنّه ـ كما ذكرنا ـ يكون مرادا استعماليّا فقط ، ولا محذور في كون المراد الاستعماليّ ـ في الكناية ـ محالا ، أو كاذبا في نفسه ، إنّما المحذور إذا كان المراد الجدّيّ المكنيّ عنه كذلك.

__________________

(١) هذا حاصل العبارة الموجودة في فوائد الأصول ٤ : ٣٧٤. وإليك نصّ عبارته : «وبالجملة لا إشكال في أنّ العناية المصحّحة لورود النقض على اليقين ...».

(٢) كما هو مختار أستاذه المحقّق الأصفهانيّ ، كما مرّ.

(٣) راجع فرائد الأصول : ٢ : ٥٧٤ ؛ كفاية الأصول : ٤٤٤ ؛ فوائد الأصول ٤ : ٣٧٤.

٦٤٥

وعليه ، فحمل النقض على معناه الحقيقيّ أولى ، ما دام أنّ ذلك يصحّ بلا محذور.

النتيجة : أنّه إذا تمّت هذه المقدّمات فصحّ إسناد النقض الحقيقيّ إلى اليقين ؛ من أجل وثاقته من جهة ما هو يقين ، وإن كان النهي عنه يراد به لازم معناه على سبيل الكناية. فإنّا نقول : إنّ اليقين لمّا كان في نفسه مبرما ومحكما فلا يحتاج في صحّة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون متعلّقه ممّا له استعداد في ذاته للبقاء ، وإنّما يلزم ذلك لو كان الإسناد اللفظيّ إلى نفس المتيقّن ولو على نحو المجاز. وأمّا : كون أنّ المراد الجدّيّ هو النهي عن ترك مقتضى اليقين ـ الذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن ـ فإنّ ذلك مراد لبّيّ ، وليس فيه إسناد للنقض إلى المتيقّن في مقام اللفظ ، حتى يكون ذلك قرينة لفظيّة على المراد من المتيقّن. والسرّ في ذلك أنّ الكناية لا يقدّر فيها لفظ المكنيّ عنه ، على أنّ المكنيّ عنه ليس هو حرمة نقض المتيقّن ، بل ـ كما تقدّم ـ هو حرمة ترك مقتضى اليقين الذي هو عبارة عن لزوم العمل بالمتيقّن ، فلا نقض مسند إلى المتيقّن ، لا لفظا ولا لبّا ، حتى يكون ذلك قرينة على أنّ المراد من المتيقّن هو ما له استعداد في ذاته للبقاء ؛ لأجل أن يكون مبرما يصحّ إسناد النقض إليه.

الخلاصة

وخلاصة ما توصّلنا إليه هو أنّ الحقّ أنّ النقض مسند إلى نفس اليقين ، بلا مجاز في الكلمة ، ولا في الإسناد ، ولا على حذف مضاف ، ولكنّ النهي عنه جعل عنوانا على سبيل الكناية عن لازم معناه ، وهو لزوم الأخذ بالمتيقّن في ثاني الحال بترتيب آثاره الشرعيّة عليه ، وهذا المكنيّ عنه عبارة أخرى عن الحكم ببقاء المتيقّن. وإذا كان النهي عن نقض اليقين من باب الكناية فلا يستدعي ذلك أن نفرض في متعلّقه استعداد البقاء ليتحقّق معنى النقض ؛ لأنّه متحقّق بدون ذلك.

وعليه ، فمقتضى الأخبار حجّيّة الاستصحاب في موردي الشكّ في المقتضي والرافع معا.

ونحن إذا توصّلنا إلى هنا من بيان حجّيّة الاستصحاب مطلقا في مقابل التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره ، لا نجد كثير حاجة في التعرّض للتفصيلات الأخرى في هذا

٦٤٦

المختصر ، ونحيل ذلك إلى المطوّلات ، لا سيّما رسالة الشيخ قدس‌سره في الاستصحاب ؛ (١) فإنّ فيما ذكره الغنى والكفاية.

تمرينات (٦٨)

١. هل يدلّ بناء العقلاء على حجّيّة الاستصحاب؟ بيّن وجه دلالته.

٢. ما هي المناقشة التي ذكرها المحقّق النائيني في الاستدلال ببناء العقلاء؟

٣. اذكر المناقشة التي ذكرها المحقّق الخراساني في الاستدلال ببناء العقلاء؟ واذكر الجواب عنه.

٤. هل الآيات والأخبار الناهية عن اتّباع غير العلم تصلح للردع عن اتّباع بناء العقلاء أو لا تصلح؟

٥. هل تصلح أدلّة البراءة أو الاحتياط للردع عن اتّباع بناء العقلاء أو لا تصلح؟

٦. هل يدلّ حكم العقل على حجّيّة الاستصحاب؟ اذكر المستدلّين به ، واذكر المناقشات الموجودة فيه.

٧. هل يدلّ الإجماع على حجّيّة الاستصحاب؟

٨. اذكر الصحيحة الأولى من زرارة ، واذكر فقهها.

٩. بيّن تقريب الاستدلال بصحيحة زرارة الأولى.

١٠. بيّن ما أفاده الشيخ الأنصاريّ في المناقشة في الاستدلال بالصحيحة الأولى. واذكر الجواب عنه.

١١. اذكر المناقشة الثانية في الاستدلال بالصحيحة الأولى ، واذكر الجواب عنها.

١٢. اذكر الصحيحة الثانية وتقريب الاستدلال بها على الاستصحاب.

١٣. اذكر الصحيحة الثالثة وتقريب الاستدلال بها على الاستصحاب.

١٤. بيّن ما أفاده الشيخ الأنصاري في المناقشة في الاستدلال بالصحيحة الثالثة ، واذكر الجواب عنه.

١٥. ما هي رواية محمد بن مسلم؟ وهل تدلّ على الاستصحاب؟

١٦. اذكر مكاتبة على بن محمد القاساني ، وتقريب الاستدلال بها.

١٧. ما هو إيراد المحقّق الخراساني على الاستدلال بالمكاتبة؟

١٨. ما هو المنسوب إلى الأخباريّين؟ وما هو دليلهم؟ وما الجواب عنه؟

١٩. من القائل بالتفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع؟

٢٠. ما مراد القائلين بالتفصيل من المقتضي والمانع؟ وما هو دليلهم عليه؟

٢١. ما هي المناقشة الأولى في التفصيل بين المقتضي والمانع؟ وما هو الجواب عنها؟

٢٢. اذكر المناقشة الثانية فى التفصيل المذكور.

٢٣. ما هو رأي المصنّف في المقام؟

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٨٨ ـ ٦٣٧.

٦٤٧

تنبيهات الاستصحاب

بعد فراغ الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره من ذكر الأقوال في المسألة ومناقشتها شرع في بيان أمور ـ تتعلّق به ـ بلغت اثني عشر أمرا ، (١) واشتهرت باسم «تنبيهات الاستصحاب» ، فصار لها شأن كبير عند الأصوليّين ، وصارت موضع عنايتهم ؛ لما لأكثرها من الفوائد الكبيرة في الفقه ؛ ولما لها من المباحث الدقيقة الأصوليّة. وزاد فيها شيخ أساتذتنا في «الكفاية» تنبيهين ، فصارت أربعة عشر تنبيها (٢). ونحن ذاكرون بعون الله (تعالى) أهمّها ، متوخّين (٣) الاختصار حدّ الإمكان ، والاقتصار على ما ينفع الطالب المبتدئ.

التنبيه الأوّل : استصحاب الكلّيّ

الغرض من استصحاب الكلّيّ هو استصحابه فيما إذا تيقّن بوجوده في ضمن فرد من أفراده ثمّ شكّ في بقاء نفس ذلك الكلّيّ. وهذا الشكّ في بقاء الكلّيّ في ضمن أفراده يتصوّر على أنحاء ثلاثة ، عرفت باسم «أقسام استصحاب الكلّيّ» :

١. أن يكون الشكّ في بقاء الكلّيّ من جهة الشكّ في بقاء نفس ذلك الفرد الذي تيقّن بوجوده. (٤)

٢. أن يكون الشكّ في بقاء الكلّيّ من جهة الشكّ في تعيين ذلك الفرد المتيقّن سابقا ، بأن يتردّد الفرد بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع جزما ، أي إنّه كان قد تيقّن على الإجمال بوجود فرد ما من أفراد الكلّيّ ، فيتيقّن بوجود الكلّيّ في ضمنه ، ولكن هذا الفرد الواقعيّ مردّد عنده بين أن يكون له عمر طويل فهو باق جزما في الزمان الثاني وبين أن

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ٢ : ٦٣٨ ـ ٦٨٩.

(٢) كفاية الأصول : ٤٥٩ ـ ٤٨٩.

(٣) أي : قاصدين.

(٤) سواء كان من جهة الشكّ في المقتضي أو الرافع. مثاله ما إذا علم بوجود الإنسان في الدار لعلمه بوجود زيد ـ مثلا ـ فيها ، ثمّ شكّ في بقاء زيد في الدار ، فيلزم منه الشكّ في بقاء الإنسان الكلّي.

٦٤٨

يكون له عمر قصير فهو مرتفع جزما في الزمان الثاني. ومن أجل هذا الترديد يحصل له الشكّ في بقاء الكلّيّ.

مثاله ما إذا علم على الإجمال بخروج بلل مردّد بين أن يكون بولا أو منيّا ، ثمّ توضّأ ، فإنّه في هذا الحال يتيقّن بحصول الحدث الكلّيّ في ضمن هذا الفرد المردّد ، فإن كان البلل بولا فحدثه أصغر قد ارتفع بالوضوء جزما ، وإن كان منيّا فحدثه أكبر لم يرتفع بالوضوء ، فعلى القول بجريان استصحاب الكلّيّ يستصحب هنا كلّيّ الحدث ، فتترتّب عليه آثار كلّيّ الحدث ، مثل حرمة مسّ المصحف ، أمّا : آثار خصوص الحدث الأكبر أو الأصغر فلا تترتّب ، مثل حرمة دخول المسجد ، وقراءة العزائم.

٣. أن يكون الشكّ في بقاء الكلّيّ من جهة الشكّ في وجود فرد آخر مقام الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ، أي إنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ مستند إلى احتمال وجود فرد ثان ، غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ؛ لأنّه إن كان الفرد الثاني قد وجد واقعا ، فإنّ الكلّيّ باق بوجوده. وإن لم يكن قد وجد فقد انقطع وجود الكلّيّ بارتفاع الفرد الأوّل. (١)

أمّا القسم الأوّل : فالحقّ فيه جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلّيّ ، فيترتّب عليه أثره الشرعيّ ، كما لا كلام في جريان استصحاب نفس الفرد ، فيترتّب عليه أثره الشرعيّ بما له من الخصوصيّة الفرديّة. وهذا لا خلاف فيه.

وأمّا القسم الثاني : فالحقّ فيه أيضا جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلّيّ ، وأمّا : بالنسبة إلى الفرد فلا يجري قطعا ، بل الفرد يجري فيه استصحاب عدم خصوصيّة الفرد ، ففي المثال المتقدّم يجري استصحاب كلّيّ الحدث بعد الوضوء ، فلا يجوز له مسّ المصحف ، أمّا : بالنسبة إلى خصوصيّة الفرد فالأصل عدمها ، فما هو آثار خصوص الجنابة ـ مثلا ـ لا يجب الأخذ بها ، فلا يحرم قبل الغسل ما يحرم على الجنب ، من نحو دخول المساجد ، وقراءة العزائم ، كما تقدّم. (٢)

ولأجل بيان صحّة جريان الاستصحاب في الكلّيّ في هذا القسم الثاني ، وحصول

__________________

(١) وهذا القسم على نحوين ، كما سيأتي في الصفحة : ٣٠٠.

(٢) تقدّم قبل أسطر.

٦٤٩

أركانه لا بدّ من ذكر ما قيل : إنّه مانع من جريانه ، والجواب عنه. وقد أشار الشيخ قدس‌سره إلى الوجهين في المنع ، وأجاب عنهما ، وهما كلّ ما يمكن أن يقال في المنع :

الأوّل : قال : «وتوهّم عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث وهو محكوم الانتفاء بحكم الأصل». (١)

توضيح التوهّم أنّ أهمّ أركان الاستصحاب هو اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، وفي المقام إن حصل الركن الأوّل ـ وهو اليقين بالحدوث ـ فإنّ الركن الثاني ـ وهو الشكّ في البقاء ـ غير حاصل. وجه ذلك أنّ الكلّيّ لا وجود له إلاّ بوجود أفراده ، ومن الواضح أنّ وجود الكلّيّ في ضمن الفرد القصير مقطوع الارتفاع في الزمان الثاني وجدانا ، وأمّا وجوده في ضمن الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، وهو منفيّ بالأصل ، فيكون الكلّيّ مرتفعا في الزمان الثاني ، إمّا وجدانا ، أو بالأصل تعبّدا ، فلا شكّ في بقائه.

والجواب : أنّ هذا التوهّم فيه خلط بين الكلّيّ وفرده ، أو فقل : فيه خلط بين ذات الحصّة من الكلّي ـ أي ذات الكلّيّ الطبيعيّ ـ وبين الحصّة منه بما لها من الخصوصيّة ، والتعيّن الخاصّ ، فإنّ الذي هو معلوم الارتفاع إمّا وجدانا أو تعبّدا إنّما هو الحصّة بما لها من التعيّن الخاصّ ، وهي بالإضافة إلى ذلك غير معلومة الحدوث أيضا ، فلم يتحقّق فيها الركنان معا ؛ لأنّه كما أنّ كلّ فرد من الفردين مشكوك الحدوث في نفسه ، فإنّ الحصّة الموجودة به بما لها من التعيّن الخاصّ كذلك مشكوكة الحدوث ؛ إذ لا يقين بوجود هذه الحصّة ، ولا يقين بوجود تلك الحصّة ، ولا موجود ثالث حسب الفرض.

وأمّا : ذات الحصّة المتعيّنة واقعا ، لا بما لها من التعيّن الخاصّ بهذا الفرد أو بذلك الفرد ـ أي القدر المشترك بينهما ـ ففي الوقت الذي هي فيه معلومة الحدوث هي مشكوكة البقاء ؛ إذ لا علم بارتفاعها ، ولا تعبّد بارتفاعها ، بل لأجل القطع بزوال التعيّن الخاصّ يشكّ في ارتفاعها وبقائها ؛ لاحتمال كون تعيّنها هو التعيّن الباقي ، أو هو التعيّن الزائل ، وارتفاع الفرد لا يقتضي إلاّ ارتفاع الحصّة المتعيّنة به ، وهي ـ كما قدّمنا ـ غير معلومة الحدوث ، وإنّما المعلوم [حدوثه هو] ذات الحصّة ، أي القدر المشترك.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٦٣٩.

٦٥٠

والحاصل أنّ ما هو غير مشكوك البقاء ـ إمّا وجدانا أو تعبّدا ـ لا يقين بحدوثه أصلا ، وهو الحصّة بما لها من التعيّن الخاصّ ، وما هو متيقّن الحدوث هو مشكوك البقاء وجدانا ، وهو ذات الحصّة ، لا بما لها من التعيّن الخاصّ. وقد أشار الشيخ قدس‌سره إلى هذا الجواب بقوله : «إنّه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشكّ في بقائه وارتفاعه» (١).

الثاني : قال الشيخ الأعظم قدس‌سره «توهّم كون الشكّ في بقائه مسبّبا عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه ارتفاع القدر المشترك ؛ لأنّه من آثاره». (٢)

والجواب الصحيح هو ما أشار إليه بقوله : «فإنّ ارتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر. نعم ، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين. وبينهما فرق واضح» (٣).

توضيح ما أفاده من الجواب أنّا نمنع أن يكون الشكّ في بقاء القدر المشترك ـ أي الكلّي ـ مسبّبا عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل وعدمه ؛ لأنّ وجود الكلّيّ ـ حسب الفرض ـ متيقّن الحدوث من أوّل الأمر ، إمّا في ضمن القصير ، أو الطويل ، فلا يعقل أن يكون عدمه بعد وجوده مستندا إلى عدم الفرد الطويل من الأوّل ، وإلاّ لما وجد من الأوّل ، بل في الحقيقة أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ـ أي في وجوده وعدمه ـ بعد فرض القطع بوجوده مستند إلى احتمال وجود هذا الفرد الطويل ، مع احتمال وجود ذلك الفرد القصير ، يعني يستند إلى الاحتمالين معا ، لا لخصوص احتمال وجود الطويل ؛ إذ يحتمل بقاء وجوده الأوّل ؛ لاحتمال حدوث الطويل ، ويحتمل عدمه بعد الوجود ؛ لاحتمال حدوث القصير المرتفع قطعا في ثاني الحال.

والحاصل أنّ احتمال وجود الكلّيّ وعدمه في ثاني الحال مسبّب عن الشكّ في أنّ الحادث المعلوم هل هو الطويل أو القصير؟ لا أنّه مسبّب عن خصوص احتمال حدوث الطويل ، حتى يكون نفيه بالأصل موجبا لنفي الشكّ في وجود الكلّي في ثاني الحال ،

__________________

(١ ـ ٢ ـ ٣). فرائد الأصول ٢ : ٦٣٩.

٦٥١

فلا بدّ من نفي كلّ من الفردين بالأصل ، حتى يكون ذلك موجبا لارتفاع القدر المشترك ، والأصلان معا لا يجريان مع فرض العلم الإجمالي.

وأمّا القسم الثالث : ـ وهو ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّيّ مستندا إلى احتمال وجود فرد ثان ، غير الفرد المعلوم حدوثه ثمّ ارتفاعه ـ فهو على نحوين :

١. أن يحتمل حدوث الفرد الثاني في ظرف وجود الأوّل.

٢. أن يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاع الأوّل ، وهو على نحوين : إمّا بتبدّله إليه ، أو بمجرّد المقارنة الاتّفاقيّة بين الارتفاع الأوّل ، وحدوث الثاني.

وفي جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث من الكلّي احتمالات ، أو أقوال ثلاثة :

أ : جريانه مطلقا. (١)

ب : عدم جريانه مطلقا (٢).

ج : التفصيل بين النحوين المذكورين ، فيجري في الأوّل ، دون الثاني مطلقا. وهذا التفصيل هو الذي مال إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره (٣).

والسرّ في الخلاف يعود إلى أنّ الأركان في الاستصحاب هل هي متوفّرة هنا ، أو غير متوفّرة؟ والمشكوك توفّره في المقام هو الركن الخامس ، وهو اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ.

ولا شكّ في أنّ الكلّيّ المتيقّن نفسه هو المشكوك بقاؤه في هذا القسم ، فهو واحد نوعا ، فينبغي أن يسأل :

أوّلا : هل هذه الوحدة النوعيّة بين المتيقّن والمشكوك كافية في تحقّق الوحدة المعتبرة في الاستصحاب ، أو غير كافية ، بل لا بدّ له من وحدة خارجيّة؟

ثانيا : بعد فرض عدم كفاية الوحدة النوعيّة ، هل أنّ الكلّيّ الطبيعيّ له وحدة خارجيّة بوجود أفراده ـ بمعنى أنّه يكون بوحدته الخارجيّة معروضا لتعيّنات أفراده المتباينة ؛ بناء

__________________

(١) وهذا يظهر من المحقّق الحائريّ في درر الفوائد ٢ : ١٧٥ ، والمحقّق الإيروانيّ في نهاية النهاية ٢ : ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٢) ذهب إليه المحقّق الخراساني في الكفاية : ٤٦٢.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٦٤٠.

٦٥٢

على ما قيل من أنّ نسبة الكلّيّ إلى أفراده من باب نسبة الأب الواحد إلى الأبناء الكثيرة ، كما نقل ذلك ابن سينا عن بعض من عاصره (١) ـ ، أو أنّ الكلّيّ الطبيعيّ لا وجود له إلاّ بوجود أفراده بالعرض ، ففي كلّ فرد حصّة موجودة منه غير الحصّة الموجودة في فرد آخر ، فلا تكون له وحدة خارجيّة بوجود أفراده المتعدّدة ، بل نسبته إلى أفراده من قبيل نسبة الآباء المتعدّدة إلى الأبناء المتعدّدة ، وهذا هو المعروف عند المحقّقين (٢)؟

فالقائل بجريان الاستصحاب في هذا القسم ، إمّا أن يلتزم بكفاية الوحدة النوعيّة في تحقّق ركن الاستصحاب ، وإمّا أن يلتزم بأنّ الكلّيّ له وحدة خارجيّة بوجود أفراده المتعدّدة ، وإلاّ فلا يجري الاستصحاب.

وإذا اتّضح هذا التحليل الدقيق لمنشا الأقوال في المسألة يتّضح الحقّ فيها ، وهو القول الثاني ، وهو عدم جريان الاستصحاب مطلقا.

أمّا أوّلا : فلأنّه من الواضح عدم كفاية الوحدة النوعيّة في الاستصحاب ؛ لأنّ معنى بقاء المستصحب فيه هو استمراره خارجا بعد اليقين به. ونحن لا نعني من استصحاب الكلّيّ استصحاب نفس الماهيّة من حيث هي ؛ فإنّ هذا لا معنى له ، (٣) بل المراد استصحابها بما لها من الوجود الخارجيّ لغرض ترتيب أحكامها الفعليّة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه من الواضح أيضا أنّ الحقّ أنّ نسبة الكلّيّ إلى أفراده من قبيل نسبة الآباء إلى الأبناء ؛ لأنّه من الضروريّ أنّ الكلّيّ لا وجود له إلاّ بالعرض بوجود أفراده.

وفي مقامنا قد وجدت حصّة من الكلّيّ ، وقد ارتفعت هذه الحصّة يقينا ، والحصّة الأخرى منه في الفرد الثاني هي من أوّل الأمر مشكوكة الحدوث ، فلم يتّحد المتيقّن والمشكوك.

وبهذا يفترق القسم الثالث عن القسم الثاني من استصحاب الكلّيّ ؛ لأنّه في القسم الثاني ـ كما سبق ـ ذات الحصّة من الكلّيّ المتعيّنة واقعا ، المعلومة الحدوث على الإجمال هي نفسها مشكوكة البقاء ، حيث لا يدرى أنّها الحصّة المضافة إلى الفرد الطويل ، أو الفرد القصير.

__________________

(١) وهو الرجل الهمدانيّ على ما في شرح المنظومة : ٩٩.

(٢) الأسفار ٢ : ٨ ، وشرح المنظومة : ٩٩.

(٣) فإنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي ، ولا يترتّب عليها حكم من الأحكام.

٦٥٣

وبهذا أيضا يتّضح أنّه لا وجه للتفصيل المتقدّم الذي مال إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره ؛ فإنّ احتمال وجود الفرد الثاني في ظرف وجود الفرد الأوّل لا يقدّم ، ولا يؤخّر ، ولا يضمن الوحدة الخارجيّة للمتيقّن والمشكوك ، إلاّ إذا قلنا بمقالة من يذهب إلى أنّ نسبة الكلّيّ إلى أفراده من قبيل نسبة الأب الواحد إلى أبنائه ، وحاشا الشيخ قدس‌سره أن يرى هذا الرأي. ولا شكّ أنّ الحصّة الموجودة في ضمن الفرد الثاني من أوّل الأمر مشكوكة الحدوث. وأمّا : المتيقّن حدوثه فهو حصّة أخرى ، وهي في عين الحال متيقّنة الارتفاع. ويكون وزان هذا القسم وزان استصحاب الفرد المردّد الآتي ذكره.

تنبيه : وقد استثني من هذا القسم الثالث ما يتسامح به العرف ، فيعدّون الفرد اللاحق المشكوك الحدوث مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل ما لو علم السواد الشديد في محلّ وشكّ في ارتفاعه أصلا ، أو تبدّله بسواد أضعف ، فإنّه في مثله حكم الجميع بجريان الاستصحاب. ومن هذا الباب ما لو كان شخص كثير الشكّ ثمّ شكّ في زوال صفة كثرة الشكّ عنه أصلا ، أو تبدّلها إلى مرتبة من الشكّ دون الأولى.

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره في تعليل جريان الاستصحاب في هذا الباب : «فالعبرة في جريان الاستصحاب عدّ الموجود السابق مستمرّا إلى اللاحق ولو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقّة للفرد السابق» (١). يعني : أنّ العبرة في اتّحاد المتيقّن ، والمشكوك هو الاتّحاد عرفا ، وبحسب النظر المسامحيّ ، وإن كانا بحسب الدقّة العقليّة متغايرين ، كما في المقام.

التنبيه الثاني : الشبهة العبائيّة أو استصحاب الفرد المردّد

ينقل أنّ السيّد الجليل السيّد إسماعيل الصدر قدس‌سره زار النجف الأشرف أيّام الشيخ المحقّق الآخوند قدس‌سره ، فأثار في أوساطها العلميّة مسألة تناقلوها ، وصارت عندهم موضعا للردّ والبدل ، واشتهرت بالشبهة العبائيّة (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٤١.

(٢) هذا ما نقله المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٤ «القسم الأوّل» : ١٣٠ ، والسيّد الحكيم في حقائق الأصول ٢ : ٤٥٨.

٦٥٤

وحاصلها أنّه لو وقعت نجاسة على أحد طرفي عباءة ، ولم يعلم أنّه الطرف الأعلى ، أو الأسفل ، ثمّ طهّر أحد الطرفين ـ وليكن الأسفل مثلا ـ ، فإنّ تلك النجاسة المعلومة الحدوث تصبح نفسها مشكوكة الارتفاع ، فينبغي أن يجري استصحابها ، بينما أنّ مقتضى جريان استصحاب النجاسة في هذه العباءة أن يحكم بنجاسة البدن ـ مثلا ـ الملاقي لطرفي العباءة معا. مع أنّ هذا اللازم باطل قطعا بالضرورة ؛ لأنّ ملاقي أحد طرفي الشبهة المحصورة محكوم عليه بالطهارة بالإجماع ـ كما تقدّم في محلّه ـ. وهنا لم يلاق البدن إلاّ أحد طرفي الشبهة وهو الطرف الأعلى.

وأمّا : الطرف الأسفل ـ وإن لاقاه ـ فإنّه قد خرج عن طرف الشبهة ـ حسب الفرض ـ بتطهيره يقينا ، فلا معنى للحكم بنجاسة ملاقيه.

والنكتة في الشبهة أنّ هذا الاستصحاب يبدو من باب استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني ، ولا شكّ في أنّ مستصحب النجاسة لا بدّ أن يحكم بنجاسة ملاقيه ، بينما أنّه هنا لا يحكم بنجاسة الملاقي ، فيكشف ذلك عن عدم صحّة استصحاب الكلّيّ من القسم الثاني.

وقد استقرّ الجواب عند المحقّقين (١) عن هذه الشبهة على أنّ هذا الاستصحاب ليس من باب استصحاب الكلّيّ ، بل هو من نوع آخر سمّوه «استصحاب الفرد المردّد». وقد اتّفقوا على عدم صحّة جريانه ، عدا ما نقل عن بعض الأجلّة (٢) في حاشيته على كتاب البيع للشيخ الأعظم قدس‌سره ؛ إذ قال بما محصّله : «أنّ تردّده بحسب علمنا لا يضرّ بيقين وجوده سابقا ، والمفروض أنّ أثر القدر المشترك أثر لكلّ من الفردين ، فيمكن ترتيب ذلك الأثر باستصحاب الشخص الواقعيّ المعلوم سابقا ، كما في القسم الأوّل الذي حكم الشيخ قدس‌سره فيه باستصحاب كلّ من الكلّيّ وفرده (٣)».

أقول : ويجب أن يعلم ـ قبل كلّ شيء ـ الضابط لكون المورد من باب استصحاب الكلّيّ [من] القسم الثاني ، أو من باب استصحاب الفرد المردّد ، فإنّ عدم التفرقة بين

__________________

(١) ومنهم : المحقّق النائيني في فوائد الأصول ٤ : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(٢) وهو المحقّق السيّد محمد كاظم الطباطبائيّ اليزديّ.

(٣) حاشية المكاسب (لليزدي) : ٧٣.

٦٥٥

الموردين هو الموجب للاشتباه ، وتحكّم تلك الشبهة. إذن ما الضابط لهما؟

إنّ الضابط في ذلك أنّ الأثر المراد ترتّبه ، إمّا أن يكون أثرا للكلّيّ ، أي أثرا لذات الحصّة من الكلّيّ ، لا بما لها من التعيّن الخاصّ والخصوصيّة المفرّدة ، أو أثرا للفرد ، أي أثرا للحصّة بما لها من التعيّن الخاصّ والخصوصيّة المفرّدة.

فإن كان الأوّل فيكفي فيه استصحاب القدر المشترك ، أي ذات الحصّة الموجودة ، إمّا في ضمن الفرد المقطوع الارتفاع على تقدير أنّه هو الحادث ، أو الفرد المقطوع البقاء على تقدير أنّه هو الحادث ، ويكون ذلك من باب استصحاب الكلّيّ [من] القسم الثاني ، وقد تقدّم أنّنا لا نعني من استصحاب الكلّي نفس الماهيّة الكلّيّة ، بل استصحاب وجودها.

وإن كان الثاني فلا يكفي استصحاب القدر المشترك ، وإنّما الذي ينفع استصحاب الفرد بما له من الخصوصيّة المفرّدة ، المفروض فيه أنّه مردّد بين الفرد المقطوع الارتفاع على تقدير أنّه الحادث ، أو الفرد المقطوع البقاء على تقدير أنّه الحادث ، ويكون ذلك من باب استصحاب الفرد المردّد.

إذا عرفت هذا الضابط فالمثال الذي وقعت فيه الشبهة هو من النوع الثاني ؛ لأنّ الموضوع للنجاسة المستصحبة ليس أصل العباءة ، أو الطرف الكلّيّ منها ، بل نجاسة الطرف الخاصّ بما هو طرف خاصّ ، إمّا الأعلى أو الأسفل.

وبعد هذا يبقى أن نتساءل : لما ذا لا يصحّ جريان استصحاب الفرد المردّد؟ نقول : لقد اختلفت تعبيرات الأساتذة في وجهه ، فقد قيل : «لأنّه لا يتوفّر فيه الركن الثاني ، وهو الشكّ في البقاء» (١) ، وقيل : «بل لا يتوفّر الركن الأوّل ، وهو اليقين بالحدوث ، فضلا عن الركن الثاني». (٢)

أمّا : الوجه الأوّل فبيانه أنّ الفرد بما له من الخصوصيّة مردّد ـ حسب الفرض ـ بين ما هو مقطوع البقاء ، وبين ما هو مقطوع الارتفاع ، فلا شكّ في بقاء الفرد الواقعيّ الذي كان معلوم الحدوث ؛ لأنّه إمّا مقطوع البقاء ، أو مقطوع الارتفاع.

__________________

(١) هذا ما قال به المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٤ : ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) وهذا ما اختاره أستاذه المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٣ : ١٦٤ ـ ١٦٦.

٦٥٦

وأمّا : الوجه الثاني ـ وهو الأصحّ ـ فبيانه أنّ اليقين بالحدوث إن أريد به اليقين بحدوث الفرد مع قطع النظر عن الخصوصيّة المفرّدة ـ لأنّها مجهولة حسب الفرض ـ فاليقين موجود ، ولكنّ المتيقّن حينئذ هو الكلّيّ الذي يصلح للانطباق على كلّ من الفردين ، وإن أريد به اليقين بحدوث الفرد بما له من الخصوصيّة المفرّدة فواضح أنّه غير حاصل فعلا ؛ لأنّ المفروض أنّ الخصوصيّة المفرّدة مجهولة ، ومردّدة بين خصوصيّتين ، فكيف تكون متيقّنة في عين الحال؟! إذ المردّد بما هو مردّد لا معنى لأن يكون معلوما متعيّنا ، هذا خلف محال ، وإنّما المعلوم هو القدر المشترك. وفي الحقيقة أنّ كلّ علم إجماليّ مؤلّف من علم وجهل ، ومتعلّق العلم هو القدر المشترك ، ومتعلّق الجهل خصوصيّاته ، وإلاّ فلا معنى للإجمال في العلم ، وهو عين اليقين والانكشاف. وإنّما سمّي بـ «العلم الإجماليّ» ؛ لانضمام الجهل بالخصوصيّات إلى العلم بالجامع.

وعليه ، فإنّ ما هو متيقّن ـ وهو الكلّي ـ لا فائدة في استصحابه لغرض ترتّب أثر الفرد بخصوصه ، وما له الأثر المراد ترتّبه عليه ـ وهو الفرد. بخصوصيّته ـ غير متيقّن ، بل هو مجهول مردّد بين خصوصيّتين ، فلا يتحقّق في استصحاب الفرد المردّد ركن اليقين بالحالة السابقة ، لا أنّ الفرد المردّد متيقّن ، ولكن لا شكّ في بقائه.

والوجه الأصحّ هو الثاني ، كما ذكرنا. وأمّا : الوجه الأوّل ـ وهو أنّه لا شكّ في بقاء المتيقّن ـ فغريب صدوره عن بعض أهل التحقيق ، (١) فإنّ كونه مردّدا بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع معناه في الحقيقة هو الشكّ فعلا في بقاء الفرد الواقعيّ وارتفاعه ؛ لأنّ المفروض أنّ القطع بالبقاء والقطع بالارتفاع ليسا قطعين فعليّين ، بل كلّ منهما قطع على تقدير مشكوك ، والقطع على تقدير مشكوك ليس قطعا فعلا ، بل هو عين الشكّ.

وعلى كلّ حال ، فلا معنى لاستصحاب الفرد المردّد ، ولا معنى لأن يقال ـ كما سبق عن بعض الأجلّة قدس‌سرهم ـ (٢) : «إنّ تردّده بحسب علمنا لا يضرّ بيقين وجوده سابقا» ؛ فإنّه كيف يكون تردّده بحسب علمنا لا يضرّ باليقين؟! وهل اليقين إلاّ العلم؟ إلاّ إذا أراد من اليقين

__________________

(١) وهو المحقّق النائينيّ ، كما مرّ.

(٢) وهو المحقّق السيّد الطباطبائي اليزديّ ، كما مرّ.

٦٥٧

ـ بوجوده سابقا ـ اليقين بالقدر المشترك ، والتردّد في الفرد ، فاليقين متعلّق بشيء ، والتردّد بشيء آخر ، فيتوفّر ركنا الاستصحاب بالنسبة إلى القدر المشترك ، لا بالنسبة إلى الفرد المراد استصحابه ، فما هو متيقّن لا يراد استصحابه ، وما يراد استصحابه غير متيقّن ، على ما سبق بيانه.

تمرينات (٦٩)

١. ما هي أقسام استصحاب الكلّي؟ ايت لكلّ قسم مثلا.

٢. هل يجري الاستصحاب في القسم الأوّل؟

٣. هل يجري الاستصحاب في القسم الثاني؟

٤. اذكر الوجهين المذكورين في عدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني. واذكر الجواب عنهما.

٥. ما هي الأقوال في جريان الاستصحاب في القسم الثالث؟ وما هو منشأ الأقوال؟

٦. اذكر القول الراجح عند المصنّف في القسم الثالث.

٧. ما هي الشبهة العبائيّة؟

٨. ما الجواب عن الشبهة العبائيّة؟

٩. لما ذا لا يصحّ جريان استصحاب الفرد المردّد؟

٦٥٨

الفهارس العامة

٦٥٩
٦٦٠