اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

بالخصوص ؛ ليستثنى ممّا دلّ على حرمة التعبّد بالظنّ ، والشأن كلّ الشأن في إثبات هذا الدليل. فلا تنهض هذه الملازمة العقليّة ـ على تقديرها ـ دليلا بنفسها على الحكم الشرعيّ. ولو كان هناك دليل على حجّيّة هذا الظنّ بالخصوص ، لكان هو الدليل على الاستصحاب لا الملازمة ، وإنّما تكون الملازمة محقّقة لموضوعه.

ثمّ ما المراد من قولهم : «إنّ الشارع يحكم برجحان البقاء على طبق حكم العقلاء (١)»؟ ، فإنّه على إطلاقه موجب للإيهام والمغالطة ؛ فإنّه إن كان المراد أنّه يظنّ بالبقاء كما يظنّ سائر الناس فلا معنى له. وإن كان المراد أنّه يحكم بحجّيّة هذا الرجحان فهذا لا تقتضيه الملازمة بل يحتاج إثبات ذلك إلى دليل آخر ، كما ذكرنا. وإن كان المراد أنّه يحكم بأنّ البقاء مظنون وراجح عند الناس ـ أي يعلم بذلك ـ ، فهذا وإن كان تقتضيه الملازمة ، ولكن هذا المقدار غير نافع ، ولا يكفي وحده في إثبات المطلوب ؛ إذ لا يكشف مجرّد علمه بحصول الظنّ عند الناس عن اعتباره لهذا الظنّ ، ورضاه به. والنافع في الباب إثبات هذا الاعتبار من قبله للظنّ ، لا حكمه بأنّ هذا الشيء مظنون البقاء عند الناس.

الدليل الثالث : الإجماع

نقل جماعة الاتّفاق على اعتبار الاستصحاب. منهم : صاحب المبادئ على ما نقل عنه ، (٢) إذ قال : «الاستصحاب [: الأقرب أنّه] حجّة [... و] لإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم ثمّ وقع الشكّ في أنّه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أوّلا» (٣).

أقول : إنّ تحصيل الإجماع في هذه المسألة مشكل جدّا ؛ لوقوع الاختلافات الكثيرة فيها ـ كما سبق ـ ، إلاّ أن يراد منه حصول الإجماع في الجملة على نحو الموجبة الجزئيّة في مقابل السلب الكلّي ، وهذا الإجماع بهذا المقدار قطعيّ. ألا ترى أنّ الفقهاء في مسألة «من تيقّن بالطهارة وشكّ في الحدث أو الخبث» قد اتّفقت كلمتهم من زمن الشيخ

__________________

(١) انظر فرائد الأصول ٢ : ٥٦٣.

(٢) والناقل الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ٢ : ٥٦٢.

(٣) مبادئ الوصول : ٢٥٠ ـ ٢٥١.

٦٢١

الطوسيّ قدس‌سره ، بل من قبله إلى زماننا الحاضر على ترتيب آثار الطهارة السابقة بلا نكير منهم ، وكذا في كثير من المسائل ممّا هو نظير ذلك. ومعلوم أنّ فرض كلامهم في مورد الشكّ اللاحق لا في مورد الشكّ الساري ، فلا يكون حكمهم بذلك من جهة قاعدة اليقين ، بل ولا من جهة قاعدة المقتضي والمانع.

والحاصل أنّ هذا ومثله يكفي في الاستدلال على اعتبار الاستصحاب في الجملة في مقابل السلب الكلّي ، وهو قطعيّ بهذا المقدار. ويمكن حمل قول منكر الاستصحاب مطلقا على إنكار حجّيّته من طريق الظنّ ، لا من أيّ طريق كان ، في مقابل من قال بحجّيّته لأجل تلك الملازمة العقليّة المدّعاة.

نعم ، دعوى الإجماع على حجّيّة مطلق الاستصحاب (١) ، أو في خصوص ما إذا كان الشكّ في الرافع (٢) في غاية الإشكال ، بعد ما عرفت من تلك الأقوال.

الدليل الرابع : الأخبار

وهي العمدة في إثبات الاستصحاب ، وعليها التعويل ، وإذا كانت أخبار آحاد فقد تقدّم حجّيّة خبر الواحد ، مضافا إلى أنّها مستفيضة ، ومؤيّدة بكثير من القرائن العقليّة ، والنقليّة. وإذا كان الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره قد شكّ فيها بقوله : «هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها ، وعدم صحّة الظاهر منها» ، (٣) فإنّها في الحقيقة هي جلّ اعتماده في مختاره ، وقد عقّب هذا الكلام بقوله : «فلعلّ الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد» ، (٤) ثمّ أيّدها بالأخبار الواردة في الموارد الخاصّة (٥) :

__________________

(١) كما ادّعاه العلاّمة في : مبادئ الوصول كما مرّ.

(٢) كما هو مدّعى الشيخ الأنصاريّ ، واختاره المحقّق النائينيّ. راجع : فرائد الأصول ٢ : ٥٦٢ ، وفوائد الأصول ٤ : ٣٣٤.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٥٧٠.

(٤) فرائد الأصول ٢ : ٥٧٠.

(٥) فرائد الأصول ٢ : ٥٧١ ـ ٥٧٥.

٦٢٢

١. صحيحة زرارة الأولى :

وهي مضمرة ؛ لعدم ذكر الإمام المسئول فيها ، ولكنّه ـ كما قال الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره ـ لا يضرّها الإضمار ، والوجه في ذلك أنّ زرارة لا يروي عن غير الإمام (١) لا سيّما مثل هذا الحكم بهذا البيان (٢) ، والمنقول عن فوائد العلاّمة الطباطبائيّ أنّ المقصود به الإمام الباقر عليه‌السلام (٣).

قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟

فقال : «يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء».

قلت : فإن حرّك في (٤) جنبه شيء وهو لا يعلم؟ (٥)

قال : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن. وإلاّ فإنّه (٦) على يقين من وضوئه. ولا ينقض (٧) اليقين بالشكّ أبدا. ولكنّه ينقضه (٨) بيقين آخر». (٩)

ونذكر في هذه الصحيحة بحثين :

الأوّل : في فقهها ، ولا يخفى أنّ فيها سؤالين :

أوّلهما : (١٠) عن شبهة مفهوميّة حكميّة لغرض معرفة سعة موضوع النوم من جهة كونه ناقضا للوضوء ؛ إذ لا شكّ في أنّه ليس المقصود السؤال عن معنى النوم لغة ولا عن كون

__________________

(١) كما في الكفاية : ٤٤١.

(٢) من متانة المتن.

(٣) والناقل هو المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٣٨. وفي الفصول أيضا يرويها عن الباقر عليه‌السلام ، الفصول الغرويّة : ٣٧٠.

(٤) وفي : الوسائل «على» ، وفي التهذيب «إلى».

(٥) وفي : الوسائل والتهذيب «ولم يعلم به».

(٦) وفي : التهذيب «وإلاّ فهو».

(٧) وفي : الوسائل : «ولا تنقض»

(٨) وفي : الوسائل : «وإنّما تنقضه».

(٩) التهذيب ١ : ٧ ـ ٨ ؛ الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(١٠) وهو قول السائل : «أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟»

٦٢٣

الخفقة أو الخفقتين ناقضة للوضوء على نحو الاستدلال في مقابل النوم ، فينحصر أن يكون مراده ـ والجواب قرينة على ذلك أيضا ـ هو السؤال عن شمول النوم الناقض للخفقة والخفقتين ، مع علم السائل بأنّ النوم في نفسه له مراتب تختلف شدّة وضعفا ، ومنها الخفقة والخفقتان ، ومع علمه بأنّ النوم ناقض للوضوء في الجملة ؛ فلذلك أجاب الإمام بتحديد النوم الناقض ، وهو الذي تنام فيه العين ، والقلب ، والأذن معا. أمّا : ما تنام فيه العين دون القلب والأذن ـ كما في الخفقة والخفقتين ـ فليس ناقضا.

وأمّا السؤال الثاني : فهو ـ لا شكّ ـ عن الشبهة الموضوعيّة بقرينة الجواب ؛ لأنّه لو كان مراد السائل الاستفهام عن مرتبة أخرى من النوم ـ [وهي] التي لا يحسّ معها بما يتحرّك في جنبه ـ لكان ينبغي أن يرفع الإمام شبهته بتحديد آخر للنوم الناقض. ولو كانت شبهة السائل شبهة مفهوميّة حكميّة ، لما كان معنى لفرض الشكّ في الحكم الواقعي فى جواب الإمام ، ثمّ إجراء الاستصحاب ، ولما صحّ أن يفرض الإمام استيقان السائل بالنوم تارة ، وعدم استيقانه أخرى ؛ لأنّ الشبهة لو كانت مفهوميّة حكميّة لكان السائل عالما بأنّ هذه المرتبة هي من النوم ، ولكن يجهل حكمها كالسؤال الأوّل.

وإذا كان الأمر كذلك ، فالجواب الأخير إذا كان متضمّنا لقاعدة الاستصحاب ـ كما سيأتي ـ فموردها يكون حينئذ خصوص الشبهة الموضوعيّة ، فيقال حينئذ : لا يستكشف من إطلاق الجواب عموم القاعدة للشبهة الحكميّة الذي يهمّنا بالدرجة الأولى إثباته ؛ إذ يكون المورد من قبيل القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وقد تقدّم في المقصد الأوّل أنّ ذلك يمنع من التمسّك بالإطلاق وإن لم يكن صالحا للقرينيّة (١) ؛ لما هو المعروف أنّ المورد لا يخصّص العامّ ، ولا يقيّد المطلق.

نعم ، قد يقال في الجواب : إنّ كلمة «أبدا» لها من قوّة الدلالة على العموم ، والإطلاق ما لا يحدّ منها القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، فهي تعطي في ظهورها القويّ أنّ كلّ يقين ـ مهما كان متعلّقه وفي أيّ مورد كان ـ لا ينقض بالشكّ أبدا.

الثاني : في دلالتها على الاستصحاب ، وتقريب الاستدلال بها أنّ قوله عليه‌السلام : «فإنّه على

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ١٩٨.

٦٢٤

يقين من وضوئه» جملة خبريّة هي جواب الشرط (١). ومعنى هذه الجملة الشرطيّة أنّه إن لم يستيقن بأنّه قد نام فإنّه باق على يقين من وضوئه ، أي إنّه لم يحصل ما يرفع اليقين به ، وهو اليقين بالنوم. وهذه مقدّمة تمهيديّة ، وتوطئة لبيان أنّ الشكّ ليس رافعا لليقين ، وإنّما الذي يرفعه اليقين بالنوم ، وليس الغرض منها إلاّ بيان أنّه على يقين من وضوئه ، ليقول ثانيا : إنّه لا ينبغي أن يرفع اليد عن هذا اليقين ؛ إذ لا موجب لانحلاله ورفع اليد عنه إلاّ الشكّ الموجود ، والشكّ بما هو شكّ لا يصلح أن يكون رافعا ، وناقضا لليقين ، وإنّما ينقض اليقين اليقين ، لا غير.

فقوله : «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه» بمنزلة الصغرى ، وقوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا» بمنزلة الكبرى. وهذه الكبرى مفادها قاعدة الاستصحاب ، وهي البناء على اليقين السابق وعدم نقضه بالشكّ اللاحق ؛ فيفهم منها أنّ كلّ يقين سابق لا ينقضه الشكّ اللاحق.

هذا ، وقد وقعت المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة من عدّة وجوه :

منها : ما أفاده الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره ، إذ قال : «ولكن مبنى الاستدلال على كون اللام في «اليقين» للجنس ؛ إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى المنضمّة إلى الصغرى : ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشكّ ، فيفيد قاعدة كلّيّة في باب الوضوء» إلى آخر ما أفاده. ولكنّه استظهر أخيرا كون اللام للجنس. (٢)

__________________

(١) بنى الشيخ الأنصاريّ ومن حذا حذوه الاستدلال بهذه الصحيحة على أنّ جواب الشرط محذوف ، وأنّ قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» علّة للجواب قامت مقامه. وقال : «وجعله نفس الجزاء يحتاج إلى تكلّف» * ، فيكون معنى الرواية ـ على قوله ـ : أنّه إن لم يستيقن أنّه قد نام ، فلا يجب عليه الوضوء ؛ لأنّه على يقين من وضوئه في السابق. فحذف «فلا يجب عليه الوضوء» وأقام العلّة مقامه.

وهذا الوجه الذي ذكره وإن كان وجيها ولكنّ الحذف خلاف الأصل ، ولا موجب له ، ولا تكلّف في جعل الموجود نفس الجزاء على ما بيّنّاه في المتن. ولا يتوقّف الاستدلال بالصحيحة على هذا الوجه ، ولا على ذلك الوجه ، ولا على أيّ وجه آخر ذكروه ؛ فإنّ المقصود منها في بيان قاعدة الاستصحاب مفهوم واضح يحصل في جميع هذه الوجوه. ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٥٦٤.

__________________

* فرائد الأصول ٢ : ٥٦٣ ـ ٥٦٤.

٦٢٥

أقول : إنّ كون اللام للعهد يقتضي أن يكون المراد من اليقين في الكبرى شخص اليقين المتقدّم ، فإنّ هذا هو معنى العهد. وعليه ، فلا تفيد قاعدة كلّيّة حتى في باب الوضوء.

ومنه تتّضح غرابة احتمال إرادة العهد من اللام ، بل ذلك مستهجن جدّا ، فإنّ ظاهر الكلام هو تطبيق كبرى على صغرى ، لا سيّما مع إضافة كلمة «أبدا» ، فيتعيّن أن تكون اللام للجنس.

ولكن مع ذلك هذا وحده غير كاف في التعميم لكلّ يقين حتى في غير الوضوء ؛ لإمكان أن يراد جنس اليقين بالوضوء ، بقرينة تقييده في الصغرى به ، لا كلّ يقين ، فيكون ذلك من قبيل القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، فيمنع من التمسّك بالإطلاق ـ كما سبق نظيره ـ. وهذا الاحتمال لا ينافي كون الكبرى كلّيّة ، غاية الأمر تكون كبرى كلّيّة خاصّة بالوضوء.

فيتّضح أنّ مجرّد كون اللام للجنس لا يتمّ به الاستدلال مع تقدّم ما يصلح للقرينية ، ولعلّ هذا هو مراد الشيخ قدس‌سره من التعبير بالعهد ، ومقصوده تقدّم القرينة ، فكان ذلك تسامحا في التعبير.

وعلى كلّ حال ، فالظاهر من الصحيحة ـ ظهورا قويّا ـ إرادة مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء ، وذلك لمناسبة الحكم والموضوع ؛ فإنّ المناسب لعدم النقض بالشكّ بما هو شكّ هو اليقين بما هو يقين ، لا بما هو يقين بالوضوء ؛ لأنّ المقابلة بين الشكّ واليقين ، وإسناد عدم النقض إلى الشكّ تجعل اللفظ كالصريح في أنّ العبرة في عدم جواز النقض هو جهة اليقين بما هو يقين ، لا اليقين المقيّد بالوضوء من جهة كونه مقيّدا بالوضوء.

ولا يصلح ذكر قيد «من وضوئه» في الصغرى أن يكون قرينة على التقييد في الكبرى ، ولا أن يكون من قبيل القدر المتيقّن في مقام التخاطب ؛ لأنّ طبيعة الصغرى أن تكون في دائرة أضيق من دائرة الكبرى ، ومفروض المسألة في الصغرى باب الوضوء ، فلا بدّ من ذكره.

وعليه ، فلا يبعد أن [يكون] مؤدّى الصغرى هكذا : «فإنّه من وضوئه على يقين» ، فلا تكون كلمة «من وضوئه» قيدا لليقين ، يعني أنّ الحدّ الأوسط المتكرّر هو «اليقين» لا «اليقين من وضوئه».

٦٢٦

ومنها : أنّ الوضوء أمر آنيّ متصرّم ، ليس له استمرار في الوجود ، وإنّما الذي إذا ثبت استدام هو أثره ، وهو الطهارة ، ومتعلّق اليقين في الصحيحة هو الوضوء لا الطهارة ، ومتعلّق الشكّ هو المانع من استمرار أثر المتيقّن ، فيكون الشكّ في استمرار أثر المتيقّن لا المتيقّن نفسه. وعليه ، فلا يكون متعلّق اليقين نفس متعلّق الشكّ ، فانخرم الشرط الخامس في الاستصحاب ، ويكون ذلك موردا لقاعدة المقتضي والمانع. فتكون الصحيحة دليلا عليها لا على الاستصحاب.

وفيه : أنّ الجمود على لفظ «الوضوء» يوهم ذلك ، ولكنّ المتعارف من مثل هذا التعبير في لسان الأخبار إرادة الطهارة التي هي أثر له بإطلاق السبب وإرادة المسبّب ، ونفس صدر الصحيحة «الرجل ينام وهو على وضوء» يشعر بذلك. فالمتبادر والظاهر من قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» أنّه متيقّن بالطهارة المستمرّة لو لا الرافع لها ، والشكّ إنّما هو في ارتفاعها للشكّ في وجود الرافع. فيكون متعلّق اليقين نفس متعلّق الشكّ. فما أبعدها عن قاعدة المقتضي والمانع.

ومنها : ما أفاده الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره في مناقشة جميع الأخبار العامّة المستدلّ بها على حجّيّة مطلق الاستصحاب ، واستنتج من ذلك أنّها مختصّة بالشكّ في الرافع ، فيكون الاستصحاب حجّة فيه فقط ، قال رحمه‌الله : «فالمعروف بين المتأخّرين الاستدلال بها على حجّيّة الاستصحاب في جميع الموارد. وفيه تأمّل قد فتح بابه المحقّق الخوانساريّ في شرح الدروس». (١)

وسيأتي إن شاء الله (تعالى) في آخر الأخبار بيان هذه المناقشة ، ونقدها.

٢. صحيحة زرارة الثانية :

وهي أيضا مضمرة ، كالسابقة.

قال [زرارة] : قلت : أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من منيّ ، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء ، [فأصبت] ، وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٧٤.

٦٢٧

ذكرت بعد ذلك؟

قال : «تعيد الصلاة وتغسله».

قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟

قال : «تغسله وتعيد».

قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ، فنظرت ولم أر شيئا ، فصلّيت فيه ، فرأيت فيه؟

قال : «تغسله ولا تعيد الصلاة».

قلت : لم ذلك؟

قال : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا».

قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو ، فأغسله؟

قال : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها ، حتى تكون على يقين من طهارتك».

قلت : فهل عليّ ـ إن شككت أنّه أصابه شيء ـ أن انظر فيه؟

قال : «لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك».

قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

قال : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» الحديث (١).

والاستدلال بهذه الصحيحة للمطلوب في فقرتين منها ، بل قيل في ثلاث : (٢)

الأولى : قوله : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ...» ؛ بناء على أنّ المراد من اليقين بالطهارة هو اليقين بالطهارة الواقع قبل ظنّ الإصابة بالنجاسة. وهذا المعنى هو

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤٤٦ ـ ٤٤٧ ح ١٣٣٥ ؛ الاستبصار ١ : ١٨٣ ح ٦٤١.

(٢) لم اعثر على المستدلّ بالثالثة.

٦٢٨

الظاهر منها.

ويحتمل بعيدا أن يراد منه اليقين بالطهارة الواقع بعد ظنّ الإصابة وبعد الفحص عن النجاسة ؛ إذ قال : «فنظرت ولم أر شيئا» ، على أن يكون قوله : «ولم أر شيئا» عبارة أخرى عن اليقين بالطهارة. وعلى هذا الاحتمال يكون مفاد الرواية «قاعدة اليقين» لا الاستصحاب ؛ لأنّه يكون حينئذ مفاد قوله : «فرأيت فيه» تبدّل اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة.

ووجه بعد هذا الاحتمال أنّ قوله : «ولم أر شيئا» ليس فيه أيّ ظهور بحصول اليقين بالطهارة بعد النظر والفحص.

الثانية : قوله أخيرا : «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ». ودلالتها كالفقرة الأولى ظاهرة على ما تقدّم في الصحيحة الأولى ـ من ظهور كون اللام في «اليقين» لجنس اليقين بما هو يقين ـ. وهذا المعنى هنا أظهر ممّا هو في الصحيحة الأولى.

الثالثة : قوله : «حتى تكون على يقين من طهارتك» ؛ فإنّه عليه‌السلام إذ جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة من غسل الثوب في مورد سبق العلم بنجاسته يظهر منه أنّه لو لم يحصل اليقين بالطهارة فهو محكوم بالنجاسة ؛ لمكان سبق اليقين بها.

ولكنّ الاستدلال بهذه الفقرة مبنيّ على أنّ إحراز الطهارة ليس شرطا في الدخول في الصلاة ، وإلاّ لو كان الإحراز شرطا فيحتمل أن يكون إنّما جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة لأجل إحراز الشرط المذكور ، لا لأجل التخلّص من جريان استصحاب النجاسة ، فلا يكون لها ظهور في الاستصحاب.

٣. صحيحة زرارة الثالثة :

قال : قلت له ـ أي الباقر أو الصادق عليهما‌السلام ـ : من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟

قال : «يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد ، ولا شيء عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ،

٦٢٩

ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات». (١)

وجه الاستدلال بها ـ على ما قيل (٢) ـ أنّه في الشكّ بين الثلاث والأربع ـ وقد أحرز الثلاث ـ يكون قد سبق منه اليقين بعدم الإتيان بالرابعة ، فيستصحب. ولذلك وجب عليه أن يضيف إليها رابعة ؛ لأنّه لا يجوز نقض اليقين بالشكّ ، بل لا بدّ أن ينقضه باليقين بإتيان الرابعة ، فينقض شكّه باليقين. وتكون هذه الفقرات الستّ كلّها تأكيدا على قاعدة الاستصحاب.

وقد تأمّل الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره في هذا الاستدلال ؛ (٣) لأنّه إنّما يتمّ إذا كان المراد بقوله : «قام فأضاف إليها أخرى» القيام للركعة الرابعة ، من دون تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة ، حتى يكون حاصل جواب الإمام البناء على الأقلّ. ولكن هذا مخالف للمذهب ، وموافق لقول العامّة ، بل مخالف لظاهر الفقرة الأولى ، وهي قوله : «يركع بركعتين ... وهو قائم بفاتحة الكتاب» ؛ فإنّها ظاهرة ـ بسبب تعيين الفاتحة ـ في إرادة ركعتين منفصلتين ، أعني صلاة الاحتياط.

وعليه ، فيتعيّن أن يكون المراد به القيام بعد التسليم في الركعة المردّدة لركعة مستقلّة منفصلة. وإذا كان الأمر كذلك فيكون المراد من اليقين في جميع الفقرات اليقين بالبراءة الحاصل من الاحتياط بإتيان الركعة ، فتكون الفقرات الستّ واردة لبيان وجوب الاحتياط ، وتحصيل اليقين بفراغ الذمّة. وهذا أجنبيّ عن قاعدة الاستصحاب.

أقول : هذا خلاصة ما أفاده الشيخ ، ولكن حمل الفقرة الأولى : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» على إرادة اليقين ببراءة الذمّة الحاصل من الأخذ بالاحتياط بعيد جدّا عن مساقها ، بل أبعد من البعيد ؛ لأنّ ظاهر هذا التعبير بل صريحه فرض حصول اليقين ، ثمّ النهي عن نقضه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ١٩٨ ح ٧٤٠ ؛ وسائل الشيعة ٥ : ٣٢١ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٢) راجع الكفاية : ٤٥٠ ؛ ونهاية الدراية ٣ : ٩٧ ، ومصباح الأصول ٣ : ٥٩.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٥٦٧.

٦٣٠

في فرض حصوله ، بينما أنّ اليقين بالبراءة إنّما المطلوب تحصيله ، وهو غير حاصل ، فكيف يصحّ حمل هذه الجملة على الأمر بتحصيله؟! فلا بدّ أن يراد اليقين بشيء آخر غير البراءة.

وعليه ، فمن القريب جدّا أن يراد من اليقين اليقين بوقوع الثلاث وصحّتها ـ كما هو مفروض المسألة بقوله : «وقد أحرز الثلاث» ـ لا اليقين بعدم الإتيان بالرابعة ـ كما تصوّره هذا المستدلّ ، حتى يرد عليه ما أفاده الشيخ ـ ، وحينئذ فلو أراد المكلّف أن يعتدّ بشكّه فقد نقض اليقين بالشكّ ، واعتداده بشكّه بأحد أمور ثلاثة : إمّا بإبطال الصلاة وإعادتها رأسا ، وإمّا بالأخذ باحتمال نقصانها فيكمّلها برابعة ـ كما هو مذهب العامّة ـ ، وإمّا بالأخذ باحتمال كمالها ، بالبناء على الأكثر ، فيسلّم على المشكوكة من دون إتيان برابعة متّصلة ، وخلط أحدهما بالآخر.

ولأجل هذا عالج الإمام عليه‌السلام صلاة هذا الشاكّ ؛ لأجل المحافظة على يقينه بالثلاث ، وعدم نقضه بالشكّ ، وذلك بأن أمره بالقيام وإضافة ركعة أخرى ، ولا بدّ أنّها مفصولة ، ويفهم كونها مفصولة من صدر الرواية «يركع بركعتين ... وهو قائم بفاتحة الكتاب» ؛ فإنّ أسلوب العلاج لا بدّ أن يكون واحدا في الفرضين ؛ مضافا إلى أنّ ذلك يفهم من تأكيد الإمام بأن لا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ؛ لأنّه بإضافة ركعة متّصلة يقع الخلط ، وإدخال الشكّ في اليقين.

وعليه ، فتكون الرواية دالّة على قاعدة الاستصحاب من جهة ، ولكنّ المقصود فيها استصحاب وقوع الثلاث صحيحة ، كما أنّها تكون دالّة على علاج حالة الشكّ الذي لا يجوز نقض اليقين به من جهة أخرى ، وذلك بأمره بالقيام وإضافة ركعة منفصلة لتحصيل اليقين بصحّة الصلاة ؛ لأنّها إن كانت ثلاثا فقد جاء بالرابعة ، وإن كانت أربعا تكون الركعة المنفصلة نفلا.

ومنه يعلم أنّ المراد من «اليقين» في الفقرتين : الرابعة ، والخامسة «ولكن ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين ويبني عليه» غير «اليقين» في الفقرات الأولى ، فإنّ المراد به هناك اليقين بوقوع الثلاث صحيحة ، والمراد به في هاتين الفقرتين اليقين بالبراءة ؛ لأنّه بإتيان ركعة منفصلة يحصل له اليقين ببراءة الذمّة ، فيكون ذلك نقضا للشكّ باليقين الحادث

٦٣١

من الاحتياط. ويفهم هذا التفصيل ـ من المراد باليقين ـ من الاستدراك وهو قوله : «ولكن» ، فإنّه بعد أن نهى عن نقض اليقين بالشكّ ذكر العلاج بقوله : «لكن» ، فهو أمر بنقض الشكّ باليقين ، والإتمام على اليقين ، والبناء عليه ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بإتيان ركعة منفصلة. ولا يجب ـ كما قيل (١) ـ أن يكون المراد من «اليقين» في جميع الفقرات معنى واحدا ، بل لا يصحّ ذلك ؛ فإنّ أسلوب الكلام لا يساعد عليه ؛ فإنّ الناقض للشكّ يجب أن يكون غير الذي ينقضه الشكّ.

والحاصل أنّ الرواية تكون خلاصة معناها النهي عن الإبطال ، والنهي عن الركون إلى ما تذهب إليه العامّة من البناء على الأقلّ ، والنهي عن البناء على الأكثر مع عدم الإتيان بركعة منفصلة. ثمّ تضمّنت الأمر ـ بعد ذلك ـ بما يؤدّي معنى الأخذ بالاحتياط بالإتيان بركعة منفصلة ، لأنّه بهذا يتحقّق نقض الشكّ باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه.

وعلى هذا ، فالرواية تتضمّن قاعدة الاستصحاب ، وتنطبق أيضا على باقي الروايات المبيّنة لمذهب الخاصّة ، وإن كانت ليست ظاهرة فيه على وجه تكون بيانا لمذهب الخاصّة ، ولكن صدرها يفسّرها. ويظهر أنّ الإمام عليه‌السلام أوكل الحكم وتفصيله إلى معروفيّة هذا الحكم عند السائل وإلى فهمه وذوقه ، وإنّما أراد أن يؤكّد على سرّ هذا الحكم ، والردّ على من يرى خلافه الذي فيه نقض لليقين بالشكّ وعدم الأخذ باليقين.

٤. رواية محمّد بن مسلم :

محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من كان على يقين فشكّ ، فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين». (٢)

وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام بهذا المضمون : «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ». (٣)

__________________

(١) تعريض للشيخ الأنصاريّ ، والمحقّق الخراسانيّ ؛ فإنّ الظاهر من كلماتهما أنّ المراد من اليقين هو اليقين بالبراءة. فرائد الأصول ٢ : ٥٦٧ ؛ كفاية الأصول : ٤٥٠.

(٢) الخصال : ٦١٩.

(٣) الإرشاد (للمفيد) : ١٥٩.

٦٣٢

استدلّ بعضهم (١) بهذه الرواية على الاستصحاب ، مدّعيا ظهورها فيه.

ولكنّ الذي نراه أنّها غير ظاهرة فيه ؛ فإنّ القدر المسلّم منها أنّها صريحة في أنّ مبدأ حدوث الشكّ بعد حدوث اليقين من أجل كلمة «الفاء» التي تدلّ على الترتيب ، غير أنّ هذا القدر من البيان يصحّ أن يراد منه قاعدة اليقين ، ويصحّ أن يراد منه قاعدة الاستصحاب ؛ إذ يجوز أن يراد أنّ اليقين قد زال بحدوث الشكّ ، فيتّحد زمان متعلّقهما ، فتكون موردا للقاعدة الأولى ، ويجوز أن يراد أنّ اليقين قد بقي إلى زمان الشكّ ، فيختلف زمان متعلّقهما ، فتكون موردا للاستصحاب. وليس في الرواية ظهور في أحدهما بالخصوص (٢) ، وإن قال الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره : «إنّها ظاهرة في وحدة زمان متعلّقهما (٣)» ، ولذلك قرّب أن تكون دالّة على قاعدة اليقين (٤). وقال الشيخ الآخوند قدس‌سره : «إنّها ظاهرة في اختلاف زمان متعلّقهما (٥)» ، فقرّب أن تكون دالّة على الاستصحاب. وقد ذكر كلّ منهما تقريبات لما استظهره ، لا نراها

__________________

(١) كالشيخ الأنصاريّ ، والمحقّق الخراسانيّ ، والمحقّقين النائينيّ والعراقيّ. فرائد الأصول ٢ : ٥٧٠ ؛ كفاية الأصول : ٤٥١ ؛ فوائد الأصول ٤ : ٣٦٥ ؛ نهاية الأفكار ٤ «القسم الأوّل» : ٦٣ ـ ٦٥.

وزعم بعضهم ـ ومنهم المصنّف ـ أنّ الشيخ الأنصاريّ ذهب إلى أنّ هذه الرواية تدلّ على قاعدة اليقين ؛ لأنّها صريحة في اختلاف زمان الوصفين ، وظاهرها اتّحاد زمان متعلّقهما.

والتحقيق أنّه وإن استشكل في الرواية بأنّ صريحها اختلاف زمان وصفي اليقين والشكّ ، وظاهرها وحدة زمان المتعلّق ، فتنطبق على قاعدة اليقين ، إلاّ أنّه ذكر في آخر كلامه أنّ الرواية بملاحظة قوله عليه‌السلام : «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» ظاهرة في الاستصحاب.

(٢) لا يخفى أنّ هنا مقدّمة مطويّة يجب التنبّه لها ، وهي أنّ تجرّد كلمة «اليقين» و «الشكّ» في الرواية من ذكر المتعلّق يدلّ على وحدة المتعلّق ، يعني أنّ هذا التجرّد يدلّ على أنّ ما تعلّق به اليقين هو نفس ما تعلّق به الشكّ ، وإلاّ فإنّ من المقطوع به أنّه ليس المراد اليقين بأيّ شيء كان والشكّ بأيّ شيء كان لا يرتبط بالمتيقّن. ولكن كونها دالّة على وحدة المتعلّق لا يجعلها ظاهرة في كونه واحدا في جميع الجهات ، حتى من جهة الزمان ، لتكون ظاهرة في قاعدة اليقين كما قيل. * ـ منه رحمه‌الله ـ

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٥٦٩.

(٤) ولكنه صرّح في آخر كلامه بأنّها ظاهرة في الاستصحاب كما مرّ.

(٥) كفاية الأصول : ٤٥١.

__________________

* والقائل هو المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٩٩.

٦٣٣

ناهضة على مطلوبهما.

وعليه ، فتكون الرواية مجملة من هذه الناحية ، إلاّ إذا جوّزنا الجمع في التعبير بين القاعدتين (١) ، وحينئذ تدلّ عليهما معا ، يعني أنّها تدلّ على أنّ اليقين بما هو يقين لا يجوز نقضه بالشك ، سواء كان ذلك اليقين هو المجامع للشكّ ، أو غير المجامع له. وقيل : «إنّه لا يجوز الجمع في التعبير بين القاعدتين ؛ لأنّه يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وهو مستحيل» (٢). وسيأتي إن شاء الله (تعالى) ما ينفع في المقام.

نعم ، يمكن دعوى ظهورها في الاستصحاب بالخصوص ، بأن يقال ـ كما قرّبه بعض أساتذتنا (٣) : إنّ الظاهر في كلّ كلام هو اتّحاد زمان النسبة مع زمان الجري ، فقوله عليه‌السلام : «فليمض على يقينه» يكون ظاهرا في أنّ زمان نسبة وجوب المضيّ على اليقين نفس زمان حصول اليقين. ولا ينطبق ذلك إلاّ على الاستصحاب ، لبقاء اليقين في مورده محفوظا إلى زمان العمل به. وأمّا : قاعدة اليقين فإنّ موردها الشكّ الساري ، فيكون اليقين في ظرف وجوب العمل به معدوما. ولعلّه من أجل هذا الظهور استظهر من استظهر دلالة الرواية على الاستصحاب. (٤)

٥ ـ مكاتبة علي بن محمّد القاساني :

قال : كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ أسأله عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟

فكتب عليه‌السلام : «اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية ، وأفطر للرؤية (٥)».

قال الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره : «والإنصاف أنّ هذه الرواية أظهرها في هذا الباب ، إلاّ أنّ سندها

__________________

(١) كما اختاره صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٣٧٣.

(٢) لم أعثر على من صرّح بهذا المطلب. نعم ، هو الظاهر من كلمات العلاّمة الآشتياني في بحر الفوائد ٣ : ٣٦.

(٣) كالمحقّقين النائينيّ والعراقي. فوائد الأصول ٤ : ٣٦٥ ؛ نهاية الأفكار ٤ «القسم الأوّل» : ٦٤.

(٤) كالشيخ الأنصاريّ والمحقّق الخراساني كما مرّ.

(٥) تهذيب الأحكام ٤ : ٢١٤ ، ح ٢٨ ؛ وسائل الشيعة ٧ : ١٨٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

٦٣٤

غير سليم». وذكر في وجه دلالتها : «إنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والإفطار على رؤية هلالي رمضان وشوّال لا يستقيم إلاّ بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشكّ ، أي مزاحما به» (١).

وقد أورد عليه صاحب الكفاية (٢) بما محصّله مع توضيح منّا : أنّا نمنع من ظهور هذه الرواية في الاستصحاب فضلا عن أظهريّتها ؛ نظرا إلى أنّ دلالتها عليه تتوقّف على أن يراد من «اليقين» اليقين بعدم دخول رمضان وعدم دخول شوّال ، ولكن ليس من البعيد أن يكون المراد به اليقين بدخول رمضان ـ المنوط به وجوب الصوم ـ واليقين بدخول شوّال المنوط به وجوب الإفطار. ومعنى «أنّه لا يدخله الشكّ» أنّه لا يعطى حكم اليقين للشكّ ، ولا ينزل منزلته ، بل المدار في وجوب الصوم والإفطار على اليقين فقط ، فأنّه وحده هو المناط في وجوبهما ـ أي إنّ الصوم والإفطار يدوران مداره ـ. ولذا قال عليه‌السلام بعده : «صم للرؤية ، وأفطر للرؤية» ؛ مؤكّدا لاشتراط وجوب الصوم والإفطار باليقين.

وهذا المضمون دلّت عليه جملة من الأخبار بقريب من هذا التعبير ممّا يقرّب إرادته من هذه الرواية ، ويؤكّده ، ولا بأس في ذكر بعض هذه الأخبار لتتّضح موافقتها لهذه الرواية :

منها : قول أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا. وليس بالرأي ولا بالتظنّي ، ولكن بالرؤية» (٣).

ومنها : «صم للرؤية وأفطر للرؤية. وإيّاك والشكّ والظنّ. فإن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين» (٤).

ومنها : «صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ» (٥).

إنّ تلك الأخبار العامّة المتقدّمة هي أهمّ ما استدلّ به للاستصحاب. وهناك أخبار

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٧٠.

(٢) وكذا العلاّمة النائيني. كفاية الأصول : ٤٥٢ ، وفوائد الأصول ٤ : ٣٦٦.

(٣) وسائل الشيعة ٧ : ٢٨٢ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ٢.

(٤) وسائل الشيعة ٧ : ١٨٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١١.

(٥) وسائل الشيعة ٧ : ١٨٣ ، الباب ٣ من أبواب احكام شهر رمضان ، الحديث ٦.

٦٣٥

خاصّة تؤيّدها. ذكر بعضها الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره (١). ونحن نذكر واحدة منها للاستئناس ، وهي رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذّميّ ، وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير.

قال : فهل عليّ أن أغسله؟

فقال : «لا ؛ لأنّك أعرته إيّاه ، وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه» (٢).

قال الشيخ قدس‌سره : «وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها» (٣).

مدى دلالة الأخبار

والمهمّ لنا أن نبحث الآن عن مدى دلالة تلكم الأخبار من جهة بعض التفصيلات المهمّة في الاستصحاب ، فنقول :

١. التفصيل بين الشبهة الحكميّة و [الشبهة] الموضوعيّة

إنّ المنسوب إلى الأخباريّين (٤) اعتبار الاستصحاب في خصوص الشبهة الموضوعيّة ، وأمّا الشبهات الحكميّة مطلقا فعلى القاعدة عندهم من وجوب الرجوع إلى قاعدة الاحتياط.

وعلّل ذلك بعضهم (٥) بأنّ أخبار الاستصحاب لا عموم لها ولا إطلاق يشمل الشبهة الحكميّة ؛ لأنّ القدر المتيقّن منها خصوص الشبهة الموضوعيّة ، لا سيّما أنّ بعضها وارد في خصوصها ، فلا تعارض أدلّة الاحتياط.

ولكنّ الإنصاف أنّ لأخبار الاستصحاب من قوّة الإطلاق والشمول ما يجعلها ظاهرة في شمولها للشبهة الحكميّة ، ولا سيّما أنّ أكثرها وارد مورد التعليل ، وظاهرها تعليق

__________________

(١) في فرائد الأصول ٢ : ٥٧١ ـ ٥٧٥.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٨٨ ح ١٤٩٥ ؛ الاستبصار ١ : ٣٩٢ ح ١٤٩٧.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٥٧١.

(٤) نسب إليهم المحدّث البحرانيّ في الحدائق الناضرة ١ : ٥٢.

(٥) لم أعثر على من استدلّ به صريحا.

٦٣٦

الحكم على اليقين من جهة ما هو يقين ـ كما سبق بيان ذلك في الصحيحة الأولى (١) ـ ، فيكون شمولها للشبهة الحكميّة حينئذ من باب التمسّك بالعلّة المنصوصة ؛ على أنّ رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة عامّة لم ترد في خصوص الشبهة الموضوعيّة. فالحقّ شمول الأخبار للشبهتين.

وأمّا : أدلّة الاحتياط فقد تقدّمت المناقشة في دلالتها (٢) ، فلا تصلح لمعارضة أدلّة الاستصحاب.

٢. التفصيل بين الشكّ في المقتضي ، و [الشكّ في] الرافع

هذا هو القول التاسع المتقدّم ، والأصل فيه المحقّق الحلّي (٣) ، ثمّ المحقّق الخوانساريّ (٤) ، وأيّده كلّ التأييد الشيخ الأعظم قدس‌سره (٥) ، وقد دعمه (٦) جملة من تأخّر عنه. (٧)

وخالفهم في ذلك الشيخ الآخوند قدس‌سره ، فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا ، (٨) وهو الحقّ ، ولكن بطريقة أخرى غير التي سلكها الشيخ الآخوند قدس‌سره.

ومن أجل هذا أصبح هذا التفصيل من أهمّ الأقوال التي عليها مدار المناقشات العلميّة في عصرنا. ويلزمنا النظر فيه من جهتين : من جهة المقصود من المقتضي والمانع ، ومن جهة مدى دلالة الأخبار عليه.

__________________

(١) راجع الصفحتين : ٦٢٣ ـ ٦٢٥.

(٢) تقدّمت في الصفحة : ٦١٩.

(٣) معارج الأصول : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٤) مشارق الشموس : ٧٥.

ولا يخفى أنّه ذهب إلى التفصيل المذكور فيما إذا كان المستصحب مغيّا بغاية شكّ في تحقّقها من جهة الشبهة المصداقيّة.

وقال المحقّق العراقيّ : «أبدعه ـ أي التفصيل ـ المحقّق الخوانساريّ». نهاية الأفكار ٤ «القسم الأوّل» : ٧٥.

(٥) فرائد الأصول ٢ : ٥٦٢ ـ ٥٧٥.

(٦) أي : قوّاه.

(٧) انظر حاشية المحقّق الهمدانيّ على الرسائل : ٨١ ، وبحر الفوائد ٣ : ٤٣.

(٨) كفاية الأصول : ٤٣٩. واختاره المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٤ «القسم الأوّل» : ٨٧.

٦٣٧

أ : المقصود من المقتضي والمانع

ونحيل ذلك إلى تصريح الشيخ قدس‌سره نفسه ، فقد قال : «المراد بالشكّ من جهة المقتضي الشكّ من حيث استعداده ، وقابليّته في ذاته للبقاء ، كالشكّ في بقاء الليل ، والنهار ، وخيار الغبن بعد الزمان الأوّل». (١)

فيفهم منه أنّه ليس المراد من المقتضي ـ كما قد ينصرف ذلك من إطلاق كلمة «المقتضي» ـ مقتضي الحكم ، أي الملاك والمصلحة فيه (٢) ، ولا المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب والمسبّبات ، بحسب الجعل الشرعيّ ، (٣) مثل أن يقال : «إنّ الوضوء مقتض للطهارة» ، و «عقد النكاح مقتض للزوجيّة». بل المراد (٤) نفس استعداد المستصحب في ذاته للبقاء وقابليّته له من أيّة جهة كانت تلك القابليّة ، وسواء فهمت هذه القابليّة من الدليل ، أو من الخارج. ويختلف ذلك باختلاف المستصحبات وأحوالها ، فليس فيه نوع ، ولا صنف مضبوط من حيث مقدار الاستعداد ، كما صرّح بذلك الشيخ قدس‌سره (٥).

والتعبير عن الشكّ في القابليّة بـ «الشكّ في المقتضي» فيه نوع من المسامحة توجب الإيهام. وينبغي أن يعبّر عنه بـ «الشكّ في اقتضائه للبقاء» ، لا «الشكّ في المقتضي» ، ولكن بعد وضوح المقصود ، فالأمر سهل.

وأمّا : الشكّ في الرافع فعلى هذا يكون المقصود منه الشكّ في طروّ ما يرفع المستصحب ، مع القطع باستعداده وقابليّته للبقاء لو لا طروّ الرافع ، كما صرّح به الشيخ قدس‌سره ، وذكر أنّه على أقسام. (٦) والمتحصّل من مجموع كلامه في جملة مقامات أنّه ينقسم إلى

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٥٨ ـ ٥٥٩.

(٢) قال المحقّق العراقيّ : «ما أظنّ أحدا يريد من المقتضي في المقام ما هو الملاك لإحداث تشريع الحكم ، ولو لم يكن مقتضيا لبقائه». راجع تعليقاته على فوائد الأصول ٤ : ٣٢٤.

(٣) وهذا المعنى من المقتضي هو مراد المحقّق الحلّي في المعارج : ٢١٠ ، بقرينة تمثيله بعقد النكاح.

(٤) كما هو المعروف بين الأعلام على ما في كتاب الاستصحاب (للإمام الخمينىّ) : ١٧.

(٥) فرائد الأصول ٢ : ٥٥٩.

(٦) فرائد الأصول ٢ : ٥٥٩.

٦٣٨

قسمين رئيسين : الشكّ في وجود الرافع ، والشكّ في رافعيّة الموجود. وهذا القسم الثاني أنكر المحقّق السبزواريّ حجّيّة الاستصحاب فيه بأقسامه الثلاثة ، الآتية ، وهو القول العاشر في تعداد الأقوال. (١) ونحن نذكر هذه الأقسام ؛ لتوضيح مقصود الشيخ قدس‌سره :

١. «الشكّ في وجود الرافع» ، ومثّل له بالشكّ في حدوث البول ، مع العلم بسبق الطهارة. (٢) وهو رحمه‌الله لا يعني به إلاّ الشكّ في الشبهة الموضوعيّة خاصّة.

وأمّا : ما كان في الشبهة الحكميّة فلا يعمّه كلامه ؛ لأنّ الشكّ في وجود الرافع فيها ينحصر عنده في الشكّ في النسخ خاصّة ؛ لأنّه لا معنى لرفع الحكم إلاّ نسخه. وإجراء الاستصحاب في عدم النسخ ـ كما قال (٣) ـ إجماعيّ بل ضروريّ. والسرّ في ذلك ما تقدّم في مباحث النسخ في الجزء الثالث ـ من أنّ إجماع المسلمين قائم على أنّه لا يصحّ النسخ إلاّ بدليل قطعيّ (٤) ـ ، فمع الشكّ لا بدّ أن يؤخذ بالحكم السابق المشكوك نسخه ، أي إنّ الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع ، لا لأجل حجّيّة الاستصحاب.

٢. «الشكّ في رافعيّة الموجود» ، وذلك بأن يحصل شيء معلوم الوجود قطعا ، ولكن يشكّ في كونه رافعا للحكم. وهو على أقسام ثلاثة :

الأوّل : فيما إذا كان الشكّ من أجل تردّد المستصحب بين ما يكون الموجود رافعا له وبين ما لا يكون. ومثّل (٥) له بما إذا علم بأنّه مشغول الذمّة بصلاة ما في ظهر يوم الجمعة ، ولا يعلم أنّها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر ، فإذا صلّى الظهر ـ مثلا ـ فإنّه يتردّد أمره لا محالة في أنّ هذه الصلاة الموجودة التي وقعت منه هل هي رافعة لشغل الذمّة بالتكليف المذكور أو غير رافعة؟

الثاني : فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه رافعا مستقلاّ في

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٥٥٩.

(٣) كذا ، والأولى «كما قيل» ، فإنّ الشيخ الأنصاريّ لم يقل : «إجماعي» ، بل نقل دعوى الإجماع ، بل الضرورة عن المحدّث الاسترآباديّ. فوائد الأصول ٢ : ٥٩٥.

(٤) تقدّم في الصفحة : ٤١٤.

(٥) أي الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ٢ : ٥٥٩.

٦٣٩

الشرع ، كالمذي المشكوك في كونه ناقضا للطهارة ، مع العلم بعدم كونه مصداقا للرافع المعلوم [مفهومه] وهو البول.

الثالث : فيما إذا كان الشكّ من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه مصداقا للرافع المعلوم مفهومه ، أو من أجل الجهل بها في كونه مصداقا للرافع المجهول مفهومه.

مثال الأوّل الشكّ في الرطوبة الخارجة في كونها بولا أو مذيا ، مع معلوميّة مفهوم البول والمذي وحكمهما.

ومثال الثاني الشكّ في النوم الحادث في كونه غالبا للسمع والبصر ، أو غالبا للبصر فقط ، مع الجهل بمفهوم النوم الناقض في أنّه يشمل النوم الغالب للبصر فقط.

ورأى الشيخ قدس‌سره أنّ الاستصحاب يجري في جميع هذه الأقسام ، سواء كان شكّا في وجود الرافع أو في رافعيّة الموجود بأقسامه الثلاثة ، خلافا للمحقّق السبزواريّ ؛ إذ اعتبر الاستصحاب في الشكّ في وجود الرافع فقط ، دون الشكّ في رافعيّة الموجود ، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

ب : مدى دلالة الأخبار على هذا التفصيل

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره : «إنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة ، كما في نقض الحبل. والأقرب إليه ـ على تقدير مجازيّته ـ هو رفع الأمر الثابت» إلى أن قال : «فيختصّ متعلّقه بما من شأنه الاستمرار». (١)

وعليه ، فلا يشمل اليقين المنهيّ عن نقضه بالشكّ في الأخبار اليقين إذا تعلّق بأمر ليس من شأنه الاستمرار ، أو المشكوك استمراره.

توضيح مقصوده ـ مع المحافظة على ألفاظه حدّ الإمكان ـ أنّ النقض لغة لمّا كان معناه رفع الهيئة الاتّصاليّة (٢) كما في نقض الحبل ، فإنّ هذا المعنى الحقيقيّ ليس هو المراد من الروايات قطعا ؛ لأنّ المفروض في مواردها طروّ الشكّ في استمرار المتيقّن ، فلا هيئة

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٧٤.

(٢) ولا يخفى أنّ النقض في اللغة لم يفسّر برفع الهيئة الاتصاليّة ، بل فسّر بإفساد ما أبرم ، كما يأتي.

٦٤٠