اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

وظيفة عامّة لجميع المكلّفين ، وفي جميع الأزمان حتى زمن الغيبة ولو كان من باب التقيّة ، ولا شكّ أنّ الأزمان والأشخاص تتفاوت وتختلف من جهة شدّة التقيّة ، أو لزومها.

٢. الترجيح بالصفات :

إنّ الروايات التي ذكرت الترجيح بالصفات تنحصر في مقبولة ابن حنظلة ، ومرفوعة زرارة ، المشار إليهما سابقا. (١) والمرفوعة ـ كما قلنا ـ ضعيفة جدّا ؛ لأنّها مرفوعة ، ومرسلة ، ولم يروها إلاّ صاحب «عوالي اللآلئ» (٢). وقد طعن صاحب «الحدائق» في التأليف والمؤلّف ، إذ قال : «فإنّا لم نقف عليها في غير كتاب «عوالي اللآلئ» مع ما هي عليه من الرفع والإرسال ، وما عليه الكتاب ، من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والإهمال ، وخلط غثّها (٣) بسمينها وصحيحها بسقيمها» (٤).

إذن ، الكلام فيها فضول ، فالعمدة في الباب المقبولة التي قبلها العلماء ؛ لأنّ راويها صفوان بن يحيى الذي هو من أصحاب الإجماع ـ أي الذين أجمع الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ـ ، كما رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم (٥). وإليك نصّها بعد حذف مقدّمتها :

قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا (٦) في حديثكم؟

قال : «الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».

قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟

قال : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي به حكما ، المجمع عليه من

__________________

(١) راجع الصفحتين : ٥٧٣ و ٥٧٥.

(٢) عوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ ح ٢٢٩.

(٣) أي : رديئها.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٩٩.

(٥) الكافي ١ : ٦٧ ؛ الفقيه ٣ : ٩ ـ ١٠ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٦) استعمال لا تساعده اللغة ؛ فإنّ خبر (كلا) و (كلتا) دائما مفرد.

٥٨١

أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه. وإنّما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم».

قلت : فإن كان الخبران عنكما (١) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟

قال : «ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة ، وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ، ووافق العامّة».

قلت : ـ جعلت فداك ـ أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب ، والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟

قال : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد».

قلت : ـ جعلت فداك ـ فإن وافقهم الخبران جميعا؟

قال : «انظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ، ويؤخذ بالآخر».

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟

قال : «إذا كان ذلك فأرجه (٢) (وفي بعض النسخ : فأرجئه (٣)) ، حتى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». انتهت المقبولة.

أقول : (٤) من الواضح أنّ موردها التعارض بين الحاكمين ، لا بين الراويين ، ولكن لمّا كان الحكم والفتوى في الصدر الأوّل يقعان بنصّ الأحاديث ـ لا أنّهما يقعان بتعبير من الحاكم ، أو المفتي ، كالعصور المتأخّرة استنباطا من الأحاديث ـ تعرّضت هذه المقبولة للرواية والراوي ؛ لارتباط الرواية بالحكم. ومن هنا استدلّ بها على الترجيح للروايات المتعارضة.

غير أنّه ـ مع ذلك ـ لا يجعلها شاهدة على ما نحن فيه. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ

__________________

(١) أي : الباقر والصادق عليهما‌السلام. ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢ و ٣). أي : أخّره.

(٤) كما قال به المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٣ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٥٨٢

اعتبار شيء في الراوي بما هو حاكم غير اعتباره فيه بما هو راو ومحدّث ، والمفهوم من المقبولة أنّ ترجيح الأعدل ، والأورع ، والأفقه إنّما هو بما هو حاكم في مقام نفوذ حكمه ، لا في مقام قبول روايته.

ويشهد لذلك أنّها جعلت من جملة المرجّحات كونه «أفقه» في عرض كونه «أعدل» و «أصدق» في الحديث. ولا ربط للأفقهيّة بترجيح الرواية من جهة كونها رواية.

نعم ، إنّ المقبولة انتقلت بعد ذلك إلى الترجيح للرواية بما هي رواية ابتداء من الترجيح بالشهرة ، وإن كان ذلك من أجل كونها سندا لحكم الحاكم ، فإنّ هذا أمر آخر غير الترجيح لنفس الحكم وبيان نفوذه.

وعليه ، فالمقبولة لا دليل فيها على الترجيح بالصفات. وأمّا : الترجيح بالشهرة وما يليها فسيأتي الكلام عنه.

ويؤيّد هذا الاستنتاج أنّ صاحب «الكافي» لم يذكر في مقدّمة كتابه (١) الترجيح بصفات الراوي.

٣. الترجيح بالشهرة

تقدّم أنّ الشهرة ليست حجّة في نفسها ، (٢) وأمّا : إذا كانت مرجّحة للرواية ـ على القول به ـ فلا ينافي عدم حجّيّتها في نفسها.

والشهرة المرجّحة على نحوين : شهرة عمليّة ، وهي الشهرة الفتوائيّة المطابقة للرواية.

وشهرة في الرواية ، وإن لم يكن العمل على طبقها مشهورا.

أمّا الأولى : فلم يرد فيها من الأخبار ما يدلّ على الترجيح بها ، فإذا قلنا بالترجيح بها فلا بدّ أن يكون بمناط وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع ـ على ما سيأتي وجهه ـ ، غاية الأمر أنّ تقوية الرواية بالعمل بها يشترط فيها أمران :

١. أن يعرف استناد الفتوى إليها ؛ إذ لا يكفي مجرّد مطابقة فتوى المشهور للرواية في

__________________

(١) راجع الكافي ١ : ٥٧ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٥٠٩.

٥٨٣

الوثوق بأقربيّتها إلى الواقع.

٢. أن تكون الشهرة العمليّة قديمة ـ أي واقعة في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، أو العصر الذي يليه الذي تمّ فيه جمع الأخبار وتحقيقها ـ. أمّا : الشهرة في العصور المتأخّرة فيشكل تقوية الرواية بها.

هذا من جهة الترجيح بالشهرة العمليّة في مقام التعارض ، أمّا : من جهة جبر الشهرة للخبر الضعيف ، مع قطع النظر عن وجود ما يعارضه فقد وقع نزاع للعلماء فيه. والحقّ (١) أنّها جابرة له إذا كانت قديمة أيضا ؛ لأنّ العمل بالخبر عند المشهور من القدماء ممّا يوجب الوثوق بصدوره. والوثوق هو المناط في حجّيّة الخبر ـ كما تقدّم ـ ، وبالعكس من ذلك إعراض الأصحاب عن الخبر ؛ فإنّه يوجب وهنه ، وإن كان راويه ثقة ، وكان قويّ السند ، بل كلّما قوي سند الخبر فأعرض عنه الأصحاب كان ذلك أكثر دلالة على وهنه.

وأمّا الثانية : ـ وهي الشهرة في الرواية ـ فإنّ إجماع المحقّقين قائم على الترجيح بها ، وقد دلّت عليه المقبولة المتقدّمة ، وقد جاء فيها «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه». والمقصود من «المجمع عليه» ، المشهور ، بدليل فهم السائل ذلك ؛ إذ عقّبه بالسؤال : «فإن كان الخبران عنكما مشهورين». ولا معنى لأن يراد من الشهرة الإجماع.

وقد يقال (٢) : إنّ شهرة الرواية في عصر الأئمّة عليهم‌السلام توجب كون الخبر مقطوع الصدور ، وعلى الأقلّ توجب كونه موثوقا بصدوره. وإذا كان كذلك فالشاذّ المعارض له ، إمّا مقطوع العدم ، أو موثوق بعدمه ، فلا تعمّه أدلّة حجّيّة الخبر. وعليه ، فيخرج اقتضاء الشهرة في الرواية عن مسألة ترجيح إحدى الحجّتين ، بل تكون لتمييز الحجّة عن اللاحجّة.

والجواب (٣) : أنّ الشاذّ المقطوع العدم لا يدخل في مسألتنا قطعا ، وأمّا : الموثوق بعدمه من جهة حصول الثقة الفعليّة بمعارضه فلا يضرّ ذلك في كونه مشمولا لأدلّة حجّيّة الخبر ؛ لأنّ الظاهر كفاية وثاقة الراوي في قبول خبره ، من دون إناطة بالوثوق الفعليّ بخبره.

__________________

(١) كما في فوائد الأصول ٤ : ٧٨٧ ـ ٧٨٩.

(٢) والقائل المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٥٠٩.

(٣) كما في نهاية الدراية ٣ : ٣٧١.

٥٨٤

وقد تقدّم في حجّيّة خبر الثقة أنّه لا يشترط حصول الظنّ الفعليّ به ، ولا عدم الظنّ بخلافه. (١)

٤. الترجيح بموافقة الكتاب :

في ذلك روايات كثيرة :

منها : مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة.

ومنها : خبر الحسن بن الجهم المتقدّم. فقد جاء في صدره : قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ قال : «ما جاءك عنّا فقسه على كتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا».

قال في «الكفاية» : «إنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا ، وجهه قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة ، بشهادة ما ورد في أنّه زخرف وباطل ، وليس بشيء ، أو أنّه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ...» (٢).

أقول (٣) : في مسألة موافقة الكتاب ، ومخالفته طائفتان من الأخبار :

الأولى : في بيان مقياس أصل حجّيّة الخبر ، لا في مقام المعارضة بغيره ، وهي التي ورد فيها التعبيرات المذكورة في «الكفاية» : «إنّه زخرف وباطل ...» إلى آخره (٤). فلا بدّ أن تحمل هذه الطائفة على المخالفة لصريح الكتاب ؛ لأنّه هو الذي يصحّ وصفه بأنّه زخرف وباطل ، ونحوهما.

والثانية : في بيان ترجيح أحد المتعارضين. وهذه لم يرد فيها مثل تلك التعبيرات ، وقد قرأت بعضها. وينبغي أن تحمل على المخالفة لظاهر الكتاب ، لا لنصّه ، لا سيّما أنّ مورد بعضها ـ مثل المقبولة ـ في الخبر الذي لو كان وحده لأخذ به ، وإنّما المانع من الأخذ به وجود المعارض ؛ إذ الأمر بالأخذ بالموافق وترك المخالف وقع في المقبولة ، بعد

__________________

(١) تقدّم في الصفحتين : ٤٩٥ ـ ٤٩٧.

(٢) كفاية الأصول : ٥٠٥.

(٣) هذا الجواب أيضا أفاده المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٣ : ٣٧٣ واستفاد منه تلميذه المصنّف في المقام.

(٤) راجع : وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٥٨٥

فرض كونهما مشهورين قد رواهما الثقات ، ثمّ فرض السائل موافقتهما معا للكتاب بعد ذلك ؛ إذ قال : «فإن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب ، والسنّة». ولا يكون ذلك إلاّ الموافقة لظاهره ، وإلاّ لزم وجود نصّين متباينين في الكتاب ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ المراد من مخالفة الكتاب في المقبولة مخالفة الظاهر ، لا النصّ.

ويشهد لما قلناه أيضا ما جاء في خبر الحسن ، المتقدّم : «فإن كان يشبههما فهو منّا» ؛ فإنّ التعبير بكلمة «يشبههما» يشير إلى أنّ المراد الموافقة والمخالفة للظاهر.

٥. مخالفة العامّة

إنّ الأخبار المطلقة الآمرة بالأخذ بما خالف العامّة وترك ما وافقها كلّها منقولة عن رسالة للقطب الراونديّ ، (١) وقد نقل (٢) عن الفاضل النراقيّ أنّه قال : «إنّها غير ثابتة عن القطب ثبوتا شائعا ، فلا حجّية فيما نقل عنها».

وهناك رواية مرسلة عن «الاحتجاج» (٣) تقدّمت في الرقم (١٠) (٤) لا حجّيّة فيها ؛ لضعفها بالإرسال. فينحصر الدليل في المقبولة المتقدّمة (٥) ، وظاهرها ـ كما سبق قريبا ـ أنّ الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، بعد فرض حجّيّة الخبرين في أنفسهما ، فتدلّ على الترجيح ، لا على التمييز كما قيل. (٦)

والنتيجة أنّ المستفاد من الأخبار أنّ المرجّحات المنصوصة ثلاثة : الشهرة ، وموافقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة العامّة. وهذا ما استفاده الشيخ الكلينيّ قدس‌سره في مقدّمة «الكافي». (٧)

__________________

(١) والناقل صاحب الوسائل في : وسائل الشيعة ١٨ : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) والناقل المحقّق الأصفهانيّ في : نهاية الدراية ٣ : ٣٧٤.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٣٥٧.

(٤) تقدّمت في الصفحة ٥٧٥.

(٥) أي مقبولة ابن حنظلة.

(٦) أي كما قيل بدلالتها على تمييز الحجّة عن اللاحجّة. والقائل هو المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٥٠٦.

(٧) الكافي ١ : ٥٧ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم.

٥٨٦

المقام الثاني : في المفاضلة بين المرجّحات

إنّ المرجّحات جملتها ترجع إلى ثلاث نواح ، لا تخرج عنها :

١. ما يكون مرجّحا للصدور ، ويسمّى «المرجّح الصدوريّ» ، ومعنى ذلك أنّ المرجّح يجعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور الآخر. وذلك مثل موافقة المشهور وصفات الراوي. (١)

٢. ما يكون مرجّحا لجهة الصدور ، ويسمّى «المرجّح الجهتيّ» ؛ فإنّ صدور الخبر ـ المعلوم الصدور حقيقة أو تعبّدا ـ قد يكون لجهة الحكم الواقعيّ ، وقد يكون لبيان خلافه لتقيّة ، أو غيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع. وذلك مثل ما إذا كان الخبر مخالفا للعامّة ، فإنّه يرجّح ـ في مورد معارضته بخبر آخر موافق لهم ـ أنّ صدوره كان لبيان الحكم الواقعيّ ؛ لأنّه لا يحتمل فيه إظهار خلاف الواقع ، بخلاف الآخر.

٣ ـ ما يكون مرجّحا للمضمون ، ويسمّى : «المرجّح المضمونيّ». وذلك مثل موافقة الكتاب ، والسنّة ؛ إذ يكون مضمون الخبر الموافق أقرب إلى الواقع في النظر.

وقد وقع الكلام في هذه المرجّحات أنّها مترتّبة عند التعارض بينها أو أنّها في عرض واحد؟ على أقوال :

الأوّل : أنّها في عرض واحد ، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين واجدا لبعضها ، والخبر الآخر واجدا لبعض آخر ، وقع التزاحم بين الخبرين ، فيقدّم الأقوى مناطا ، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطا تخيّر بينهما ، وهذا هو مختار الشيخ صاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

الثاني : أنّها مترتّبة ، ويقدّم المرجّح الجهتيّ على غيره ، فالمخالف للعامّة أولى بالتقديم على الموافق لهم وإن كان مشهورا. وهذا هو المنسوب إلى الوحيد البهبهانيّ (٣).

__________________

(١) كالأوثقيّة ، والأصدقيّة ، ونحوهما.

(٢) كفاية الأصول : ٥١٧ ـ ٥١٨. ويلزم وقوع التزاحم بين المرجّحات فيما لو كان لأحد الخبرين مزيّة من جهة ، كالشهرة في الرواية ، وللآخر مزيّة أخرى ، كموافقة الكتاب ، وحينئذ يقدّم ما هو أقوى مناطا في القرب إلى الصدور ، ومع تساويهما فالتخيير بينهما.

(٣) هذا القول نسبه المحقّق الخراسانيّ إلى الوحيد البهبهانيّ وبعض أعاظم معاصريه ـ وهو المحقّق الرشتيّ ـ. ـ

٥٨٧

الثالث : أنها مترتّبة ، ولكن على العكس من الأوّل ـ أي إنّه يقدّم المرجّح الصدوريّ على غيره ـ ، فيقدّم المشهور الموافق للعامّة على الشاذّ المخالف لهم. وهذا هو ما ذهب إليه شيخنا النائينيّ (١).

الرابع : أنّها مترتّبة ، حسبما جاء في المقبولة ، أو في الروايات الأخرى ، بأن يقدّم ـ مثلا حسبما يظهر من المقبولة ـ المشهور ، فإن تساويا في الشهرة قدّم الموافق للكتاب ، والسنّة ، فإن تساويا في ذلك قدّم ما يخالف العامّة. (٢)

وهناك أقوال أخرى ، لا فائدة في نقلها.

وفي الحقيقة أنّ هذا الخلاف ليس بمناط واحد ، بل يبتني على أشياء :

منها : أنّه يبتني على القول بوجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، فإنّ مقتضى ذلك أن يرجع إلى مدى دلالة أخبار الباب ، وإلى ما ينبغي من الجمع بينها بالجمع العرفيّ فيما اختلفت فيه ، وقد وقع في ذلك (٣) كلام طويل لكثير من الأعلام ، يحتاج استقصاؤه إلى كثير من الوقت. (٤)

والذي نقوله ـ على نحو الاختصار ـ أنّه يبدو من تتبّع الأخبار أنّه لا تفاضل في الترجيح بين الأمور المذكورة فيها. ويشهد لذلك اقتصار جملة منها على واحد منها ، ثمّ ما جمع المرجّحات منها (٥) كالمقبولة والمرفوعة ـ على تقدير الاعتماد عليها ـ لم تذكرها [كلّها] (٦) ، كما لم تتّفق في الترتيب بينها.

__________________

ـ كفاية الأصول : ٥١٨. وراجع الفوائد القديمة «الفوائد الحائريّة» : ١٢٠ ، وبدائع الأفكار (للمحقّق الرشتيّ) : ٤٥٥ و ٤٥٧.

(١) فوائد الأصول ٤ : ٧٧٩.

(٢) هذا ما يبتنيه المحقّق العراقيّ على القول بوجوب الاقتصار في الترجيح على المرجّحات المنصوصة ـ كما ذهب إليه نفسه ـ. نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٩٦ و ٢٠١.

(٣) أي : في القول بوجوب الاقتصار.

(٤) وإن أردت الاطّلاع على تفصيل البحث عنه فراجع فرائد الأصول ٢ : ٧٧٩ ـ ٧٨٢ ؛ كفاية الأصول : ٥٠٩ ـ ٥١١ ؛ فوائد الأصول ٤ : ٧٨٥ ؛ نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٩٣ ـ ١٩٦.

(٥) أي : من الروايات.

(٦) أي : المرجّحات.

٥٨٨

نعم ، إنّ المقبولة ـ التي هي عمدتنا في الباب ، والتي لم نستفد منها الترجيح بالصفات كما تقدّم ـ ذكرت الشهرة أوّلا ، ويظهر منها أنّ الشهرة أكثر أهمّيّة من كلّ مرجّح (١). وأمّا : باقي المرجّحات فقد يقال : لا يظهر من المقبولة الترتيب بينها ، كيف؟ وقد جمعت بينها في الجواب عند ما فرض السائل الخبرين متساويين في الشهرة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ استفادة الترتيب بين المرجّحات من الأخبار مشكلة جدّا ، ما عدا تقديم الشهرة على غيرها.

ومنها : أنّه يبتني ـ بعد فرض القول بالتّعدي إلى غير المرجّحات المنصوصة ـ على أنّ القاعدة هل تقتضي تقديم المرجّح الصدوريّ على المرجّح الجهتيّ ، أو بالعكس ، أو لا تقتضي شيئا منهما؟ وعلى التقدير الثالث لا بدّ أن يرجع إلى أقوائيّة المرجّح في الكشف عن مطابقة الخبر للواقع ، فكلّ مرجّح يكون أقوى من هذه الجهة ـ أيّا كان ـ فهو أولى بالتقديم.

وقد أصرّ شيخنا النائينيّ قدس‌سره (٢) على الأوّل ـ أي إنّه يرى أنّ القاعدة تقتضي تقديم المرجّح الصدوريّ على المرجّح الجهتيّ ـ. وبنى ذلك على كون الخبر صادرا لبيان الحكم الواقعي ، لا لغرض آخر يتفرّع على فرض صدوره حقيقة ، أو تعبّدا ؛ لأنّ جهة الصدور من شئون الصادر ، فما لا صدور له لا معنى للكلام عنه أنّه صادر لبيان الحكم الواقعيّ أو لبيان غيره. وعليه ، فإذا كان الخبر الموافق للعامّة مشهورا وكان الخبر الشاذّ مخالفا لهم كان الترجيح للشهرة ، دون مخالفة الآخر للعامّة ؛ لأنّ مقتضى الحكم بحجّية المشهور عدم حجّيّة الشاذّ ، فلا معنى لحمله على بيان الحكم الواقعي ، ليحمل المشهور على التقيّة ؛ إذ لا تعبّد بصدور الشاذّ حينئذ.

أقول : إنّ المسلّم إنّما هو تأخّر رتبة الحكم بكون الخبر صادرا لبيان الواقع أو لغيره عن الحكم بصدوره حقيقة ، أو تعبّدا ، وتوقّف الأوّل على الثاني ، ولكن ذلك غير المدّعى ، وهو توقّف مرجّح الأوّل على مرجّح الثاني ، فإنّه ليس المسلّم نفس المدّعى ، ولا يلزمه.

أمّا : أنّه ليس نفسه فواضح ؛ لما قلناه من أنّ المسلّم هو توقّف الأوّل على الثاني ، وهو

__________________

(١) كما في فوائد الأصول ٤ : ٧٨٥.

(٢) في فوائد الأصول ٤ : ٧٧٩ ـ ٧٨١.

٥٨٩

بالبديهة غير توقّف مرجّحه على مرجّحه (١) الذي هو المدّعى.

وأمّا : أنّه لا يستلزمه فكذلك واضح ، فإنّه إذا تصوّرنا هناك خبرين متعارضين : ١ ـ مشهورا موافقا للعامّة. ٢ ـ شاذّا مخالفا لهم ؛ فإنّ الترجيح للشاذّ بالمخالفة إنّما يتوقّف على حجّيّته الاقتضائيّة الثابتة له في نفسه ، لا على فعليّة حجّيّته ، ولا على عدم فعليّة حجّيّة المشهور في قباله ، بل فعليّة حجّيّة الشاذّ تنشأ من الترجيح له بالمخالفة ، ويترتّب عليها حينئذ عدم فعليّة حجّيّة المشهور.

وكذلك الترجيح للمشهور بالشهرة إنّما يتوقّف على حجّيّته الاقتضائيّة الثابتة له في نفسه ، لا على فعليّة حجّيّته ، ولا على عدم فعليّة حجّيّة الشاذّ في قباله ، بل فعليّة حجّيّة المشهور تنشأ من الترجيح له بالشهرة ، ويترتّب عليها حينئذ عدم فعليّة حجّيّة الشاذّ.

وعليه ، فكما لا يتوقّف الترجيح بالشهرة على عدم فعليّة الشاذّ المقابل له ، كذلك لا يتوقّف الترجيح بالمخالفة على عدم فعليّة المشهور المقابل له ، ومن ذلك يتّضح أنّه كما يقتضي الحكم بحجّيّة المشهور عدم حجّيّة الشاذّ ، فلا معنى لحمله على بيان الحكم الواقعيّ ، كذلك يقتضي الحكم بحجّيّة الشاذّ عدم حجّيّة المشهور ، فلا معنى لحمله على بيان الحكم الواقعيّ. وليس الأوّل أولى بالتقديم من الثاني.

نعم ، إذا دلّ دليل خاصّ ـ مثل المقبولة ـ على أولويّة الشهرة بالتقديم من المخالفة ـ فهذا شيء آخر ـ هو مقتضى الدليل ، لا أنّه مقتضى القاعدة.

والنتيجة أنّه لا قاعدة هناك تقتضي تقديم أحد المرجّحات على الآخر ، ما عدا الشهرة التي دلّت المقبولة على تقديمها ، وما عدا ذلك فالمقدّم هو الأقوى مناطا ، ـ أي ما هو الأقرب إلى الواقع في نظر المجتهد ـ ، فإن لم يحصل التفاضل من هذه الجهة فالقاعدة هي التساقط ، لا التخيير. ومع التساقط يرجع إلى الأصول العمليّة التي يقتضيها المورد.

المقام الثالث : في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة

لقد اختلفت أنظار الفقهاء في وجوب الترجيح بغير المرجّحات المنصوصة على أقوال :

__________________

(١) أي : مرجّح الأوّل على مرجّح الثاني.

٥٩٠

١. وجوب التعدّي إلى كلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع نوعا ، وهو القول المشهور ، (١) ومال إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره (٢) ، وجماعة من محقّقي أساتذتنا (٣) ، وزاد بعض الفقهاء (٤) الاعتبار في الترجيح بكلّ مزيّة ، وإن لم تفد الأقربيّة إلى الواقع ، أو الصدور ، مثل تقديم الحظر على ما يتضمّن الإباحة.

٢. وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، وهو الذي يظهر من كلام الشيخ الكلينيّ قدس‌سره في مقدّمة «الكافي» ، (٥) ومال إليه الشيخ صاحب الكفاية قدس‌سره. (٦) وهو لازم طريقة الأخباريّين في الاقتصار على نصوص الأخبار ، والجمود عليها.

٣. التفصيل بين صفات الراوي ، فيجوز التعدّي فيها ، وبين غيرها ، فلا يجوز. (٧)

ولمّا كانت المباني في الأصل في المتعارضين مختلفة فلا بدّ أن تختلف الأقوال في هذه المسألة على حسبها ، فنقول :

أوّلا : إذا قلنا بأنّ الأصل في المتعارضين هو التساقط ـ وهو المختار ـ فإنّ الأصل يقتضي عدم الترجيح ، إلاّ ما علم بدليل كون شيء مرجّحا ، ولكن هذا الدليل هل يكفي فيه نفس دليل حجّيّة الأمارة ، أو يحتاج إلى دليل خاصّ جديد؟

فإن قلنا : إنّ دليل الأمارة كاف في الترجيح فلا شكّ في اعتبار كلّ مزيّة توجب الأقربيّة إلى الواقع نوعا. والظاهر أنّ الدليل كاف في ذلك ، لا سيّما إذا كان دليلها بناء العقلاء الذي

__________________

(١) نسبه الشيخ الأنصاريّ إلى جمهور المجتهدين. فرائد الأصول ٢ : ٧٨٠.

وأمّا المحدّثون فقد اقتصروا على المرجّحات المنصوصة ، كما في الحدائق الناضرة ١ : ٩٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٧٩.

(٣) ومنهم السيّد المحقّق الخوئي في مصباح الأصول ٣ : ٤٢٢.

(٤) لم أعثر على القائل به. نعم ، قال المحقّق الخراساني ـ بعد المناقشة فيما ذكر لوجوب التعدّي ـ «ثمّ انّه بناء على التعدّي ... فلا وجه للاقتصار على التعدّي إلى خصوص ما يوجب الظنّ ، أو الأقربيّة ، بل إلى كلّ مزيّة ولو لم تكن بموجبة لأحدهما» كفاية الأصول : ٥١٠.

(٥) الكافي ١ : ٨.

(٦) كفاية الأصول : ٥٠٩. واختاره أيضا المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٩٣.

(٧) هذا التفصيل ذهب إليه المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٤ : ٧٧٨ و ٧٨٤ ـ ٧٨٥.

٥٩١

هو أقوى أدلّة حجّيّتها ؛ فإنّ الظاهر أنّ بناءهم على العمل بكلّ ما هو أقرب إلى الواقع من الخبرين المتعارضين ، أي إنّ العقلاء ، وأهل العرف في مورد التعارض بين الخبرين غير المتكافئين لا يتوقّفون في العمل بما هو أقرب إلى الواقع في نظرهم ، ولا يبقون في حيرة من ذلك ، وإن كانوا يعملون بالخبر الآخر المرجوح لو بقي وحده بلا معارض. وإذا كان للعقلاء مثل هذا البناء العمليّ فإنّه يستكشف منه رضى الشارع ، وإمضاؤه على ما تقدّم وجهه (١) في خبر الواحد والظواهر.

وإن قلنا : إنّ دليل الأمارة غير كاف ولا بدّ من دليل جديد ، فلا محالة يجب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، إلاّ إذا استفدنا من أدلّة الترجيح عموم الترجيح بكلّ مزيّة توجب أقربيّة الأمارة إلى الواقع ، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره ، فإنّه أكّد في «الرسائل» (٢) على أنّ المستفاد من الأخبار أنّ المناط في الترجيح هو الأقربيّة إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من جهة أنّه أقرب من دون مدخليّة خصوصيّة سبب ومزيّة. وقد ناقش هذه الاستفادة صاحب «الكفاية» ، فراجع (٣).

ثانيا : إذا قلنا بأنّ القاعدة الأوّليّة في المتعارضين هو التخيير فإنّ الترجيح على كلّ حال لا يحتاج إلى دليل جديد ، فإنّ احتمال تعيّن الراجح كاف في لزوم الترجيح ؛ لأنّه يكون المورد من باب الدوران بين التعيين والتخيير ، والعقل يحكم بعدم جواز تقديم المرجوح على الراجح ، لا سيّما في مقامنا ، وذلك لأنّه بناء على القول بالتخيير يحصل العلم بأنّ الراجح منجّز للواقع ، إمّا تعيينا ، وإمّا تخييرا ، وكذلك هو معذّر عند المخالفة للواقع ، وأمّا : المرجوح فلا يحرز كونه منجّزا ، ولا يكون العمل به معذّرا بالفعل لو كان مخالفا للواقع.

وعليه ، فيجوز الاقتصار على العمل بالراجح بلا شكّ ؛ لأنّه معذّر قطعا على كلّ حال ، سواء وافق الواقع أم خالفه ، ولا يجوز الاقتصار على العمل بالمرجوح ؛ لعدم إحراز كونه معذّرا.

ثالثا : إذا قلنا بأنّ القاعدة الثانوية الشرعيّة في المتعارضين هو التخيير ـ كما هو

__________________

(١) وهو أنّ الشارع من العقلاء ، بل رئيسهم.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٨٠ ـ ٧٨٢.

(٣) كفاية الأصول : ٥٠٩ ـ ٥١٠ ..

٥٩٢

المشهور ـ وإن كانت القاعدة الأوّليّة العقليّة هي التساقط ، فلا بدّ أن نرجع إلى مقدار دلالة أخبار الباب. فإن استفدنا منها التخيير مطلقا حتى مع وجود المرجّحات ، فذلك دليل على عدم اعتبار الترجيح مطلقا بأيّ مرجح كان. وإن استفدنا منها التخيير في صورة تكافؤ المتعارضين فقط ، فلا بدّ من استفادة الترجيح من نفس الأخبار ، إمّا بكلّ مزيّة ، أو بخصوص المزايا المنصوصة ، وقد عرفت أنّ الشيخ الأعظم قدس‌سره يستفيد منها العموم.

إذا عرفت ما شرحناه فإنّك تعرف أنّ الحقّ على كلّ حال ما ذهب إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره الذي هو مذهب المشهور ، وهو الترجيح بكلّ مزيّة توجب أقربيّة الأمارة إلى الواقع نوعا ، وذلك بناء على المختار من أنّ القاعدة هي التساقط ؛ فإنّها مخصوصة بما إذا كان المتعارضان متكافئين.

وأمّا : ما فيه المزيّة الموجبة لأقربيّة الأمارة إلى الواقع في نظر الناظر فإنّ بناء العقلاء مستقرّ على العمل بذي المزيّة الموجبة للأقربيّة إلى الواقع ـ كما تقدّم ـ ، ولا نحتاج بناء على هذا إلى استفادة عموم الترجيح من الأخبار ، وإن كان الحقّ أنّ الأخبار تشعر بذلك ، فهي تؤيّد ما نقول ، ولا حاجة إلى التطويل في بيان وجه الاستفادة منها. (١)

هذا آخر ما أردنا بيانه في مسألة التعادل والتراجيح ، وبقيت هنا أبحاث كثيرة في هذه المسألة ، نحيل الطالب فيها إلى المطوّلات. (٢)

والحمد لله ربّ العالمين.

تمرينات (٦٥)

١. ما هي أصناف المرجّحات؟

٢. هل تدلّ الروايات على الترجيح بالأحدث أم لا؟

٣. هل تدلّ مقبولة ابن حنظلة على الترجيح بالصفات؟

٤. هل تدلّ الروايات على الترجيح بموافقة الكتاب؟

__________________

(١) وإن شئت فراجع فرائد الأصول ٢ : ٧٨١ ـ ٧٨٢.

(٢) فراجع فرائد الأصول ٢ : ٧٦٠ ـ ٨٢٤ ، وكفاية الأصول : ٤٩٧ ـ ٥٢٥ ، وفوائد الأصول ٤ : ٧٠٠ ـ ٧٩٥.

٥٩٣

٥. ما الدليل على الترجيح بالشهرة في الرواية؟

٦. ما الدليل على الترجيح بمخالفة العامّة؟

٧. ما الفرق بين «المرجّح الصدوري» ، و «المرجّح الجهتي» ، و «المرجّح المضموني»؟ وهل هذه المرجّحات مترتّبة عند التعارض بينها ، أو أنّها في عرض واحد؟ اذكر الأقوال والراجح منها.

٨. ما هي الأقوال في التعدّي عن المرجّحات المنصوصة؟ وما هو رأي المصنف؟

٥٩٤

المقصد الرابع

مباحث الأصول العمليّة

٥٩٥
٥٩٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تمهيد :

لا شكّ في أنّ كلّ متشرّع يعلم علما إجماليّا بأنّ لله (تعالى) أحكاما إلزاميّة ـ من نحو الوجوب والحرمة ـ يجب على المكلّفين امتثالها ، يشترك فيها العالم والجاهل بها.

وهذا «العلم الإجماليّ» منجّز لتلك التكاليف الإلزاميّة الواقعيّة ، (١) فيجب على المكلّف ـ بمقتضى حكم العقل بوجوب تفريغ الذمّة ممّا علم اشتغالها به من تلك التكاليف ـ أن يسعى إلى تحصيل المعرفة بها بالطرق المؤمّنة له التي يعلم بفراغ ذمّته باتّباعها.

ومن أجل هذا نذهب إلى القول بوجوب المعرفة ، وبوجوب الفحص عن الأدلّة ، والحجج المثبتة لتلك الأحكام ، حتى يستفرغ المكلّف وسعه في البحث ، ويستنفد مجهوده الممكن له (٢). وحينئذ ، إذا فحص المكلّف وتمّت له إقامة الحجّة على جميع الموارد

__________________

(١) بالنسبة إلى المكلّف.

(٢) لو فرض أنّ مكلّفا لا يسعه فحص أدلّة الأحكام لسبب ما ـ ولو من جهة لزوم العسر والحرج ـ فإنّه يجوز له أن يقلّد من يطمئنّ إليه من المجتهدين الذي تمّ له فحص الأدلّة وتحصيل الحجّة ، وذلك بمقتضى أدلّة جواز التقليد ، ورجوع الجاهل إلى العالم ، كما يجوز له أن يعمل بالاحتياط في جميع الموارد المحتملة للتكليف ، والتي يمكن فيها الاحتياط على النحو الذي يأتي بيانه في موقعه ، ومن هنا قسّموا المكلّف إلى : مجتهد ، ومقلّد ، ومحتاط.

ونحن غرضنا من هذا المقصد إنّما هو البحث عن وظيفة المجتهد فقط. وهو المناسب لعلم الأصول. * ـ منه قدس‌سره ـ.

__________________

* أقول : البحث عن الأصول العمليّة بحث عن وظيفة المكلّف في مقام العمل ، وفي عدّها من المسائل الأصوليّة نظر ، بل هي من القواعد الفقهيّة ، والتحقيق في محلّه.

٥٩٧

المحتملة كلّها فذاك هو كلّ المطلوب ، وهو أقصى ما يرمي إليه المجتهد الباحث ، ويطلب منه ؛ ولكن هذا فرض لم يتّفق حصوله لواحد من المجتهدين ، بأن تحصل له الأدلّة على الأحكام الإلزاميّة كلّها ؛ لعدم توفّر الأدلّة على الجميع.

وأمّا : إذا فحص ولم تتمّ إقامة الحجّة إلاّ على جملة من الموارد ، وبقيت لديه موارد أخرى ، يحتمل فيها ثبوت التكليف ، ويتعذّر فيها إقامة الحجّة لأيّ سبب كان (١) فإنّ المكلّف يقع لا محالة في حالة من الشكّ تجعله في حيرة من أمر تكليفه.

فما ذا تراه صانعا؟ هل هناك حكم عقليّ يركن إليه ويطمئنّ بالرجوع إلى مقتضاه؟ أو أنّ الشارع قد راعى هذه الحالة للمكلّف لعلمه بوقوعه فيها ، فجعل له وظائف عمليّة يرجع إليها عند الحاجة ، ويعمل بها لتطمينه (٢) من الوقوع في العقاب؟

هذه أسئلة يجب الجواب عنها.

وهذا المقصد الرابع وضع للجواب عنها ، ليحصل للمكلّف اليقين بوظيفته التي يجب عليه أن يعمل بها عند الشكّ ، والحيرة.

وهذه الوظيفة أو الوظائف هي التي تسمّى عند الأصوليّين بـ «الأصل العمليّ» ، أو «القاعدة الأصوليّة» ، أو «الدليل الفقاهتيّ».

وقد اتّضح لدى الأصوليّين أنّ الوظيفة الجارية في جميع أبواب الفقه من غير اختصاص بباب دون باب هي على أربعة أنواع :

١. أصالة البراءة.

٢. أصالة الاحتياط.

٣. أصالة التخيير.

٤. أصالة الاستصحاب.

__________________

(١) إنّ تعذّر إقامة الحجّة قد يحصل من جهة فقدان الدليل ، وقد يحصل من جهة إجماله ، وقد يحصل من جهة تعارض الدليلين وتعادلهما من دون مرجّح لأحدهما على الآخر. ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) تقول العامّة «طمّنه» أي : حمله على الطمأنينة.

٥٩٨

ومن جميع ما تقدّم يتّضح لنا :

أوّلا : أنّ موضوع هذا المقصد الرابع هو الشكّ في الحكم (١).

ثانيا : أنّ هذه الأصول الأربعة مأخوذ في موضوعها الشكّ في الحكم أيضا.

ثمّ اعلم أنّ الحصر في هذه الأصول الأربعة حصر استقرائي ؛ لأنّها هي التي وجدوا أنّها تجري في جميع أبواب الفقه ، ولذا يمكن فرض أصول أخرى غيرها ولو في أبواب خاصّة من الفقه. وبالفعل هناك جملة من الأصول في الموارد الخاصّة يرجع إليها الشاكّ في الحكم ، مثل أصالة الطهارة الجارية في مورد الشكّ في الطهارة في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة.

وإنّما تعدّدت هذه الأصول الأربعة لتعدّد مجاريها ـ أي مواردها التي تختلف باختلاف حالات الشكّ ـ ؛ إذ لكلّ أصل منها حالة من الشكّ هي مجراه على وجه لا يجري فيها غيره من باقي الأصول.

غير أنّه ممّا يجب علمه أنّ مجاري هذه الأصول لا تعرف ـ كما لا يعرف أنّ مجرى هذه الحالة هو مجرى هذا الأصل مثلا ـ إلاّ من طريق أدلّة جريان هذه الأصول ، واعتبارها. وفي بعضها اختلاف باختلاف الأقوال فيها.

وقد ذكر مشايخ الأصول على سبيل الفهرس في مجاريها وجوها مختلفة ، لا يخلو بعضها من نقد وملاحظات. وأحسنها ـ فيما يبدو ـ ما أفاد شيخنا النائيني قدس‌سره (٢).

وخلاصته أنّ الشكّ على نحوين :

١. أن تكون للمشكوك حالة سابقة وقد لاحظها الشارع ، أي قد اعتبرها. وهذا هو مجرى «الاستصحاب».

٢. ألاّ تكون له حالة سابقة ، أو كانت ولكن لم يلاحظها الشارع. وهذه الحالة لا تخلو

__________________

(١) المقصود بالشكّ ما هو أعمّ من الشكّ الحقيقيّ ـ وهو تساوي الطرفين ـ ومن الظنّ غير المعتبر ، نظرا إلى أنّ حكمه حكم الشكّ ، بل باعتبار آخر يدخل الظنّ غير المعتبر في الشكّ حقيقة ، من ناحية أنّه لا يرفع حيرة المكلّف باتّباعه ، فيبقى العامل به شاكّا في فراغ ذمّته. ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) فرائد الأصول ٤ : ٣٢٥ ـ ٣٤٠.

٥٩٩

عن إحدى صور ثلاث :

أ : أن يكون التكليف مجهولا مطلقا ـ أي لم يعلم حتى بجنسه ـ. وهذه هي مجرى «أصالة البراءة».

ب : أن يكون التكليف معلوما في الجملة مع إمكان الاحتياط. وهذه مجرى «أصالة الاحتياط».

ج : أن يكون التكليف معلوما كذلك ولا يمكن الاحتياط. وهذه مجرى «قاعدة التخيير».

وقبل الكلام في كلّ واحدة من هذه الأصول لا بدّ من بيان أمور من باب المقدّمة ؛ تنويرا للأذهان. وهي :

الأوّل : أنّ الشكّ في الشيء ينقسم باعتبار الحكم المأخوذ فيه على نحوين :

١. أن يكون مأخوذا موضوعا للحكم الواقعيّ ، كالشكّ في عدد ركعات الصلاة ؛ فإنّه قد يوجب في بعض الحالات تبدّل الحكم الواقعيّ إلى الركعات المنفصلة.

٢. أن يكون مأخوذا موضوعا للحكم الظاهريّ. وهذا النحو هو المقصود بالبحث في المقام. وأمّا النحو الأوّل فهو يدخل في مسائل الفقه.

الثاني : أنّ الشكّ في الشيء ينقسم باعتبار متعلّقه ـ أي الشيء المشكوك فيه ـ على نحوين :

١. أن يكون المتعلّق موضوعا خارجيّا ، كالشكّ في طهارة ماء معيّن ، أو في أنّ هذا المائع المعيّن خلّ أو خمر. وتسمّى الشبهة حينئذ «موضوعيّة».

٢. أن يكون المتعلّق حكما كلّيّا ، كالشكّ في حرمة التدخين ، أو أنّه من المفطرات للصوم ، أو نجاسة العصير العنبيّ إذا غلا قبل ذهاب ثلثيه. وتسمّى الشبهة حينئذ «حكميّة».

والشبهة الحكميّة هي المقصودة بالبحث في هذا المقصد الرابع ، وإذا جاء التعرّض لحكم الشبهات الموضوعيّة فإنّما هو استطراديّ قد تقتضيه طبيعة البحث ، باعتبار أنّ هذه الأصول في طبيعتها تعمّ الشبهات الحكميّة والموضوعيّة في جريانها ، وإلاّ فالبحث عن

٦٠٠