اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

طرح الآخر ، مع فرض إمكان الجمع.

وعليه ، فمقتضى القاعدة مع إمكان الجمع عدم جواز طرحهما معا على القول بالتساقط ، وعدم طرح أحدهما غير المعيّن على القول بالتخيير ، وعدم طرح أحدهما المعيّن غير ذي المزيّة مع الترجيح.

ومن أجل هذا تكون لهذه القاعدة أهميّة كبيرة في العمل بالمتعارضين ، فيجب البحث عنها من ناحية مدركها ، ومن ناحية عمومها لكلّ جمع ، حتى الجمع التبرّعيّ.

١. أمّا من الناحية الأولى : فمن الظاهر أنّه لا مدرك لها (١) إلاّ حكم العقل بأولويّة الجمع ؛ لأنّ التعارض لا يقع إلاّ مع فرض تماميّة مقوّمات الحجّيّة في كلّ منهما من ناحية السند والدلالة ـ كما تقدّم في الشرط الرابع من شروط التعارض ـ (٢). ومع فرض وجود مقوّمات الحجّيّة ـ أي وجود المقتضي للحجّيّة ـ فإنّه لا وجه لرفع اليد عن ذلك إلاّ مع وجود مانع من تأثير المقتضي ، وما المانع في فرض التعارض إلاّ تكاذبهما. ومع فرض إمكان الجمع في الدلالة بينهما لا يحرز تكاذبهما ، فلا يحرز المانع عن تأثير مقتضي الحجّيّة فيهما ، فكيف يصحّ أن نحكم بتساقطهما ، أو سقوط أحدهما؟!

٢. وأمّا من الناحية الثانية : فإنّا نقول : إنّ المراد من الجمع التبرّعيّ ما يرجع إلى التأويل الكيفيّ الذي لا يساعد عليه عرف أهل المحاورة ، ولا شاهد عليه من دليل ثالث.

وقد يظنّ الظانّ أنّ إمكان الجمع التبرّعيّ يحقّق هذه القاعدة ـ وهي أولويّة الجمع من الطرح ـ بمقتضى التقرير المتقدّم في مدركها ؛ إذ لا يحرز المانع ـ وهو تكاذب المتعارضين ـ حينئذ ، فيكون الجمع أولى.

ولكن يجاب عن ذلك أنّه لو كان مضمون هذه القاعدة المجمع عليها ما يشمل الجمع التبرّعيّ ، فلا يبقى هناك دليلان متعارضان ، وللزم طرح كلّ ما ورد في باب التعارض من الأخبار العلاجيّة إلاّ فيما هو نادر ندرة لا يصحّ حمل الأخبار عليها ، وهو صورة كون كلّ من المتعارضين نصّا في دلالته لا يمكن تأويله بوجه من الوجوه. بل ربما يقال : لا وجود

__________________

(١) كما في كفاية الأصول : ٥٠١ ، وفرائد الأصول ٢ : ٧٥٤.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٥٤٧.

٥٦١

لهذه الصورة في المتعارضين.

وببيان آخر برهانيّ ، نقول : إنّ المتعارضين لا يخلوان عن حالات أربع : إمّا أن يكونا مقطوعي الدلالة ، مظنوني السند ، أو بالعكس ـ أي يكونان مظنوني الدلالة ، مقطوعي السند ـ ، أو يكون أحدهما مقطوع الدلالة ، مظنون السند ، والآخر بالعكس ، أو يكونا مظنوني الدلالة والسند معا.

أمّا : فرض أحدهما أو كلّ منهما مقطوع الدلالة والسند معا فإنّ ذلك يخرجهما عن كونهما متعارضين ، بل الفرض الثاني مستحيل ـ كما تقدّم ـ (١).

وعليه ، فللمتعارضين أربع حالات ممكنة ، لا غيرها ؛ فإن كانت الأولى ، (٢) فلا مجال فيها للجمع في الدلالة مطلقا ؛ للقطع بدلالة كلّ منهما ، فهو خارج عن مورد القاعدة رأسا ـ كما أشرنا إليه ـ ، بل هما في هذه الحالة إمّا أن يرجع فيهما إلى الترجيحات السنديّة ، أو يتساقطا حيث لا مرجّح ، أو يتخيّر بينهما.

وإن كانت الثانية ، (٣) فإنّه مع القطع بسندهما ، كالمتواترين ، أو الآيتين القرآنيتين لا يعقل طرحهما ، أو طرح أحدهما من ناحية السند ، فلم يبق إلاّ التصرّف فيهما من ناحية الدلالة.

ولا يعقل جريان أصالة الظهور فيهما معا ؛ لتكاذبهما في الظهور. وحينئذ ، فإن كان هناك جمع عرفيّ بينهما ـ بأن يكون أحدهما المعيّن قرينة على الآخر ، أو كلّ منهما قرينة على التصرّف في الآخر على نحو ما يأتي من بيان وجوه الجمع الدلالي ، فإنّ هذا الجمع في الحقيقة يكون هو الظاهر منهما ـ فيدخلان بحسبه في باب الظواهر ، ويتعيّن الأخذ بهذا الظهور.

وإن لم يكن هناك جمع عرفيّ ـ فإنّ الجمع التبرّعيّ لا يجعل لهما ظهورا فيه ليدخل في باب الظواهر ويكون موضعا لبناء العقلاء. ولا دليل في المقام غير بناء العقلاء على الأخذ بالظواهر ـ فما الذي يصحّح الأخذ بهذا التأويل التبرّعيّ ، ويكون دليلا على حجّيّته؟

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٥٤٥.

(٢) وهي أن يكون المتعارضان مقطوعي الدلالة ، مظنوني السند ، كالخبرين الواحدين كانا مقطوعي الدلالة.

(٣) وهي أن يكونا مظنوني الدلالة ، مقطوعي السند ، كالخبرين المتواترين أو الآيتين.

٥٦٢

وغاية ما يقتضي تعارضهما عدم إرادة ظهور كلّ منهما ، ولا يقتضي أن يكون المراد غير ظاهرهما من الجمع التبرّعيّ ، فإنّ هذا يحتاج إلى دليل يعيّنه ، ويدلّ على حجّيّتهما فيه ؛ ولا دليل حسب الفرض.

وإن كانت الثالثة (١) ، فإنّه يدور الأمر فيها بين التصرّف في سند مظنون السند ، وبين التصرّف في ظهور مظنون الدلالة أو طرحهما معا ، فإن كان مقطوع الدلالة صالحا للتصرّف بحسب عرف أهل المحاورة في ظهور الآخر ، تعيّن ذلك ؛ إذ يكون قرينة على المراد من الآخر ، فيدخل بحسبه في الظواهر التي هي حجّة.

وأمّا : إذا لم يكن لمقطوع الدلالة هذه الصلاحية ، فإنّ تأويل الظاهر تبرّعا لا يدخل في الظاهر حينئذ ليكون حجّة ببناء العقلاء ، ولا دليل آخر عليه ـ كما تقدّم في الصورة الثانية ـ ، ويتعيّن في هذا الفرض طرح هذين الدليلين : طرح مقطوع الدلالة من ناحية السند ، وطرح مقطوع السند من ناحية الدلالة ، فلا يكون الجمع أولى ؛ إذ ليس إجراء دليل أصالة السند بأولى من دليل أصالة الظهور ، وكذلك العكس. ولا معنى في هذه الحالة للرجوع إلى المرجّحات في السند مع القطع بسند أحدهما ، كما هو واضح.

وإن كانت الرابعة ، (٢) فإنّ الأمر يدور فيها بين التصرّف في أصالة السند في أحدهما ، والتصرّف في أصالة الظهور في الآخر ، لا أنّ الأمر يدور بين السندين ، ولا بين الظهورين.

والسرّ في هذا الدوران أنّ دليل حجّيّة السند يشملهما معا على حدّ سواء ، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر ، حسب الفرض ، (٣) وكذلك دليل حجّيّة الظهور. (٤) ولمّا كان يمتنع اجتماع ظهورهما ؛ لفرض تعارضهما ، فإذا أردنا أن نأخذ بسندهما معا لا بدّ أن نحكم بكذب ظهور أحدهما ، فيصادم حجّيّة سند أحدهما حجّيّة ظهور الآخر ، وكذلك إذا أردنا أن نأخذ بظهورهما معا لا بدّ أن نحكم بكذب سند أحدهما ، فيصادم حجّيّة ظهور أحدهما

__________________

(١) وهي أن يكون أحدهما مقطوع الدلالة ، مظنون السند ، والآخر بالعكس ، كخبر الواحد ، والخبر المتواتر.

(٢) وهي أن يكونا مظنوني الدلالة والسند معا ، كالخبرين الواحدين كانا مظنوني الدلالة.

(٣) لأنّ المفروض أنّهما مظنونا السند معا.

(٤) لأنّ المفروض أنّهما مظنونا الدلالة معا.

٥٦٣

حجّيّة سند الآخر. فيرجع الأمر في هذه الحالة إلى الدوران بين حجّيّة سند أحدهما وحجّيّة ظهور الآخر.

وإذا كان الأمر كذلك ، فليس أحدهما أولى من الآخر ، كما تقدّم.

نعم ، لو كان هناك جمع عرفيّ بين ظهوريهما فإنّه حينئذ لا تجري أصالة الظهور فيهما على حدّ سواء ، بل المتّبع في بناء العقلاء ما يقتضيه الجمع العرفيّ الذي يقتضي الملاءمة بينهما ، فلا يصلح كلّ منهما لمعارضة الآخر.

ومن هنا نقول : إنّ الجمع العرفيّ أولى من الطرح ؛ بل بالجمع العرفيّ يخرجان عن كونهما متعارضين ـ كما سيأتي ـ ؛ فلا مقتضي لطرح أحدهما أو طرحهما معا.

أمّا : إذا لم يكن بينهما جمع عرفيّ ـ فإنّ الجمع التبرّعيّ لا يصلح للملاءمة بين ظهوريهما ـ فتبقى أصالة الظهور حجّة في كلّ منهما ، فيبقيان على ما هما عليه من التعارض ، فإمّا أن يقدّم أحدهما على الآخر لمزيّة ، أو يتخيّر بينهما ، أو يتساقطا.

فتحصّل من ذلك كلّه أنّه لا مجال للقول بأولويّة الجمع التبرّعيّ من الطرح في كلّ صورة مفروضة للمتعارضين.

تمرينات (٦٢)

١. ما مراد الأصوليّين من «التعادل» و «التراجيح» في عنوان المسألة؟

٢. ما الوجه في أخذ كلمة «التراجيح» على صيغة الجمع دون كلمة «التعادل»؟

٣. ما الغرض من مبحث التعادل والتراجيح؟

٤. قال المصنّف قدس‌سره : «الأنسب أن تعنون المسألة بعنوان التعارض بين الأدلّة» ، ما الوجه في كونه أنسب؟

٥. ما هي حقيقة التعارض في اصطلاح الأصوليّين؟

٦. ما هي شروط التعارض؟

٧. ما الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم؟

٨. ما هي قواعد التزاحم التي تتّصل بالحكم نفسه؟

٩. ما هي المرجّحات في باب التزاحم؟

١٠. إنّ من جملة المرجّحات في باب التزاحم أولويّة أحدهما عند الشارع في التقديم ، كيف تعرف تلك الأولويّة؟

٥٦٤

١١. ما هي الحكومة؟ اذكر مثالا لها من العرف ، ومثالا من الشرع.

١٢. ما هو الورود؟ اذكر مثالا له من العرف ، ومثالا من الشرع.

١٣. من هو مبتكر مبحث الحكومة والورود؟

١٤. ما الفرق بين الحكومة والتخصيص؟

١٥. ما الفرق بين الورود والتخصّص؟

١٦. ما هي القاعدة في المتعارضين؟

١٧. ما الدليل الذي يوهم لزوم التخيير؟ وما الجواب عنه؟

١٨. لو كان الدليلان المتعارضان يقتضيان معا نفي حكم ثالث فهل مقتضى تساقطهما عدم حجّيّتهما في نفي الثالث؟

١٩. ما المراد من قاعدة «الجمع أولى من الطرح»؟

٢٠. لم لا تشمل قاعدة «الجمع أولى من الطرح» الجمع التبرّعي؟

٢١. اذكر العلاج في الصور الآتية من التعارض :

ألف) يكون أحد المتعارضين مقطوع الدلالة مظنون السند ، والآخر مظنون الدلالة مقطوع السند.

ب) يكونان مقطوعي الدلالة مظنوني السند.

ج) يكونان مظنوني الدلالة مقطوعي السند.

د) يكونان مظنوني الدلالة والسند معا.

٥٦٥

إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور في المقدّمة فلنشرع في المقصود ، والأمور التي ينبغي أن نبحثها ثلاثة : الجمع العرفيّ ، والقاعدة الثانوية في المتعادلين ، والمرجّحات السنديّة وما يتعلّق بها.

الأمر الأوّل : الجمع العرفيّ

بمقتضى ما شرحناه في المقدّمة الأخيرة يتّضح أنّ القدر المتيقّن من قاعدة أولويّة الجمع من الطرح في المتعارضين هو «الجمع العرفيّ» الذي سمّاه الشيخ الأعظم قدس‌سره بـ «الجمع المقبول» ، (١) وغرضه المقبول عند العرف. ويسمّى «الجمع الدلاليّ». (٢)

وفي الحقيقة ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك ـ أنّه بالجمع العرفيّ يخرج الدليلان عن التعارض. والوجه في ذلك أنّه إنّما نحكم بالتساقط ، أو التخيير ، أو الرجوع إلى العلاجات السنديّة ، حيث تكون هناك حيرة في الأخذ بهما معا. وفي موارد الجمع العرفيّ لا حيرة ، ولا تردّد.

وبعبارة أخرى : إنّه لمّا كان التعبّد بالمتنافيين مستحيلا فلا بدّ من العلاج ، إمّا بطرحهما ، أو بالتخيير بينهما ، أو بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة ، وغيرها ، وأمّا : لو كان الدليلان متلائمين غير متنافيين بمقتضى الجمع العرفيّ المقبول فإنّ التعبّد بهما معا يكون تعبّدا بالمتلائمين ، فلا استحالة فيه ، ولا محذور حتى نحتاج إلى العلاج.

ويتّضح من ذلك أنّه في موارد الجمع لا تعارض ، وفي موارد التعارض لا جمع. وللجمع العرفيّ موارد لا بأس بالإشارة إلى بعضها للتدريب (٣) :

فمنها : ما إذا كان أحد الدليلين أخصّ من الآخر ، فإنّ الخاصّ مقدّم على العامّ ، ويوجب

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٠٤.

(٢) سمّاه بذلك المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٣٩.

(٣) أي : التمرين.

٥٦٦

التصرّف فيه ؛ لأنّه (١) بمنزلة القرينة عليه. (٢) وقد جرى البحث في أنّ الخاصّ مطلقا بما هو خاصّ مقدّم على العامّ ، أو إنّما يقدّم عليه لكونه أقوى ظهورا ، فلو كان العامّ أقوى ظهورا كان العامّ هو المقدّم؟ ومال الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى الثاني ، (٣) كما جرى البحث في أنّ أصالة الظهور في الخاصّ حاكمة ، أو واردة على أصالة الظهور في العامّ ، أو أنّ في ذلك تفصيلا؟ ولا يهمّنا التعرّض إلى هذا البحث (٤) ؛ فإنّ المهمّ تقديم الخاصّ على العامّ على أيّ نحو كان من أنحاء التقديم.

ويلحق بهذا الجمع العرفيّ تقديم النصّ على الظاهر ، والأظهر على الظاهر ، فإنّها من باب واحد.

ومنها : ما إذا كان لأحد المتعارضين قدر متيقّن في الإرادة ، أو لكلّ منهما قدر متيقّن ، ولكن لا على أن يكون قدرا متيقّنا من اللفظ ، بل من الخارج ؛ لأنّه لو كان للّفظ قدر متيقّن فإنّ الدليلين يكونان من أوّل الأمر غير متعارضين ؛ إذ لا إطلاق حينئذ ، ولا عموم للّفظ ، فلا يكون ذلك من نوع الجمع العرفيّ للمتعارضين ؛ سالبة بانتفاء الموضوع ؛ إذ لا تعارض.

مثال القدر المتيقّن من الخارج ما إذا ورد «ثمن العذرة سحت» (٥) وورد أيضا «لا بأس ببيع العذرة» (٦) ، فإنّ عذرة الإنسان قدر متيقّن من الدليل الأوّل ، وعذرة مأكول اللحم قدر متيقّن من الثاني ، فهما من ناحية لفظيّة متباينان متعارضان ، ولكن لمّا كان لكلّ منهما قدر متيقّن فالتكاذب يكون بينهما بالنسبة إلى غير القدر المتيقّن ، فيحمل كلّ منهما على القدر المتيقّن ، فيرتفع التكاذب بينهما ، ويتلاءمان عرفا.

ومنها : ما إذا كان أحد العامّين من وجه بمرتبة لو اقتصر فيه على ما عدا مورد الاجتماع

__________________

(١) أي الخاصّ.

(٢) أي العامّ.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٦ ـ ٧٥٧.

(٤) وإن أردت الاطّلاع عليه فراجع : فوائد الأصول ٤ : ٧١٩ ـ ٧٢٥ ؛ نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٣٩ ـ ١٤٣.

(٥) الوسائل ١٢ : ١٢٦ الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٦) الوسائل ١٢ : ١٢٦ الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣.

٥٦٧

يلزم التخصيص المستهجن ؛ إذ يكون الباقي من القلّة لا يحسن أن يراد من العموم ، فإنّ مثل هذا العامّ يقال عنه : «إنّه يأبى عن التخصيص». فيكون ذلك قرينة على تخصيص العامّ الثاني.

ومنها : ما إذا كان أحد العامّين من وجه واردا مورد التحديدات ، كالأوزان ، والمقادير ، والمسافات ، فإنّ مثل هذا يكون موجبا لقوّة الظهور على وجه يلحق بالنصّ ، إذ يكون ذلك العامّ أيضا ممّا يقال فيه : «إنّه يأبى عن التخصيص».

وهناك موارد أخرى ، وقع الخلاف في عدّها من موارد الجمع العرفيّ ، مثل ما إذا كان لكلّ من الدليلين مجاز هو أقرب مجازاته ، ومثل ما إذا لم يكن لكلّ منهما إلاّ مجاز بعيد ، أو مجازات متساوية النسبة إلى المعنى الحقيقيّ ، ومثل ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ ، فهل مقتضى الجمع العرفيّ تقديم التخصيص ، أو تقديم النسخ ، أو التفصيل في ذلك؟

وقد تقدّم البحث عن ذلك في الجزء الأوّل (١) ، فراجع ... ولا تسع هذه الرسالة استيعاب هذه الأبحاث.

تمرينات (٦٣)

١. ما هو الجمع العرفيّ؟

٢. اذكر موارد من الجمع العرفيّ؟

__________________

(١) المقصد الأوّل : ١٧٨ ـ ١٨٢.

٥٦٨

الأمر الثاني : القاعدة الثانويّة للمتعادلين

قد تقدّم أنّ القاعدة الأوّليّة في المتعادلين هي التساقط ، (١) ولكن استفاضت الأخبار ، بل تواترت في عدم التساقط ، غير أنّ آراء الأصحاب اختلفت في استفادة نوع الحكم منها ؛ لاختلافها على ثلاثة أقوال : (٢)

١. التخيير في الأخذ بأحدهما ، وهو مختار المشهور ، (٣) بل نقل الإجماع عليه. (٤)

٢. التوقّف بما يرجع إلى الاحتياط في العمل ، ولو كان الاحتياط مخالفا لهما ، كالجمع بين القصر والإتمام في مورد تعارض الأدلّة بالنسبة إليهما.

وإنّما كان التوقّف يرجع إلى الاحتياط ؛ لأنّ التوقّف يراد منه التوقّف في الفتوى على طبق أحدهما ، وهذا يستلزم الاحتياط في العمل ، كما في المورد الفاقد للنصّ مع العلم الإجماليّ بالحكم.

٣. وجوب الأخذ بما طابق منهما الاحتياط ، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط تخيّر بينهما.

ولا بدّ من النظر في الأخبار لاستظهار الأصحّ من الأقوال. وقبل النظر فيها ينبغي الكلام عن إمكان صحّة هذه الأقوال جملة ، بعد ما سبق من تحقيق أنّ القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي التساقط ، فكيف يصحّ الحكم بعدم تساقطهما حينئذ؟! وأكثرها إشكالا هو القول بالتخيير بينهما ؛ للمنافاة الظاهرة بين الحكم بتساقطهما ، وبين الحكم بالتخيير.

نقول في الجواب عن هذا السؤال : إنّه إذا فرضت قيام الإجماع ، ونهوض الأخبار على عدم تساقط المتعارضين ، فإنّ ذلك يكشف عن جعل جديد من قبل الشارع لحجّيّة أحد

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٥٥٨.

(٢) بل هي ستّة أقوال ، كما في بدائع الأفكار (للمحقّق الرشتي) : ٤٢٢.

(٣) فراجع معارج الأصول : ١٥٦ ؛ مبادئ الوصول : ٢٣٣ ؛ الفصول : ٤٥٤ ؛ مناهج الأحكام : ٣١٧ ، قوانين الأصول ٢ : ٢٨٣ ؛ فرائد الأصول ٢ : ٧٦٢ ، وغيرها من كتب المتأخّرين.

(٤) والناقل هو المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٥٠٢.

٥٦٩

الخبرين بالفعل لا على التعيين ، وهذا الجعل الجديد لا ينافي ما قلناه سابقا من سرّ تساقط المتعارضين ؛ بناء على الطريقيّة ؛ لأنّه إنّما حكمنا بالتساقط من جهة قصور دلالة أدلّة حجّيّة الأمارة عن شمولها للمتعارضين ، أو لأحدهما لا على التعيين ، ولكن لا يقدح في ذلك أن يرد دليل خاصّ يتضمّن بيان حجّيّة أحدهما غير المعيّن بجعل جديد ، لا بنفس الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.

ولا يلزم من ذلك ـ كما قيل (١) ـ أن تكون الأمارة حينئذ مجعولة على نحو السببيّة ، فإنّه إنّما يلزم ذلك لو كان عدم التساقط باعتبار الجعل الأوّل.

وبعبارة أخرى أوضح : إنّه لو خلّينا نحن والأدلّة العامّة الدالّة على حجّيّة الأمارة فإنّه لا يبقى دليل لنا على حجّيّة أحد المتعارضين ؛ لقصور تلك الأدلّة عن شمولها لهما ، فلا بدّ من الحكم بعدم حجّيّتهما معا. أمّا : لو فرض قيام دليل خاصّ في صورة التعارض بالخصوص على حجّيّة أحدهما فلا بدّ من الأخذ به ، ويدلّ على حجّيّة أحدهما بجعل جديد ، ولا مانع عقليّ من ذلك.

وعلى هذا ، فالقاعدة المستفادة من هذا الدليل الخاصّ قاعدة ثانويّة مجعولة من قبل الشارع ، بعد أن كانت القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي التساقط.

بقي علينا أن نفهم معنى التخيير على تقدير القول به ، بعد أن بيّنّا سابقا أنّه لا معنى للتخيير بين المتعارضين من جهة الحجّيّة ، ولا من جهة الواقع ، فنقول :

إنّ معنى التخيير بمقتضى هذا الدليل الخاصّ أنّ كلّ واحد من المتعارضين منجّز للواقع على تقدير إصابته للواقع ، ومعذّر للمكلّف على تقدير الخطأ ، وهذا هو معنى الجعل الجديد الذي قلناه ، فللمكلّف أن يختار ما يشاء منهما ، فإن أصاب الواقع فقد تنجّز به وإلاّ فهو معذور. وهذا بخلاف ما لو كنّا نحن والأدلّة العامّة ، فإنّه لا منجّزيّة لأحدهما غير المعيّن ولا معذّريّة له.

والشاهد على ذلك أنّه بمقتضى هذا الدليل الخاصّ لا يجوز ترك العمل بهما معا ؛ لأنّه

__________________

(١) والقائل الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

٥٧٠

على تقدير الخطأ في تركهما لا معذّر له في مخالفة الواقع ، بينما أنّه معذور في مخالفة الواقع لو أخذ بأحدهما. وهذا بخلاف ما لو لم يكن هذا الدليل الخاصّ موجودا ، فإنّه يجوز له ترك العمل بهما معا ، وإن استلزم مخالفة الواقع ؛ إذ لا منجّز للواقع بالمتعارضين بمقتضى الأدلّة العامّة.

إذا عرفت ما ذكرنا فلنذكر لك أخبار الباب ليتّضح الحقّ في المسألة ، فإنّ منها : ما يدلّ على التخيير مطلقا ، ومنها : ما يدلّ على التخيير في صورة التعادل ، ومنها : ما يدلّ على التوقّف. ثمّ نعقب عليها بما يقتضي ، فنقول : إنّ الذي عثرنا عليه من الأخبار هو كما يلي :

١. خبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام : قلت : يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين ، فلا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : «فإذا لم تعلم ، فموسّع عليك بأيّهما أخذت». (١)

وهذا الحديث بهذا المقدار منه ظاهر في التخيير بين المتعارضين مطلقا ، ولكن صدره ـ الذي لم نذكره (٢) ـ مقيّد بالعرض على الكتاب ، والسنّة ، فهو يدلّ على أنّ التخيير إنّما هو بعد فقدان المرجّح ، ولو في الجملة. (٣)

٢. خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا سمعت من أصحابك الحديث ، وكلّهم ثقة فموسّع عليك ، حتى ترى القائم فتردّ عليه». (٤)

وهذا الخبر أيضا يستظهر منه التخيير مطلقا من كلمة «فموسّع عليك» ، ويقيّد بالروايات الآتية الدالّة على الترجيح.

ولكن يمكن أن يناقش في استظهار التخيير منه :

أوّلا : بأنّ الخبر وارد في فرض التمكّن من لقاء الإمام والأخذ منه ، فلا يعلم شموله لحال الغيبة الذي يهمّنا إثباته ؛ لأنّ الرخصة في التخيير مدّة قصيرة لا تستلزم الرّخصة فيه أبدا ولا تدلّ عليها. (٥)

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٠.

(٢) وهو قوله عليه‌السلام : «ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله وأحاديثنا».

(٣) هكذا ناقش فيه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤١.

(٥) بهذا ناقش فيه المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٣٦٣.

٥٧١

ثانيا : بأنّ الخبر غير ظاهر في فرض التعارض ، بل ربّما يكون واردا لبيان حجّيّة الحديث الذي يرويه الثقات من الأصحاب. ومعنى «موسّع عليك» الرخصة بالأخذ به ؛ كناية عن حجّيّته ، غاية الأمر أنّه يدلّ على أنّ الرخصة مغيّاة برؤية الإمام ليأخذ منه الحكم على سبيل اليقين. وهذا أمر لا بدّ منه في كلّ حجّة ظنّيّة ، وإن كانت عامّة حتى لزمان حضور الإمام إلاّ أنّه مع حصول اليقين بمشافهته لا بدّ أن ينتهي أمد جواز العمل بها.

وعليه ، فلا شاهد بهذا الخبر على ما نحن فيه.

٣. مكاتبة عبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم : أن لا تصلّهما إلاّ على الأرض ، فاعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟. فوقّع عليه‌السلام : «موسّع عليك بأيّة عملت». (١)

وهذه أيضا استظهروا منها التخيير مطلقا ، وتحمل على المقيّدات كالثانية.

ولكن يمكن الناقشة في هذا الاستظهار بأنّه من المحتمل أن يراد من التوقيع بيان التخيير في العمل بكلّ من المرويّين باعتبار أنّ الحكم الواقعيّ هو جواز صلاة ركعتي الفجر في السفر في المحمل وعلى الأرض معا ، لا أنّ المراد التخيير بين الروايتين ، فيكون الغرض تخطئة الروايتين.

وهو احتمال قريب جدّا ، لا سيّما أنّ السؤال لم يكن عن كيفيّة العمل بالمتعارضين ، بل السؤال عن كيفيّة عمل الإمام ليقتدي به ـ أي إنّه سؤال عن حكم صلاة ركعتي الفجر ، لا عن حكم المتعارضين ـ ، والجواب ينبغي أن يطابق السؤال ، فكيف صحّ أن يحمل على بيان كيفيّة العمل بالمتعارضين؟! وعليه ، فلا يكون في هذا الخبر أيضا شاهد على ما نحن فيه كالخبر الثاني.

٤. جواب مكاتبة الحميري إلى الحجّة ـ عجّل الله فرجه ـ : «في ذلك حديثان : أمّا أحدهما : فإنّه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير. وأمّا [الحديث] الآخر : فإنّه روي

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٢٥١ ح ٥٨٣.

٥٧٢

أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية ، وكبّر ، ثمّ جلس ، ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير. وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا». (١)

وهذا الجواب أيضا استظهروا منه التخيير مطلقا ، ويحمل على المقيّدات.

ولكنّه أيضا يناقش في هذا الاستظهار بأنّ من المحتمل قريبا أنّ المراد بيان التخيير في العمل بالتكبير لبيان عدم وجوبه ، لا التخيير بين المتعارضين. ويشهد لذلك التعبير بقوله : «كان صوابا» ؛ لأنّ المتعارضين لا يمكن أن يكون كلّ واحد منهما صوابا ، ثمّ لا معنى لجواب الإمام عن السؤال عن الحكم الواقعيّ بذكر روايتين متعارضتين ، ثمّ العلاج بينهما ، إلاّ لبيان خطأ الروايتين ، وأنّ الحكم الواقعيّ على خلافهما.

٥. مرفوعة زرارة ، المرويّة عن «عوالي اللآلئ» ، وقد جاء في آخرها : «إذن فتخيّر أحدهما ، فتأخذ به وتدع الآخر». (٢)

ولا شكّ في ظهور هذه الفقرة منها في وجوب التخيير بين المتعارضين ، وفي أنّه بعد فرض التعادل ؛ لأنّها جاءت بعد ذكر المرجّحات وفرض انعدامها.

ولكنّ الشأن في صحّة سندها ، وسيأتي التعرّض له. وهي من أهمّ أخبار الباب من جهة مضمونها.

٦. خبر سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر ، كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ فقال عليه‌السلام : «يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (٣).

وقد استظهروا من قوله عليه‌السلام : «فهو في سعة» التخيير مطلقا.

وفيه أوّلا : أنّ الرواية واردة في فرض التمكّن من لقاء الإمام ، أو كلّ من يخبره بالحكم على سبيل اليقين من نوّاب الإمام خصوصا أو عموما. فهي تشبه من هذه الناحية الرواية

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩.

(٢) عوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ ح ٢٢٩.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

٥٧٣

الثانية المتقدّمة. (١)

وثانيا : أنّ الأولى فيها أن تجعل من أدلّة التوقّف ، لا التخيير ، (٢) وذلك لكلمة «يرجئه».

وأمّا قوله : «في سعة» فالظاهر أنّ المراد به التخيير بين الفعل والترك ، باعتبار أنّ الأمر حسب فرض السؤال يدور بين المحذورين ، وهو الوجوب والحرمة ؛ إذن فليس المقصود منه التخيير بين الروايتين ، لا سيّما أنّ ذلك لا يلتئم مع الأمر بالإرجاء ؛ لأنّ العمل بأحدهما تخييرا ليس إرجاء ، بل الإرجاء ترك العمل بهما معا.

فلا دلالة لهذه الرواية على التخيير بين المتعارضين.

٧. وقال الكليني بعد تلك الرواية : «وفي رواية أخرى : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» (٣).

يظهر منه (٤) أنّها رواية أخرى ، لا أنّها نصّ آخر في الجواب عن نفس السؤال في الرواية المتقدّمة ، وإلاّ لكان المناسب أن يقول : «بأيّهما أخذ» بالضمير الغائب ، لا «بأيّهما أخذت» بنحو الخطاب.

وظاهرها الحكم بالتخيير بين المتعارضين مطلقا ، ويحمل على المقيّدات.

٨. ما في «عيون أخبار الرضا» للصدوق في خبر طويل ، جاء في آخره :

«فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا ، أو بأيّهما شئت ، وسعك الاختيار من باب التسليم ، والاتّباع ، والردّ إلى رسول الله» (٥).

والظاهر من هذه الفقرة هو التخيير بين المتعارضين ، إلاّ أنّه بملاحظة صدرها وذيلها يمكن أن يستظهر منها إرادة التخيير في العمل بالنسبة إلى ما أخبر عن حكمه أنّه على نحو الكراهة ، ولذا أنّها ـ فيما يتعلّق بالإخبار عن الحكم الإلزاميّ ـ صرّحت بلزوم العرض على الكتاب والسنّة ، (٦) لا سيّما وقد أعقب تلك الفقرة التي نقلناها قوله عليه‌السلام : «وما لم تجدوه في

__________________

(١ و ٢). كما في نهاية الدراية ٣ : ٣٦٤.

(٣) الكافي ١ : ٥٣.

(٤) أي ممّا قال الكليني.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١.

(٦) كذا قال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ٣ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

٥٧٤

شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ ، والتثبّت ، والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا».

وهذه الفقرات صريحة في وجوب التوقّف ، والتربّث (١) ، وعليه ، فالأجدر بهذه الرواية أن تجعل من أدلّة التوقّف ، لا التخيير.

٩. مقبولة عمر بن حنظلة ، الآتي ذكرها في المرجّحات ، وقد جاء في آخرها : «إذا كان ذلك ـ أي فقدت المرجّحات ـ فأرجئه حتى تلقى إمامك ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». (٢)

وهذه ظاهرة في وجوب التوقّف عند التعادل.

١٠. خبر سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قلت : يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه؟ قال : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك ، فتسأله». قلت : لا بدّ أن نعمل بأحدهما. قال : «خذ بما فيه خلاف العامّة» (٣).

١١. مرسلة صاحب عوالي اللآلئ ـ على ما نقل عنه ـ ، فإنّه بعد روايته المرفوعة المتقدّمة بالرقم (٥) قال : وفي رواية أنّه قال عليه‌السلام : «إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله». (٤)

هذه جملة ما عثرت عليه من الروايات فيما يتعلّق بالتخيير أو التوقّف. والظاهر منها ـ بعد ملاحظة أخبار الترجيح الآتية ، وبعد ملاحظة مقيّداتها بصورة فقدان المرجّح ، ولو في الجملة ـ أنّ الرجوع إلى التخيير ، أو التوقّف بعد فقد المرجّحات ، فتحمل مطلقاتها على مقيّداتها.

والخلاصة أنّ المتحصّل منها جميعا أنّه يجب أوّلا ملاحظة المرجّحات بين المتعارضين ، فإن لم تتوفّر المرجّحات ، فالقاعدة هي التخيير ، أو التوقّف على حسب استفادتنا من الأخبار ، لا أنّ القاعدة التخيير أو التوقّف في كلّ متعارضين وإن كان فيهما

__________________

(١) وهو ضدّ العجلة.

(٢) الكافي ١ : ٦٧.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٤) عوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣.

٥٧٥

ما يرجّح أحدهما على الآخر.

نعم ، المستفاد من الرواية العاشرة فقط ـ وهي خبر سماعة ـ أنّ التوقّف هو الحكم الأوّلي ؛ إذ أرجعه إلى الترجيح بمخالفة العامّة بعد فرض ضرورة العمل بأحدهما ، بحسب فرض السائل.

ولكنّ التأمّل فيها يعطي أنّها لا تنافي أدلّة تقديم الترجيح ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منها ترك العمل رأسا ؛ انتظارا لملاقاة الإمام ، لا التوقّف والعمل بالاحتياط.

وبعد هذا يبقى علينا أن نعرف وجه الجمع بين أخبار التخيير ، وأخبار التوقّف فيما ذكرناه من الأخبار المتقدّمة. وقد ذكروا وجوها للجمع (١) لا يغني أكثرها.

وأنت ـ بعد ملاحظة ما مرّ من المناقشات في الأخبار التي استظهروا منها التخيير ـ تستطيع أن تحكم بأنّ التوقّف هو القاعدة الأوّليّة ، وأنّ التخيير لا مستند له ؛ إذ لم يبق ما يصلح مستندا له إلاّ الرواية الأولى ، وهي لا تصلح لمعارضة الروايات الكثيرة الدالّة على وجوب التوقّف ، والردّ إلى الإمام.

أمّا الخامسة ـ وهي مرفوعة زرارة ـ : فهي ضعيفة السند جدّا ، ـ وقد أشرنا فيما سبق إلى ذلك ، وسيأتي بيانه ـ ؛ على أنّ راويها نفسه عقّبها بالمرسلة المتقدّمة بالرقم (١١) الواردة في التوقّف ، والإرجاء.

وأمّا السابعة ـ مرسلة الكلينيّ ـ : فليس من البعيد أنّها من استنباطاته ، حسبما فهمه من الروايات ، لا أنّها رواية مستقلّة في قبال سائر روايات الباب. ويشهد لذلك ما ذكره في مقدّمة «الكافي» من مرسلة أخرى بهذا المضمون : «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» ، (٢) ؛ لأنّه لم ترد عنده رواية بهذا التعبير إلاّ تلك المرسلة التي نحن بصددها ، وهي بخطاب المفرد ، وهذه بخطاب الجمع. وعليه ، فيظهر أنّ المرسلتين معا هما من مستنبطاته ، فلا يصحّ الاعتماد عليهما.

إذا عرفت ما ذكرناه يظهر لك أنّ القول بالتخيير لا مستند له يصلح لمعارضة أخبار

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ١ : ١٠٠. وراجع أيضا فرائد الأصول ٢ : ٧٦٣.

(٢) الكافي ١ : ٨.

٥٧٦

التوقّف ، ولا للخروج عن القاعدة الأوّليّة للمتعارضين ، وهي التساقط ، وإن كان التخيير مذهب المشهور.

وأمّا أخبار التوقّف : فإنّها ـ مضافا إلى كثرتها وصحّة بعضها وقوّة دلالتها ـ لا تنافي قاعدة التساقط في الحقيقة ؛ لأنّ الإرجاء والتوقّف لا يزيد على التساقط ، بل هو من لوازمه ، فأخبار التوقّف تكون على القاعدة.

وقيل (١) في وجه تقديم أخبار التخيير : «إنّ أدلّة التخيير مطلقة بالنسبة إلى زمن الحضور ، بينما أنّ أخبار التوقّف مقيّدة به. وصناعة الإطلاق والتقييد تقتضي رفع التعارض بينهما بحمل المطلق على المقيّد. ونتيجة ذلك ، التخيير في زمان الغيبة ، كما عليه المشهور».

أقول : إنّ أخبار التوقّف كلّها بلسان الإرجاء إلى ملاقاة الإمام ، فلا يستفاد منها تقييد الحكم بالتوقّف بزمان الحضور ؛ لأنّ استفادة ذلك تتوقّف على أن يكون للغاية مفهوم ، وقد تقدّم بيان المناط في استفادة مفهوم الغاية ، فقلنا : «إنّ الغاية إذا كانت قيدا للموضوع ، أو المحمول فقط لا دلالة لها على المفهوم ، ولا تدلّ على المفهوم إلاّ إذا كان التقييد بالغاية راجعا إلى الحكم». (٢) والغاية هنا غاية لنفس الإرجاء ، لا لحكمه ، وهو الوجوب ، يعني أنّ المستفاد من هذه الأخبار أنّ نفس الإرجاء مغيّا بملاقاة الإمام ، لا وجوبه.

والحاصل أنّه لا يفهم من أخبار التوقّف ، إلاّ أنّه لا يجوز الأخذ بالأخبار المتعارضة المتكافئة ، ولا العمل بواحد منها ، وإنّما يحال الأمر في شأنها إلى الإمام ويؤجّل البتّ (٣) فيها إلى ملاقاته لتحصيل الحجّة على الحكم بعد السؤال عنه. فهي تقول بما يؤول إلى أنّ الأخبار المتعارضة المتكافئة لا تصلح لإثبات الحكم ، فلا تجوز الفتوى ولا العمل بأحدها ، وينحصر الأمر حينئذ بملاقاة الإمام والسؤال عنه. فإذا لم تحصل الملاقاة ولو لغيبة الإمام ، فلا يجوز الإقدام على العمل بأحد المتعارضين.

وعلى هذا ، فتكون هذه الأخبار مباينة لأخبار التخيير ، لا أخصّ منها.

__________________

(١) والقائل هو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٤ : ٧٦٥.

(٢) راجع الجزء الأوّل : ١٤٠.

(٣) أي : القطع. فالمعنى : يؤخّر القطع.

٥٧٧

تمرينات (٦٤)

١. اذكر الأقوال الثلاثة في القاعدة الثانويّة للمتعادلين.

٢. هل يمكن صحّة هذه الأقوال بعد ما سبق من أنّ القاعدة الأوّليّة هي التساقط؟

٣. ما هو الأصحّ من الأقوال عند المصنّف؟

٤. ما الجواب عن استظهار التخيير مطلقا من خبر الحسن بن الجهم ، وخبر الحارث بن المغيرة؟

٥. ما هي المناقشة في استظهار التخيير مطلقا من مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام؟

٦. ما هي المناقشة في استظهار التخيير مطلقا من جواب مكاتبة الحميري إلى الحجّة (عجّل الله فرجه)؟

٧. هل يدلّ خبر سماعة على التخيير بين المتعارضين مطلقا؟

٨. ما الجواب عن استظهار التخيير من الخبر المنقول عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام؟

٩. ما هو وجه الجمع بين أخبار التخيير وأخبار التوقّف؟

١٠. اذكر ما قال المحقّق النائيني في وجه تقديم أدلّة التخيير على أدلّة التوقّف. واذكر الجواب عنه.

٥٧٨

الأمر الثالث : المرجّحات

تقدّم أنّ من شروط تحقّق التعارض أن يكون كلّ من الدليلين واجدا لشرائط الحجّيّة في حدّ نفسه ؛ (١) لأنّه لا تعارض بين الحجّة واللاحجّة ، (٢) فإذا بحثنا عن المرجّحات فالذي نعنيه أن نبحث عمّا يرجّح الحجّة على الأخرى ، بعد فرض حجّيّتهما معا في أنفسهما ، لا عمّا يقوّم أصل الحجّة ، ويميّزها عن اللاحجة. وعليه ، فالجهة التي تكون من مقوّمات الحجّة مع قطع النظر عن المعارضة لا تدخل في مرجّحات باب التعارض ، بل تكون من مميّزات الحجّة عن اللاحجّة.

ومن أجل هذا يجب أن نتنبّه إلى الروايات المذكورة في باب الترجيحات ، وإلى أنّها واردة في صدد أيّ شيء من ذلك؟ في صدد الترجيح أو التمييز؟

فلو كانت على النحو الثاني لا يكون فيها شاهد على ما نحن فيه ، كما قاله الشيخ صاحب الكفاية قدس‌سره في روايات الترجيح بموافقة الكتاب (٣) كما سيأتي (٤).

إذا عرفت ما ذكرناه من جهة البحث التي نقصدها في بيان المرجّحات ، فنقول : إنّ المرجّحات ـ المدّعى أنّها منصوص عليها في الأخبار ـ خمسة أصناف :

الترجيح بالأحدث تأريخا ، وبصفات الراوي ، وبالشهرة ، وبموافقة الكتاب ، وبمخالفة العامّة.

فينبغي أوّلا : البحث عنها واحدة واحدة ، ثمّ بيان أيّة منها أولى بالتقديم لو تعارضت؟ ثمّ بيان أنّه هل يجب الاقتصار عليها ، أو يتعدّى إلى غيرها؟ فهنا ثلاثة مقامات :

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٥٤٦.

(٢) كما لا تعارض بين اللاحجّتين.

(٣) كفاية الأصول : ٥٠٥ ـ ٥٠٦.

(٤) سيأتي في الصفحة : ٥٨٥.

٥٧٩

المقام الأوّل : المرجّحات الخمسة

١. الترجيح بالأحدث

في هذا الترجيح روايات أربع ، (١) نكتفي منها بما رواه الكلينيّ بسنده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أرأيتك لو حدّثتك بحديث العامّ ، ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ؟» قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : «رحمك الله!» (٢).

أقول : إنّ الذي يستظهره بعض أجلّة مشايخنا قدس‌سره (٣) أنّ هذه الروايات لا شاهد بها على ما نحن فيه ، أي إنّها لا تدلّ على ترجيح الأحدث من البيانين كقاعدة عامّة بالنسبة إلى كلّ مكلّف ، وبالنسبة إلى جميع العصور ؛ لأنّها لا تدلّ على ذلك إلاّ إذا فهم منها أنّ الأحدث هو الحكم الواقعيّ ، وأنّ الأوّل واقع موقع التقيّة ، أو نحوها ؛ مع أنّه لا يفهم منها أكثر من أنّ من ألقي إليه البيان خاصّة حكمه الفعليّ ما تضمّنه البيان الأخير ، وليست ناظرة إلى أنّه هو الحكم الواقعيّ ، فلربما كان حكما ظاهريّا بالنسبة إليه من باب التقيّة ، كما أنّه ليست ناظرة إلى أنّ هذا الحكم الفعليّ هو حكم كلّ أحد في كلّ زمان.

والحاصل أنّ هذه الطائفة من الروايات لا دلالة فيها على أنّ البيان الأخير يتضمّن الحكم الواقعيّ ، وأنّ ذلك بالنسبة إلى جميع المكلّفين في جميع الأزمنة ، حتى يكون الأخذ بالأحدث

__________________

(١) الأولى : رواية الحسين بن مختار الآتية.

الثانية : رواية أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وهي موافقة مع الرواية الأولى مضمونا ، وزيد فيها : «أبى الله ألاّ يعبد سرّا ، أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم ، أبى الله لنا في دينه إلاّ التقيّة». وسائل الشيعة ١٨ : ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٧.

الثالثة : رواية المعلّى بن خنيس : قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم ، بأيّهما نأخذ؟ قال : «خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله». وسائل الشيعة ١٨ : ٧٨ ، الباب ٩ أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨.

الرابعة : رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن». وسائل الشيعة ١٨ : ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

(٢) الكافي ١ : ٦٧.

(٣) وهو أستاذه المحقّق الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٣ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

٥٨٠