اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

ولو أردنا إخراجها من عمومات حرمة العمل بالظنّ لا يبقى عندنا ما يصلح لانطباق هذه العمومات عليه ممّا يستحقّ الذكر ، فيبقى النهي عن الظنّ بلا موضوع ، ومن البديهيّ عدم جواز تخصيص الأكثر ؛ على أنّه قد أوضحنا ـ فيما سبق في الدليل العقليّ (١) ـ أنّ الأحكام وملاكاتها لا يستقلّ العقل بإدراكها ابتداء ، ـ أي ليس من الممكن للعقول أن تنالها ابتداء من دون السماع من مبلّغ الأحكام ، إلاّ بالملازمة العقليّة ـ. وشأنها في ذلك شأن جميع المجعولات ، كاللغات ، والإشارات ، والعلامات ، ونحوها ؛ فإنّه لا معنى للقول بأنّها تعلم من طريق عقليّ مجرّد ، سواء كان من طريق بديهيّ ، أم نظريّ.

ولو صحّ للعقل هذا الأمر لما كان هناك حاجة لبعثة الرسل ، ونصب الأئمّة ؛ إذ يكون ـ حينئذ ـ كلّ ذي عقل متمكّنا بنفسه من معرفة أحكام الله (تعالى) ، ويصبح كلّ مجتهد نبيّا ، أو إماما. ومن هنا تعرف السرّ في إصرار أصحاب الرأي على قولهم بأنّ كلّ مجتهد مصيب ، وقد اعترف الإمام الغزاليّ بأنّه لا يمكن إثبات حجّيّة القياس إلاّ بتصويب كلّ مجتهد ، وزاد على ذلك قوله بـ «أنّ المجتهد وإن خالف النصّ فهو مصيب ، وأنّ الخطأ غير ممكن في حقّه». (٢)

ومن أجل ما ذكرناه من عدم إمكان إثبات حجّيّة مثل هذه الأدلّة رأينا الاكتفاء بذلك عن شرح هذه الأدلّة ، ومرادهم منها ، ومناقشة أدلّتهم. ونحيل الطلاّب على محاضرات «مدخل الفقه المقارن» (٣) التي ألقاها أستاذ المادّة في كلّيّة الفقه ، الأخ السيد محمّد تقيّ الحكيم ؛ فإنّ فيها الكفاية.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٧٨ ـ ٤٨٠.

(٢) المستصفى ٢ : ٢٣٩.

(٣) المدخل للفقه المقارن «الأصول العامّة للفقه المقارن» : ٣٠٣ ـ ٤٠٤.

٥٤١

تمرينات (٢٠)

التمرين الأوّل :

١. اذكر الأقوال في اعتبار القياس. واذكر تطوّره التأريخيّ؟

٢. ما هو تعريف القياس؟

٣. ما هي أركان القياس؟

٤. هل القياس يوجب العلم؟

٥. ما الجواب عن الاستدلال ببرهان السبر والتقسيم على أنّ القياس يوجب العلم بالحكم؟

٦. بيّن تقريب الاستدلال بقوله (تعالى) : (فاعتبروا يا أولى الأبصار) على حجّيّة القياس الظنّي. واذكر ما يرد عليه.

٧. بيّن تقريب الاستدلال بقوله (تعالى) : (قال من يحيى العظام ...) على اعتبار الظنّ الحاصل من القياس. واذكر ما فيه.

٨. ما الجواب عن الاستدلال بالحديث المأثور عن معاذ على حجّيّة القياس؟

٩. هل حديث الخثعميّة يدّل على حجّيّة القياس؟

١٠. ما الجواب عن الاستدلال بحديث بيع الرطب بالتمر على حجّيّة القياس؟

١١. ما الجواب عن استدلال القائلين بحجّيّة القياس بالإجماع؟

١٢. اذكر الدليل العقلي الذي قد يقام على اعتبار القياس. واذكر الجواب عنه.

١٣. ما هو تعريف منصوص العلّة؟ وهل هو حجّة من باب القياس؟

١٤. ما هو تعريف قياس الأولويّة؟ وهل هو حجّة من باب القياس؟

١٥. هل يدلّ دليل على حجّيّة الاستحسان ، وسدّ الذرائع ، والمصالح المرسلة؟

التمرين الثاني :

١. ما هو تعريف القياس عند ابن الحاجب ، وابن الهمام؟

٢. اذكر تعريفين آخرين للقياس ، غير ما ذكر في المتن.

٣. بيّن تقريب الاستدلال بقوله (تعالى) : (فجزاء مثل ما قتل من النعم) على حجّيّة القياس ، واذكر الجواب عنه.

٤. بيّن تقريب الاستدلال بقوله (تعالى) : (يأمر بالعدل والاحسان) على حجّيّة القياس. واذكر الجواب عنه.

٥. اذكر آيتين ـ غير ما في المتن ـ من الآيات التي يستدلّ بها على حجيّة القياس. واذكر الجواب عنهما.

٦. هل تصحّ نسبة القول باستثناء منصوص العلّة ، وقياس الأولويّة من القياس الباطل إلى العلاّمة الحلّي؟

٧. ما معنى الاستحسان؟ ومن يذهب إلى اعتباره؟

٨. ما هو تعريف سدّ الذرائع؟ وما القائل بحجّيّته؟

٩. ما هو تعريف المصالح المرسلة؟ ومن يذهب إلى اعتبارها؟

٥٤٢

الباب التاسع

التعادل والتراجيح

تمهيد

عنون الأصوليّون من القديم هذه المسألة بعنوانها المذكور. (١)

ومرادهم من كلمة «التعادل» تكافؤ الدليلين المتعارضين في كلّ شيء يقتضي ترجيح أحدهما على الآخر.

ومرادهم من كلمة «التراجيح» : جمع «ترجيح» على خلاف القياس في جمع المصدر ؛ إذ جمعه ترجيحات. والمقصود منه المصدر بمعنى الفاعل ، أي المرجّح.

وإنّما جاءوا به على صيغة الجمع ، دون «التعادل» (٢) ؛ لأنّ المرجّحات بين الدليلين المتعارضين متعدّدة ، والتعادل لا يكون إلاّ في فرض واحد ، وهو فرض فقدان كلّ المرجّحات. (٣)

__________________

(١) عنونها به بعض الأصوليّين ، كالشيخ الأنصاريّ على ما في بعض نسخ فرائد الأصول ، والعلاّمة الآشتيانيّ في بحر الفوائد ٤ : ٢ ، والأسنويّ في نهاية السئول ٤ : ٤٣٢.

وعنونها العلاّمة الحلّي بعنوان «الترجيح في الأخبار» ، والمحقّق الحلّي بعنوان «التراجيح بين الأخبار». مبادئ الوصول : ٢٢٩ ؛ معارج الأصول : ١٥٤.

(٢) وجاء بهما في الفصول على صيغة الجمع ، فقال : «التعاديل والتراجيح» ، الفصول الغرويّة : ٤٣٦.

بل جاء بهما كثير منهم على صيغة المفرد ، فقالوا : «التعادل والترجيح». معالم الدين : ٢٦٦ ؛ نهاية الأفكار ٤ : ١٢٤ ؛ فوائد الأصول ٤ : ٦٩٩ ؛ إرشاد الفحول : ٢٧٣.

(٣) ولا يخفى ما فيه ـ بعد ما مرّ في التعليقة السابقة ـ من وجهين :

الأوّل : يمكن أن يقال : إنّ التعادل هو تساوي الأدلّة في كلّ ما يوجب ترجيح أحدها على الآخر ، وجودا وعدما ، والترجيح : هو اشتمال أحدها على ما يوجب ترجيحه من دون الآخر. ـ

٥٤٣

والغرض من هذا البحث بيان أحكام التعادل بين الدليلين المتعارضين ، وبيان أحكام المرجّحات لأحدهما على الآخر.

ومن هنا نعرف أنّ الأنسب أن تعنون المسألة بعنوان «التعارض بين الأدلّة» (١) ؛ لأنّ التعادل والترجيح بين الأدلّة إنّما يفرض في مورد التعارض بينهما ، غير أنّه لمّا كان همّ الأصوليّين في البحث وغايتهم منه معرفة كيفيّة العمل بالأدلّة المتعارضة عند تعادلها ، وترجيحها ، عنونوها بما ذكرناه.

وهذه المسألة ـ كما ذكرناه سابقا (٢) ـ أليق شيء بها مباحث الحجّة ؛ لأنّ نتيجتها تحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ عند التعارض بين الأدلّة.

وقبل الشروع في بيان أحكام التعارض ينبغي في المقدّمة بيان أمور يحتاج إليها ، مثل حقيقة التعارض ، وشروطه ، وقياسه بالتزاحم ؛ والحكومة والورود ، ومثل القواعد العامّة في الباب ، فنقول :

[المقدّمة]

١. حقيقة التعارض

التعارض : مصدر من باب «التفاعل» الذي يقتضي فاعلين ، ولا يقع إلاّ من جانبين ، فيقال : تعارض الدليلان. ولا تقول : «تعارض الدليل» وتسكت (٣). وعليه ، فلا بدّ من فرض

__________________

ـ وعلى هذا ، فالتعادل قد يكون في فرض فقدان كلّ المرجّحات ، وقد يكون في فرض وجود مرجّح واحد في الجميع ، وقد يكون في فرض وجود مرجّح في أحدها ، ووجود مرجّح آخر مساو له في الآخر. ولعلّه عدل صاحب الفصول عن ذلك العنوان إلى العنوان المذكور آنفا.

الثاني : ويمكن أن يقال : التعادل هو عدم وجود المزيّة لأحد الأدلّة ، والترجيح هو وجود المزيّة في أحدها. وعلى هذا ، فكما أنّ التعادل لا يكون إلاّ في فرض واحد ـ وهو فرض فقدان المزيّة ـ كذلك الترجيح لا يكون إلاّ في فرض واحد ـ وهو فرض وجودها ـ ، ولعلّه لذلك عدل بعض آخر عن ذلك العنوان إلى عنوان «التعادل والترجيح».

(١) كما عنونها بهذا العنوان المحقّق الخراسانيّ في : الكفاية : ٤٩٥.

(٢) راجع الصفحة : ٣٦٨.

(٣) أي بدون أن تعطف على «الدليل» أمرا آخر.

٥٤٤

دليلين ، كلّ منهما يعارض الآخر.

ومعنى المعارضة أنّ كلاّ منهما ـ إذا تمّت مقوّمات حجّيّته ـ يبطل الآخر ، ويكذّبه. والتكاذب ، إمّا أن يكون في جميع مدلولاتهما ، ونواحي الدلالة فيهما ، وإمّا في بعض النواحي على وجه لا يصحّ فرض بقاء حجّيّة كلّ منهما مع فرض بقاء حجّيّة الآخر ، ولا يصحّ العمل بهما معا.

فمرجع التعارض في الحقيقة إلى التكاذب بين الدليلين في ناحية ما ، أي إنّ كلاّ منهما يكذّب الآخر ، ولا يجتمعان على الصدق.

هذا هو المعنى الاصطلاحي للتعارض. وهو مأخوذ من «عارضه» ، أي جانبه وعدل عنه. (١)

٢. شروط التعارض

ولا يتحقّق هذا المعنى من التعارض إلاّ بشروط سبعة هي مقوّمات التعارض ، نذكرها لتتّضح حقيقة التعارض ، ومواقعه :

١. ألاّ يكون أحد الدليلين ، أو كلّ منهما قطعيّا ؛ لأنّه لو كان أحدهما قطعيّا فإنّه يعلم منه كذب الآخر ، والمعلوم كذبه لا يعارض غيره. وأمّا : القطع بالمتنافيين ففي نفسه أمر مستحيل لا يقع.

٢. ألاّ يكون الظنّ الفعليّ معتبرا في حجّيّتهما معا ؛ لاستحالة حصول الظنّ الفعليّ بالمتكاذبين ، كاستحالة القطع بهما. نعم ، يجوز أن يعتبر في أحدهما المعيّن الظنّ الفعليّ ، دون الآخر.

__________________

(١) قال الشيخ الأنصاريّ : «وهو لغة : من العرض بمعنى الإظهار ، وغلّب في الاصطلاح على تنافي الدليلين ، وتمانعهما باعتبار مدلولهما» ، فرائد الأصول ٢ : ٧٥٠.

وقال الشوكاني : «التعارض : فهو تفاعل من العرض ـ بضمّ العين ، ـ وهو الناحية والجهة ، كأنّ الكلام المتعارض يقف بعضه في عرض بعض ـ أي ناحيته وجهته ـ ، فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجه». إرشاد الفحول : ٢٧٣.

٥٤٥

٣. أن يتنافى مدلولاهما ـ ولو عرضا وفي بعض النواحي ـ ليحصل التكاذب بينهما ، سواء كان التنافي في مدلولهما المطابقيّ ، أو التضمّنيّ ، أو الالتزاميّ.

والجامع في ذلك أن يؤدّيا إلى ما لا يمكن تشريعه ، ويمتنع جعله في نفس الأمر ، ولو كان هذا الامتناع لأمر خارج عن نفس مدلولهما ، كما في تعارض دليل وجوب صلاة الجمعة مع دليل وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة ؛ فإنّ الدليلين في نفسهما لا تكاذب بينهما ؛ إذ لا يمتنع اجتماع وجوب صلاتين في وقت واحد ، ولكن لمّا علم من دليل خارج أنّه لا تجب إلاّ صلاة واحدة في الوقت الواحد فإنّهما يتكاذبان حينئذ بضميمة هذا الدليل الثالث الخارج عنهما.

وعلى هذا ، فيمكن تحديد الضابط للتعارض بأن يقال : «الضابط في التعارض : امتناع اجتماع مدلوليهما في الوعاء المناسب لهما ، إمّا من ناحية تكوينيّة ، أو من ناحية تشريعيّة».

أو يقال بعبارة جامعة : «الضابط في التعارض ، تكاذب الدليلين على وجه يمتنع اجتماع صدق أحدهما مع صدق الآخر».

ومن هنا يعلم أنّ التعارض ليس وصفا للمدلولين ـ كما قيل ـ (١) ، بل المدلولان يوصفان بأنّهما متنافيان ، لا متعارضان. وإنّما التعارض وصف للدليلين بما هما دليلان على أمرين متنافيين لا يجتمعان ؛ لأنّ امتناع صدق الدليلين معا ، وتكاذبهما إنّما ينشأ من تنافي المدلولين ؛ ولأجل هذا قال صاحب الكفاية : «التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة ومقام الإثبات». (٢) فحصر التعارض في مقام الإثبات ، ومرحلة الدلالة.

٤. أن يكون كلّ من الدليلين واجدا لشرائط الحجّيّة ، بمعنى أنّ كلاّ منهما ـ لو خلّي ونفسه ، ولم يحصل ما يعارضه ـ لكان حجّة يجب العمل بموجبه ، وإن كان أحدهما ـ لا على التعيين ـ بمجرّد التعارض يسقط عن الحجّيّة بالفعل.

والسرّ في ذلك واضح ؛ فإنّه لو كان أحدهما غير واجد لشرائط الحجّيّة في نفسه

__________________

(١) والقائل الشيخ الأنصاريّ ، تبعا للسيد عميد الدين في منية اللبيب والمحقّق القمّي في القوانين. فرائد الأصول ٢ : ٧٥٠ ؛ منية اللبيب (مخطوط) : ١٦٩ ؛ قوانين الأصول ٢ : ٢٦٧.

(٢) كفاية الأصول : ٤٩٦.

٥٤٦

لا يصلح أن يكون مكذّبا لما هو حجّة ، وإن كان منافيا له في مدلوله فلا يكون معارضا له ، لما قلنا من أنّ التعارض وصف للدالّين بما هما دالاّن في مقام الإثبات ، وإذ لا إثبات فيما هو غير حجّة فلا يكذّب ما فيه الإثبات ؛ إذن ، لا تعارض بين الحجّة واللاحجّة ، كما لا تعارض بين اللاحجّتين.

ومن هنا يتّضح أنّه لو كان هناك خبر ـ مثلا ـ غير واجد لشرائط الحجّيّة ، واشتبه بما هو واجد لها ، فإنّ الخبرين لا يدخلان في باب التعارض ، فلا تجري عليهما أحكامه وقواعده ، وإن كان من جهة العلم بكذب أحدهما حالهما حال المتعارضين. نعم ، في مثل هذين الخبرين تجري قواعد العلم الإجماليّ.

٥. ألاّ يكون الدليلان متزاحمين ؛ فإنّ للتعارض قواعد غير قواعد التزاحم على ما يأتي ، (١) وإن كان المتعارضان يشتركان مع المتزاحمين في جهة واحدة ، وهي امتناع اجتماع الحكمين في التحقّق في موردهما ، ولكنّ الفرق في جهة الامتناع ، فإنّه في التعارض من جهة التشريع ، فيتكاذب الدليلان ، وفي التزاحم من جهة الامتثال ، فلا يتكاذبان. ولا بدّ من إفراد بحث مستقلّ في بيان الفرق ، كما سيأتي. (٢)

٦. ألاّ يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر.

٧. ألاّ يكون أحدهما واردا على الآخر.

وسيأتي أنّ الحكومة والورود يرفعان التعارض والتكاذب بين الدليلين. (٣) ولا بدّ من إفراد بحث عنهما أيضا ، فإنّه أمر أساسيّ في تحقيق التعارض وفهمه.

٣. الفرق بين التعارض والتزاحم

تقدّم (٤) بيان الحقّ الذي ينبغي أن يعوّل عليه في سرّ التفرقة بين بابي التعارض والتزاحم ، ثمّ بينهما ، وبين باب اجتماع الأمر والنهي.

__________________

(١ و ٢) يأتي في المبحث الآتي.

(٣) يأتي في الصفحة : ٥٥٣ وما بعدها.

(٤) تقدّم في المقصد الثاني : ٣٢٧ ـ ٣٣٢.

٥٤٧

وخلاصته أنّ التعارض ـ في خصوص مورد العامّين من وجه ـ إنّما يحصل حيث تكون لكلّ منهما دلالة التزاميّة على نفي حكم الآخر في مورد الاجتماع بينهما ، فيتكاذبان من هذه الجهة. وأمّا : إذا لم يكن للعامّين من وجه مثل هذه الدلالة الالتزاميّة فلا تعارض بينهما ، إذ لا تكاذب بينهما في مقام الجعل والتشريع.

وحينئذ ـ أي حينما يفقدان تلك الدلالة الالتزاميّة ـ لو امتنع على المكلّف أن يجمع بينهما في الامتثال لأيّ سبب من الأسباب ، فإنّ الأمر في مقام الامتثال يدور بينهما ، بأن يمتثل إمّا هذا أو ذاك. وهنا يقع التزاحم بين الحكمين ، وطبعا إنّما يفرض ذلك فيما إذا كان الحكمان إلزاميّين.

ومن أجل هذا قلنا ـ في الشرط الخامس من شروط التعارض ـ : «إنّ امتناع اجتماع الحكمين في التحقّق إذا كان في مقام التشريع دخل الدليلان في باب التعارض ؛ لأنّهما حينئذ يتكاذبان. أمّا إذا كان الامتناع في مقام الامتثال دخلا في باب التزاحم ؛ إذ لا تكاذب حينئذ بين الدليلين».

وهذا هو الفرق الحقيقيّ بين باب التعارض وباب التزاحم في أيّ مورد يفرض ؛ وينبغي ألاّ يغيب عن بال الطالب أنّه حينما ذكرنا العامّين من وجه فقط في مقام التفرقة بين البابين ـ كما تقدّم في الجزء الثاني (١) ـ لم نذكره لأجل اختصاص البابين بالعامّين من وجه ، بل لأنّ العامّين من وجه موضع شبهة عدم التفرقة بين البابين ثمّ بينهما وبين باب اجتماع الأمر والنهي. وقد سبق تفصيل ذلك هناك ، فراجع.

وعليه ، فالضابط في التفرقة بين البابين ـ كما أشرنا إليه أكثر من مرّة ـ هو أنّ الدليلين يكونان متعارضين إذا تكاذبا في مقام التشريع ، ويكونان متزاحمين إذا امتنع الجمع بينهما في مقام الامتثال مع عدم التكاذب في مقام التشريع.

وفي تعارض الأدلّة قواعد للترجيح ستأتي ، وقد عقد هذا الباب لأجلها ، وينحصر الترجيح فيها بقوّة السند أو الدلالة.

وأمّا : التزاحم فله قواعد أخرى تتّصل بالحكم نفسه ، ولا ترتبط بالسند أو الدلالة.

__________________

(١) راجع المقصد الثاني : ٣٢٧ ـ ٣٣٢.

٥٤٨

ولا ينبغي أن يخلو كتابنا من الإشارة إليها. وهذه خير مناسبة لذكرها ، فنقول :

٤. تعادل وتراجيح المتزاحمين

لا شكّ في أنّه إذا تعادل المتزاحمان في جميع جهات الترجيح الآتية فإنّ الحكم فيهما هو التخيير. وهذا أمر محلّ اتّفاق وإن وقع الخلاف في تعادل المتعارضين أنّه يقتضي التساقط ، أو التخيير على ما سيأتي. (١)

وفي الحقيقة أنّ هذا التخيير إنّما يحكم به العقل ، والمراد به العقل العمليّ.

بيان ذلك أنّه بعد فرض عدم إمكان الجمع في الامتثال بين الحكمين المتزاحمين ، وعدم جواز تركهما معا ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ، حسب الفرض ، ويستحيل الترجيح بلا مرجّح ، فلا مناص من أن يترك الأمر إلى اختيار المكلّف نفسه ؛ إذ يستحيل بقاء التكليف الفعليّ في كلّ منهما ، ولا موجب لسقوط التكليف فيهما معا. وهذا الحكم العقليّ ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء.

ومن هذا الحكم العقليّ يستكشف حكم الشرع على طبق هذا الحكم العقليّ ، كسائر الأحكام العقليّة القطعيّة ؛ لأنّ هذا من باب المستقلاّت العقليّة التي تبتني على الملازمات العقليّة المحضة.

مثاله ، إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين متساويين من جميع الجهات ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر شرعا من جهة وجوب الإنقاذ ، فإنّه لا مناص للمكلّف من أن يفعل أحدهما (٢) ويترك الآخر ، فهو على التخيير عقلا بينهما ، المستكشف منه رضى الشارع بذلك وموافقته على التخيير.

إذا عرفت ذلك ، فيكون من المهمّ جدّا أن نعرف ما هي المرجّحات في باب التزاحم؟ ومن الواضح أنّه لا بدّ أن تنتهي كلّها إلى أهمّيّة أحد الحكمين عند الشارع ، فالأهمّ عنده هو الأرجح في التقديم. ولمّا كانت الأهميّة تختلف جهتها ومنشؤها فلا بدّ من بيان تلك

__________________

(١) يأتي في المبحث السادس : ٥٥٧.

(٢) أي أحد الإنقاذين.

٥٤٩

الجهات ، وهي تستكشف بأمور نذكرها على الاختصار : (١)

١. أن يكون أحد الواجبين لا بدل له ، مع كون الواجب الآخر المزاحم له ذا بدل ، سواء كان البدل اختياريّا ، كخصال الكفّارة ، أو اضطراريّا ، كالتيمّم بالنسبة إلى الوضوء ، وكالجلوس بالنسبة إلى القيام في الصلاة.

ولا شكّ في أنّ ما لا بدل له أهمّ ممّا له البدل قطعا عند المزاحمة ، وإن كان البدل اضطراريّا ؛ لأنّ الشارع قد رخّص في ترك ذي البدل إلى بدله الاضطراريّ عند الضرورة ، ولم يرخّص في ترك ما لا بدل له ، ولا شكّ في أنّ تقديم ما لا بدل له جمع بين التكليفين في الامتثال ، دون صورة تقديم ذي البدل ، فإنّ فيه تفويتا للأوّل بلا تدارك.

٢. أن يكون أحد الواجبين مضيّقا ، أو فوريّا ، مع كون الواجب الآخر المزاحم له موسّعا ؛ فإنّ المضيّق ، أو الفوريّ أهمّ من الموسّع قطعا ، كدوران الأمر بين إزالة النجاسة عن المسجد وإقامة الصّلاة في سعة وقتها.

وهذا الثاني ينسق على الأوّل ؛ لأنّ الموسّع له بدل طوليّ اختياريّ ، دون المضيّق والفوريّ ، فتقديم المضيّق أو الفوريّ جمع بين التكليفين في الامتثال ، دون تقديم الموسّع ، فإنّ فيه تفويتا للتكليف بالمضيّق أو الفوريّ بلا تدارك.

ومثله ما لو دار الأمر بين المضيّق والفوريّ ، كدوران الأمر بين الصلاة في آخر وقتها وإزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّ الصلاة مقدّمة ؛ إذ لا تدارك لها.

٣. أن يكون أحد الواجبين صاحب الوقت المختصّ دون الآخر ؛ وكان كلّ منهما مضيّقا ، كما لو دار الأمر بين أداء الصلاة اليوميّة في آخر وقتها وبين صلاة الآيات في ضيق وقتها ؛ لأنّ الوقت لمّا كان مختصّا باليوميّة فهي أولى به عند مزاحمتها بما لا اختصاص له في أصل تشريعه بالوقت المعيّن ، وإنّما اتّفق حصول سببه في ذلك الوقت ، وتضيّق وقت أدائه. ومسألة تقديم اليوميّة على صلاة الآيات إذا تضيّق وقتهما معا أمر إجماعيّ متّفق عليه ، ولا منشأ له إلاّ أهمّيّة ذات الوقت المختصّ ، المفهومة من بعض الروايات. (٢)

__________________

(١) وإن أردت الاطّلاع على تفصيلها ، فراجع فوائد الأصول ١ : ٣٢٢ ـ ٣٣٠ و ٤ : ٧٠٩.

(٢) راجع الوسائل ٣ : ٩١ و ١١٤ و ١٣٤ ، الباب ٤ و ١٠ و ١٧ من أبواب المواقيت.

٥٥٠

٤. أن يكون أحد الواجبين وجوبه مشروطا بالقدرة الشرعيّة دون الآخر. والمراد من القدرة الشرعيّة هي القدرة المأخوذة في لسان الدليل شرطا للوجوب ، كالحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة ، ونحوه.

ومع فرض المزاحمة بينه وبين واجب آخر وجوبه غير مشروط بالقدرة ، لا يحصل العلم بتحقّق ما هو شرط في الوجوب ؛ لاحتمال أنّ مزاحمته للواجب الآخر تكون سالبة للقدرة المعتبرة في الوجوب ، ومع عدم اليقين بحصول شروط الوجوب لا يحصل اليقين بأصل التكليف ، فلا يزاحم ما كان وجوبه منجّزا معلوما.

ولو قال قائل : إنّ كلّ واجب مشروط وجوبه بالقدرة عقلا ؛ إذن فالواجب الآخر أيضا مشروط بالقدرة ؛ فأيّ فرق بينهما؟

فالجواب : نحن نسلّم باشتراط كلّ واجب بالقدرة عقلا ، لكنّه لمّا لم تؤخذ القدرة في الواجب الآخر في لسان الدليل ، فهو من ناحية الدلالة اللفظيّة مطلق ، وإنّما العقل هو الذي يحكم بلزوم القدرة. ويكفي في حصول شرط القدرة العقليّة نفس تمكّن المكلّف من فعله ، ولو مع فرض المزاحمة ؛ إذ لا شكّ في أنّ المكلّف في فرض المزاحمة قادر ومتمكّن من فعل هذا الواجب المفروض ، وذلك بترك الواجب المزاحم له المشروط بالقدرة الشرعيّة.

والخلاصة أنّ الواجب الآخر وجوبه منجّز فعليّ ؛ لحصول شرطه ، وهو القدرة العقليّة ، بخلاف مزاحمه المشروط ؛ لما ذكرنا من احتمال أنّ ما أخذ في الدليل قدرة خاصّة لا تشمل هذه القدرة الحاصلة عند المزاحمة ، فلا يحرز تنجّزه ، ولا تعلم فعليّته.

وعليه ، فيرتفع التزاحم بين الوجوبين من رأس ، ويخلو الجوّ للواجب المطلق وإن كان مشروطا بالقدرة العقليّة.

٥. أن يكون أحد الواجبين مقدّما بحسب زمان امتثاله على الآخر ، كما لو دار الأمر بين القيام للركعة المتقدّمة ، وبين القيام لركعة بعدها ، في فرض كون المكلّف عاجزا عن القيام للركعتين معا ؛ متمكّنا من إحداهما فقط ، فإنّه ـ في هذا الفرض ـ يكون المتقدّم مستقرّ الوجوب في محلّه ؛ لحصول القدرة الفعليّة بالنسبة إليه. فإذا فعله انتفت القدرة الفعليّة بالنسبة إلى المتأخّر ، فلا يبقى له مجال.

٥٥١

ولا فرق في هذا الفرض بين ما إذا كانا معا مشروطين بالقدرة الشرعيّة ، أو مطلقين معا ، أمّا : لو اختلفا فإنّ المطلق مقدّم على المشروط بالقدرة الشرعيّة ، وإن كان زمان فعله متأخّرا.

٦. أن يكون أحد الواجبين أولى عند الشارع في التقديم من غير تلك الجهات المتقدّمة.

والأولويّة تعرف إمّا من الأدلّة ، وإمّا من مناسبة الحكم للموضوع ، وإمّا من معرفة ملاكات الأحكام بتوسّط الأدلّة السمعيّة. ومن أجل ذلك ، فإنّ الأولويّة تختلف باختلاف ما يستفاد من هذه الأمور ، ولا ضابط عامّ يمكن الرجوع إليه عند الشكّ ، فمن تلك الأولويّة ما إذا كان في الحكم الحفاظ على بيضة الإسلام ؛ فإنّه أولى بالتقديم من كلّ شيء في مقام المزاحمة.

ومنها : ما كان يتعلّق بحقوق الناس ؛ فإنّه أولى من غيره من التكاليف الشرعيّة المحضة ، أي التي لا علاقة لها بحقوق غير المكلّف بها.

ومنها : ما كان من قبيل الدماء والفروج ؛ فإنّه يحافظ عليه أكثر من غيره ؛ لما هو المعروف عند الشارع المقدّس من الأمر بالاحتياط الشديد في أمرها. فلو دار الأمر بين حفظ نفس المؤمن وحفظ ماله فإنّ حفظ نفسه مقدّم على حفظ ماله قطعا.

ومنها : ما كان ركنا في العبادة ، فإنّه مقدّم على ما ليس له هذه الصفة عند المزاحمة ، كما لو وقع التزاحم في الصلاة بين أداء القراءة و [أداء] الركوع ، فإنّ الركوع مقدّم على القراءة ، وإن كان زمان امتثاله متأخّرا عن القراءة.

وعلى مثل هذه فقس ، وأمثالها كثيرة لا تحصى ، كما لو دار الأمر بين الصلح بين المؤمنين بالكذب وبين الصدق وفيه الفتنة بينهم ، فإنّ الصلح مقدّم على الصدق. وهذا معروف من ضرورة الشرع الإسلاميّ.

وممّا ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أنّه لو احتمل أهميّة أحد المتزاحمين فإنّ الاحتياط يقتضي تقديم محتمل الأهمّيّة ، وهذا الحكم العقليّ بالاحتياط يجري في كلّ مورد يدور فيه الأمر بين التعيين والتخيير في الواجبات. وعليه ، فلا يجب إحراز أهمّيّة أحد المتزاحمين ، بل يكفي الاحتمال. وهذا أصل ينفع كثيرا في الفروع الفقهيّة ، فاحتفظ به.

٥٥٢

٥. الحكومة والورود

وهذا البحث من مبتكرات الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله ، وقد فتح به بابا جديدا في الأسلوب الاستدلاليّ ، ولئن نشأ هذا الاصطلاح في عصره من قبل غيره ـ كما يبدو من التعبير بالحكومة والورود في «جواهر الكلام» (١) ـ ؛ فإنّه لم يكن بهذا التحديد والسعة اللذين انتهى إليهما الشيخ قدس‌سره.

وكان رحمه‌الله ـ على ما ينقل عنه ـ يصرّح بأنّ أساطين الفقه المتقدّمين لم يغفلوا عن مغزى ما كان يرمي إليه ، وإن لم يبحثوه بصريح القول ، ولا بهذا المصطلح.

واللّفتة الكريمة منه كانت في ملاحظته لنوع من الأدلّة ؛ إذ وجد أنّ من حقّها أن تقدّم على أدلّة أخرى في حين أنّها ليست بالنسبة إليها من قبيل الخاصّ والعامّ ، بل قد يكون بينهما العموم من وجه ، ولا يوجب هذا التقديم سقوط الأدلّة الأخرى عن الحجّيّة ، ولا تجري بينهما قواعد التعارض ؛ لأنّه لم يكن بينهما تكاذب بحسب لسانهما من ناحية أدائيّة ، ولا منافاة ، يعني أنّ لسان أحدهما لا يكذّب الآخر ، ولا يبطله ، بل أحدهما المعيّن من حقّه ـ بحسب لسانه وأدائه لمعناه ، وعنوانه ـ أن يكون مقدّما على الآخر ، تقديما لا يستلزم بطلان الآخر ، ولا تكذيبه ، ولا صرفه عن ظهوره.

وهذا هو العجيب في الأمر ، والجديد على الباحثين ، وذلك مثل تقديم أدلّة الأمارة على أدلّة الأصول العمليّة بلا إسقاط لحجّيّة الثانية ، ولا صرف لظهورها.

والمعروف أنّ أحد اللامعين من تلامذته (٢) التقى به في درس الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره قبل أن يتعرّف عليه ، وقبل أن يعرف الشيخ قدس‌سره بين الناس ، وسأله سؤال امتهان (٣) ، واختبار عن سرّ تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما في الدرس المذكور ، فقال له : «إنّه حاكم عليه». قال : «وما الحكومة؟». فقال له : «يحتاج إلى أن تحضر درسي ستّة أشهر على الأقلّ لتفهم

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٢٣٥.

(٢) قيل : هو العلاّمة ميرزا حبيب الله الرشتي صاحب «بدائع الأفكار».

(٣) أي : احتقار.

٥٥٣

معنى الحكومة». ومن هنا ابتدأت علاقة التلميذ بأستاذه.

إنّ موضوعا يحتاج إلى درس ستّة أشهر ـ وإن كان فيه نوع من المبالغة ـ كم يحتاج إلى البسط في البيان في التأليف ، بينما أنّ الشيخ قدس‌سره في كتبه لم يوفّه حقّه من البيان ، إلاّ بعض الشيء في التعادل والتراجيح ، وبعض اللقطات (١) المتفرّقة في غضون (٢) كتبه. ولذا بقي الموضوع متأرجحا (٣) في كتب الأصوليّين من بعده ، وإن كان مقصودهم ومقصوده أصبح واضحا عند أهل العلم في العصور المتأخّرة.

ولا يسع هذا المختصر شرح هذا الأمر ، شرحا كافيا ، وإنّما نكتفي بالإشارة إلى خلاصة ما توصّلنا إليه من فهم معنى الحكومة وفهم معنى أخيها «الورود» قدر الإمكان ، فنقول :

أ. الحكومة

إنّ الذي نفهمه من مقصودهم في الحكومة (٤) هو : أن يقدّم أحد الدليلين على الآخر تقديم سيطرة وقهر من ناحية أدائيّة ، ولذا سمّيت بـ «الحكومة». فيكون تقديم الدليل الحاكم على المحكوم ليس من ناحية السند ، ولا من ناحية الحجّيّة ، بل هما (٥) على ما هما عليه من الحجّية بعد التقديم ـ أي إنّهما بحسب لسانهما وأدائهما لا يتكاذبان في مدلولهما ، فلا يتعارضان ـ. وإنّما التقديم ـ كما قلنا ـ من ناحية أدائيّة بحسب لسانهما ، ولكن لا من جهة التخصيص ولا من جهة الورود الآتي معناه.

فأيّ تقديم للدليل على الآخر بهذه القيود فهو يسمّى «حكومة».

وهذا في الحقيقة هو الضابط لها ، فلذلك وجب توضيح الفرق بينها وبين التخصيص من

__________________

(١) أي : المتروكات.

(٢) أي : أثناء.

(٣) تأرجح لغة عاميّة في ترجّح. متأرجحا أي مهتزّا ومضطربا.

(٤) وفي «س» : من الحكومة.

(٥) أي : الدليل الحاكم ، والدليل المحكوم.

٥٥٤

جهة ، ثمّ بينها وبين الورود من جهة أخرى ، ليتّضح معناه بعض الوضوح.

أمّا : الفرق بينها وبين التخصيص ، فنقول : إنّ التخصيص ليكون تخصيصا لا بدّ أن يفرض فيه الدليل الخاصّ منافيا في مدلوله للعامّ. ولأجل هذا يكونان متعارضين متكاذبين بحسب لسانهما بالنسبة إلى موضوع الخاصّ ، غير أنّه لمّا كان الخاصّ أظهر من العامّ فيجب أن يقدّم عليه ؛ لبناء العقلاء على العمل بالخاصّ ، فيستكشف منه أنّ المتكلّم الحكيم لم يرد العموم من العامّ وإن كان ظاهر اللفظ العموم والشمول ؛ لحكم العقل بقبح ذلك من الحكيم ، مع فرض العمل بالخاصّ عند أهل المحاورة من العقلاء.

وعليه ، فالتخصيص عبارة عن الحكم بسلب حكم العامّ عن الخاصّ وإخراج الخاصّ عن عموم العامّ ، مع فرض بقاء عموم لفظ العامّ شاملا للخاصّ بحسب لسانه وظهوره الذاتيّ.

أمّا : الحكومة ـ في بعض مواردها ـ فهي كالتخصيص في النتيجة ، من جهة خروج مدلول أحد الدليلين عن عموم مدلول الآخر ، ولكنّ الفرق في كيفيّة الإخراج ، فإنّه في التخصيص إخراج حقيقيّ ، مع بقاء الظهور الذاتيّ للعموم في شموله ، وفي الحكومة إخراج تنزيليّ على وجه لا يبقى ظهور ذاتيّ للعموم في الشمول ، بمعنى أنّ الدليل الحاكم يكون لسانه تحديد موضوع الدليل المحكوم ، أو محموله ؛ تنزيلا وادّعاء ، فلذلك يكون الحاكم متصرّفا في عقد الوضع أو عقد الحمل في الدليل المحكوم.

ونستعين على بيان الفرق بالمثال ، فنقول : لو قال الآمر ـ عقيب أمره بإكرام العلماء ـ : «لا تكرم الفاسق» ، فإنّ القول الثاني يكون مخصّصا للأوّل ؛ لأنّه ليس مفاده إلاّ عدم وجوب إكرام الفاسق ، مع بقاء صفة العالم له. أمّا : لو قال ـ عقيب أمره ـ : «الفاسق ليس بعالم» فإنّه يكون حاكما على الأوّل ؛ لأنّ مفاده إخراج الفاسق عن صفة العالم تنزيلا ، بتنزيل الفاسق منزلة الجهل ، أو علم الفاسق بمنزلة عدم العلم. وهذا تصرّف في عقد الوضع ، فلا يبقى عموم لفظ «العلماء» شاملا للفاسق بحسب هذا الادّعاء والتنزيل. وبالطبع لا يعطى له حينئذ حكم العلماء من وجوب الإكرام ، ونحوه.

ومثاله في الشرعيّات قوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» ، ونحوه ، مثل نفي شكّ المأموم

٥٥٥

مع حفظ الإمام ، وبالعكس ؛ فإنّ هذا ونحوه يكون حاكما على أدلّة حكم الشكّ ؛ لأنّ لسانه إخراج شكّ كثير الشكّ وشكّ المأموم أو الإمام عن حضيرة صفة الشكّ تنزيلا ، فمن حقّه حينئذ ألاّ يعطى له أحكام الشكّ من نحو إبطال الصلاة ، أو البناء على الأكثر ، أو الأقلّ ، أو غير ذلك.

وإنّما قلنا : «الحكومة في بعض مواردها كالتخصيص» ؛ فلأنّ بعض موارد الحكومة الأخرى عكس التخصيص ؛ لأنّ الحكومة على قسمين : قسم يكون التصرّف فيها بتضييق الموضوع ، كالأمثلة المتقدّمة ، وقسم بتوسعته ، مثل ما لو قال ـ عقيب الأمر بإكرام العلماء ـ : «المتّقي عالم» ؛ فإنّ هذا يكون حاكما على الأوّل ، وليس فيه إخراج ، بل هو تصرّف في الموضوع بتوسعة معنى العالم ادّعاء إلى ما يشمل المتّقي ؛ تنزيلا للتقوى منزلة العلم ، فيعطى للمتّقي حكم العلماء من وجوب الإكرام ، ونحوه.

ومثاله في الشرعيّات «الطواف صلاة» ؛ فإنّ هذا التنزيل يعطي للطواف الأحكام المناسبة التي تخصّ الصلاة من نحو أحكام الشكوك ، ومثله «لحمة الرضاع كلحمة النسب» الموسّع لموضوع أحكام النسب.

ب. الورود

وأمّا : الفرق بين الحكومة وبين الورود ، فنقول :

كما قلنا : إنّ الحكومة كالتخصيص في النتيجة ، كذلك الورود كالتخصّص في النتيجة ؛ لأنّ كلاّ من الورود والتخصّص خروج الشيء بالدليل عن موضوع دليل آخر ، خروجا حقيقيّا. ولكنّ الفرق أنّ الخروج في التخصّص خروج بالتكوين بلا عناية التعبّد من الشارع ، كخروج الجاهل عن موضوع دليل «أكرم العلماء» ، فيقال : «إنّ الجاهل خارج عن عموم العلماء تخصّصا» ؛ وأمّا : في الورود فإنّ الخروج من الموضوع بنفس التعبّد من الشارع بلا خروج تكوينيّ ، فيكون الدليل الدالّ على التعبّد واردا على الدليل المثبت لحكم موضوعه.

مثاله دليل الأمارة الوارد على أدلّة الأصول العقليّة ، كالبراءة ، وقاعدة الاحتياط ، وقاعدة التخيير ؛ فإنّ البراءة العقليّة لمّا كان موضوعها عدم البيان الذي يحكم فيه العقل بقبح العقاب

٥٥٦

معه فالدليل الدالّ على حجّيّة الأمارة يعتبر الأمارة بيانا تعبّدا ، وبهذا التعبّد يرتفع موضوع البراءة العقليّة ، وهو عدم البيان. وهكذا الحال في قاعدتي الاحتياط والتخيير ، فإنّ موضوع الأولى عدم المؤمّن من العقاب ، والأمارة بمقتضى دليل حجّيّتها مؤمّنة منه ، وموضوع الثانيّة الحيرة في الدوران بين المحذورين ، والأمارة بمقتضى دليل حجّيّتها مرجّحة لأحد الطرفين ، فترتفع الحيرة.

وبهذا البيان لمعنى الورود يتّضح الفرق بينه وبين الحكومة ، فإنّ ورود أحد الدليلين باعتبار كون أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقيقة ، لكن بعناية التعبّد ، (١) فيكون الأوّل واردا على الثاني ، أمّا : الحكومة فإنّها لا توجب خروج مدلول الحاكم عن موضوع مدلول المحكوم وجدانا ، وعلى وجه الحقيقة ، بل الخروج فيها إنّما يكون حكميّا ، وتنزيليّا ، وبعناية ثبوت المتعبّد به اعتبارا. (٢)

٦. القاعدة في المتعارضين (التساقط أو التخيير)

أشرنا فيما تقدّم (٣) إلى أنّ القاعدة في التعادل بين المتزاحمين هو التخيير بحكم العقل ، وذلك محلّ وفاق. أمّا : في تعادل المتعارضين فقد وقع الخلاف في أنّ القاعدة هي التساقط أو التخيير؟

__________________

(١) أي : يكون خروج المورود عن تحت موضوع دليل آخر ناشئا عن تصرّف من ناحية الحاكم ، بحيث لو لا هذا التصرّف لكان دليل المورود شاملا له ، كخروج الشبهة عند قيام الأمارة ، أو الأصل الشرعي عليها عن موضوع حكم العقل بالبراءة ، والاحتياط ، والتخيير ؛ فإنّ خروجها عنه إنّما يكون ببركة التعبّد بالأمارات ، والأصول ـ وهذا تصرّف من ناحية الحاكم ـ ، ولو لا التعبّد بها كانت الشبهة داخلة في موضوع الأصول العمليّة.

(٢) أي : دليل الحاكم يتصرّف فيما يتكفّله دليل المحكوم من الحكم الشرعى بعناية التصرّف في الموضوع ، فينفي وجود الموضوع ، أو يثبته ، بأن يتصرّف ، إمّا في موضوع دليل المحكوم بإدخال ما يكون خارجا عنه ، أو بإخراج ما يكون داخلا فيه ، كقوله : «زيد عالم» أو «زيد ليس بعالم» عقيب قوله : «أكرم العالم» ، وإمّا في محمول دليل المحكوم بتضييق دائرة الحكم ، وتخصيصه ببعض حالاته ، كقوله (تعالى) : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار».

(٣) راجع الصفحة : ١٩٥ من هذا الجزء.

٥٥٧

والحقّ أنّ القاعدة الأوّليّة هي التساقط ، وعليه أساتذتنا المحقّقون ، (١) وإن دلّ الدليل من الأخبار على التخيير ـ كما سيأتي ـ (٢). ونحن نتكلّم في القاعدة بناء على المختار من أنّ الأمارات مجعولة على نحو الطريقيّة. ولا حاجة للبحث عنها بناء على السببيّة. فنقول :

إنّ الدليل الذي يوهم لزوم التخيير هو أنّ التعارض لا يقع بين الدليلين ، إلاّ إذا كان كلّ منهما واجدا لشرائط الحجّيّة ، ـ كما تقدّم في شروط التعارض ـ ، (٣) والتعارض أكثر ما يوجب سقوط أحدهما (٤) غير المعيّن عن الحجّيّة الفعليّة ؛ لمكان التكاذب بينهما ، فيبقى الثاني غير المعيّن على ما هو عليه من الحجّيّة الفعليّة واقعا ، ولمّا لم يمكن تعيينه ـ والمفروض أنّ الحجّة الفعليّة منجّزة للتكليف يجب العمل بها ـ فلا بدّ من التخيير بينهما.

والجواب : أنّ التخيير المقصود إمّا أن يراد به التخيير من جهة الحجّيّة ، أو من جهة الواقع : فإن كان الأوّل فلا معنى لوجوب التخيير بين المتعارضين ؛ لأنّ دليل الحجّيّة الشامل لكلّ منهما في حدّ نفسه إنّما مفاده حجّيّة أفراده على نحو التعيين ، لا حجّيّة هذا أو ذاك من أفراده لا على التعيين ، حتى يصحّ أن يفرض أنّ أحدهما غير المعيّن حجّة يجب الأخذ به فعلا ، فيجب التخيير في تطبيق دليل الحجّيّة على ما يشاء منهما.

وبعبارة أخرى : إنّ دليل الحجّيّة الشامل لكلّ منهما في حدّ نفسه إنّما يدلّ على وجود المقتضي للحجّيّة في كلّ منهما لو لا المانع ، لا فعليّة الحجّيّة. ولمّا كان التعارض يقتضي تكاذبهما ، فلا محالة يسقط أحدهما غير المعيّن عن الفعليّة ، أي يكون كلّ منهما مانعا عن فعليّة حجّيّة الآخر. وإذا كان الأمر كذلك فكلّ منهما لم تتم فيه مقوّمات الحجّيّة الفعليّة ليكون منجّزا للواقع يجب العمل به ، فلا يكون أحدهما غير المعيّن يجب الأخذ به فعلا ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٧٦٠ و ٧٦٢ ؛ كفاية الأصول : ٤٩٩ ؛ فوائد الأصول ٤ : ٧٢٦ و ٧٥٥ ؛ نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٧٤.

(٢) سيأتي في الصفحات : ٥٦٣ ـ ٥٧٦.

(٣) راجع الصفحة : ٥٤٥.

(٤) أي : التعارض أكثر ما يوجبه هو سقوط أحدهما .... فقوله : «أكثر ما يوجب» مبتدأ ، وخبره «سقوط». والجملة خبر «التعارض».

٥٥٨

حتى يجب التخيير ، بل حينئذ يتساقطان ، أي إنّ كلاّ منهما يكون ساقطا عن الحجّيّة الفعليّة وخارجا عن دليل الحجّيّة.

وإن كان الثاني ، فنقول :

أوّلا : لا يصحّ أن يفرض التخيير من جهة الواقع إلاّ إذا علم بإصابة أحدهما للواقع ، ولكن ليس ذلك أمرا لازما في الحجّتين المتعارضتين ؛ إذ يجوز فيهما أن تكونا معا كاذبتين. وإنّما اللازم فيهما من جهة التعارض هو العلم بكذب إحداهما ، لا العلم بمطابقة إحداهما للواقع. وعلى هذا ، فليس الواقع محرزا في إحداهما ، حتى يجب التخيير بينهما من أجله.

وثانيا : على تقدير حصول العلم بإصابة أحدهما (١) غير المعيّن للواقع ، فإنّه أيضا لا وجه للتخيير بينهما ؛ إذ لا وجه للتخيير بين الواقع وغيره ، وهذا واضح.

وغاية ما يقال ، أنّه إذا حصل العلم بمطابقة أحدهما للواقع فإنّ الحكم الواقعيّ يتنجّز بالعلم الإجماليّ ، وحينئذ يجب إجراء قواعد العلم الإجماليّ فيه. ولكن لا يرتبط حينئذ بمسألتنا ـ وهي مسألة أنّ القاعدة في المتعارضين هو التساقط أو التخيير؟ ـ ؛ لأنّ قواعد العلم الإجماليّ تجري حينئذ حتى مع العلم بعدم حجّيّة الدليلين معا. وقد يقتضي العلم الإجماليّ في بعض الموارد التخيير ، وقد يقتضي الاحتياط في البعض الآخر على اختلاف الموارد.

إذا عرفت ذلك ، فيتحصّل أنّ القاعدة الأوّليّة بين المتعارضين هو التساقط ، مع عدم حصول مزيّة في أحدهما تقتضي الترجيح.

أمّا : لو كان الدليلان المتعارضان يقتضيان معا نفي حكم ثالث فهل مقتضى تساقطهما عدم حجّيّتهما في نفى الثالث؟

الحقّ أنّه لا يقتضي ذلك (٢) ؛ لأنّ المعارضة بينهما أقصى ما تقضي سقوط (٣) حجّيّتهما في

__________________

(١) أي أحد الدليلين المتعارضين.

(٢) كما في فوائد الأصول ٤ : ٧٥٥.

(٣) خبر «أقصى» ، والجملة خبر «أنّ».

٥٥٩

دلالتهما فيما هما متعارضان فيه ، فيبقيان في دلالتهما الأخرى على ما هما عليه من الحجّيّة ؛ إذ لا مانع من شمول أدلّة الحجّيّة لهما معا في ذلك. (١) وقد سبق أن قلنا : إنّ الدلالة الالتزاميّة تابعة للدلالة المطابقيّة في أصل الوجود ، لا في الحجّيّة ، (٢) فلا مانع من أن يكون الدليل حجّة في دلالته الالتزاميّة ، مع وجود المانع عن حجّيّته في الدلالة المطابقيّة. هذا فيما إذا كانت إحدى الدلالتين تابعة للأخرى في الوجود فكيف الحال في الدلالتين اللتين لا تبعيّة بينهما في الوجود ، فإنّ الحكم فيه بعدم سقوط حجّيّة إحداهما بسقوط الأخرى أولى.

٧. الجمع بين المتعارضين أولى من الطرح

اشتهر بينهم أنّ الجمع بين المتعارضين مهما أمكن أولى من الطرح ، (٣) وقد نقل (٤) عن «عوالي اللآلئ» (٥) دعوى الإجماع على هذه القاعدة.

وظاهر أنّ المراد من الجمع الذي هو أولى من الطرح هو الجمع في الدلالة ؛ فإنّه إذا كان الجمع بينهما في الدلالة ممكنا تلاءما ، فيرتفع التعارض بينهما ، فلا يتكاذبان.

وتشمل القاعدة بحسب ذلك صورة تعادل المتعارضين في السند ، وصورة ما إذا كانت لأحدهما مزيّة تقتضي ترجيحه في السند ؛ لأنّه في الصورة الثانية بتقديم ذي المزيّة يلزم

__________________

(١) فالمتعارضان يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة ، ويكونان معا حجتين في نفى الثالث. وهذا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٤ : ٧٥٥ ، والمحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٧٥ ـ ١٧٦. واختاره المصنّف في المقام. بخلاف المحقّق الخراسانيّ ، فإنّه ذهب إلى استناد نفي الثالث إلى أحدهما بلا تعيين ، لا إليهما معا. كفاية الأصول : ٤٩٩.

(٢) هذا جواب عن توهّم أنّ الدلالة الالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة ، وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما في نفي الثالث.

أجاب عنه ـ بما ذكر في المتن ـ المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٤ : ٧٥٦. وأورد عليه المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٤ «القسم الثاني» : ١٧٦.

(٣) الفصول الغرويّة : ٤٤٠ ؛ مناهج الأحكام : ٣١٢ ؛ تمهيد القواعد : ٢٨٣.

(٤) والناقل هو الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ٢ : ٧٥٣.

(٥) عوالي اللئالئ ٤ : ١٣٦.

٥٦٠