اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

له ، حتى صار فنّا قائما بنفسه.

ونحن يهمّنا منه البحث عن موضع الخلاف فيه ، وحجّيته ، فنقول :

١. تعريف القياس

إنّ خير التعريفات للقياس ـ في رأينا ـ أن يقال : «هو إثبات حكم في محلّ بعلّة لثبوته في محلّ آخر بتلك العلّة». والمحلّ الأوّل ـ وهو المقيس ـ يسمّى «فرعا». والمحلّ الثاني ـ وهو المقيس عليه ـ يسمّى «أصلا». والعلّة المشتركة تسمّى «جامعا».

وفي الحقيقة أنّ القياس عمليّة من المستدلّ ـ أي القائس ـ ؛ لغرض استنتاج حكم شرعيّ لمحلّ لم يرد فيه نصّ بحكمه الشرعيّ ؛ إذ توجب هذه العمليّة عنده الاعتقاد يقينا أو ظنّا بحكم الشارع.

والعمليّة القياسيّة هي نفس حمل الفرع على الأصل في الحكم الثابت للأصل شرعا ، فيعطي القائس حكما للفرع ، مثل حكم الأصل ، فإن كان الوجوب أعطى له الوجوب ، وإن كان الحرمة فالحرمة ... وهكذا.

ومعنى هذا الإعطاء أن يحكم بأنّ الفرع ينبغي أن يكون محكوما عند الشارع بمثل حكم الأصل ؛ للعلّة المشتركة بينهما. وهذا الإعطاء ، أو الحكم هو الذي يوجب عنده الاعتقاد بأنّ للفرع مثل ما للأصل من الحكم عند الشارع ، ويكون هذا الإعطاء ، أو الحكم ، أو الإثبات ، أو الحمل ـ ما شئت فعبّر ـ دليلا عنده على حكم الله في الفرع.

وعليه ، فـ «الدليل» : هو الإثبات الذي هو نفس عمليّة الحمل ، وإعطاء الحكم للفرع من قبل القائس. و «نتيجة الدليل» هو الحكم بأنّ الشارع قد حكم فعلا على هذا الفرع بمثل حكم الأصل.

فتكون هذه العمليّة من القائس دليلا على حكم الشارع ؛ لأنّها توجب اعتقاده اليقينيّ أو الظنيّ بأنّ الشارع له هذا الحكم.

وبهذا التقرير يندفع الاعتراض على مثل هذا التعريف ، بأنّ الدليل ـ وهو الإثبات ـ نفسه نتيجة الدليل ، بينما أنّه يجب أن يكون الدليل مغايرا للمستدلّ عليه.

٥٢١

وجه الدفع أنّه اتّضح بذلك البيان أنّ الإثبات في الحقيقة ـ وهو عمليّة الحمل ـ عمل القائس وحكمه ـ لا حكم الشارع ـ ، وهو الدليل. وأمّا : المستدلّ عليه فهو حكم الشارع على الفرع ، وإنّما حصل للقائس هذا الاستدلال ، لحصول الاعتقاد له بحكم الشارع من تلك العمليّة القياسيّة التي أجراها.

ومن هنا يظهر أنّ هذا التعريف أفضل التعريفات ، وأبعدها عن المناقشات.

وأمّا : تعريفه بالمساواة بين الفرع والأصل في العلّة (١) ، أو نحو ذلك ، (٢) فإنّه تعريف بمورد القياس ، وليست المساواة قياسا.

وعلى كلّ حال ، فلا يستحقّ الموضوع الإطالة ، بعد أن كان المقصود من القياس واضحا.

٢. أركان القياس

بما تقدّم من البيان يتّضح أنّ للقياس أربعة أركان :

١. «الأصل» وهو المقيس عليه المعلوم ثبوت الحكم له شرعا.

٢. «الفرع» وهو المقيس المطلوب إثبات الحكم له شرعا.

٣. «العلّة» وهي الجهة المشتركة بين الأصل والفرع التي اقتضت ثبوت الحكم. وتسمّى : «جامعا».

٤. «الحكم» وهو نوع الحكم الذي ثبت للأصل ، ويراد إثباته للفرع.

وقد وقعت أبحاث عن كلّ من هذه الأركان ممّا لا يهمّنا التعرّض لها (٣) ، إلاّ فيما يتعلّق بأصل حجّيّته وما يرتبط بذلك. وبهذا الكفاية.

__________________

(١) هذا التعريف نسبه الخضري بك إلى ابن الحاجب ، وابن الهمام. راجع كتابه : أصول الفقه : ٢٨٩.

(٢) إنّ لهم في تعريف القياس عبارات شتّى ، وإن شئت فراجع المنخول : ٣٢٣ ـ ٣٢٤ ؛ المستصفى ٢ : ٥٤ ؛ الإحكام (لابن حزم) ٧ : ٣٦٧ ؛ روضة الناظر : ٢٤٧ ؛ أصول الفقه (للخضري بك) : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٣) وإن شئت فراجع اللمع في أصول الفقه : ١٠٢ ـ ١٠٤ ؛ المستصفى ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٤٧ ؛ إرشاد الفحول : ٢٠٤ ـ ٢٠٩ ، أصول الفقه (للخضري بك) : ٢٩٣ ـ ٣٢٨.

٥٢٢

٣. حجّيّة القياس

إنّ حجّيّة كلّ أمارة تناط بالعلم ـ وقد سبق بيان ذلك في هذا الجزء أكثر من مرّة (١) ـ ، فالقياس ـ كباقي الأمارات ـ لا يكون حجّة إلاّ في صورتين ، لا ثالثة لهما :

١. أن يكون بنفسه موجبا للعلم بالحكم الشرعيّ. (٢)

٢. أن يقوم دليل قاطع على حجّيّته ، إذا لم يكن بنفسه موجبا للعلم. (٣)

وحينئذ لا بدّ من بحث موضوع حجّيّة القياس عن الناحيتين ، فنقول :

أ. هل القياس يوجب العلم؟

إنّ القياس نوع من «التمثيل» المصطلح عليه في المنطق. (٤) وقلنا هناك : «إنّ التمثيل من الأدلّة التي لا تفيد إلاّ الاحتمال ؛ لأنّه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر ، بل في عدّة أمور أن يتشابها من جميع الوجوه والخصوصيّات». (٥)

نعم ، إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع ، وتعدّدت ، يقوى في النفس الاحتمال ، حتى يكون ظنّا ، ويقرب من اليقين. والقيافة (٦) من هذا الباب. ولكن كلّ ذلك لا يغني من الحقّ شيئا.

غير أنّه إذا علمنا ـ بطريق من الطرق ـ أنّ جهة المشابهة علّة تامّة لثبوت الحكم في الأصل عند الشارع ، ثمّ علمنا أيضا بأنّ هذه العلّة التامّة موجودة بخصوصيّاتها في الفرع ؛ فإنّه لا محالة يحصل لنا ـ على نحو اليقين ـ استنباط أنّ مثل هذا الحكم ثابت في الفرع ، كثبوته في الأصل ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة. ويكون من القياس المنطقي

__________________

(١) راجع الصفحات : ٣٧٦ ـ ٣٧٩ و ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

(٢) كالقطع.

(٣) كخبر الواحد ، والظواهر ، وغيرهما من الظنون الخاصّة.

(٤) وهو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر ؛ لجهة مشتركة بينهما.

(٥) المنطق (للمؤلّف) ٢ : ٢٦٧.

(٦) القيافة مصدر ، والقائف : من يتتبّع الآثار ، ويعرفها ، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه. لسان العرب ٩ : ٢٩٣.

٥٢٣

البرهاني الذي يفيد اليقين.

ولكنّ الشأن كلّ الشأن في حصول الطريق لنا إلى العلم بأنّ الجامع علّة تامّة للحكم الشرعيّ. وقد سبق (١) أنّ ملاكات الأحكام لا مسرح للعقول (٢) ، أو لا مجال للنظر العقليّ فيها ، فلا تعلم إلاّ من طريق السماع من مبلّغ الأحكام الذي نصبه الله (تعالى) مبلّغا ، وهاديا.

والغرض من «كون الملاكات لا مسرح للعقول فيها» أنّ أصل تعليل الحكم بالملاك لا يعرف إلاّ من طريق السماع ؛ لأنّه أمر توقيفيّ.

أمّا : نفس وجود الملاك في ذاته فقد يعرف من طريق الحسّ ، ونحوه ، لكن لا بما هو علّة وملاك ، كالإسكار ؛ فإنّ كونه علّة للتحريم في الخمر لا يمكن معرفته من غير طريق التبليغ بالأدلّة السمعيّة.

أمّا : وجود الإسكار في الخمر ، وغيره من المسكرات ، فأمر يعرف بالوجدان ، ولكن لا ربط لذلك بمعرفة كونه هو الملاك في التحريم ؛ فإنّه ليس هذا من الوجدانيّات.

وعلى كلّ حال ، فإنّ السرّ في أنّ الأحكام وملاكاتها لا مسرح للعقول في معرفتها واضح ؛ لأنّها أمور توقيفيّة من وضع الشارع ، كاللغات ، والعلامات ، والإشارات التي لا تعرف إلاّ من قبل واضعيها ، ولا تدرك بالنظر العقليّ إلاّ من طريق الملازمات العقليّة القطعيّة التي تكلّمنا عنها فيما تقدّم في بحث الملازمات العقليّة في المقصد الثاني ، (٣) وفي دليل العقل من هذا الجزء ، (٤) والقياس لا يشكّل ملازمة عقليّة بين حكم المقيس عليه ، وحكم المقيس.

نعم ، إذا ورد نصّ من قبل الشارع في بيان علّة الحكم في المقيس عليه ، فإنّه يصحّ الاكتفاء به في تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين : الأوّل : أن نعلم بأنّ العلّة المنصوصة

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٧٨ ـ ٤٨٠ و ٤٨٣.

(٢) المسرح : المرعى الذي تسرح فيه الدوابّ للرعي. لسان العرب ٢ : ٤٧٩ ، والمراد منه هنا أنّه لا مجال للعقول في كشف ملاكات الأحكام ، ولا تنالها ابتداء من دون السماع من مبلّغ الأحكام.

(٣) المقصد الثاني : ٢٤٧.

(٤) راجع الصفحة : ٤٧٨ ـ ٤٨٠.

٥٢٤

تامّة يدور معها الحكم أينما دارت. والثاني : أن نعلم بوجودها في المقيس.

والخلاصة أنّ القياس في نفسه لا يفيد العلم بالحكم ؛ لأنّه لا يتكفّل ثبوت الملازمة بين حكم المقيس عليه وحكم المقيس. ويستثنى منه منصوص العلّة بالشرطين اللذين تقدّما. وفي الحقيقة أنّ منصوص العلّة ليس من نوع القياس ، كما سيأتي بيانه (١). وكذلك قياس الأولويّة.

ولأجل أن يتّضح الموضوع أكثر ، نقول : إنّ الاحتمالات الموجودة في كلّ قياس خمسة (٢) ، ومع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بين حكم الأصل وحكم الفرع ، ولا يمكن رفع هذه الاحتمالات إلاّ بورود النصّ من الشارع ، والاحتمالات هي [كما تأتي] :

١. احتمال أن يكون الحكم في الأصل معلّلا عند الله (تعالى) بعلّة أخرى غير ما ظنّه القائس ، بل يحتمل (٣) على مذهب هؤلاء ألاّ يكون الحكم معلّلا عند الله (تعالى) بشيء أصلا ؛ لأنّهم لا يرون الأحكام الشرعيّة معلّلة بالمصالح والمفاسد وهذا من مفارقات آرائهم ، فإنّهم إذا كانوا لا يرون تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، فكيف يؤكّدون تعليل الحكم الشرعيّ في المقيس عليه بالعلّة التي يظنّونها؟! بل كيف يحصل لهم الظنّ بالتعليل؟!

٢. احتمال أنّ هناك وصفا آخر ينضمّ إلى ما ظنّه القائس علّة ، بأن يكون المجموع منهما هو العلّة للحكم ، لو فرض أنّ القائس أصاب في أصل التعليل.

٣. احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئا أجنبيّا إلى العلّة الحقيقيّة لم يكن له دخل في الحكم في المقيس عليه.

٤. احتمال أن يكون ما ظنّه القائس علّة ـ إن كان مصيبا في ظنّه ـ ليس هو الوصف المجرّد ، بل بما هو مضاف إلى موضوعه ـ أعني «الأصل» ـ لخصوصيّة فيه.

مثال ذلك ، لو علم بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعا في فساد البيع ، وأراد أن يقيس على البيع عقد النكاح إذا كان المهر فيه مجهولا ؛ فإنّه يحتمل أن يكون الجهل بالعوض ، الموجب لفساد البيع هو الجهل بخصوص العوض في البيع ، لا مطلق الجهل بالعوض من

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٥٣٦.

(٢) بل هي ستّة ، كما في المستصفى ٢ : ٢٧٩.

(٣) وهذا احتمال آخر ذكره الغزالي مستقلاّ في المستصفى ٢ : ٢٧٩.

٥٢٥

حيث هو جهل بالعوض ، ليسري الحكم إلى كلّ معاوضة ، حتى في مثل الصلح المعاوضي ، والنكاح باعتبار أنّه يتضمّن معنى المعاوضة عن البضع.

٥. احتمال أن تكون العلّة الحقيقيّة لحكم المقيس عليه غير موجودة ، أو غير متوفّرة بخصوصيّاتها في المقيس.

وكلّ هذه الاحتمالات لا بدّ من دفعها ، ليحصل لنا العلم بالنتيجة ، ولا يدفعها إلاّ الأدلّة السمعيّة الواردة عن الشارع.

وقيل : «من الممكن تحصيل العلم بالعلّة بطريق برهان السبر والتقسيم». (١) وبرهان السبر والتقسيم عبارة عن عدّ جميع الاحتمالات الممكنة ، ثمّ يقام الدليل على نفي واحد واحد ، حتى ينحصر الأمر في واحد منها ، فيتعيّن ، فيقال مثلا : حرمة الربا في البرّ : إمّا أن تكون معلّلة بالطعم ، أو بالقوت ، أو بالكيل. والكلّ باطل ما عدا الكيل. فيتعيّن التعليل به.

أقول : من شرط برهان السبر والتقسيم ليكون برهانا حقيقيّا ، أن تحصر المحتملات حصرا عقليّا من طريق القسمة الثنائيّة التي تتردّد بين النفي والإثبات. (٢)

وما يذكر ـ من الاحتمالات في تعليل الحكم الشرعيّ ـ لا تعدو أن تكون احتمالات استطاع القائس أن يحتملها ولم يحتمل غيرها ، لا أنّها مبنيّة على الحصر العقليّ المردّد بين النفي والإثبات.

وإذا كان الأمر كذلك فكلّ ما يفرضه من الاحتمالات يجوز أن يكون وراءها احتمالات لم يتصوّرها أصلا. ومن الاحتمالات أن تكون العلّة اجتماع محتملين ، أو أكثر ممّا احتمله القائس. ومن الاحتمالات أن يكون ملاك الحكم شيئا آخر ، خارجا عن أوصاف المقيس عليه لا يمكن أن يهتدى إليه القائس ، مثل التعليل في قوله (تعالى) : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (٣) ؛ فإنّ الظاهر من الآية أنّ العلّة في

__________________

(١) هذا أحد المسالك التي ذكرها القائلون بحجّيّة القياس لإثبات العلّة. فراجع إرشاد الفحول : ٢١٣ ، وأصول الفقه (للخضري بك) : ٣٢٦ ، ونهاية السئول ٤ : ١٢٨ ، والمستصفى ٢ : ٢٩٥.

(٢) راجع المنطق (للمؤلّف) ١ : ١١١.

(٣) النساء (٤) الآية : ١٦٠.

٥٢٦

تحريم الطيّبات عصيانهم ، لا أوصاف تلك الأشياء.

بل من الاحتمالات عند هذا القائس ـ الذي لا يرى تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ أنّ الحكم لا ملاك ولا علّة له ، فكيف يمكن أن يدّعي حصر العلل فيما احتمله ، وقد لا تكون له علّة؟!

وعلى كلّ حال ، فلا يمكن أن يستنتج من مثل السبر والتقسيم هنا أكثر من الاحتمال. وإذا تنزّلنا فأكثر ما يحصل منه الظنّ. فرجع الأمر بالأخير إلى الظنّ ، و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). (١)

وفي الحقيقة أنّ القائلين بالقياس لا يدّعون إفادته العلم ، بل أقصى ما يتوقّعونه إفادته للظنّ ، غير أنّهم يرون أنّ مثل هذا الظنّ حجّة. وفي البحث الآتي نبحث عن أدلّة حجّيته.

ب. الدليل على حجّيّة القياس الظنّيّ

بعد أن ثبت أنّ القياس في حدّ ذاته لا يفيد العلم ، بقي علينا أن نبحث عن الأدلّة على حجّيّة الظنّ الحاصل منه ؛ ليكون من الظنون الخاصّة المستثناة من عموم الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، كما صنعنا في خبر الواحد ، والظواهر ، فنقول :

أمّا نحن ـ الإماميّة ـ ففي غنى عن هذا البحث ؛ لأنّه ثبت لدينا على سبيل القطع من طريق آل البيت عليهم‌السلام عدم اعتبار هذا الظنّ الحاصل من القياس ، فقد تواتر عنهم النهي عن الأخذ بالقياس ، وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، فلا الأحكام في أنفسها تصيبها العقول ، ولا ملاكاتها وعللها.

على أنّه يكفينا في إبطال القياس أن نبطل ما تمسّكوا به لإثبات حجّيّته من الأدلّة ، لنرجع إلى عمومات النهي عن اتّباع الظنّ وما وراء العلم.

أمّا : غيرنا ـ من أهل السنّة الذين ذهبوا إلى حجّيّته ـ فقد تمسّكوا بالأدلّة الأربعة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل. ولا بأس أن نشير إلى نماذج من استدلالاتهم ؛ لنرى أنّ ما تمسّكوا به لا يصلح لإثبات مقصودهم ، فنقول :

__________________

(١) النجم (٥٣) الآية : ٢٨ ؛ يونس (١٠) الآية : ٣٦.

٥٢٧

الدليل من الآيات القرآنيّة

منها : قوله (تعالى) : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (١) ، بناء على تفسير الاعتبار بالعبور والمجاوزة ، والقياس عبور ومجاوزة من الأصل إلى الفرع. (٢)

وفيه (٣) : أنّ الاعتبار هو الاتّعاظ لغة ، وهو الأنسب بمعنى الآية الواردة في الذين كفروا من أهل الكتاب ، إذ قذف الله (تعالى) في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. وأين هي من القياس الذي نحن فيه؟

وقال ابن حزم في كتابه «إبطال القياس» : «ومن المحال أن يقول لنا : فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ويريد القياس ، ثمّ لا يبيّن لنا في القرآن ولا في الحديث : أيّ شيء نقيس؟ ولا متى نقيس؟ ولا على أيّ شيء نقيس؟ ولو وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما أمرنا بقياسه حيث أمرنا ، وحرم علينا أن نقيس ما لا نصّ فيه جملة ، ولا نتعدّى حدوده». (٤)

ومنها : قوله (تعالى) : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٥) ، باعتبار أنّ الآية تدلّ على مساواة النظير للنظير ، بل هي استدلال بالقياس لإفحام من ينكر إحياء العظام وهي رميم. ولو لا أنّ القياس حجّة لما صحّ الاستدلال فيها (٦).

__________________

(١) الحشر (٥٩) الآية : ٢.

(٢) استدلّ بها في نهاية السئول ٤ : ١١ ، وإرشاد الفحول : ٢٠٠.

(٣) كما في العدّة ٢ : ٦٧٣ ـ ٦٧٤. واعترف به ابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل : ١٩٠.

وقال ابن حزم : «ومعنى الاعتبار في اللغة والقرآن : التعجّب. قال الله (تعالى) : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) * أي : عجب. (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ** أي : لعجبا ؛ لا قياسا». ملخّص إبطال القياس : ٢٨.

(٤) ملخّص إبطال القياس : ٣٠.

(٥) يس (٣٦) الآية : ٧٨ ـ ٧٩.

(٦) هذا الدليل تعرّض له وللإجابة عليه الشوكاني في إرشاد الفحول : ٢٠٢ ، وابن حزم في إبطال القياس : ٢٣ و ٢٨.

__________________

* يوسف (١٢) الآية : ١١١.

** النحل (١٦) الآية : ٦٦.

٥٢٨

وفيه : أنّ الآية لا تدلّ على هذه المساواة بين النظيرين ، كنظيرين في أيّة جهة كانت ، كما أنّها ليست استدلالا بالقياس ، وإنّما جاءت لرفع استغراب المنكرين للبعث ؛ إذ يتخيّلون العجز عن إحياء الرميم ، فأرادت الآية أن تثبت الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام ، وإيجادها لأوّل مرّة ، بلا سابق وجود ، وبين القدرة على إحيائها من جديد ، بل القدرة على الثاني أولى ، وإذا ثبتت الملازمة والمفروض أنّ الملزوم ـ وهو القدرة على إنشائها أوّل مرّة ـ موجود مسلّم ، فلا بدّ أن يثبت اللازم ـ وهو القدرة على إحيائها ، وهي رميم ـ. وأين هذا من القياس؟

ولو صحّ أن يراد من الآية القياس فهو نوع من قياس الأولويّة المقطوعة ، وأين هذا من قياس المساواة المطلوب إثبات حجّيّته ، وهو الذي يبتني على ظنّ المساواة في العلّة؟

وقد استدلّوا بآيات أخر ، مثل قوله (تعالى) : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) (١) ، (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٢). والتشبّث بمثل هذه الآيات لا يعدو أن يكون من باب تشبّث الغريق بالطحلب (٣) ، كما يقولون.

الدليل من السنّة

رووا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث لتصحيح القياس ، لا تنهض حجّة لهم. ولا بأس أن نذكر بعضها كنموذج عنها ، فنقول :

__________________

(١) المائدة (٥) الآية : ٩٥.

وهذا ما استدلّ به الشافعي على ما في إرشاد الفحول. وتقريره : أنّ الله (تعالى) أوجب المثل ولم يقل أيّ مثل ، فوكل ذلك إلى اجتهادنا.

وأجاب عنه الشوكاني في إرشاد الفحول : ٢٠١.

(٢) النحل (١٦) الآية : ٩٠.

وهذا الاستدلال نسبه الشوكاني إلى ابن تيميّة ؛ وتقريره : أنّ العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين المثلين في الحكم ، فتتناوله الآية. راجع إرشاد الفحول : ٢٠٢.

(٣) الطحلب والطحلب والطحلب : خضرة تعلو الماء المزمن. وقيل : هو الذي يكون على الماء كأنّه نسج العنكبوت ، لسان العرب ١ : ٥٥٦ ـ ٥٥٧.

واستدلّوا أيضا بآيات أخر ، ذكرها ابن حزم ، وأجاب عنها. راجع ملخّص إبطال القياس : ٢٣ ـ ٢٤ و ٢٩ ـ ٣٣.

٥٢٩

منها : الحديث المأثور عن معاذ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه قاضيا إلى اليمن ، وقال له فيما قال : «بما ذا تقضي إذا لم تجد في كتاب الله ، ولا في سنّة رسول الله؟» قال معاذ : أجتهد رأيي ، ولا آلوا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله». (١)

قالوا : قد أقرّ النبيّ الاجتهاد بالرأي. واجتهاد الرأي لا بدّ من ردّه إلى أصل ، وإلاّ كان رأيا مرسلا ، والرأي المرسل غير معتبر. فانحصر الأمر بالقياس.

والجواب : أنّ الحديث مرسل لا حجّية فيه ؛ لأنّ راويه هو الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، رواه عن أناس من أهل حمص.

ثمّ الحارث هذا نفسه مجهول لا يدري أحد من هو؟ ولا يعرف له غير هذا الحديث.

ثمّ إنّ الحديث معارض بحديث آخر في نفس الواقعة ؛ إذ جاء فيه : «لا تقضينّ ، ولا تفضّلنّ إلاّ بما تعلم. وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تتبيّنه ، أو تكتب إليّ». فأجدر بذلك الحديث أن يكون موضوعا على الحارث ، أو منه.

مضافا إلى أنّه لا حصر فيما ذكروا ، فقد يراد من الاجتهاد بالرأي استفراغ الوسع في الفحص عن الحكم ، ولو بالرجوع إلى العمومات ، أو الأصول. ولعلّه يشير إلى ذلك قوله : «ولا آلو».

ومنها : حديث الخثعميّة التي سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قضاء الحجّ عن أبيها الذي فاتته فريضة الحجّ : أينفعه ذلك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لها : «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟» قالت : نعم. قال : «فدين الله أحقّ بالقضاء» (٢).

قالوا : فألحق الرسول دين الله بدين الآدميّ في وجوب القضاء ، وهو عين القياس. (٣)

والجواب : أنّه لا معنى للقول بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أجرى القياس في حكمه بقضاء الحجّ ، وهو المشرّع المتلقّي الأحكام من الله (تعالى) بالوحي ، فهل كان لا يعلم بحكم قضاء الحجّ ،

__________________

(١) سنن الدارمي ١ : ٦٠.

واستدلّ به في نهاية السئول ٤ : ١٦. وتعرّض له وللإجابة عليه الشوكانيّ في إرشاد الفحول : ٢٠٢.

(٢) كنز العمال ٥ : ١٢٣.

(٣) هذا الدليل أيضا تعرّض له وللإجابة عليه الشوكانيّ في إرشاد الفحول : ٢٠٣.

٥٣٠

فاحتاج [إلى] أن يستدلّ عليه بالقياس؟ ما لكم كيف تحكمون؟!

وإنّما المقصود من الحديث ـ على تقدير صحّته ـ تنبيه الخثعميّة على تطبيق العامّ على ما سألت عنه ، وهو ـ أعني العامّ ـ وجوب قضاء كلّ دين ؛ إذ خفي عليها أنّ الحجّ ممّا يعدّ من الديون التي يجب قضاؤها عن الميّت ، وهو أولى بالقضاء ؛ لأنّه دين الله (تعالى).

ولا شكّ في أنّ تطبيق العامّ على مصاديقه المعلومة لا يحتاج إلى تشريع جديد ، غير تشريع نفس العامّ ؛ لأنّ الانطباق قهريّ. وليس هو من نوع القياس.

ولا ينقضي العجب ممّن يذهب إلى عدم وجوب قضاء الحجّ ، ولا الصوم ، كالحنفيّة (١) ، ويقول : «دين الناس أحقّ بالقضاء» ، ثمّ يستدلّ بهذا الحديث على حجّيّة القياس!

ومنها : حديث بيع الرطب بالتمر ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل : «أينقص الرطب إذا يبس؟» فلمّا أجيب بـ «نعم» ، قال : «فلا ، إذن». (٢)

والجواب أنّ هذا الحديث ـ على تقدير صحّته ـ يشبه حديث الخثعميّة ؛ فإنّ المقصود منه التنبيه على تطبيق العامّ على أحد مصاديقه الخفيّة ، وليس هو من القياس في شيء.

وكذلك يقال في أكثر الأحاديث المرويّة في الباب. (٣)

على أنّها بجملتها معارضة بأحاديث أخر ، يفهم منها النهي عن الأخذ بالرأي ، من دون الرجوع إلى الكتاب ، والسنّة. (٤)

الدليل من الإجماع

والإجماع هو أهمّ دليل عندهم ، وعليه معوّلهم في هذه المسألة. والغرض منه إجماع الصحابة.

__________________

(١) راجع : تبيين الحقائق (للزيلعي) ١ : ٣٣٤.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢ : ٣٨ ؛ سنن البيهقي ٥ : ٢٩٤.

(٣) تعرّض لها ابن حزم في ملخّص إبطال القياس : ٢٥ ـ ٢٧.

(٤) إن شئت فراجع : الأصول من الكافي ١ : ٥٤ ـ ٥٨ ؛ بحار الأنوار ٢ : ٢٨٣ ـ ٣١٦ ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ٢١ ـ ٤٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٥٣١

ويجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي ، وأكثروا ـ بل حتى فيما خالف النصّ ـ تصرّفا في الشريعة باجتهاداتهم. والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن ـ كما سبق أن أوضحناه ـ لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم ، من كونها على نحو القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، ولم يعرف عنهم على أيّ أساس كانت اجتهاداتهم ، أكانت تأويلا للنصوص ، أو جهلا بها ، أو استهانة بها؟ ربما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم.

وفي الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه ، وخصائصه في القرن الثاني والثالث ـ كما سبق بيانه (١) ـ فميّزوا بين القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة.

ومن الاجتهادات قول عمر بن الخطّاب : «متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا محرّمهما ، ومعاقب عليهما» (٢). ومنها : جمعه الناس لصلاة التراويح. (٣) ومنها : إلغاؤه في الأذان «حيّ على خير العمل» (٤).

فهل كان ذلك من القياس أو من الاستحسان المحض؟

لا ينبغي أن يشكّ أنّ مثل هذه الاجتهادات ليس من القياس في شيء. وكذلك كثير من الاجتهادات عندهم.

وعليه ، فابن حزم على حقّ إذا كان يقصد إنكار أن يكون القياس سابقا معروفا بحدوده في اجتهادات الصحابة ، حينما قال في كتابه «إبطال القياس» : «ثمّ حدث القياس في القرن الثاني ، فقال به بعضهم ، وأنكره سائرهم وتبرّءوا منه». (٥) ، وقال في كتابه «الإحكام» : «إنّه بدعة حدث في القرن الثاني ، ثمّ فشا ، وظهر في القرن الثالث». (٦) أمّا : إذا أراد إنكار أصل الاجتهادات بالرأي من بعض الصحابة ـ وهو لا يريد ذلك قطعا ـ فهو إنكار لأمر ضروريّ

__________________

(١) سبق بيانه في الصفحة : ١٦٥ من هذا الجزء.

(٢) راجع الغدير ٦ : ٢٠٩ ـ ٢١٣.

(٣) راجع المغني (لابن قدامة) ١ : ٧٩٨.

(٤) راجع شرح التجريد (للقوشجىّ) : ٣٧٤.

(٥) ملخّص إبطال القياس : ٥.

(٦) الإحكام (لابن حزم) ٧ : ١٧٧.

٥٣٢

متواتر عنهم.

وقد ذكر الغزاليّ في كتابه «المستصفى» (١) كثيرا من مواضع اجتهادات الصحابة برأيهم ، ولكن لم يستطع أن يثبت أنّها على نحو القياس ، إلاّ لأنّه لم ير وجها لتصحيحها إلاّ بالقياس ، وتعليل النصّ. وليس هو منه إلاّ من باب حسن الظنّ ، لا أكثر. وأكثرها لا يصحّ تطبيقها على القياس.

وعلى كلّ حال ، فالشأن كلّ الشأن في تحقّق إجماع الأمّة ، والصحابة على الأخذ بالقياس ، ونحن نمنعه أشدّ المنع.

أمّا أوّلا : فلما قلناه قريبا : إنّه لم يثبت أنّ اجتهاداتهم كانت من نوع القياس ، بل في بعضها ثبت عكس ذلك ، كاجتهادات عمر بن الخطّاب المتقدّمة ، ومثلها اجتهاد عثمان في حرق المصاحف ، ونحو ذلك.

وأمّا ثانيا : فإنّ استعمال بعضهم للرأي ـ سواء كان مبنيّا على القياس أو على غيره ـ لا يكشف عن موافقة الجميع ، كما قال ابن حزم ـ فأنصف ـ : «أين وجدتم هذا الإجماع؟ وقد علمتم أنّ الصحابة ألوف لا تحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلاّ عن مائة ونيّف وثلاثين نفسا : منهم : سبعة مكثرون ، وثلاثة عشر نفسا متوسّطون ، والباقون مقلّون جدّا ، تروى عنهم المسألة والمسألتان ، حاشا المسائل التي تيقّن إجماعهم عليها ، كالصلوات ، وصوم رمضان. (٢) ، فأين الإجماع على القول بالرأي؟». (٣)

والغرض الذي نرمي إليه أنّه لا ينكر ثبوت الاجتهاد بالرأي عند جملة من الصحابة كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وزيد بن ثابت ، بل ربما من غيرهم. وإنّما الذي ينكر أن يكون ذلك بمجرّده محقّقا لإجماع الأمّة ، أو الصحابة. واتّفاق الثلاثة أو العشرة بل العشرين ليس إجماعا مهما كانوا.

نعم ، أقصى ما يقال في هذا الصدد : أنّ الباقين سكتوا ، وسكوتهم إقرار ، فيتحقّق الإجماع.

__________________

(١) المستصفى ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٩ و ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٢) هذه ليست من المسائل الإجماعيّة ، بل هذه من ضروريات الدين ، وقد تقدّم أنّ الأخذ بها ليس أخذا بالإجماع. ـ منه قدس‌سره ـ.

(٣) ملخّص إبطال القياس : ١٩.

٥٣٣

ولكن يجاب عن ذلك بأنّ السكوت لا نسلّم أنّه يحقّق الإجماع ؛ لأنّه لا يدلّ على الإقرار إلاّ من المعصوم بشروط الإقرار. والسرّ في ذلك أنّ السكوت في حدّ ذاته مجمل ، فيه عند غير المعصوم أكثر من وجه واحد واحتمال ؛ إذ قد ينشأ من الخوف ، أو الجبن ، أو الخجل ، أو المداهنة ، أو عدم العناية ببيان الحقّ ، أو الجهل بالحكم الشرعيّ ، أو وجهه ، أو عدم وصول نبأ الفتيا إليهم ... إلى ما شاء الله من هذه الاحتمالات التي لا دافع لها بالنسبة إلى غير المعصوم. وقد يجتمع في شخص واحد أكثر من سبب واحد للسكوت عن الحقّ. ومن الاحتمالات أيضا أن يكون قد أنكر بعض الناس ، ولكن لم يصل نبأ الإنكار إلينا. ودواعي إخفاء الإنكار وخفائه كثيرة لا تحدّ ولا تحصر.

وأمّا ثالثا : فإنّ سكوت الباقين غير مسلّم ، ويكفي لإبطال الإجماع إنكار شخص واحد ، له شأن في الفتيا ؛ إذ لا يتحقّق معه اتّفاق الجميع ، فكيف إذا كان المنكرون أكثر من واحد ، وقد ثبت تخطئة القول بالرأي عن ابن عبّاس (١) ، وابن مسعود (٢) ، وأضرابهما (٣) ، بل روي ذلك حتى عن عمر بن الخطّاب : «إيّاكم وأصحاب الرأي ، فإنّهم أعداء السّنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي ، فضلّوا ، وأضلّوا» (٤). وإن كنت أظنّ أنّ هذه الرواية موضوعة عليه ؛ لثبوت أنّه في مقدّمة أصحاب أهل الرأي ، مع أنّ أسلوب بيان الرواية بعيد عن النسبة إليه ، وإلى عصره.

وعلى كلّ حال ، فلا شيء أبلغ في الإنكار من المجاهرة بالخلاف ، والفتوى بالضدّ ، وهذا قد كان من جماعة ، كما قلنا ، بل زاد بعضهم ، كابن عبّاس ، وابن مسعود أن انتهى إلى ذكر المباهلة ، والتخويف من الله (تعالى) ، وهل شيء أبلغ في الإنكار من هذا؟ فأين الإجماع؟

__________________

(١) روي عن عبد الله بن عبّاس أنّه قال : «إنّ الله (تعالى) قال لنبيّه : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ،) ولم يقل : بما رأيت». المستصفى ٢ : ٢٤٨.

(٢) عن عبد الله بن مسعود : «يذهب قرّاؤكم ، وصلحاؤكم ، ويتّخذ الناس رؤساء جهّالا ، يقيسون الأمور برأيهم». العدّة ٢ : ٦٨٩ ؛ الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٧٣٦.

(٣) كأبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن أرقم ، وعائشة ، وغيرها. راجع المستصفى ٢ : ٢٤٧ ؛ ملخّص إبطال القياس : ٥٨.

(٤) المستصفى ٢ : ٢٤٧ ؛ ملخّص إبطال القياس : ٥٨.

٥٣٤

ونحن يكفينا إنكار عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهو المعصوم الذي يدور معه الحقّ كيفما دار ، كما في الحديث النبويّ المعروف. (١) وإنكاره معلوم من طريقته. وقد رووا عنه قوله عليه‌السلام : «لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخفّ أولى من ظاهره» (٢). وهو يريد بذلك إبطال القول بجواز المسح على الخفّ الذي لا مدرك له إلاّ القياس ، أو الاستحسان.

الدليل من العقل

لم يذكر أكثر الباحثين عن القياس دليلا عقليّا على حجيّته ، غير أنّ جملة منهم (٣) ذكر له وجوها أحسنها ـ فيما أحسب ـ ما سنذكره ، مع أنّه من أوهن الاستدلالات.

الدليل : أنّا نعلم قطعا بأنّ الحوادث لا نهاية لها. ونعلم قطعا أنّه لم يرد النصّ في جميع الحوادث ؛ لتناهي النصوص ، ويستحيل أن يستوعب المتناهي ما لا يتناهى ؛ إذن ، فيعلم أنّه لا بدّ من مرجع لاستنباط الأحكام ، لتلافي النواقص من الحوادث ، وليس هو إلاّ القياس. (٤)

والجواب : صحيح أنّ الحوادث الجزئيّة غير متناهية ، ولكن لا يجب في كلّ حادثة جزئيّة أن يرد نصّ من الشارع بخصوصها ، بل يكفي أن تدخل في أحد العمومات. والأمور العامّة محدودة متناهية ، لا يمتنع ضبطها ، ولا يمتنع استيعاب النصوص لها. على أنّ فيه مناقشات أخرى ، لا حاجة بذكرها.

٤. منصوص العلّة ، وقياس الأولويّة

ذهب بعض علمائنا ـ كالعلاّمة الحليّ قدس‌سره (٥) ـ إلى أنّه يستثنى من القياس الباطل ما كان

__________________

(١) وهو قوله عليه‌السلام : «علىّ مع الحقّ والحقّ مع علي». إحقاق الحق ٤ : ٢٧.

(٢) هذا مفاد الحديث ، وإليك نصّه : «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه ...» سنن أبي داود ١ : ٤٢ ؛ المحلّى ١ : ٦١.

(٣) كالدقاق على ما في اللمع في أصول الفقه : ٩٣.

(٤) هذا الدليل ذكره الآمديّ ثمّ أجاب عنه بوجوه. راجع الإحكام ٤ : ٣٧.

(٥) نسبه إليه المحقّق البحرانيّ في الحدائق الناضرة ١ : ٦٠ ـ ٦٣. ولكن في نسبته إليه نظر ؛ لأنّه صرّح بأنّ ـ

٥٣٥

منصوص العلّة ، وقياس الأولويّة ؛ فإنّ القياس فيهما حجّة. وبعض قال : «لا ، إنّ الدليل الدالّ على حرمة الأخذ بالقياس شامل للقسمين ، وليس هناك ما يوجب استثناءهما». (١)

والصحيح أن يقال : إنّ منصوص العلّة وقياس الأولويّة هما حجّتان ، ولكن لا استثناء من القياس ؛ لأنّهما في الحقيقة ليسا من نوع القياس ، بل هما من نوع الظواهر ، فحجّيّتهما من باب حجّيّة الظهور. (٢) وهذا ما يحتاج إلى البيان ، فنقول :

منصوص العلّة

أمّا منصوص العلّة : فإن فهم من النصّ على العلّة أنّ العلّة عامّة على وجه لا اختصاص لها بالمعلّل ـ الذي هو كالأصل في القياس ـ فلا شكّ في أنّ الحكم يكون عامّا شاملا للفرع ، مثل ما لو قال : «حرم الخمر ؛ لأنّه مسكر» ، فيفهم منه حرمة النبيذ ؛ لأنّه مسكر أيضا. وأمّا : إذا لم يفهم منه ذلك فلا وجه لتعدية الحكم إلى الفرع إلاّ بنوع من القياس الباطل ، مثل ما لو قيل : «هذا العنب حلو ؛ لأنّ لونه أسود» ؛ فإنّه لا يفهم منه أنّ كلّ ما لونه أسود حلو ، بل العنب الأسود خاصّة حلو.

وفي الحقيقة أنّه بظهور النصّ في كون العلّة عامّة ينقلب موضوع الحكم من كونه خاصّا بالمعلّل إلى كون موضوعه كلّ ما فيه العلّة ، فيكون الموضوع عامّا يشمل المعلّل (الأصل) وغيره ، ويكون المعلّل من قبيل المثال للقاعدة العامّة ، لا أنّ موضوع الحكم هو خصوص المعلّل (الأصل) ونستنبط منه الحكم في الفرع من جهة العلّة المشتركة ، حتى يكون المدرك مجرّد الحمل والقياس ، كما في الصورة الثانية ، أي التي لم يفهم فيها عموم العلّة.

ولأجل هذا نقول : إنّ الأخذ بالحكم في الفرع في الصورة الأولى يكون من باب الأخذ

__________________

ـ ما كان منصوص العلّة ، وبالطريق الأولى وإن كانا حجّتين ، إلاّ أن حجيّتهما ليست من باب القياس. راجع : مبادئ الوصول إلى علم الأصول : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٦٥.

(٢) ولعلّه مراد العلاّمة من قوله : «بالنصّ ، لا بالقياس».

٥٣٦

بظاهر العموم ، وليس هو من القياس في شيء ، ليكون القول بحجّيّة التعليل استثناء من عمومات النهي عن القياس. مثال ذلك قوله عليه‌السلام ـ في صحيحة ابن بزيع ـ : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ... ؛ لأنّ له مادّة» ، (١) فإنّ المفهوم منه ـ أي الظاهر منه ـ أنّ كلّ ماء له مادّة واسع لا يفسده شيء ، وأمّا : ماء البئر فإنّما هو أحد مصاديق الموضوع العامّ للقاعدة ، فيشمل الموضوع بعمومه كلاّ من ماء البئر ، وماء الحمّام ، وماء العيون ، وماء حنفيّة الإسالة (٢) ... وغيرها ، فالأخذ بهذا الحكم وتطبيقه على هذه الأمور غير ماء البئر ليس أخذا بالقياس ، بل هو أخذ بظهور العموم ، والظهور حجّة.

هذا ، وفي عين الوقت لمّا كنّا لا نستظهر من هذه الرواية شمول العلّة (لأنّ له مادّة) لكلّ ما له مادّة وإن لم يكن ماء مطلقا ، فإنّ الحكم ـ وهو الاعتصام من التنجّس ـ لا نعدّيه إلى الماء المضاف الذي له مادّة إلاّ بالقياس ، وهو ليس بحجّة.

ومن هنا يتّضح الفرق بين الأخذ بالعموم في منصوص العلّة ، والأخذ بالقياس ، فلا بدّ من التفرقة بينهما في كلّ علّة منصوصة ، لئلاّ يقع الخلط بينهما. ومن أجل هذا الخلط بينهما يكثر العثار (٣) في تعرّف الموضوع للحكم.

وبهذا البيان والتفريق بين الصورتين يمكن التوفيق بين المتنازعين في حجّيّة منصوص العلّة ، فمن يراه حجّة يراه فيما إذا كان له ظهور في عموم العلّة ، ومن لا يرى حجّيّته يراه فيما إذا كان الأخذ به أخذا به على نهج القياس.

والخلاصة أنّ المدار في منصوص العلّة أن يكون له ظهور في عموم الموضوع لغير ما له الحكم ـ أي المعلّل الأصل ـ ؛ فإنّه عموم من جملة الظواهر التي هي حجّة. ولا بدّ حينئذ أن تكون حجّيّته على مقدار ما له من الظهور في العموم ، فإذا أردنا تعديته إلى غير ما يشمله ظهور العموم ، فإنّ التعدية لا محالة تكون من نوع الحمل والقياس الذي لا دليل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديثان ٦ و ٧.

(٢) الحنفيّة : أنبوبة ذات لولب تزجّ في ثقب من الحوض لاستفراغ الماء منه عند الحاجة. وبالفارسيّة : شير آب انبار.

(٣) العثار : المهلكة ، السقوط.

٥٣٧

عليه ، بل قام الدليل على بطلانه.

قياس الأولويّة

أمّا قياس الأولويّة : فهو نفسه الذي يسمّى «مفهوم الموافقة» الذي تقدّمت الإشارة إليه (١) ، وقلنا هناك : إنّه يسمّى «فحوى الخطاب» ، كمثال الآية الكريمة (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٢) الدالّة بالأولويّة على النهي عن الشتم ، والضرب ، ونحوهما.

وتقدّم في هذا الجزء (٣) أنّ هذا من الظواهر ، فهو حجّة من أجل كونه ظاهرا من اللفظ ، لا من أجل كونه قياسا ، (٤) حتى يكون استثناء من عموم النهي عن القياس ، وإن أشبه القياس ، ولذلك سمّي بـ «قياس الأولويّة» ، و «القياس الجليّ».

ومن هنا لا يفرض مفهوم الموافقة إلاّ حيث يكون للّفظ ظهور بتعدّي الحكم إلى ما هو أولى في علّة الحكم ، كآية التأفيف المتقدّمة.

ومنه : دلالة الإذن بسكنى الدار على جواز التصرّف بمرافقها بطريق أولى ، ويقال لمثل هذا في عرف الفقهاء : «إذن الفحوى».

ومنه : الآية الكريمة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٥) الدالّة بالأولويّة على ثبوت الجزاء على عمل الخير الكثير.

وبالجملة ، إنّما نأخذ بقياس الأولويّة إذا كان يفهم ذلك من فحوى الخطاب ؛ إذ يكون للكلام ظهور بالفحوى في ثبوت الحكم فيما هو أولى في علّة الحكم ، فيكون حجّة من باب الظواهر. ومن أجل هذا عدّوه من المفاهيم ، وسمّوه «مفهوم الموافقة».

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ١٢٢.

(٢) الإسراء (١٧) الآية : ١٢٢.

(٣) راجع الصفحة : ١٢٢.

(٤) وصرّح بذلك العلاّمة الحلّي في : مبادئ الوصول : ٢١٧ ، حيث قال : «إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق قد يكون جليّا كتحريم الضرب المستفاد من تحريم التأفيف ، وذلك ليس من باب القياس ... بل هو من باب المفهوم». والعجب من المصنّف قدس‌سره حيث عدّ العلاّمة ممّن يستثنيه من عموم النهي عن القياس.

(٥) الزلزلة (٩٩) الآية : ٧.

٥٣٨

أمّا : إذا لم يكن ذلك مفهوما من فحوى الخطاب ، فلا يسمّى ذلك مفهوما بالاصطلاح ، ولا يكفي مجرّد الأولويّة وحدها في تعدية الحكم ؛ إذ يكون من القياس الباطل.

ويشهد لذلك ما ورد من النهي عن مثله في صحيحة أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال أبان :

قلت له : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة؟ كم فيها؟ قال : «عشر من الإبل». قلت : قطع اثنتين (١)؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثا؟ قال : «ثلاثون». قلت : قطع أربعا؟ قال : «عشرون».

قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون!؟ إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق ، فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان.

فقال : «مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ المرأة تعاقل (٢) الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث ، رجعت إلى النصف. يا أبان! إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين». (٣)

فهنا في هذا المثال لم يكن في المسألة خطاب يفهم منه في الفحوى من جهة الأولويّة تعدية الحكم إلى غير ما تضمّنه الخطاب ، حتى يكون من باب مفهوم الموافقة. وإنّما الذي وقع من أبان قياس مجرّد لم يكن مستنده فيه إلاّ جهة الأولويّة ؛ إذ تصوّر ـ بمقتضى القاعدة العقليّة الحسابيّة ـ أنّ الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع ، فإذا كان في قطع الثلاث ثلاثون من الإبل فلا بدّ أن يكون في قطع الأربع أربعون ؛ لأنّ قطع الأربع قطع للثلاثة وزيادة. ولكن أبان كان لا يدري أنّ المرأة ديتها نصف دية الرجل شرعا فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد ، وهي مائة من الإبل.

والخلاصة : أنّا نقول ببطلان قياس الأولويّة إذا كان الأخذ به لمجرّد الأولويّة ، أمّا إذا كان مفهوما من التخاطب بالفحوى من جهة الأولويّة فهو حجّة من باب الظواهر ، فلا يكون

__________________

(١) في النسخة المطبوعة (اثنين). ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) تعاقل : توازن. وفي النسخة المطبوعة (تقابل) ، وأحسبه من تصحيح الناشر اشتباها. ـ منه قدس‌سره ـ.

(٣) الكافي ٧ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ؛ بحار الأنوار ١٠٤ : ٤٠٥.

٥٣٩

قياسا مستثنى من القياس الباطل.

تنبيه الاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وسدّ الذرائع

بقي من الأدلّة المعتبرة عند جملة من علماء السنّة «الاستحسان» ، (١) و «المصالح المرسلة» (٢) ، و «سدّ الذرائع». (٣)

وهي ـ إن لم ترجع إلى ظواهر الأدلّة السمعيّة ، أو الملازمات العقليّة ـ لا دليل على حجّيّتها ، بل هي أظهر أفراد الظنّ المنهيّ عنه. وهي دون القياس من ناحية الاعتبار.

__________________

(١) وقد ذكر في تعريفه وجوه :

منها : أنّ الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى.

ومنها : أنّ الاستحسان هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس.

راجع الإحكام (للآمدي) ٤ : ٢١١ ـ ٢١٣ ، ومصادر التشريع : ٥٨.

والاستحسان من الأدلّة المعتبرة عند الحنفيّة ، والحنابلة على ما في منتهى الوصول والأمل : ٢٠٧ ، وإرشاد الفحول : ٢٤٠ ، وأصول الفقه (للخضري بك) : ٣٣٣ ، والإحكام (للآمدي) ٤ : ٢٠٩ ، واللمع : ١٢١.

(٢) واختلفوا في حقيقتها :

فقال بعض : «هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب عقلا ، ولا يوجد أصل متّفق عليه».

وقال بعض آخر : «هي ما لا يستند إلى أصل كلّي ولا جزئيّ».

والقول باعتبارها منسوب إلى المالك ، والشافعي ، كما في إرشاد الفحول : ٢٤٢.

وقال ابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل : ٢٠٨ : «وقد عزي إلى مالك خلافه ـ أي عدم امتناع التمسّك بها ـ ، وهو بعيد».

وإن أردت الاطّلاع عن تفصيل حقيقة المصالح المرسلة ، ومن قال باعتبارها فراجع نهاية السئول ٤ : ٩٧ ـ ١٠٥ و ٣٨٥ ـ ٣٩٥ ؛ سلّم الوصول : ٣٠٩ ؛ مصادر التشريع الإسلامي : ٧٣.

(٣) الذريعة ، في اللغة ، الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الشيء.

وأمّا في الاصطلاح فقد يقال : «التوسّل بما هو مصلحة إلى مفسدة». وقد يقال : «ما يتوصّل به إلى شيء ممنوع مشتمل على مفسدة». راجع الموافقات ٤ : ١٩٩ ، والمدخل للفقه الإسلامي : ٢٦٦.

والحاصل أنّ المراد من «سدّ الذرائع» المنع من الوسيلة التي يتوصّل بها إلى مفسدة.

وذهب إلى اعتباره ابن القيم في أعلام الموقعين ٣ : ١٤٧ ـ ١٤٨. بل نسب ذلك إلى مالك ، وأحمد ، وابن تيميّة ، كما في المدخل للفقه المقارن : ٢٧٠.

٥٤٠