اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

يعتمد المتكلّم على قرينة غير معهودة ولا معروفة إلاّ لدى من قصد إفهامه فهو احتمال لا ينفيه العقل ؛ لأنّه لا يقبح من الحكيم ، ولا يلزم نقض غرضه ، إذا نصب قرينة تخفى على غير المقصودين بالإفهام ، ومثل هذه القرينة الخفيّة ـ على تقدير وجودها ـ لا يتوقّع من غير المقصود بالإفهام أن يعثر عليها بعد الفحص ، فهو (١) كلام صحيح في نفسه ، إلاّ أنّه غير مرتبط بما نحن فيه ، أي لا يضرّ بحجّيّة الظهور ببناء العقلاء.

وتوضيح ذلك أنّ الذي يقوّم حجّيّة الظهور هو نفي احتمال القرينة ببناء العقلاء ، لا نفي احتمالها بحكم العقل ، ولا ملازمة بينهما ـ أي إنّه إذا كان احتمال القرينة لا ينفيه العقل فلا يلزم منه عدم نفيه ببناء العقلاء النافع في حجّيّة الظهور ـ ، بل الأمر أكثر من أن يقال : إنّه لا ملازمة بينهما ؛ فإنّ الظهور لا يكون ظهورا إلاّ إذا كان هناك احتمال للقرينة ، غير منفيّ بحكم العقل ، وإلاّ لو كان احتمالها منفيّا بحكم العقل كان الكلام نصّا ، لا ظاهرا.

وعلى نحو العموم نقول : لا يكون الكلام ظاهرا ليس بنصّ قطعيّ في المقصود إلاّ إذا كان مقترنا باحتمال عقليّ ، أو احتمالات عقليّة غير مستحيلة التحقّق ، مثل احتمال خطأ المتكلّم ، أو غفلته ، أو تعمّده للإيهام لحكمة ، أو نصبه لقرينة تخفى على الغير ، أو لا تخفى.

ثمّ لا يكون الظاهر حجّة إلاّ إذا كان البناء العمليّ من العقلاء على إلغاء مثل هذه الاحتمالات ، أي عدم الاعتناء بها في مقام العمل بالظاهر.

وعليه ، فالنفي الادّعائيّ العمليّ للاحتمالات هو المقوّم لحجّيّة الظهور ، لا نفي الاحتمالات عقلا من جهة استحالة تحقّق المحتمل ؛ فإنّه إذا كانت الاحتمالات مستحيلة التحقّق لا تكون محتملات ، ويكون الكلام حينئذ نصّا لا نحتاج في الأخذ به إلى فرض بناء العقلاء على إلغاء الاحتمالات.

وإذا اتّضح ذلك نستطيع أن نعرف أنّ هذا التوجيه المذكور للقول بالتفصيل في حجّيّة الظهور لا وجه له ؛ فإنّه أكثر ما يثبت به أنّ نصب القرينة الخفيّة بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه أمر محتمل غير مستحيل التحقّق ؛ لأنّه لا يقبح من الحكيم أن يصنع مثل ذلك ، فالقرينة محتملة عقلا. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون البناء العمليّ من العقلاء على إلغاء

__________________

(١) جواب «إن كان».

٥٠١

مثل هذا الاحتمال ، سواء أمكن أن يعثر على هذه القرينة بعد الفحص ـ لو كانت ـ أم لم يمكن.

٤. ثمّ على تقدير تسليم الفرق في حجّيّة الظهور بين المقصودين بالإفهام ، وبين غيرهم ، فالشأن كلّ الشأن في انطباق ذلك على واقعنا بالنسبة إلى الكتاب العزيز ، والسنّة.

أمّا : الكتاب العزيز فإنّه من المعلوم لنا أنّ التكاليف التي يتضمّنها عامّة لجميع المكلّفين ، ولا اختصاص لها بالمشافهين. وبمقتضى عمومها يجب ألاّ تقترن بقرائن تخفى على غير المشافهين. بل لا شكّ في أنّ المشافهين ليسوا وحدهم المقصودين بالإفهام بخطابات القرآن الكريم.

وأمّا : السنّة فإنّ الأحاديث الحاكية لها على الأكثر تتضمّن تكاليف عامّة لجميع المكلّفين ، أو المقصود بها إفهام الجميع ، حتى غير المشافهين ، وقلّما يقصد بها إفهام خصوص المشافهين في بعض الجوابات على أسئلة خاصّة. وإذا قصد ذلك فإنّ التكليف فيها لا بدّ أن يعمّ غير السائل بقاعدة الاشتراك. ومقتضى الأمانة في النقل ، وعدم الخيانة من الراوي ، المفروض فيه ذلك أن ينبّه على كلّ قرينة دخيلة في الظهور ، ومع عدم بيانها منه يحكم بعدمها.

ه. حجّيّة ظواهر الكتاب

نسب إلى جماعة من الأخباريّين القول بعدم حجّيّة ظواهر الكتاب العزيز (١) ، وأكّدوا : أنّه لا يجوز العمل بها من دون أن يرد بيان وتفسير لها من طريق آل البيت عليهم‌السلام (٢).

أقول : إنّ القائلين بحجّيّة ظواهر الكتاب :

١. لا يقصدون حجّيّة كلّ ما في الكتاب ، وفيه آيات محكمات ، وأخر متشابهات. بل المتشابهات لا يجوز تفسيرها بالرأي. ولكنّ التمييز بين المحكم والمتشابه ليس بالأمر العسير على الباحث المتدبّر ؛ إذا كان هذا ما يمنع من الأخذ بالظواهر التي هي من نوع المحكم.

__________________

(١) نسب إليهم في فرائد الأصول ١ : ٥٦.

(٢) راجع الفوائد المدنيّة : ١٢٨ ، والدرر النجفيّة : ١٧٤.

٥٠٢

٢. لا يقصدون ـ أيضا ـ بالعمل بالمحكم من آياته جواز التسرّع بالعمل به من دون فحص كامل عن كلّ ما يصلح لصرفه عن الظهور في الكتاب والسنّة من نحو الناسخ ، والمخصّص ، والمقيّد ، وقرينة المجاز ...

٣. لا يقصدون ـ أيضا ـ أنّه يصحّ لكلّ أحد أن يأخذ بظواهره وإن لم تكن له سابقة معرفة ، وعلم ، ودراسة لكلّ ما يتعلّق بمضمون آياته. فالعاميّ وشبه العاميّ ليس له أن يدّعي فهم ظواهر الكتاب ، والأخذ بها.

وهذا أمر لا اختصاص له بالقرآن ، بل هذا شأن كلّ كلام يتضمّن المعارف العالية والأمور العلميّة ، وهو يتوخّى (١) الدقّة في التعبير. ألا ترى أنّ لكلّ علم أهلا يرجع إليهم في فهم مقاصد كتب ذلك العلم ، وأنّ له أصحابا يؤخذ منهم آراء ما فيه من مؤلّفات؟ مع أنّ هذه الكتب والمؤلّفات لها ظواهر تجري على قوانين الكلام ، وأصول اللغة ، وسنن أهل المحاورة ، هي حجّة على المخاطبين بها ، وهي حجّة على مؤلّفيها ، ولكن لا يكفي للعاميّ أن يرجع إليها ليكون عالما بها ، أو يحتجّ بها ، أو يحتجّ بها عليه ، بغير تلمذة على أحد من أهلها ، ولو فعل ذلك هل تراه لا يؤنّب على ذلك ، (٢) ولا يلام؟ (٣)

وكلّ ذلك لا يسقط ظواهرها عن كونها حجّة في نفسها ، ولا يخرجها عن كونها ظواهر يصحّ الاحتجاج بها.

وعلى هذا ، فالقرآن الكريم ـ إذ نقول : إنّه حجّة على العباد ـ فليس معنى ذلك أنّ ظواهره كلّها هي حجّة بالنسبة إلى كلّ أحد ، حتى بالنسبة إلى من لم يتزوّد (٤) بشيء من العلم ، والمعرفة (٥).

وحينئذ نقول لمن ينكر حجّيّة ظواهر الكتاب : ما ذا تعني من هذا الإنكار؟

١. إن كنت تعني هذا المعنى الذي تقدم ذكره ـ وهو عدم جواز التسرّع بالأخذ بها من

__________________

(١) أي : يتطلّب.

(٢) أي : هل تراه يرفق به ولا يعتب عليه؟

(٣) أي : وهل تراه لا يكدّر بالكلام ؛ لأنّه فعل ما ليس جائزا؟ وفي «س» : «لا يلام على تطفّله».

(٤) أي : لم يتّخذ.

(٥) وفي «س» : لم يتنوّر بنور العلم والمعرفة.

٥٠٣

دون فحص عمّا يصلح لصرفها عن ظواهرها ، وعدم جواز التسرّع بالأخذ بها من كلّ أحد ـ فهو كلام صحيح. وهو أمر طبيعيّ في كلّ كلام عال رفيع ، وفي كلّ مؤلّف في المعارف العالية. ولكن قلنا : إنّه ليس معنى ذلك أنّ ظواهره مطلقا ليست بحجّة بالنسبة إلى كلّ أحد.

٢. وإن كنت تعني الجمود على خصوص ما ورد من آل البيت عليهم‌السلام ـ على وجه لا يجوز التعرّض لظواهر القرآن ، والأخذ بها مطلقا فيما لم يرد فيه بيان من قبلهم ، حتى بالنسبة إلى من يستطيع فهمه من العارفين بمواقع الكلام ، وأساليبه ، ومقتضيات الأحوال ، مع الفحص عن كلّ ما يصلح للقرينة ، أو ما يصلح لنسخه ـ فإنّه (١) أمر لا يثبته ما ذكروه له من الأدلّة.

كيف؟ وقد ورد عنهم عليهم‌السلام إرجاع الناس إلى القرآن الكريم ، مثل ما ورد من الأمر بعرض الأخبار المتعارضة عليه (٢) ، بل ورد عنهم ما هو أعظم من ذلك ، وهو عرض كلّ ما ورد عنهم على القرآن الكريم (٣) ، كما ورد عنهم الأمر بردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود (٤) ، ووردت عنهم أخبار خاصّة دالّة على جواز التمسّك بظواهره ، نحو قوله عليه‌السلام لزرارة لمّا قال له : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟ فقال عليه‌السلام : «لمكان الباء» (٥) ، ويقصد الباء من قوله (تعالى) : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) (٦). فعرّف زرارة [أنّه] كيف يستفيد الحكم من ظاهر الكتاب.

ثمّ إذا كان يجب الجمود على ما ورد من أخبار بيت العصمة فإنّ معنى ذلك هو الأخذ بظواهر أقوالهم ، لا بظواهر الكتاب. وحينئذ ننقل الكلام إلى نفس أخبارهم ، حتى فيما يتعلّق منها بتفسير الكتاب ، فنقول : هل يكفي لكلّ أحد أن يرجع إلى ظواهرها من دون تدبّر وبصيرة ومعرفة ، ومن دون فحص عن القرائن ، واطّلاع على كلّ ما دخل في مضامينها؟

بل هذه الأخبار لا تقلّ من هذا الجهة عن ظواهر الكتاب ، بل الأمر فيها أعظم ؛ لأنّ سندها يحتاج إلى تصحيح ، وتنقيح ، وفحص ؛ ولأنّ جملة منها منقولة بالمعنى ، وما ينقل

__________________

(١) جواب «وإن كنت».

(٢) راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ـ ٨٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) المصدر السابق.

(٤) وسائل الشيعة ١٢ : ٣٥٣ ، الباب ٦ من أبواب الخيار.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١ : ٧ ح ٢١٢.

(٦) المائدة (٥) الآية : ٦.

٥٠٤

بالمعنى لا يحرز فيه نصّ ألفاظ المعصوم ، وتعبيره ، ولا مراداته. ولا يحرز في أكثرها أنّ النقل كان لنصّ الألفاظ.

وأمّا : ما ورد من النهي عن التفسير بالرأي ـ مثل النبوي المشهور : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (١) ـ ، فالجواب عنه أنّ التفسير غير الأخذ بالظاهر ، والأخذ بالظاهر لا يسمّى تفسيرا ، على أنّ مقتضى الجمع بينها وبين تلك الأخبار المجوّزة للأخذ بالكتاب والرجوع إليه حمل التفسير بالرأي ـ إذا سلّمنا أنّه يشمل الأخذ بالظاهر ـ على معنى التسرّع بالأخذ به بالاجتهادات الشخصيّة ، من دون فحص ، ومن دون سابقة معرفة وتأمّل ودراسة ، كما يعطيه التعليل في بعضها ، بأنّ فيه ناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا. مع أنّه في الكتاب العزيز من المقاصد العالية ما لا ينالها إلاّ أهل الذكر ، وفيه ما يقصر عن الوصول إلى إدراكه أكثر الناس ، ولا يزال ينكشف له من الأسرار ما كان خافيا على المفسّرين كلّما تقدّمت العلوم والمعارف ممّا يوجب الدهشة ، (٢) ويحقّق إعجازه من هذه الناحية.

والتحقيق أنّ في الكتاب العزيز جهات كثيرة من الظهور تختلف ظهورا وخفاء ، وليست ظواهره من هذه الناحية على نسق واحد بالنسبة إلى أكثر الناس ، وكذلك كلّ كلام ، ولا يخرج الكلام بذلك عن كونه ظاهرا يصلح للاحتجاج به عند أهله ، بل قد تكون الآية الواحدة لها ظهور من جهة لا يخفى على كلّ أحد ، وظهور آخر يحتاج إلى تأمّل وبصيرة ، فيخفى على كثير من الناس.

ولنضرب لذلك مثلا ، قوله (تعالى) : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (٣) ، فإنّ هذه الآية الكريمة ظاهرة في أنّ الله (تعالى) قد أنعم على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعطائه الكوثر. وهذا الظهور بهذا المقدار لا شكّ فيه لكلّ أحد. ولكن ليس كلّ الناس فهموا المراد من «الكوثر». فقيل : «المراد به نهر في الجنّة». وقيل : «المراد القرآن والنبوّة». وقيل : «المراد به ابنته

__________________

(١) لم أعثر عليه بالعبارة المذكورة ، ولكن ورد في البحار : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار». بحار الأنوار ٩٢ : ١١.

(٢) أي : التحيّر.

(٣) الكوثر (١٠٨) الآية : ١.

٥٠٥

فاطمة عليها‌السلام». وقيل غير ذلك. (١) ولكن من يدقّق في السورة يجد أنّ فيها قرينة على المراد منه ، وهي الآية التي بعدها (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). (٢) و «الأبتر» : الذي لا عقب له ، فإنّه بمقتضى المقابلة يفهم منها أنّ المراد الإنعام عليه بكثرة العقب ، والذرّيّة. وكلمة «الكوثر» لا تأبى عن ذلك ، فإنّ «فوعل» تأتي للمبالغة ، فيراد بها المبالغة في الكثرة ، والكثرة : نماء العدد. فيكون المعنى : إنّا أعطيناك الكثير من الذرّيّة ، والنسل. وبعد هذه المقارنة ووضوح معنى الكوثر يكون للآية ظهور يصحّ الاحتجاج به ، ولكنّه ظهور بعد التأمّل والتبصّر. وحينئذ ينكشف صحّة تفسير كلمة «الكوثر» بفاطمة عليها‌السلام ؛ لانحصار ذرّيّته الكثيرة من طريقها ، لا على أن تكون الكلمة من أسمائها.

تمرينات (٥٨)

١. ما هو محلّ البحث في الباب الخامس؟

٢. ما هي طرق إثبات الظواهر؟

٣. لم لا يدلّ الإجماع وبناء العقلاء على حجّيّة قول اللغويّ؟

٤. ما هو الوجه الصحيح في الاستدلال على حجّيّة قول اللغويّ؟

٥. ما هو رأى المحقّق النائيني في الفرق بين الظهور التصوريّ والظهور التصديقيّ؟ وما هو رأي المصنّف فيه؟

٦. ما الوجه في حجّيّة الظهور؟

٧. هل يشترط في تباني العقلاء على حجّيّة الظاهر حصول الظنّ الفعلي بمراد المتكلّم؟

٨. هل يشترط فيه عدم الظنّ بخلاف الظاهر؟ أذكر ما قال المحقّق الخراسانيّ ، والمصنّف في المقام.

٩. هل اشترط فيه جريان أصالة عدم القرينة؟ اذكر قول الشيخ ، وقول المحقّق الخراسانيّ ، ومختار المصنّف.

١٠. ما هو رأي المحقّق القمّي في حجّيّة الظهور؟ وما الجواب عنه؟

١١. ما هو رأي الأخباريّين في حجّيّة ظواهر الكتاب العزيز؟ وما الجواب عنه؟

١٢. ما الجواب عمّا ورد في النهي عن التفسير بالرأي؟

__________________

(١) وإن شئت فراجع مجمع البيان ١٠ : ٨٣٦ ـ ٨٣٧.

(٢) الكوثر (١٠٨) الآية : ٣.

٥٠٦

الباب السادس

الشهرة

إنّ الشهرة لغة تتضمّن معنى ذيوع الشيء ووضوحه. ومنه قولهم : «شهر فلان سيفه» ، و «سيف مشهور».

وقد أطلقت «الشهرة» باصطلاح أهل الحديث على كلّ خبر كثر راويه على وجه لا يبلغ حدّ التواتر. والخبر يقال له حينئذ : «مشهور» ، كما قد يقال له : «مستفيض».

وكذلك يطلقون «الشهرة» باصطلاح الفقهاء على كلّ ما لا يبلغ درجة الإجماع من الأقوال في المسألة الفقهيّة. فهي عندهم لكلّ قول كثر القائل به في مقابل القول النادر. والقول يقال له : «مشهور» ، كما أنّ المفتين الكثيرين أنفسهم يقال لهم : «مشهور» ، فيقولون : «ذهب المشهور إلى كذا» ، و «قال المشهور بكذا» ... وهكذا.

وعلى هذا ، فالشهرة في الاصطلاح على قسمين :

١. الشهرة في الرواية : وهي ـ كما تقدّم ـ عبارة عن شيوع نقل الخبر من عدّة رواة ، على وجه لا يبلغ حدّ التواتر. ولا يشترط في تسميتها بـ «الشهرة» أن يشتهر العمل بالخبر عند الفقهاء أيضا ، فقد يشتهر وقد لا يشتهر. وسيأتي في مبحث التعادل والتراجيح (١) أنّ هذه الشهرة من أسباب ترجيح الخبر على ما يعارضه من الأخبار. فيكون الخبر المشهور حجّة من هذه الجهة.

٢. الشهرة في الفتوى : وهي ـ كما تقدّم ـ عبارة عن شيوع الفتوى عند الفقهاء بحكم شرعيّ ، وذلك بأن يكثر المفتون على وجه لا تبلغ الكثرة (٢) درجة الإجماع الموجب للقطع

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٥٨٤.

(٢) أي كثرة المفتين. وفي المطبوع : «لا تبلغ الشهرة» والصحيح ما اثبتناه.

٥٠٧

بقول المعصوم.

فالمقصود بالشهرة ـ إذن ـ ذيوع الفتوى الموجب للاعتقاد بمطابقتها (١) للواقع من غير أن يبلغ (٢) درجة القطع.

وهذه الشهرة في الفتوى على قسمين من جهة وقوع البحث عنها والنزاع فيها :

الأوّل : أن يعلم فيها أنّ مستندها خبر خاصّ موجود بين أيدينا. وتسمّى حينئذ «الشهرة العمليّة». وسيأتي في باب التعادل والتراجيح البحث عمّا إذا كانت هذه الشهرة العمليّة موجبة لجبر الخبر الضعيف من جهة السند ، والبحث أيضا عمّا إذا كانت موجبة لجبر الخبر غير الظاهر من جهة الدلالة. (٣)

الثاني : ألاّ يعلم فيها أنّ مستندها أيّ شيء هو؟ فتكون شهرة في الفتوى مجرّدة ، سواء كان هناك خبر على طبق الشهرة ولكن لم يستند إليها المشهور ، أو لم يعلم استنادهم إليه ، أم لم يكن خبر أصلا. وينبغي أن تسمّى هذه بـ «الشهرة الفتوائيّة». وهي ـ أعني الشهرة الفتوائيّة ـ موضوع بحثنا هنا الذي لأجله عقدنا هذا الباب. فقد قيل (٤) : «إنّ هذه الشهرة حجّة على الحكم الذي وقعت عليه الفتوى من جهة كونها شهرة ، فتكون من الظنون الخاصّة ، كخبر الواحد». وقيل : «لا دليل على حجّيتها». (٥)

وهذا الاختلاف بعد الاتّفاق على أنّ فتوى مجتهد واحد أو أكثر ما لم تبلغ الشهرة

__________________

(١) أي مطابقة الفتوى.

(٢) أي الاعتقاد.

(٣) يأتي في الصفحة ٥٨٤.

(٤) نسب إلى الشهيد الأوّل ترجيحه هذا القول ، ونقله عن بعض الأصحاب ، من دون أن يذكر اسمه. ونسب أيضا إلى المحقّق الخوانساريّ اختيار هذا القول. وعزي كذلك إلى صاحب المعالم. * ولكنّ الشهرة على خلافهم ـ منه قدس‌سره ـ.

(٥) وهذا هو المعروف عند أكثر المتأخّرين ، فراجع كتبهم كفرائد الأصول ١ : ١٠٥ ـ ١٠٧ ؛ كفاية الأصول : ٣٣٦ ؛ فوائد الأصول ٣ : ١٥٣ ـ ١٥٦ ؛ نهاية الأفكار ٣ : ١٠١.

__________________

* أقول : والناسب إليهم صاحب الفصول ، والسيّد المجاهد ، فراجع الفصول الغرويّة : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، ومفاتيح الأصول : ٤٩٨. وراجع كلام الشهيد في الذكرى ١ : ٥٢.

٥٠٨

لا تكون حجّة على مجتهد آخر ، ولا يجوز التعويل عليها. وهذا معنى ما ذهبوا إليه من عدم جواز التقليد ، أي بالنسبة إلى من يتمكّن من الاستنباط.

والحقّ أنّه لا دليل على حجّيّة الظنّ الناشئ من الشهرة ، مهما بلغ من القوّة ، وإن كان من المسلّم به أنّ الخبر الذي عمل به المشهور حجّة ولو كان ضعيفا من ناحية السند ، كما سيأتي بيانه في محلّه. (١) وقد ذكروا لحجّيّة الشهرة جملة من الأدلّة ، كلّها مردودة :

الدليل الأوّل : أولويّتها من خبر العادل

قيل : «إنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد تدلّ على حجّيّة الشهرة بمفهوم الموافقة ؛ نظرا إلى أنّ الظنّ الحاصل من الشهرة أقوى غالبا من الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، حتى العادل ، فالشهرة أولى بالحجّيّة من خبر العادل». (٢)

والجواب أنّ هذا المفهوم إنّما يتمّ إذا أحرزنا على نحو اليقين أنّ العلّة في حجّيّة خبر العادل هي إفادته الظنّ ، ليكون ما هو أقوى ظنّا أولى بالحجّيّة. ولكن هذا غير ثابت في وجه حجّيّة خبر الواحد إذا لم يكن الثابت عدم اعتبار الظنّ الفعليّ.

الدليل الثاني : عموم تعليل آية النبأ

وقيل : «إنّ عموم التعليل في آية النبأ (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) (٣) يدلّ على اعتبار مثل الشهرة ؛ لأنّ الذي يفهم من التعليل أنّ الإصابة من الجهالة هي المانعة من قبول خبر الفاسق بلا تبيّن ، فيدلّ على أنّ كلّ ما يؤمن معه من الإصابة بجهالة فهو حجّة يجب الأخذ به. والشهرة كذلك».

والجواب أنّ هذا ليس تمسّكا بعموم التعليل ـ على تقدير تسليم أنّ هذه الفقرة من الآية واردة مورد التعليل ، وقد تقدّم بيان ذلك في أدلّة حجّيّة خبر الواحد (٤) ـ ، بل هذا

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٥٨٤.

(٢) انتهى ملخّص ما استدلّ به الشهيد على حجيّة الشهرة في الذكرى ١ : ٥٢ ، ومسالك الأفهام ٢ : ٢٢٧.

(٣) الحجرات (٤٩) الآية : ٦.

(٤) تقدّم في الصفحة : ٤٣٠.

٥٠٩

الاستدلال تمسّك بعموم نقيض التعليل. ولا دلالة في الآية على نقيض التعليل بالضرورة ؛ لأنّ هذه الآية نظيرة نهي الطبيب عن بعض الطعام لأنّه حامض ـ مثلا ـ ، فإنّ هذا التعليل لا يدلّ على أنّ كلّ ما هو ليس بحامض يجوز أو يجب أكله. وكذلك هنا ؛ فإنّ حرمة العمل بنبإ الفاسق بدون تبيّن ـ لأنّه يستلزم الإصابة بجهالة ـ لا تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ ما يؤمن فيه ذلك وما لا يستلزم الإصابة بجهالة.

وأمّا : دلالتها على خصوص حجّيّة خبر الواحد العادل فقد استفدناها من طريق آخر ، وهو طريق مفهوم الشرط على ما تقدّم شرحه ، (١) لا من طريق عموم نقيض التعليل.

وبعبارة أخرى : إنّ أكثر ما تدلّ الآية في تعليلها على (٢) أنّ الإصابة بجهالة مانعة عن تأثير المقتضي لحجّيّة الخبر ، ولا تدلّ على وجود المقتضي للحجّيّة في كلّ شيء آخر ؛ حيث لا يوجد فيه المانع ، حتى تكون دالّة على حجّيّة مثل الشهرة المفقود فيها المانع. أو نقول : إنّ فقدان المانع عن الحجّيّة في مثل الشهرة لا يستلزم وجود المقتضي فيها للحجّيّة ، ولا تدلّ الآية على أنّ كلّ ما ليس فيه مانع فالمقتضي فيه موجود.

الدليل الثالث : دلالة بعض الأخبار

قيل : «إنّ بعض الأخبار دالّة على اعتبار الشهرة ، مثل مرفوعة زرارة : قال زرارة : سألت الباقر عليه‌السلام ، فقلت : ـ جعلت فداك ـ يأتي عنكم الخبران ، أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما آخذ؟ قال عليه‌السلام «[يا زرارة!] خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر». قلت يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران [مرويّان] ، مأثوران عنكم. قال عليه‌السلام : «خذ بما يقوله (٣) أعدلهما ...» إلى آخر الخبر (٤) ، (٥).

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٤٣٢.

(٢) خبر «إنّ» أي : دلالتها على ... والأولى : «... تدلّ عليه الآية في تعليلها أنّ».

(٣) وفي المصدر : «خذ بقول ...».

(٤) عوالي اللآلئ ٤ : ١٣٣ ح ٢٢٩ ؛ مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ ح ٢.

(٥) هذا الدليل تعرّض له وللإجابة عليه في مفاتيح الأصول : ٤٩٨.

٥١٠

والاستدلال بهذه المرفوعة من وجهين :

الأوّل : أنّ المراد من الموصول في قوله : «بما اشتهر» مطلق المشهور بما هو مشهور ، لا خصوص الخبر ، فيعمّ المشهور بالفتوى ؛ لأنّ الموصول من الأسماء المبهمة التي تحتاج إلى ما يعيّن مدلولها ، والمعيّن لمدلول الموصول هي الصلة ، وهنا ـ وهي (١) قوله : «اشتهر» ـ تشمل كلّ شيء اشتهر ، حتى الفتوى.

الثاني : أنّه على تقدير أن يراد من الموصول خصوص الخبر ؛ فإنّ المفهوم من المرفوعة إناطة الحكم بالشهرة ، فتدلّ على أنّ الشهرة بما هي شهرة توجب اعتبار المشتهر ، فيدور الحكم معها حيثما دارت ، فالفتوى المشتهرة أيضا معتبرة ، كالخبر المشهور.

والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل : فبأنّ الموصول كما يتعيّن المراد منه بالصلة ، كذلك يتعيّن بالقرائن الأخرى المحفوفة به. والذي يعيّنه هنا السؤال المتقدّم عليه ؛ إذ السؤال وقع عن نفس الخبر ، والجواب لا بدّ أن يطابق السؤال. وهذا نظير ما لو سألت : أيّ إخوتك أحبّ إليك؟ فأجبت : «من كان أكبر منّي» ، فإنّه لا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّ الحكم في هذا الجواب يعمّ كلّ من كان أكبر منك ، ولو كان من غير إخوتك.

وأمّا عن الوجه الثاني : فبأنّه بعد وضوح إرادة الخبر من الموصول (٢) يكون الظاهر من الجملة تعليق الحكم على الشهرة في خصوص الخبر ، فيكون المناط في الحكم شهرة الخبر بما أنّها شهرة الخبر ، لا الشهرة بما هي ، وإن كانت منسوبة إلى شيء آخر.

وكذلك يقاس الحال في مقبولة ابن حنظلة ، (٣) الآتية في باب التعادل والتراجيح. (٤)

تنبيه

من المعروف عن المحقّقين من علمائنا أنّهم لا يجرءون على مخالفة المشهور إلاّ مع

__________________

(١) أي : الصلة.

(٢) وإليه ذهب أيضا المحقّق الحائريّ في درر الفوائد ٢ : ٤٥.

(٣) راجع وسائل الشيعة ١٨ : ٧٥ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٤) يأتي في الصفحة : ٥٨١.

٥١١

دليل قويّ ، ومستند جليّ يصرفهم عن المشهور ، بل ما زالوا يحرصون على موافقة المشهور وتحصيل دليل يوافقه ، ولو كان الدالّ على غيره أولى بالأخذ ، وأقوى في نفسه ، وما ذلك من جهة التقليد للأكثر ، ولا من جهة قولهم بحجّيّة الشهرة ، وإنّما منشأ ذلك إكبار (١) المشهور من آراء العلماء ، لا سيّما إذا كانوا من أهل التحقيق والنظر.

وهذه طريقة جارية في سائر الفنون ؛ فإنّ مخالفة أكثر المحقّقين في كلّ صناعة لا تسهل ، إلاّ مع حجّة واضحة ، وباعث قويّ ؛ لأنّ المنصف قد يشكّ في صحّة رأيه مقابل المشهور ، فيجوّز على نفسه الخطأ ، ويخشى أن يكون رأيه عن جهل مركّب ، لا سيّما إذا كان قول المشهور هو الموافق للاحتياط.

تمرينات (٥٩)

١. ما معنى الشهرة لغة؟

٢. ما معنى الشهرة في اصطلاح أهل الحديث ، واصطلاح الفقهاء؟

٣. ما هي الشهرة في الرواية ، والشهرة في الفتوى؟ وأيّتهما كانت محلّ النزاع؟

٤. اذكر الأقوال في حجّيّة الشهرة. واذكر الراجح منها عند المصنّف.

٥. اذكر ادلّة القائلين بحجّيّة الشهرة ، واذكر الجواب عنها.

٦. هل مخالفة المشهور جائزة أم لا؟

__________________

(١) أي تعظيم.

٥١٢

الباب السابع

السيرة

المقصود من «السيرة» ـ كما هو واضح ـ استمرار عادة الناس وتبانيهم العمليّ على فعل شيء ، أو تركه.

والمقصود بالناس إمّا جميع العقلاء والعرف العامّ من كلّ ملّة ونحلة ، فيعمّ المسلمين وغيرهم ؛ وتسمّى السيرة حينئذ «السيرة العقلائيّة». والتعبير الشائع عند الأصوليّين المتأخّرين تسميتها ب : «بناء العقلاء». وإمّا جميع المسلمين بما هم مسلمون ، أو خصوص أهل نحلة خاصّة منهم ، كالإماميّة ـ مثلا ـ ؛ وتسمّى السيرة حينئذ «سيرة المتشرّعة» ، أو «السيرة الشرعيّة» ، أو «السيرة الإسلاميّة».

وينبغي التنبيه على حجّيّة كلّ من هذين القسمين ؛ لاستكشاف الحكم الشرعيّ فيما جرت عليه السيرة ، وعلى مدى دلالة السيرة ، فنقول :

١. حجّيّة بناء العقلاء

لقد تكلّمنا أكثر من مرّة ـ فيما سبق من هذا الجزء ـ عن «بناء العقلاء» ، واستدللنا به على حجّيّة خبر الواحد (١) ، وحجّيّة الظواهر (٢). وقد أشبعنا الموضوع بحثا في مسألة «حجّيّة قول اللغويّ». (٣)

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٤٦ ـ ٤٥٠.

(٢) راجع الصفحة : ٤٩٤ ـ ٤٩٥.

(٣) راجع الصفحة : ٤٩٠.

٥١٣

وهناك قلنا : إنّ بناء العقلاء لا يكون دليلا إلاّ إذا كان يستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقة العقلاء ؛ لأنّ اليقين تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة.

وقلنا هناك : إنّ موافقة الشارع لا تستكشف على نحو اليقين إلاّ بأحد شروط ثلاثة. ونذكر خلاصتها هنا بأسلوب آخر من البيان ، فنقول :

إنّ السيرة إمّا أن ينتظر فيها أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء ؛ إذ لا مانع من ذلك. وإمّا ألاّ ينتظر ذلك ؛ لوجود مانع من اتّحاده معهم في المسلك ، كما في الاستصحاب.

فإن كان الأوّل ، فإن ثبت من الشارع الردع عن العمل بها فلا حجّيّة فيها قطعا.

وإن لم يثبت الردع منه ، (١) فلا بدّ أن يعلم اتّحاده في المسلك معهم ؛ لأنّه أحد العقلاء ، بل رئيسهم ، فلو لم يرتضها ولم يتّخذها مسلكا له كسائر العقلاء ، لبيّن ذلك ، ولردعهم عنها ، ولذكر لهم مسلكه الذي يتّخذه بدلا عنها ، لا سيّما في الأمارات المعمول بها عند العقلاء ، كخبر الواحد الثقة ، والظواهر.

وإن كان الثاني فإمّا أن يعلم جريان سيرة العقلاء في العمل بها في الأمور الشرعيّة ، كما في الاستصحاب. وإمّا ألاّ يعلم ذلك ، كما في الرجوع إلى أهل الخبرة في إثبات اللغات.

فإن كان الأوّل فنفس عدم ثبوت ردعه كاف في استكشاف موافقته لهم ، لأنّ ذلك ممّا يعنيه ويهمّه ، فلو لم يرتضها ـ وهي بمرأى ومسمع منه ـ لردعهم عنها ، ولبلّغهم بالردع ، بأيّ نحو من أنحاء التبليغ ، فبمجرّد عدم ثبوت الردع منه نعلم بموافقته ؛ ضرورة أنّ الردع الواقعيّ غير الواصل لا يعقل أن يكون ردعا فعليّا ، وحجّة.

وبهذا نثبت حجّيّة مثل الاستصحاب ببناء العقلاء ؛ لأنّه لمّا كان ممّا بنى على العمل به العقلاء بما فيهم المسلمون ، وقد أجروه في الأمور الشرعيّة بمرأى ومسمع من الإمام ، والمفروض أنّه لم يكن هناك ما يحول دون إظهار الردع ، وتبليغه من تقيّة ، ونحوها ، فلا بدّ أن يكون الشارع قد ارتضاه ؛ طريقة في الأمور الشرعيّة.

وإن كان الثاني ـ أي لم يعلم ثبوت السيرة في الأمور الشرعيّة ـ فإنّه لا يكفي حينئذ في

__________________

(١) أي : من الشارع.

٥١٤

استكشاف موافقة الشارع عدم ثبوت الردع منه ؛ إذ لعلّه ردعهم عن إجرائها (١) في الأمور الشرعيّة فلم يجروها ، أو لعلّهم لم يجروها في الأمور الشرعيّة من عند أنفسهم فلم يكن من وظيفة الشارع أن يردع عنها في غير الأمور الشرعيّة ، لو كان لا يرتضيها في الشرعيّات. وعليه ، فلأجل استكشاف رضا الشارع وموافقته على إجرائها في الشرعيّات لا بدّ من إقامة دليل خاصّ قطعيّ على ذلك.

وبعض السير من هذا القبيل قد ثبت عن الشارع إمضاؤه لها ، مثل الرجوع إلى أهل الخبرة عند النزاع في تقدير قيم الأشياء ومقاديرها ، نظير القيميّات المضمونة بالتلف ونحوه ، وتقدير قدر الكفاية في نفقة الأقارب ، ونحو ذلك.

أمّا : ما لم يثبت فيها دليل خاصّ ـ كالسيرة في الرجوع إلى أهل الخبرة في اللغات ـ فلا عبرة بها ، وإن حصل الظنّ منها ؛ لأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا. كما تقدّم ذلك هناك.

٢. حجّيّة سيرة المتشرّعة

إنّ السيرة عند المتشرّعة من المسلمين على فعل شيء أو تركه هي في الحقيقة من نوع الإجماع ، بل هي أرقى (٢) أنواع الإجماع ؛ لأنّها إجماع عمليّ من العلماء ، وغيرهم. والإجماع في الفتوى إجماع قوليّ ، ومن العلماء خاصّة.

والسيرة على نحوين : تارة يعلم فيها أنّها كانت جارية في عصور المعصومين عليهم‌السلام ، حتى يكون المعصوم أحد العاملين بها ، أو يكون مقرّرا لها ، وأخرى لا يعلم ذلك ، أو يعلم حدوثها بعد عصورهم.

فإن كانت على النحو الأوّل فلا شكّ في أنّها حجّة قطعيّة على موافقة الشارع ، فتكون بنفسها دليلا على الحكم ، كالإجماع القوليّ الموجب للحدس القطعيّ برأي المعصوم. وبهذا تختلف عن «سيرة العقلاء» (٣) ؛ فإنّها إنّما تكون حجّة إذا ثبت من دليل آخر إمضاء الشارع

__________________

(١) أي : السيرة.

(٢) أي : أرفع.

(٣) راجع حاشية شيخنا الأصفهاني قدس‌سره على مكاسب الشيخ : ٢٥. ـ منه قدس‌سره ـ.

٥١٥

لها ، ولو من طريق عدم ثبوت الردع من قبله ، كما سبق.

وإن كانت على النحو الثاني ، فلا نجد مجالا للاعتماد عليها في استكشاف موافقة المعصوم على نحو القطع واليقين ، كما قلنا في الإجماع ، وهي نوع منه ، بل هي دون الإجماع القوليّ في ذلك ، كما سيأتي وجهه. (١)

قال الشيخ الأعظم قدس‌سره في كتاب البيع في مبحث المعاطاة : «وأمّا : ثبوت السيرة واستمرارها على التوريث ـ يقصد توريث ما يباع معاطاة ـ فهي كسائر سيراتهم الناشئة من المسامحة ، وقلّة المبالاة في الدين ممّا لا يحصى في عباداتهم ، ومعاملاتهم ، كما لا يخفى». (٢)

ومن الواضح أنّه يعنى من السيرة هذا النحو الثاني. والسرّ في عدم الاعتماد على هذا النحو من السيرة هو ما نعرف من أسلوب نشأة العادات عند البشر ، وتأثير العادات على عواطف الناس : أنّ بعض الناس المتنفّذين ، أو المغامرين قد يعمل شيئا ؛ استجابة لعادة غير إسلاميّة ، أو لهوى في نفسه ، أو لتأثيرات خارجيّة ، نحو تقليد الأغيار ، أو لبواعث انفعالات نفسيّة ، مثل حبّ التفوّق على الخصوم ، أو إظهار عظمة شخصه ، أو دينه ، أو نحو ذلك. ويأتي آخر فيقلّد الأوّل في عمله ، ويستمرّ العمل ، فيشيع بين الناس من دون أن يحصل من يردعهم عن ذلك ؛ لغفلة ؛ أو لتسامح ؛ أو لخوف ؛ أو لغلبة العاملين فلا يصغون إلى من ينصحهم ؛ أو لغير ذلك.

وإذا مضت على العمل عهود طويلة يتلقّاه الجيل بعد الجيل ، فيصبح سيرة المسلمين ، وينسى تأريخ تلك العادة. وإذا استقرّت السيرة يكون الخروج عليها خروجا على العادات المستحكمة التي من شأنها أن تتكوّن لها قدسيّة واحترام لدى الجمهور ، فيعدّون مخالفتها من المنكرات القبيحة ، وحينئذ يتراءى أنّها عادة شرعيّة وسيرة إسلاميّة ، وأنّ المخالف لها مخالف لقانون الإسلام ، وخارج على الشرع.

ويشبه أن يكون من هذا الباب سيرة تقبيل اليد ، والقيام احتراما للقادم ، والاحتفاء (٣)

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٥١٧.

(٢) المكاسب (للشيخ الأنصاري) : ٨٣.

(٣) الاحتفاء : إظهار الفرح.

٥١٦

بيوم النوروز ، وزخرفة (١) المساجد والمقابر ... وما إلى ذلك من عادات اجتماعيّة حادثة.

وكلّ من يغترّ بهذه السيرات وأمثالها فإنّه لم يتوصّل إلى ما توصّل إليه الشيخ الأنصاريّ الأعظم قدس‌سره من إدراك سرّ نشأة العادات عند الناس على طول الزمن ، وأنّ لكلّ جيل من العادات في السلوك ، والاجتماع ، والمعاملات ، والمظاهر ، والملابس ما قد يختلف كلّ الاختلاف عن عادات الجيل الآخر. هذا بالنسبة إلى شعب واحد ، وقطر واحد ؛ فضلا عن الشعوب ، والأقطار بعضها مع بعض. والتبدّل في العادات غالبا يحدث بالتدريج في زمن طويل قد لا يحسّ به من جرى على أيديهم التبديل.

ولأجل هذا لا نثق في السيرات الموجودة في عصورنا بأنّها كانت موجودة في العصور الإسلاميّة الأولى. ومع الشكّ في ذلك فأجدر بها ألاّ تكون حجّة ؛ لأنّ الشكّ في حجّيّة الشيء كاف في وهن حجّيّته ؛ إذ لا حجّة إلاّ بعلم.

٣. مدى دلالة السيرة

إنّ السيرة عند ما تكون حجّة فأقصى ما تقتضيه أن تدلّ على مشروعيّة الفعل وعدم حرمته في صورة السيرة على الفعل ، أو تدلّ على مشروعيّة الترك وعدم وجوب الفعل في صورة السيرة على الترك.

أمّا : استفادة الوجوب من سيرة الفعل ، والحرمة من سيرة الترك فأمر لا تقتضيه نفس السيرة ؛ بل كذلك الاستحباب ، والكراهة ؛ لأنّ العمل في حدّ ذاته مجمل ، لا دلالة على أكثر من مشروعيّة الفعل ، أو الترك.

نعم ، المداومة والاستمرار على العمل من قبل جميع الناس المتشرّعين قد يستظهر منها استحبابه ؛ لأنّه يدلّ ذلك على استحسانه عندهم على الأقلّ.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الاستحسان له ربما ينشأ من كونه أصبح عادة لهم ، والعادات من شأنها أن يكون فاعلها ممدوحا مرغوبا فيه لدى الجمهور ، وتاركها مذموما عندهم ،

__________________

(١) أي : تزيين.

٥١٧

فلا يوثق ـ إذن ـ فيما جرت عليه السيرة بأنّ المدح للفاعل والذمّ للتارك كانا من ناحية شرعيّة.

والغرض أنّ السيرة بما هي سيرة لا يستكشف منها وجوب الفعل ، ولا استحبابه في سيرة الفعل ، ولا يستكشف منها حرمة الفعل ، ولا كراهته في سيرة الترك.

نعم ، هناك بعض الأمور يكون لازم مشروعيّتها وجوبها ، وإلاّ لم تكن مشروعة. وذلك مثل الأمارة ، كخبر الواحد ، والظواهر ؛ فإنّ السيرة على العمل بالأمارة لمّا دلّت على مشروعيّة العمل بها ، فإنّ لازمها أن يكون واجبا ؛ لأنّه لا يشرع العمل بها ، ولا يصلح إلاّ إذا كانت حجّة منصوبة من قبل الشارع لتبليغ الأحكام واستكشافها. وإذا كانت حجّة وجب العمل بها قطعا لوجوب تحصيل الأحكام وتعلّمها ؛ فينتج من ذلك أنّه لا يمكن فرض مشروعيّة العمل بالأمارة ، مع فرض عدم وجوبه.

تمرينات (١٩)

١. ما معنى السيرة؟

٢. ما الفرق بين السيرة العقلائيّة ، والسيرة الشرعيّة؟

٣. هل بناء العقلاء بإطلاقه حجّة أم لا؟ وعلى الثاني بيّن موارد حجّيّته.

٤. هل سيرة المتشرّعة حجّة أم لا؟

٥. بيّن مدى دلالة السيرة.

٥١٨

الباب الثامن

القياس

تمهيد

إنّ القياس ـ على ما سيأتي تحديده ، وبيان موضع البحث عنه ـ من الأمارات التي وقعت معركة الآراء بين الفقهاء.

وعلماء الإماميّة ـ تبعا لآل البيت عليهم‌السلام ـ أبطلوا العمل به (١). ومن الفرق الأخرى أهل الظاهر ـ المعروفين بـ «الظاهريّة» أصحاب داود بن علي بن خلف ، إمام أهل الظاهر ـ وكذلك الحنابلة لم يكونوا يقيمون له وزنا. (٢)

وأوّل من توسّع فيه في القرن الثاني أبو حنيفة (رأس القياسيّين) ، وقد نشط في عصره ، وأخذ به الشافعيّة ، والمالكيّة. ولقد بالغ به جماعة ، فقدّموه على الإجماع ، بل غلا آخرون ، فردّوا الأحاديث بالقياس ، وربما صار بعضهم يؤوّل الآيات بالقياس.

ومن المعلوم عند آل البيت عليهم‌السلام أنّهم لا يجوّزون العمل به ، وقد شاع عنهم «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٣) و «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين». (٤) ، بل شنّوا حربا

__________________

(١) راجع : التذكرة بأصول الفقه (للشيخ المفيد) : ٣٨ ؛ العدّة ٢ : ٦٥٢ ؛ الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٧٥ ؛ معارج الأصول : ١٨٧ ؛ مبادئ الوصول إلى علم الأصول : ٢١٤.

(٢) نسب إليهم في إرشاد الفحول : ٢٠٠ ، وروضة الناظر : ١٤٧ ، والمستصفى ٢ : ٢٣٤ ، ونهاية السئول ٤ : ٩ ، واللمع : ٩٧. وفي هامش كتاب «إبطال القياس» لابن الحزم ، نسب القول بعدم اعتبار القياس إلى البخاريّ نقلا عن كتاب «الأدب المفرد» للبخاري : ٨. فراجع ملخّص إبطال القياس : ٥.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٣٠٣.

(٤) بحار الأنوار ١٠٤ : ٤٠٥.

٥١٩

شعواء لا هوادة (١) فيها على أهل الرأي وقياسهم ما وجدوا للكلام متّسعا. ومناظرات الإمام الصادق عليه‌السلام معهم معروفة ، لا سيّما مع أبي حنيفة ، وقد رواها حتى أهل السنّة ، إذ قال له ـ فيما رواه ابن حزم ـ : «اتّق الله ولا تقس ؛ فإنّا نقف غدا بين يدي الله ، فنقول : قال الله ، وقال رسوله ، وتقول أنت وأصحابك : سمعنا ورأينا». (٢)

والذي يبدو أنّ المخالفين لآل البيت عليهم‌السلام ـ الذين سلكوا غير طريقهم ، ولم يعجبهم أن يستقوا من منبع علومهم ـ أعوزهم العلم بأحكام الله ، وما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالتجئوا إلى أن يصطنعوا (٣) الرأي والاجتهادات الاستحسانيّة للفتيا والقضاء بين الناس ، بل حكموا الرأي والاجتهاد حتى فيما يخالف النصّ ، أو جعلوا ذلك عذرا مبرّرا لمخالفة النصّ ، كما في قصّة تبرير الخليفة الأوّل لفعلة خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة ، وقد خلا بزوجته ليلة قتله ، فقال عنه : «إنّه اجتهد فأخطأ!!؟» ، وذلك لمّا أراد الخليفة عمر بن الخطّاب أن يقاد به ، ويقام عليه الحدّ. (٤)

وكان الرأي والقياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من الصحابة والتابعين ، حتى بدأ البحث فيه لتركيزه وتوسعة الأخذ به في القرن الثاني على يد أبي حنيفة وأصحابه. (٥) ثمّ بعد أن أخذت الدولة العبّاسيّة تساند أهل القياس ، وبعد ظهور النقّاد له ، انبرى جماعة من علمائهم لتحديد معالمه ، وتوسيع أبحاثه ، ووضع القيود ، والاستدراكات

__________________

(١) شنّوا أي : صبّوا.

شعواء أي : متفرّقة ممتدّة.

الهوادة : ما يرجي به الصلاح بين القوم. والمحاباة.

فمعنى العبارة : بل صبّوا على أهل الرأي وقياسهم مقاتلة متفرّقة ممتدّة لم يكن فيها ما يرجى به الصلاح.

صبّوا عليهم في هذه المقاتلة ما وجدوا للكلام متّسعا.

(٢) ملخّص إبطال القياس : ٧١.

(٣) أي : أن يختاروا.

(٤) راجع الغدير ٧ : ١٥٨.

(٥) قال ابن حزم في كتاب «ملخّص إبطال القياس : ٥» : «ثمّ حدث القياس في القرن الثاني». وقال في كتابه «الإحكام عن أصول الأحكام ٧ : ١٧٧» : «إنّه بدعة حدثت في القرن الثاني ، ثمّ فشا وظهر في القرن الثالث».

٥٢٠