اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

ومن هنا قلنا سابقا : إنّ المستقلاّت العقليّة تنحصر في مسألة واحدة ، وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ؛ لأنّه لا يشارك الشارع حكم العقل العمليّ إلاّ فيها ، أي إنّ العقل النظريّ لا يحكم بالملازمة إلاّ في هذا المورد خاصّة. (١)

وجه حجّيّة [حكم] العقل

٤. إذا عرفت ما شرحناه ـ وهو أنّ العقل النظريّ يقطع باللازم ، أعني حكم الشارع ، بعد قطعه بثبوت الملزوم الذي هو حكم الشرع أو العقل ، وبعد فرض قطعه بالملازمة ـ ، نشرع في بيان وجه حجّيّة [حكم] العقل ، فنقول :

لقد انتهى الأمر بنا في البحث السابق إلى أنّ الدليل العقليّ ما أوجب القطع بحكم الشارع ، وإذا كان الأمر كذلك فليس ما وراء القطع حجّة ؛ فإنّه تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة ؛ لأنّه ـ كما تقدّم ـ هو حجّة بذاته ، ولا يعقل سلخ الحجّيّة عنه. (٢)

وهل تثبت الشريعة إلاّ بالعقل؟ وهل يثبت التوحيد والنبوّة إلاّ بالعقل؟ وإذا سلخنا أنفسنا عن حكم العقل فكيف نصدّق برسالة؟! وكيف نؤمن بشريعة؟! بل كيف نؤمن بأنفسنا واعتقاداتها؟! وهل العقل إلاّ ما عبد به الرّحمن؟ وهل يعبد الديّان إلاّ به؟

إنّ التشكيك في حكم العقل سفسطة ليس وراءها سفسطة. نعم ، كلّ ما يمكن الشكّ فيه هو [من] الصغريات ـ أعني ثبوت الملازمات في المستقلاّت العقليّة ، أو في غير المستقلاّت العقليّة ـ. ونحن إنّما نتكلّم في حجّيّة [حكم] العقل لإثبات الحكم الشرعيّ بعد ثبوت تلك الملازمات. وقد شرحنا في الجزء الثاني مواقع كثيرة من تلك الملازمات ، فأثبتنا بعضها في مثل المستقلاّت العقليّة ، ونفينا بعضا آخر في مثل مقدّمة الواجب ، ومسألة الضدّ.

أمّا : بعد ثبوت الملازمة وثبوت الملزوم فأيّ معنى للشكّ في حجّيّة [حكم] العقل ،

__________________

(١) راجع البحث الرابع في أسباب حكم العقل العمليّ ، الجزء الثاني : ٢٣٧ فما بعدها لتعرف السرّ في التخصيص بالآراء المحمودة ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) راجع الصفحة : ٣٨٠.

٤٨١

أو الشكّ في ثبوت اللازم ، وهو حكم الشارع؟

ولكن ، مع كلّ هذا وقع الشكّ لبعض الأخباريّين في هذا الموضوع ، (١) فلا بدّ من تجليته (٢) لكشف المغالطة ، فنقول :

قد أشرنا في المقصد الثاني إلى هذا النزاع (٣) ، وقلنا : إنّ مرجع هذا النزاع إلى ثلاث نواح ، وذلك حسب اختلاف عباراتهم :

الأولى : في إمكان أن ينفي الشارع حجّيّة هذا القطع. وقد اتّضح لنا ذلك بما شرحناه في حجّيّة القطع الذاتيّة من هذا الجزء ، فارجع إليه (٤) لتعرف استحالة النهي عن اتّباع القطع.

الثانية : بعد فرض إمكان نفي الشارع حجّيّة القطع ، هل نهى الشارع عن الأخذ بحكم العقل؟ وقد ادّعى ذلك جملة من الأخباريّين الذين وصل إلينا كلامهم (٥) ؛ مدّعين أنّ الحكم الشرعيّ لا يتنجّز ، ولا يجوز الأخذ به إلاّ إذا ثبت من طريق الكتاب ، والسنّة.

أقول : ومردّ هذه الدعوى في الحقيقة إلى دعوى تقييد الأحكام الشرعيّة بالعلم بها من طريق الكتاب ، والسنّة. وهذا خير ما يوجّه به كلامهم. ولكن قد سبق الكلام مفصّلا في مسألة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل من هذا الجزء ، فقلنا : إنّه يستحيل تعليق الأحكام على العلم بها مطلقا ، فضلا عن تقييدها بالعلم الناشئ من سبب خاصّ ، وهذه الاستحالة ثابتة ، حتى لو قلنا بإمكان نفي حجّيّة القطع ؛ لما قلناه من لزوم الخلف ، كما شرحناه هناك. (٦)

__________________

(١) وفي «س» : «في هذا الأمر الضروريّ ، وهو من غرائب المقالات». والأولى ما في المتن ، فإنّ في هذه العبارة مبالغة في تهجين ما ذكره الأخباريّون ، ويفهم منها الإزراء بحالهم ، وهو لا يليق بشأن المصنّف قدس‌سره ؛ لأنّ فيها شائبة من الغيبة.

(٢) وفي «س» : «تجلية الموضوع».

(٣) راجع الصفحة : ٢٢٥.

(٤) راجع الصفحة : ٣٨٠.

(٥) منهم المحدّث الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ١٢٩ ـ ١٣١ ، والعلاّمة البحرانيّ في الحدائق الناضرة ١ : ١٣٢.

(٦) راجع الصفحة : ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

٤٨٢

وأمّا : ما ورد عن آل البيت عليهم‌السلام من نحو قولهم : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (١) فقد ورد في قباله مثل قولهم : «إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ، فأمّا : الظاهرة فالرسل ، والأنبياء ، والأئمّة عليهم‌السلام ، وأمّا : الباطنة فالعقول». (٢)

والحلّ لهذا التعارض الظاهريّ بين الطائفتين هو أنّ المقصود من الطائفة الأولى بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام ومداركها في قبال الاعتماد على القياس ، والاستحسان ؛ لأنّها واردة في هذا المقام ، أي إنّ الأحكام ومدارك الأحكام لا تصاب بالعقول بالاستقلال ، وهو حقّ ، كما شرحناه سابقا.

ومن المعلوم أنّ مقصود من يعتمد على الاستحسان في بعض صوره هو دعوى أنّ للعقل أن يدرك الأحكام مستقلاّ ، ويدرك ملاكاتها ، ومقصود من يعتمد على القياس هو دعوى أنّ للعقل أن يدرك ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس.

وهذا معنى الاجتهاد بالرأي. وقد سبق (٣) أنّ هذه الإدراكات ليست من وظيفة العقل النظريّ ، ولا العقل العمليّ ؛ لأنّ هذه أمور لا تصاب إلاّ من طريق السماع من مبلّغ الأحكام.

وعليه ، فهذه الطائفة من الأخبار لا مانع من الأخذ بها على ظواهرها ؛ لأنّها واردة في مقام معارضة الاجتهاد بالرأي ، ولكنّها أجنبيّة عمّا نحن بصدده ، وعمّا نقوله في القضايا العقليّة التي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ ، كما أنّها أجنبيّة عن الطائفة الثانية من الأخبار التي تثني على العقل ، وتنصّ على أنّه حجّة الله الباطنة ؛ لأنّها تثني على العقل فيما هو من وظيفته أن يدركه ، لا على الظنون والأوهام ، ولا على ادّعاءات إدراك ما لا يدركه العقل بطبيعته.

الثالثة : بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حجّيّة القطع والنهي عنه يجب أن نتساءل عن معنى حكم الشارع على طبق حكم العقل؟

والجواب الصحيح عن هذا السؤال عند هؤلاء أن يقال : إنّ معناه إدراك الشارع وعلمه

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٣٠٣.

(٢) أصول الكافي ١ : ١٦.

(٣) راجع الصفحة : ٤٨٠ ـ ٤٨٢.

٤٨٣

بأنّ هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه لدى العقلاء. وهذا شيء آخر غير أمره ونهيه. والنافع هو أن نستكشف أمره ونهيه ، فيحتاج إثبات أمره ونهيه إلى دليل آخر سمعيّ ، ولا يكفي فيه ذلك الدليل العقليّ الذي أقصى ما يستنتج منه أنّ الشارع عالم بحكم العقلاء ، أو أنّه حكم بنفس ما حكم به العقلاء ، فلا يكون منه أمر مولويّ ، أو نهي مولويّ.

أقول : وهذه آخر مرحلة لتوجيه مقالة منكري حجّيّة العقل ، وهو توجيه يختصّ بالمستقلاّت العقليّة. ولهذا التوجيه صورة ظاهريّة يمكن أن تنطلي (١) على المبتدئين أكثر من تلك التوجيهات في المراحل السابقة. وهذا التوجيه ينطوي على إحدى دعويين :

١. دعوى إنكار الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وقد تقدّم تفنيدها (٢) في الجزء الثاني (٣) ، فلا نعيد.

٢. الدعوى التي أشرنا إليها هناك في الجزء الثاني (٤). وتوضيحها : أنّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذمّ فقط ، والمدح والذمّ غير الثواب والعقاب ، فاستحقاقهما لا يستلزم استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولى. والذي ينفع في استكشاف حكم الشارع هو الثاني ، ولا يكفي الأوّل.

ولو فرض أنّا صحّحنا الاستلزام للثواب والعقاب فإنّ ذلك لا يدركه كلّ أحد. ولو فرض أنّه أدركه كلّ أحد فإنّ ذلك ليس كافيا للدعوة إلى الفعل إلاّ عند الفذّ من الناس (٥). وعلى أيّ تقدير فرض ، فلا يستغني أكثر الناس عن توجيه الأمر من المولى ، أو النهي منه في مقام الدعوة إلى الفعل ، أو الزجر عنه.

وإذا كان نفس إدراك الحسن والقبح غير كاف في الدعوة ـ والمفروض [أنّه] لم يقم دليل سمعيّ على الحكم ـ فلا نستطيع أن نحكم بأنّ الشارع له أمر ونهي على طبق حكم

__________________

(١) أي : تنجلي وتنكشف. وهذا استعمال عاميّ يتضمّن معنى «تنجلي».

(٢) أي : تكذيبها.

(٣) راجع المقصد الثاني : ٢٤٤.

(٤) راجع المقصد الثاني : ٢٤٥.

(٥) أي : الفرد الخاصّ من الناس. وفي «س» : «عند الأوحديّ من الناس».

٤٨٤

العقل قد اكتفى عن بيانه اعتمادا على إدراك العقل ، ليكون حكم العقل كاشفا عن حكمه ؛ لاحتمال ألاّ يكون للشارع حكم مولويّ على طبق حكم العقل حينئذ. و «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال» ؛ لأنّ المدار على القطع في المقام.

والجواب : أنّه قد أشرنا في الحاشية (١) إلى ما يفنّد الشقّ الأوّل من هذه الدعوى الثانية ؛ إذ قلنا : الحقّ أنّ معنى استحقاق المدح ليس إلاّ استحقاق الثواب ، ومعنى استحقاق الذمّ ليس إلاّ استحقاق العقاب ، لا أنّهما شيئان أحدهما يستلزم الآخر ؛ لأنّ حقيقة المدح والمقصود منه هو المجازاة بالخير ، لا المدح باللسان ، وحقيقة الذمّ والمقصود منه هو المجازاة بالشرّ ، لا الذمّ باللسان. وهذا المعنى هو الذي يحكم به العقل ؛ ولذا قال المحقّقون من الفلاسفة : «إنّ مدح الشارع ثوابه ، وذمّه عقابه». (٢) وأرادوا هذا المعنى.

بل بالنسبة إلى الله (تعالى) لا معنى لفرض استحقاق المدح والذمّ اللسانيّين عنده ، بل ليست مجازاته بالخير إلاّ الثواب ، وليست مجازاته بالشرّ إلاّ العقاب.

وأمّا الشقّ الثاني من هذه الدعوى : فالجواب عنه : أنّه لمّا كان المفروض أنّ المدح والذمّ من القضايا المشهورات التي تتطابق عليها آراء العقلاء كافّة فلا بدّ أن يفرض فيه أن يكون صالحا لدعوة كلّ واحد من الناس. ومن هنا نقول : إنّه مع هذا الفرض يستحيل توجيه دعوة مولويّة من الله (تعالى) ثانيا ؛ لاستحالة جعل الداعي مع فرض وجود ما يصلح للدعوة عند المكلّف إلاّ من باب التأكيد ، ولفت النظر ؛ ولذا ذهبنا هناك إلى أنّ الأوامر الشرعيّة ، الواردة في موارد حكم العقل ـ مثل وجوب الطاعة ونحوها ـ يستحيل فيها أن تكون أوامر تأسيسيّة ـ أي مولويّة ـ بل هي أوامر تأكيديّة ، أي إرشاديّة.

وأمّا : أنّ هذا الإدراك لا يدعو إلاّ الفذّ (٣) من الناس ، فقد يكون صحيحا ، ولكن لا يضرّ في مقصودنا ؛ لأنّه لا نقصد من كون حكم العقل داعيا أنّه داع بالفعل لكلّ أحد ، بل إنّما نقصد ـ وهو النافع لنا ـ أنّه صالح للدعوة. وهذا شأن كلّ داع حتى الأوامر المولويّة ؛ فإنّه

__________________

(١) راجع تعليقته على المتن في الصفحة : ٢٤٥.

(٢) ممّن قال به الحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء : ٣٢١.

(٣) وفي «س» : «إلاّ الأوحديّ».

٤٨٥

لا يترقّب منها إلاّ صلاحيّتها للدعوة ، لا فعليّة الدعوة ؛ لأنّه ليس قوام كون الأمر أمرا من قبل الشارع ، أو من قبل غيره فعليّة دعوته لجميع المكلّفين ، بل الأمر في حقيقته ليس هو إلاّ جعل ما يصلح أن يكون داعيا ، يعني ليس المجعول في الأمر فعليّة الدعوة. وعليه ، فلا يضرّ في كونه صالحا للدعوة عدم امتثال أكثر الناس.

تمرينات (٥٧)

١. ما هو الدليل العقلي؟

٢. ما المراد من العقل النظريّ والعقل العمليّ؟

٣. ما المراد من العقل الذي نقول حكمه حجّة؟

٤. ما الوجه في حجّيّة حكم العقل؟

٤٨٦

الباب الخامس

حجّيّة الظواهر

تمهيدات

١. تقدّم في الجزء الأوّل (١) : أنّ الغرض من المقصد الأوّل تشخيص ظواهر بعض الألفاظ من ناحية عامّة. والغاية منه ـ كما ذكرنا ـ تنقيح صغريات أصالة الظهور. وطبعا إنّما يكون ذلك في خصوص الموارد التي وقع فيها الخلاف بين الناس.

وقلنا : إنّنا سنبحث عن الكبرى ـ وهي حجّيّة «أصالة الظهور» ـ في المقصد الثالث. وقد حلّ بحمد الله (تعالى) موضع البحث عنها.

٢. إنّ البحث عن حجّيّة الظواهر من توابع البحث عن الكتاب ، والسنّة ، أعني أنّ الظواهر ليست دليلا قائما بنفسه في مقابل الكتاب ، والسنّة ، بل إنّما نحتاج إلى إثبات حجّيّتها لغرض الأخذ بالكتاب ، والسنّة ، (٢) فهي من متمّمات حجيّتهما ؛ إذ من الواضح أنّه لا مجال للأخذ بهما من دون أن تكون ظواهرهما حجّة. والنصوص التي هي قطعيّة الدلالة أقلّ القليل فيهما.

٣. تقدّم أنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ ما لم يدلّ دليل قطعيّ على حجّيّته ، (٣) والظواهر من جملة الظنون ، فلا بدّ من التماس دليل قطعيّ على حجّيّتها ليصحّ التمسّك بظواهر الآيات ، والأخبار. وسيأتي بيان هذا الدليل. (٤)

__________________

(١) تقدّم في المقصد الأوّل : ٦٥.

(٢) فلا يبحث عن حجيّتها بنفسها.

(٣) تقدّم في الصفحة : ٣٧٦.

(٤) يأتي في الصفحة : ٤٩٤ وما بعدها.

٤٨٧

٤. إنّ البحث عن الظهور يتمّ بمرحلتين :

الأولى : في أنّ هذا اللفظ المخصوص ظاهر في هذا المعنى المخصوص أم غير ظاهر؟ والمقصد الأوّل كلّه متكفّل (١) بالبحث عن ظهور بعض الألفاظ التي وقع الخلاف في ظهورها ، كالأوامر ، والنواهي ، والعموم ، والخصوص ، والإطلاق ، والتقييد. وهي في الحقيقة من بعض صغريات أصالة الظهور.

الثانية : في أنّ اللفظ الذي قد أحرز ظهوره هل هو حجّة عند الشارع في ذلك المعنى ، فيصحّ أن يحتجّ به المولى على المكلّفين ، ويصحّ أن يحتجّ به المكلّفون؟

والبحث عن هذه المرحلة الثانية هو المقصد الذي عقد من أجله هذا الباب ، وهو الكبرى التي إذا ضممناها إلى صغرياتها يتمّ لنا الأخذ بظواهر الآيات ، والروايات.

٥. إنّ المرحلة الأولى ـ وهي تشخيص صغريات أصالة الظهور ـ تقع بصورة عامّة في موردين :

الأوّل : في وضع اللفظ للمعنى المبحوث عنه ، فإنّه إذا أحرز وضعه له لا محالة يكون ظاهرا فيه ، نحو وضع صيغة «افعل» للوجوب ، والجملة الشرطيّة لما يستلزم المفهوم. إلى غير ذلك.

الثاني : في قيام قرينة عامّة أو خاصّة على إرادة المعنى من اللفظ. والحاجة إلى القرينة إمّا في مورد إرادة غير ما وضع له اللفظ ، وإمّا في مورد اشتراك اللفظ في أكثر من معنى.

ومع فرض وجود القرينة لا محالة يكون اللفظ ظاهرا فيما قامت عليه القرينة ، سواء كانت القرينة متّصلة ، أو منفصلة.

وإذا اتّضحت هذه التمهيدات فينبغي أن نتحدّث عمّا يهمّ من كلّ من المرحلتين في مباحث مفيدة في الباب.

طرق إثبات الظواهر

إذا وقع الشكّ في الموردين السابقين فهناك طرق لمعرفة وضع الألفاظ ، ومعرفة القرائن العامّة :

__________________

(١) أي ملتزم.

٤٨٨

منها : أن يتتبّع الباحث بنفسه استعمالات العرب ، ويعمل رأيه واجتهاده إذا كان من أهل الخبرة باللسان ، والمعرفة بالنكات البيانيّة. ونظير ذلك ما استنبطناه من أنّ كلمة «الأمر» لفظ مشترك بين ما يفيد معنى «الشيء» و «الطلب» (١). وذلك بدلالة اختلاف اشتقاق الكلمة بحسب المعنيين ، واختلاف الجمع فيها بحسبهما.

ومنها : أن يرجع إلى علامات الحقيقة والمجاز ، كالتبادر ، وأخواته. وقد تقدّم الكلام عن هذه العلامات (٢).

ومنها : أن يرجع إلى أقوال علماء اللغة. وسيأتي بيان قيمة أقوالهم.

وهناك أصول اتّبعها بعض القدماء (٣) لتعيين وضع الألفاظ أو ظهوراتها في موارد تعارض أحوال اللفظ. والحقّ أنّه لا أصل لها مطلقا ؛ لأنّه لا دليل على اعتبارها. (٤) وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم (٥).

وهي مثل ما ذهبوا إليه من أصالة عدم الاشتراك في مورد الدوران بين الاشتراك وبين الحقيقة والمجاز ، ومثل أصالة الحقيقة لإثبات وضع اللفظ عند الدوران بين كونه حقيقة أو مجازا.

أمّا : أنّه لا دليل على اعتبارها ؛ فلأنّ حجّيّة مثل هذه الأصول لا بدّ من استنادها إلى بناء العقلاء. والمسلّم من بنائهم هو ثبوته في الأصول التي تجري لإثبات مرادات المتكلّم ، دون ما يجري لتعيين وضع الألفاظ والقرائن. ولا دليل آخر في مثلها ، غير بناء العقلاء.

حجّيّة قول اللغويّ

إنّ أقوال اللغويّين لا عبرة بأكثرها في مقام استكشاف وضع الألفاظ ؛ لأنّ أكثر المدوّنين

__________________

(١) كما مرّ في المقصد الأوّل : ٧٤.

(٢) تقدّم في المقصد الأوّل : ٤٠ ـ ٤٤.

(٣) بل بعض المتأخّرين ، كالمحقق القمّي ، وصاحب الفصول ، فراجع القوانين ١ : ٣٢ ، والفصول : ٤٠.

(٤) وقال المحقّق الخراسانيّ : «إنّها استحسانيّة لا اعتبار لها إلاّ إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى ؛ لعدم مساعدة دليل اعتبارها بدون ذلك». كفاية الأصول : ٣٥.

(٥) تقدّم في المقصد الأوّل : ٤٩.

٤٨٩

للّغة همّهم أن يذكروا المعاني التي شاع استعمال اللفظ فيها ، من دون كثير عناية منهم بتمييز المعاني الحقيقيّة من المجازيّة إلاّ نادرا ، عدا الزمخشريّ في كتابه «أساس اللغة» ، وعدا بعض المؤلّفات في فقه اللغة.

وعلى تقدير أن ينصّ اللغويون على المعنى الحقيقيّ ، فإن أفاد نصّهم العلم بالوضع فهو ، وإلاّ فلا بدّ من التماس الدليل على حجّيّة الظنّ الناشئ من قولهم. وقيل في الاستدلال عليه وجوه من الأدلّة ، لا بأس بذكرها وما عندنا فيها :

أوّلا : قيل : «الدليل الإجماع». (١) وذلك ؛ لأنّه قائم على الأخذ بقول اللغويّ ، بلا نكير من أحد ، وإن كان اللغويّ واحدا.

أقول : وأنّى لنا بتحصيل هذا الإجماع العمليّ المدّعى بالنسبة إلى جميع الفقهاء؟ وعلى تقدير تحصيله ، فأنّى لنا من إثبات حجّيّة مثله؟ وقد تقدّم البحث مفصّلا عن منشأ حجّيّة الإجماع ، (٢) وليس هو ممّا يشمل هذا المقام بما هو حجّة ؛ لأنّ المعصوم لا يرجع إلى نصوص أهل اللغة ، حتى يستكشف من الإجماع موافقته في هذه المسألة ، أي رجوعه إلى أهل اللغة عملا.

ثانيا : قيل : «الدليل بناء العقلاء» (٣) ؛ لأنّ من سيرة العقلاء وبنائهم العمليّ الرجوع إلى أهل الخبرة الموثوق بهم في جميع الأمور التي يحتاج في معرفتها إلى خبرة وإعمال الرأي والاجتهاد ، كالشئون الهندسيّة والطبّيّة ، ومنها : اللغات ودقائقها ، ومن المعلوم أنّ اللغويّ معدود من أهل الخبرة في فنّه. والشارع لم يثبت منه الردع عن هذه السيرة العمليّة ،

__________________

(١) قال الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ١ : ٧٤ : «وقد حكي عن السيّد في بعض كلماته دعوى الإجماع على ذلك». ولكن لم نعثر عليها في كلمات السيّد المرتضى.

وفي أوثق الوسائل نسب دعوى الاتّفاق إلى العلاّمة الطباطبائيّ في شرح الوافية (مخطوط). راجع أوثق الوسائل : ١٠١.

والسيّد المجاهد نسبها إلى أستاذه ، والمحقّق السبزواريّ. راجع مفاتيح الأصول ، ٦١ ـ ٦٢.

(٢) وهو استكشاف قول المعصوم عن الإجماع.

(٣) والقائل هو المحقّق السبزواريّ في رسالة الغناء (مخطوطة) على ما في مفاتيح الأصول : ٦٢. وقال به أيضا المحقّق الشيخ محمد تقي الأصفهانيّ في هداية المسترشدين : ٤١.

٤٩٠

فيستكشف من ذلك موافقته لهم ، ورضاه بها.

أقول : إنّ بناء العقلاء إنّما يكون حجّة إذا كان يستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقتهم. وهذا بديهيّ. ولكن نحن نناقش إطلاق المقدّمة المتقدّمة القائلة : «إنّ موافقة الشارع لبناء العقلاء تستكشف من مجرّد عدم ثبوت ردعه عن طريقتهم» ، بل لا يحصل هذا الاستكشاف إلاّ بأحد شروط ثلاثة ، كلّها غير متوفّرة في المقام :

١. ألاّ يكون مانع من كون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في البناء والسيرة ؛ فإنّه في هذا الفرض لا بدّ أن يستكشف أنّه متّحد المسلك معهم بمجرّد عدم ثبوت ردعه ؛ لأنّه من العقلاء ، بل رئيسهم. ولو كان له مسلك ثان لبيّنه ، ولعرفناه ، وليس هذا ممّا يخفى.

ومن هذا الباب الظواهر ، وخبر الواحد ؛ فإنّ الأخذ بالظواهر ، والاعتماد عليها في التفهيم ممّا جرت عليه سيرة العقلاء ، والشارع لا بدّ أن يكون متّحد المسلك معهم ؛ لأنّه لا مانع من ذلك بالنسبة إليه ، وهو منهم بما هم عقلاء ولم يثبت منه ردع. وكذلك يقال في خبر الواحد الثّقة ؛ فإنّه لا مانع من أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في الاعتماد عليه في تبليغ الأحكام ، ولم يثبت منه الردع.

أمّا : الرجوع إلى أهل الخبرة فلا معنى لفرض أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء في ذلك ؛ لأنّه لا معنى لفرض حاجته إلى أهل الخبرة في شأن من الشئون ، حتى يمكن فرض أن تكون له سيرة عمليّة في ذلك ، لا سيّما في اللغة العربيّة.

٢. إذا كان هناك مانع من أن يكون الشارع متّحد المسلك مع العقلاء ، فلا بدّ أن يثبت لدينا جريان السيرة العمليّة ، حتّى في الأمور الشرعيّة بمرأى ومسمع من الشارع ، فإذا لم يثبت حينئذ الردع منه يكون سكوته من قبيل التقرير لمسلك العقلاء. وهذا مثل الاستصحاب ، فإنّه لمّا كان مورده الشكّ في الحالة السابقة فلا معنى لفرض اتّحاد الشارع في المسلك مع العقلاء بالأخذ بالحالة السابقة ؛ إذ لا معنى لفرض شكّه في بقاء حكمه ، ولكن لمّا كان الاستصحاب قد جرت السيرة فيه ، حتى في الأمور الشرعيّة ، ولم يثبت ردع الشارع عنه ، فإنّه يستكشف منه إمضاؤه لطريقتهم.

أمّا : الرجوع إلى أهل الخبرة في اللغة فلم يعلم جريان السيرة العقلائيّة في الأخذ بقول

٤٩١

اللغويّ في خصوص الأمور الشرعيّة ، حتى يستكشف من عدم ثبوت ردعه رضاه بهذه السيرة في الأمور الشرعيّة.

٣. إذا انتفى الشرطان المتقدّمان فلا بدّ حينئذ من قيام دليل خاصّ قطعيّ على رضا الشارع وإمضائه للسيرة العمليّة عند العقلاء. وفي مقامنا ليس عندنا هذا الدليل ، بل الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ كافية في ثبوت الردع عن هذه السيرة العمليّة.

ثالثا : قيل : «الدليل حكم العقل» ؛ لأنّ العقل يحكم بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بذلك أيضا ؛ إذ إنّ هذا الحكم العقليّ من الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء ، والشارع منهم ، بل رئيسهم. وبهذا الحكم العقليّ أوجبنا رجوع العاميّ إلى المجتهد في التقليد ، غاية الأمر أنّا اشترطنا في المجتهد شروطا خاصّة ، كالعدالة ، والذكورة ، لدليل خاصّ. وهذا الدليل الخاصّ غير موجود في الرجوع إلى قول اللغويّ ؛ لأنّه في الشئون الفنّيّة لم يحكم العقل إلاّ برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به ، من دون اعتبار عدالة ، أو نحوها ، كالرجوع إلى الأطبّاء والمهندسين. وليس هناك دليل خاصّ يشترط العدالة ، أو نحوها في اللغويّ ، كما ورد في المجتهد.

أقول : وهذا الوجه أقرب الوجوه في إثبات حجّيّة قول اللغويّ ، ولم أجد الآن ما يقدح به.

الظهور التصوريّ والتصديقيّ

قيل : «إنّ الظهور على قسمين : تصوّريّ ، وتصديقيّ.

١. الظهور التصوّريّ الذي ينشأ من وضع اللفظ لمعنى مخصوص ، وهو عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغويّة أو العرفيّة. وهو تابع للعلم بالوضع ، سواء كانت في الكلام أو في خارجه قرينة على خلافه أو لم تكن.

٢. الظهور التصديقيّ الذي ينشأ من مجموع الكلام ، وهو عبارة عن دلالة جملة الكلام على ما يتضمّنه من المعنى ، فقد تكون دلالة الجملة مطابقة لدلالة المفردات ، وقد تكون مغايرة لها ، كما إذا احتفّ الكلام بقرينة توجب صرف مفاد جملة الكلام عمّا يقتضيه مفاد

٤٩٢

المفردات. والظهور التصديقيّ يتوقّف على فراغ المتكلّم من كلامه ، فإنّ لكلّ متكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن ، فما دام متشاغلا بالكلام لا ينعقد لكلامه الظهور التصديقيّ.

ويستتبع هذا الظهور التصديقيّ ظهور ثان تصديقيّ ، وهو الظهور بأنّ هذا هو مراد المتكلّم ، وهذا هو المعيّن لمراد المتكلّم في نفس الأمر ، فيتوقّف على عدم القرينة المتّصلة ، والمنفصلة ؛ لأنّ القرينة مطلقا تهدم هذا الظهور ، بخلاف الظهور التصديقيّ الأوّل ؛ فإنّه لا تهدمه القرينة المنفصلة». (١)

أقول : ونحن لا نتعقّل هذا التقسيم ، بل الظهور قسم واحد ، وليس هو إلاّ دلالة اللفظ على مراد المتكلّم. وهذه الدلالة هي التي نسمّيها «الدلالة التصديقيّة» ، وهي أن يلزم من العلم بصدور اللفظ من المتكلّم العلم بمراده من اللفظ ، أو يلزم منه الظنّ بمراده. والأوّل يسمّى «النصّ» ، ويختصّ الثاني باسم «الظهور».

ولا معنى للقول بأنّ اللفظ ظاهر ظهورا تصوّريّا في معناه الموضوع له ، وقد سبق في الجزء الأوّل (٢) بيان حقيقة الدلالة ، وأنّ ما يسمّونه بالدلالة التصوّريّة ليست بدلالة ، وإنّما كان ذلك منهم تسامحا في التعبير ، بل هي من باب تداعي المعاني ، فلا علم ولا ظنّ فيها بمراد المتكلّم ، فلا دلالة ، فلا ظهور ، وإنّما كان خطور. والفرق بعيد بينهما.

وأمّا : تقسيم الظهور التصديقيّ إلى قسمين فهو أيضا تسامح ؛ لأنّه لا يكون الظهور ظهورا إلاّ إذا كشف عن المراد الجدّيّ للمتكلّم ، إمّا على نحو اليقين ، أو الظنّ ، فالقرينة المنفصلة لا محالة تهدم الظهور مطلقا.

نعم ، قبل العلم بها يحصل للمخاطب قطع بدويّ ، أو ظنّ بدويّ ، يزولان عند العلم بها ، فيقال حينئذ : «قد انعقد للكلام ظهور على خلاف ما تقتضيه القرينة المنفصلة». وهذا كلام شائع عند الأصوليّين (٣) ، وفي الحقيقة أنّ غرضهم من ذلك ، الظهور الابتدائيّ البدويّ الذي

__________________

(١) انتهى كلام المحقّق النائينيّ ملخّصا. راجع فوائد الأصول ٣ : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٢) تقدّم في المقصد الأوّل : ٣٧.

(٣) كما تقدّم في المقصد الأوّل : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤٩٣

يزول عند العلم بالقرينة المنفصلة ، لا أنّه هناك ظهوران : ظهور لا يزول بالقرينة المنفصلة ، وظهور يزول بها. ولا بأس أن يسمّى هذا الظهور البدويّ «الظهور الذاتيّ». وتسميته بالظهور مسامحة على كلّ حال.

وعلى كلّ حال ـ سواء سمّيت الدلالة التصوّريّة ظهورا أم لم تسمّ ، وسواء سمّي الظنّ البدويّ ظهورا أم لم يسمّ ـ فإنّ موضع الكلام في حجّيّة الظهور هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلّم بما هو كاشف ، وإن كان كشفا نوعيّا.

وجه حجّيّة الظهور

إنّ الدليل على حجّيّة الظاهر منحصر في بناء العقلاء. والدليل يتألّف من مقدّمتين قطعيّتين ، على نحو ما تقدّم في الدليل على حجّيّة خبر الواحد من طريق بناء العقلاء. وتفصيلهما هنا أن نقول :

المقدّمة الأولى : أنّه من المقطوع به الذي لا يعتريه الريب أنّ أهل المحاورة من العقلاء قد جرت سيرتهم العمليّة وتبانيهم في محاوراتهم الكلاميّة على اعتماد المتكلّم على ظواهر كلامه في تفهيم مقاصده ، ولا يفرضون عليه أن يأتي بكلام قطعيّ في مطلوبه لا يحتمل الخلاف. وكذلك ـ تبعا لسيرتهم الأولى ـ تبانوا أيضا على العمل بظواهر كلام المتكلّم والأخذ بها في فهم مقاصده ، ولا يحتاجون في ذلك إلى أن يكون كلامه نصّا في مطلوبه لا يحتمل الخلاف.

فلذلك ، يكون الظاهر حجّة للمتكلّم على السامع ، يحاسبه عليه ، ويحتجّ به عليه لو حمله على خلاف الظاهر ، ويكون أيضا حجّة للسامع على المتكلّم ، يحاسبه عليه ، ويحتجّ به عليه لو ادّعى خلاف الظاهر. ومن أجل هذا يؤخذ المرء بظاهر إقراره ، ويدان به (١) وإن لم يكن نصّا في المراد.

المقدّمة الثانية : أنّ من المقطوع به أيضا أنّ الشارع المقدّس لم يخرج في محاوراته واستعماله للألفاظ عن مسلك أهل المحاورة من العقلاء في تفهيم مقاصده ، بدليل أنّ الشارع

__________________

(١) أي يحكم عليه بإقراره.

٤٩٤

من العقلاء ، بل رئيسهم ، فهو متّحد المسلك معهم ، ولا مانع من اتّحاده معهم في هذا المسلك ، ولم يثبت من قبله ما يخالفه.

وإذا ثبتت هاتان المقدّمتان القطعيّتان لا محالة يثبت ـ على سبيل الجزم ـ أنّ الظاهر حجّة عند الشارع ، حجّة له على المكلّفين ، وحجّة معذّرة للمكلّفين.

هذا ، ولكن وقعت لبعض الناس شكوك في عموم كلّ من المقدّمتين ، لا بدّ من التعرّض لها ، وكشف الحقيقة فيها.

أمّا المقدّمة الأولى : فقد وقعت عدّة أبحاث فيها :

١ ـ في أنّ تباني العقلاء على حجّيّة الظاهر هل يشترط فيه حصول الظنّ الفعليّ بالمراد؟

٢ ـ في أنّ تبانيهم هل يشترط فيه عدم الظنّ بخلاف الظاهر؟

٣ ـ في أنّ تبانيهم هل يشترط فيه جريان أصالة عدم القرينة؟

٤ ـ في أنّ تبانيهم هل هو مختصّ بمن قصد إفهامه فقط ، أو يعمّ غيرهم ، فيكون الظاهر حجّة مطلقا؟

وأمّا المقدّمة الثانية : فقد وقع البحث فيها في حجّيّة ظواهر الكتاب العزيز ، بل قيل : «إنّ الشارع ردع عن الأخذ بظواهر الكتاب ، فلم يكن متّحد المسلك فيه مع العقلاء» (١). وهذه المقالة منسوبة إلى الأخباريّين. (٢) وعليه ، فينبغي البحث عن كلّ واحد واحد من هذه الأمور ، فنقول :

أ. اشتراط الظنّ الفعليّ بالوفاق

قيل : «لا بدّ في حجّيّة الظاهر من حصول ظنّ فعليّ بمراد المتكلّم ، وإلاّ فهو ليس بظاهر». (٣) يعني أنّ المقوّم لكون الكلام ظاهرا حصول الظنّ الفعليّ للمخاطب بالمراد منه ،

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٢٨ ، والدّرر النجفيّة : ١٧٤.

(٢) نسب إليهم في فرائد الأصول ١ : ٥٦.

(٣) هذا ما نسبه الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ١ : ٧٢ إلى بعض متأخّري المتأخّرين من معاصريه. وقيل : هو المحقّق الكلباسيّ صاحب الإشارات.

٤٩٥

وإلاّ فلا يكون ظاهرا ، بل يكون مجملا.

أقول : من المعلوم أنّ الظهور صفة قائمة باللفظ ، وهو كونه بحالة يكون كاشفا عن مراد المتكلّم ، ودالاّ عليه ، والظنّ بما هو ظنّ أمر قائم بالسامع ، لا باللفظ ، فكيف يكون مقوّما لكون اللفظ ظاهرا؟! وإنّما أقصى ما يقال أنّه يستلزم الظنّ ، فمن هذه الجهة يتوهّم أنّ الظنّ يكون مقوّما لظهوره.

وفي الحقيقة أنّ المقوّم لكون الكلام ظاهرا عند أهل المحاورة هو كشفه الذاتيّ عن المراد ، أي كون الكلام من شأنه أن يثير (١) الظنّ عند السامع بالمراد منه ، وإن لم يحصل ظنّ فعليّ للسامع ؛ لأنّ ذلك هو الصفة القائمة بالكلام المقوّمة لكونه ظاهرا عند أهل المحاورة. والمدرك لحجّيّة الظاهر ليس إلاّ بناء العقلاء ، فهو المتّبع في أصل الحجّيّة ، وخصوصيّاتها. ألا ترى [أنّه] لا يصحّ للسامع أن يحتجّ بعدم حصول الظنّ الفعليّ عنده من الظاهر إذا أراد مخالفته ، مهما كان السبب لعدم حصول ظنّه ، ما دام أنّ اللفظ بحالة من شأنه أن يثير الظنّ لدى عامّة الناس؟

وهذا ما يسمّى بالظنّ النوعيّ ، فيكتفى به في حجّيّة الظاهر ، كما يكتفى به في حجّيّة خبر الواحد ـ كما تقدّم (٢) ـ ، وإلاّ لو كان الظنّ الفعليّ معتبرا في حجّيّة الظهور لكان كلّ كلام في آن واحد حجّة بالنسبة إلى شخص ، غير حجّة بالنسبة إلى شخص آخر. وهذا ما لا يتوهّمه أحد. ومن البديهيّ أنّه لا يصحّ ادّعاء أنّ الظاهر لكي يكون حجّة لا بدّ أن يستلزم الظنّ الفعليّ عند جميع الناس بغير استثناء ، وإلاّ فلا يكون حجّة بالنسبة إلى كلّ أحد.

ب. اعتبار عدم الظنّ بالخلاف

قيل : «إن لم يعتبر الظنّ بالوفاق فعلى الأقلّ يعتبر ألاّ يحصل ظنّ بالخلاف». (٣)

__________________

(١) أي : أن يهيج ويتوجّه.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٤٤٧.

(٣) وهذا أيضا نسبه الشيخ الأنصاريّ في الفرائد إلى بعض متأخّري المتأخّرين من معاصريه. وقيل : هو المحقّق الكلباسيّ.

٤٩٦

قال الشيخ صاحب «الكفاية» في ردّه : «والظاهر أنّ سيرتهم على اتّباعها [أي : الظواهر] من غير تقييد بإفادتها الظنّ فعلا ، ولا بعدم الظنّ كذلك على خلافها قطعا ؛ ضرورة أنّه لا مجال للاعتذار من مخالفتها بعدم إفادتها الظنّ بالوفاق ، ولا بوجود الظنّ بالخلاف». (١)

أقول : إن كان منشأ الظنّ بالخلاف أمرا يصحّ في نظر العقلاء الاعتماد عليه في التفهيم فإنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ مثل هذا الظنّ يضرّ في حجّيّة الظهور ، بل ـ على التحقيق ـ لا يبقى معه ظهور للكلام حتى يكون موضعا لبناء العقلاء ؛ لأنّ الظهور يكون حينئذ على طبق ذلك الأمر المعتمد عليه في التفهيم ، حتى لو فرض أنّ ذلك الأمر ليس بأمارة معتبرة عند الشارع ؛ لأنّ الملاك في ذلك بناء العقلاء.

وأمّا : إذا كان منشأ الظنّ ليس ممّا يصحّ الاعتماد عليه في التفهيم عند العقلاء فلا قيمة لهذا الظنّ من ناحية بناء العقلاء على اتّباع الظاهر ؛ لأنّ الظهور قائم في خلافه ، ولا ينبغي الشكّ في عدم تأثير مثله في تبانيهم على حجّيّة الظهور. والظاهر أنّ مراد الشيخ صاحب «الكفاية» من «الظنّ بالخلاف» هذا القسم الثاني فقط ، لا ما يعمّ القسم الأوّل.

ولعلّ مراد القائل باعتبار عدم الظنّ بالخلاف هو القسم الأوّل فقط ، لا ما يعمّ القسم الثاني ، فيقع التصالح بين الطرفين.

ج. أصالة عدم القرينة

ذهب الشيخ الأعظم في رسائله إلى أنّ الأصول الوجوديّة ـ مثل أصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق ، ونحوها التي هي كلّها أنواع لأصالة الظهور ـ ترجع كلّها إلى أصالة عدم القرينة ، (٢) بمعنى أنّ أصالة الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم قرينة المجاز ، وأصالة العموم إلى أصالة عدم المخصّص ... وهكذا.

والظاهر أنّ غرضه من الرجوع أنّ حجّيّة أصالة الظهور إنّما هي من جهة بناء العقلاء على حجّيّة أصالة عدم القرينة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢٤.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٦٨.

٤٩٧

وذهب الشيخ صاحب «الكفاية» إلى العكس من ذلك (١) ـ أي : إنّه يرى أنّ أصالة عدم القرينة هي التي ترجع إلى أصالة الظهور ـ يعني أنّ العقلاء ليس لهم إلاّ بناء واحد ، وهو البناء على أصالة الظهور ، وهو نفسه بناء على أصالة عدم القرينة ، لا أنّه هناك بناءان عندهم : بناء على أصالة عدم القرينة ، وبناء آخر على أصالة الظهور ، والبناء الثاني بعد البناء الأوّل ، ومتوقّف عليه ، ولا أنّ البناء على أصالة الظهور مرجع حجّيّته ومعناه إلى البناء على أصالة عدم القرينة.

أقول : الحقّ أنّ الأمر لا كما أفاده الشيخ الأعظم ، ولا كما أفاده صاحب «الكفاية» ؛ فإنّه ليس هناك أصل عند العقلاء غير أصالة الظهور يصحّ أن يقال له : «أصالة عدم القرينة» ؛ فضلا عن أن يكون هو المرجع لأصالة الظهور ، أو أنّ أصالة الظهور هي المرجع له.

بيان ذلك أنّه عند الحاجة إلى إجراء أصالة الظهور لا بدّ أن يحتمل أنّ المتكلّم الحكيم أراد خلاف ظاهر كلامه. وهذا الاحتمال لا يخرج عن إحدى صورتين ، لا ثالثة لهما :

الأولى : أن يحتمل إرادة خلاف الظاهر ، مع العلم بعدم نصب قرينة من قبله ، لا متّصلة ولا منفصلة. وهذا الاحتمال ، إمّا من جهة احتمال الغفلة عن نصب القرينة ، أو احتمال قصد الإيهام ، أو احتمال الخطأ ، أو احتمال قصد الهزل ، أو لغير ذلك ؛ فإنّه في هذه الموارد يلزم المتكلّم بظاهر كلامه ، فيكون حجّة عليه ، ويكون حجّة له أيضا على الآخرين. ولا تسمع منه دعوى الغفلة ، ونحوها ، وكذلك لا تسمع من الآخرين دعوى احتمالهم للغفلة ، ونحوها. وهذا معنى أصالة الظهور عند العقلاء ، أي إنّ الظهور هو الحجّة عندهم ـ كالنصّ ـ بإلغاء كلّ تلك الاحتمالات.

ومن الواضح أنّه في هذه الموارد لا موقع لأصالة عدم القرينة ، سالبة بانتفاء الموضوع ؛ لأنّه لا احتمال لوجودها ، حتى نحتاج إلى نفيها بالأصل. فلا موقع إذن في هذه الصورة للقول برجوع أصالة الظهور إلى هذا الأصل ، ولا للقول برجوعه إلى أصالة الظهور.

الثانية : أن يحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال نصب قرينة خفيت علينا ؛ فإنّه في هذه الصورة يكون موقع لتوهّم جريان أصالة عدم القرينة ، ولكن في الحقيقة أنّ معنى بناء

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٢٩ ؛ الحاشية على الفرائد : ٤٦.

٤٩٨

العقلاء على أصالة الظهور ـ كما تقدّم ـ أنّهم يعتبرون الظهور حجّة ـ كالنصّ ـ بإلغاء احتمال الخلاف ، أيّ احتمال كان. ومن جملة الاحتمالات التي تلغى ـ إن وجدت ـ احتمال نصب القرينة ، وحكمه حكم احتمال الغفلة ، ونحوها من جهة أنّه احتمال ملغى ومنفيّ لدى العقلاء.

وعليه ، فالمنفيّ عند العقلاء هو الاحتمال ، لا أنّ المنفيّ وجود القرينة الواقعيّة ؛ لأنّ القرينة الواقعيّة غير الواصلة لا أثر لها في نظر العقلاء ، ولا تضرّ في الظهور ، حتى يحتاج إلى نفيها بالأصل ، بينما أنّ معنى أصالة عدم القرينة ـ لو كانت ـ البناء على نفي وجود القرينة ، لا البناء على نفي احتمالها ، والبناء على نفي الاحتمال هو معنى البناء على أصالة الظهور ، ليس شيئا آخر.

وإذا اتّضح ذلك يكون واضحا لدينا أنّه ليس للعقلاء في هذه الصورة الثانية أيضا أصل يقال له : «أصالة عدم القرينة» ، حتى يقال برجوعه إلى أصالة الظهور ، أو برجوعها إليه ، سالبة بانتفاء الموضوع.

والخلاصة أنّه ليس لدى العقلاء إلاّ أصل واحد ، هو أصالة الظهور ، وليس لهم إلاّ بناء واحد ، وهو البناء على إلغاء كلّ احتمال ينافي الظهور ـ من نحو احتمال الغفلة ، أو الخطأ ، أو تعمّد الإيهام ، أو نصب القرينة على الخلاف ، أو غير ذلك ـ فكلّ هذه الاحتمالات ـ إن وجدت ـ ملغاة في نظر العقلاء ، وليس معنى إلغائها إلاّ اعتبار الظهور حجّة كأنّه نصّ لا احتمال معه بالخلاف ، لا أنّه هناك لدى العقلاء أصول متعدّدة وبناءات مترتّبة مترابطة ، كما ربّما يتوهّم ، حتى يكون بعضها متقدّما على بعض ، أو بعضها يساند (١) بعضا.

نعم ، لا بأس بتسمية إلغاء احتمال الغفلة بـ «أصالة عدم الغفلة» من باب المسامحة ، وكذلك تسمية إلغاء احتمال القرينة بأصالة عدمها ... وهكذا في كلّ تلك الاحتمالات ، ولكن ليس ذلك إلاّ تعبيرا آخر عن أصالة الظهور. ولعلّ من يقول برجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة (٢) ، أو بالعكس (٣) أراد هذا المعنى من أصالة عدم القرينة. وحينئذ

__________________

(١) أي : يعاضد.

(٢) وهو الشيخ الأنصاريّ ، كما مرّ.

(٣) وهو المحقّق الخراسانيّ ، كما مرّ.

٤٩٩

لو كان هذا مرادهم ، لكان كلّ من القولين صحيحا ، ولكان مآلهما واحدا ، فلا خلاف.

د. حجّيّة الظهور بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام

ذهب المحقّق القمّيّ في قوانينه (١) إلى عدم حجّيّة الظهور بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه بالكلام. ومثّل لغير المقصودين بالإفهام بأهل زماننا وأمثالهم الذين لم يشافهوا بالكتاب العزيز ، وبالسنّة ؛ نظرا إلى أنّ الكتاب العزيز ليست خطاباته موجّهة لغير المشافهين ، وليس هو من قبيل تأليفات المصنّفين التي يقصد بها إفهام كلّ قارئ لها.

وأمّا : السنّة فبالنسبة إلى الأخبار الصادرة عن المعصومين في مقام الجواب عن سؤال السائلين لا يقصد منها إلاّ إفهام السائلين ، دون [من] سواهم.

أقول : إنّ هذا القول لا يستقيم ، وقد ناقشه كلّ من جاء بعده من المحقّقين ، (٢) وخلاصة ما ينبغي مناقشته به أن يقال : إنّ هذا كلام مجمل غير واضح ، فما الغرض من نفي حجّيّة الظهور بالنسبة إلى غير المقصود إفهامه؟

١. إن كان الغرض أنّ الكلام لا ظهور ذاتيّا له بالنسبة إلى هذا الشخص فهو أمر يكذّبه الوجدان.

٢. وإن كان الغرض ـ كما قيل (٣) في توجيه كلامه ـ دعوى أنّه ليس للعقلاء بناء على إلغاء احتمال القرينة في الظواهر بالنسبة إلى غير المقصود بالإفهام ، فهي دعوى بلا دليل ، بل المعروف في بناء العقلاء عكس ذلك. قال الشيخ الأنصاريّ في مقام ردّه : «إنّه لا فرق في العمل بالظهور اللفظيّ ، وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ، ومن لم يقصد». (٤)

٣. وإن كان الغرض ـ كما قيل (٥) في توجيه كلامه أيضا ـ أنّه لمّا كان من الجائز عقلا أن

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٣٩٨ ، و ٢ : ١٠٣.

(٢) منهم : الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ١ : ٦٩ ، والمحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٣٢٤ ، والمحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٣ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٣) والقائل الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ١ : ٦٧ ـ ٦٨.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٦٩.

(٥) والقائل المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ١٦٦.

٥٠٠