اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

من الواضح أنّ الانسباق لا يحصل من اللفظ إلى معناه ـ في أيّة لغة ـ لغير العالم بتلك اللغة ، فيتوقّف التبادر على العلم بالوضع ، فلو أردنا إثبات الحقيقة وتحصيل العلم بالوضع بسبب التبادر ، لزم الدور المحال ، فلا يعقل ـ على هذا ـ أن يكون التبادر علامة للحقيقة يستفاد منه العلم بالوضع ، والمفروض أنّه مستفاد من العلم بالوضع.

والجواب : أنّ كلّ فرد من أيّة أمّة يعيش معها لا بدّ أن يستعمل الألفاظ المتداولة عندها تبعا لها ، ولا بدّ أن يرتكز في ذهنه معنى اللفظ ارتكازا يستوجب انسباق ذهنه إلى المعنى عند سماع اللفظ ، وقد يكون ذلك الارتكاز من دون التفات تفصيليّ إليه وإلى خصوصيّات المعنى ، فإذا أراد الإنسان معرفة المعنى وتلك الخصوصيّات وتوجّهت نفسه إليه فإنّه يفتّش عمّا هو مرتكز في نفسه من المعنى ، فينظر إليه مستقلاّ عن القرينة ، فيرى أنّ المتبادر من اللفظ الخاصّ ما هو من معناه الارتكازيّ ، فيعرف أنّه حقيقة فيه.

فالعلم بالوضع لمعنى خاصّ بخصوصيّاته التفصيليّة ـ أي الالتفات التفصيليّ إلى الوضع والتوجّه إليه ـ يتوقّف على التبادر ، والتبادر إنّما هو موقوف على العلم الارتكازيّ بوضع اللفظ لمعناه غير الملتفت إليه.

والحاصل أنّ هناك علمين : أحدهما يتوقّف على التبادر وهو العلم التفصيليّ ، والآخر يتوقّف التبادر عليه وهو العلم الإجماليّ الارتكازيّ (١).

هذا الجواب بالقياس إلى العالم بالوضع ، وأمّا بالقياس إلى غير العالم به فلا يعقل حصول التبادر عنده ؛ لفرض جهله باللغة. نعم ، يكون التبادر أمارة على الحقيقة عنده إذا شاهد التبادر عند أهل اللغة ، يعني أنّ الأمارة عنده تبادر غيره من أهل اللغة. مثلا إذا شاهد الأعجميّ من أصحاب اللغة العربيّة انسباق أذهانهم من لفظ «الماء» المجرّد عن القرينة إلى الجسم السائل البارد بالطبع فلا بدّ أن يحصل له العلم بأنّ هذا اللفظ موضوع

__________________

(١) قيّده بالارتكازيّ ؛ لأنّ العلم الإجماليّ قد يطلق ويراد به ما كان متعلّقه مردّدا بين أمرين فصاعدا ، قبال العلم التفصيليّ بأمر معيّن ، وقد يطلق ويراد به ما يكون مرتكزا ومكنونا في خزانة النفس من دون التفات تفصيليّ إليه ، وهذا هو المراد في المقام.

٤١

لهذا المعنى عندهم. وعليه فلا دور هنا ؛ لأنّ علمه يتوقّف على التبادر ، والتبادر يتوقّف على علم غيره.

العلامة الثانية : عدم صحّة السلب وصحّته ، وصحّة الحمل وعدمها

ذكروا : أنّ عدم صحّة سلب اللفظ عن المعنى الذي يشكّ في وضعه له علامة أنّه حقيقة فيه ، وأنّ صحّة السلب علامة على أنّه مجاز فيه.

وذكروا أيضا : أنّ صحّة حمل اللفظ على ما يشكّ في وضعه له علامة الحقيقة ، وعدم صحّة الحمل علامة على المجاز.

وهذا ما يحتاج إلى تفصيل وبيان ، فلتحقيق الحمل وعدمه والسلب وعدمه نسلك الطرق الآتية :

١. نجعل المعنى الذي يشكّ في وضع اللفظ له «موضوعا» ، ونعبّر عنه بأيّ لفظ كان يدلّ عليه.

ثمّ نجعل اللفظ المشكوك في وضعه لذلك المعنى «محمولا» بما له من المعنى الارتكازيّ.

ثمّ نجرّب أن نحمل بالحمل الأوّلي اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن على ذلك اللفظ الدالّ على المعنى المشكوك وضع اللفظ له. والحمل الأوّلي ملاكه الاتّحاد في المفهوم والتغاير بالاعتبار (١) ، وحينئذ إذا أجرينا هذه التجربة فإن وجدنا عند أنفسنا صحّة الحمل وعدم صحّة السلب علمنا تفصيلا بأنّ اللفظ موضوع لذلك المعنى ، وإن وجدنا عدم صحّة الحمل وصحّة السلب علمنا أنّه ليس موضوعا لذلك المعنى ، بل يكون استعماله فيه مجازا.

٢. إذا لم يصحّ عندنا الحمل الأوّلي نجرّب أن نحمله هذه المرّة بالحمل الشائع الصناعيّ (٢)

__________________

(١) وقد شرحنا الحمل وأقسامه في الجزء الأوّل من المنطق : ٩٣ ـ ٩٧. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) يسمّي هذا الحمل بالشائع ؛ لأجل شيوعه بين عامّة الناس ، وبالصناعيّ ؛ لأجل استعماله في صناعات العلوم.

٤٢

الذي ملاكه الاتّحاد وجودا والتغاير مفهوما ، وحينئذ ، فإن صحّ الحمل علمنا أنّ المعنيين متّحدان وجودا ، سواء كانت النسبة التساوي أو العموم من وجه (١) أو مطلقا (٢) ، ولا يتعيّن واحد منها بمجرّد صحّة الحمل ، وإن لم يصحّ الحمل وصحّ السلب علمنا أنّهما متباينان.

٣. نجعل موضوع القضية أحد مصاديق المعنى المشكوك وضع اللفظ له ، لا نفس المعنى المذكور ، ثمّ نجرّب الحمل ـ وينحصر الحمل في هذه التجربة بالحمل الشائع ـ فإن صحّ الحمل ، علم منه حال المصداق من جهة كونه أحد المصاديق الحقيقيّة لمعنى اللفظ الموضوع له ، سواء كان ذلك المعنى نفس المعنى المذكور أو غيره المتّحد معه وجودا ، كما يستعلم منه حال الموضوع له في الجملة من جهة شموله لذلك المصداق ، بل قد يستعلم منه تعيين الموضوع له ، مثل ما إذا كان الشكّ في وضعه لمعنى عامّ أو خاصّ ، كلفظ «الصعيد» المردّد بين أن يكون موضوعا لمطلق وجه الأرض أو لخصوص التراب الخالص ، فإذا وجدنا صحّة الحمل وعدم صحّة السلب بالقياس إلى غير التراب الخالص من مصاديق الأرض يعلم بالقهر تعيين وضعه لعموم الأرض.

وإن لم يصحّ الحمل وصحّ السلب علم أنّه ليس من أفراد الموضوع له ومصاديقه الحقيقيّة ، وإذا كان قد استعمل فيه اللفظ ، فالاستعمال يكون مجازا إمّا فيه رأسا أو في معنى يشمله ويعمّه.

تنبيه :

إنّ الدور الذي ذكر في التبادر يتوجّه إشكاله هنا أيضا. والجواب عنه نفس الجواب هناك ؛ لأنّ صحّة الحمل وصحّة السلب إنّما هما باعتبار ما للّفظ من المعنى المرتكز إجمالا ، فلا تتوقّف العلامة إلاّ على العلم الارتكازيّ ، وما يتوقّف على العلامة هو

__________________

(١) إنّما يفرض العموم من وجه إذا كانت القضيّة مهملة. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) نسبة التساوي نحو «الإنسان ضاحك» ، ونسبة العموم من وجه كقولهم : «الحيوان أبيض» ، ونسبة العموم مطلقا كقولهم : «زيد إنسان».

٤٣

العلم التفصيليّ (١).

هذا كلّه بالنسبة إلى العارف باللغة. وأمّا الجاهل بها : فيرجع إلى أهلها في صحّة الحمل والسلب وعدمهما كالتبادر.

العلامة الثالثة : الاطّراد

وذكروا من جملة علامات الحقيقة والمجاز الاطّراد وعدمه ؛ فالاطّراد علامة الحقيقة ، وعدمه علامة المجاز.

ومعنى الاطّراد : أنّ اللفظ لا تختصّ صحّة استعماله في المعنى المشكوك بمقام دون مقام ، ولا بصورة دون صورة ، كما لا تختصّ بمصداق دون مصداق (٢).

والصحيح أنّ الاطّراد ليس علامة الحقيقة ؛ لأنّ صحة استعمال اللفظ في معنى بما له من الخصوصيّات مرّة واحدة تستلزم صحّته دائما ، سواء كان حقيقة أم مجازا ، فالاطّراد لا يختصّ بالحقيقة حتى يكون علامة لها.

__________________

(١) هذا ، والصحيح أنّ صحّة الحمل ليست علامة الحقيقة ؛ لأنّ صحّة حمل شىء على شيء عند العرف وأبناء المحاورة إنّما تكشف عن عدم مباينة الموضوع والمحمول ، وأمّا الاستعمال الحقيقي ، فلا يكشف إلاّ بمعونة التبادر. والتبادر أيضا إنّما يكشف عن المعنى الحقيقي بمعونة أصالة عدم النقل وأصالة اتّحاد العرفين. والتفصيل في محلّه.

(٢) ولا يخفى أنّ هذا التعريف للاطّراد جمع بين التعريف الذي ذكره المحقّق العراقيّ والتعريف الذي ذكره المحقّق الأصفهانيّ. فراجع نهاية الأفكار ١ : ٦٨ ؛ ونهاية الدراية ١ : ٥١.

٤٤

تمرينات (٣)

التمرين الأوّل

١. ما الفرق بين الاستعمال الحقيقيّ والمجازيّ؟

٢. صحة استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وعلى كلا التقديرين ما الدليل عليه؟

٣. ما الفرق بين الدلالة التصوريّة والدلالة التصديقيّة؟ مثّل لهما.

٤. هل الدلالة تابعة للإرادة أم لا؟ وعلى كلا التقديرين ما الدليل عليه؟

٥. ما الفرق بين الوضع الشخصيّ والنوعيّ؟ مثّل لهما.

٦. بيّن كيفيّة وضع المركّبات.

٧. ما المراد بقولهم : «التبادر علامة الحقيقة»؟ وما المقصود من كلمة «التبادر»؟

٨. هل التبادر علامة الحقيقة أم لا؟ وعلى الأوّل كيف يدفع إشكال لزوم الدور؟

٩. هل صحّة الحمل وعدم صحّة السلب علامتا الحقيقة أو لا؟ وعلى الأوّل ما الدليل عليه؟

١٠. كيف يدفع إشكال الدور على كون صحّة الحمل وعدم صحّة السلب علامتي الحقيقة؟

١١. هل الاطّراد علامة الحقيقة أم لا؟ وعلى كلا التقديرين ما الدليل عليه؟

التمرين الثاني

١. ما هو رأي المحقّق الخراسانيّ والمحقّق الحائريّ في تبعيّة الدلالة للإرادة وعدمها؟

٢. بيّن آراء العلماء فيما هو المراد من وضع المركّب في المقام.

٣. ما المراء من الاطّراد؟ (اذكر آراء المتأخّرين).

٤٥

١٢. الأصول اللفظيّة

تمهيد

اعلم أنّ الشكّ في اللفظ على نحوين :

١. الشكّ في وضعه لمعنى من المعاني.

٢. الشكّ في المراد منه بعد فرض العلم بالوضع ، كأن يشكّ في أنّ المتكلّم أراد بقوله : «رأيت أسدا» معناه الحقيقيّ أو معناه المجازيّ مع العلم بوضع لفظ الأسد للحيوان المفترس ، وبأنّه غير موضوع للرجل الشجاع؟

أمّا النحو الأوّل : فقد كان البحث السابق معقودا لأجله ، لغرض بيان العلامات المثبتة للحقيقة أو المجاز ـ أي المثبتة للوضع أو عدمه ـ. وهنا نقول : إنّ الرجوع إلى تلك العلامات وأشباهها كنصّ أهل اللغة أمر لا بدّ منه في إثبات أوضاع اللغة أيّة لغة كانت ، ولا يكفي في إثباتها أن نجد في كلام أهل تلك اللغة استعمال اللفظ في المعنى الذي شكّ في وضعه له ؛ لأنّ الاستعمال كما يصحّ في المعنى الحقيقيّ يصحّ في المعنى المجازيّ ، وما يدرينا لعلّ المستعمل اعتمد على قرينة حاليّة أو مقاليّة في تفهيم المعنى المقصود له ، فاستعمله فيه على سبيل المجاز. ولذا اشتهر في لسان المحقّقين ـ حتى جعلوه كقاعدة ـ قولهم : «إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز» (١).

ومن هنا نعلم بطلان طريقة العلماء السابقين لإثبات وضع اللفظ بمجرّد وجدان استعماله في لسان العرب ، كما وقع ذلك لعلم الهدى السيّد المرتضى قدس‌سره (٢) ، فإنّه كان يجري أصالة الحقيقة في الاستعمال ، بينما أنّ أصالة الحقيقة إنّما تجري عند الشكّ في المراد لا في الوضع ، كما سيأتي.

وأمّا النحو الثاني : فالمرجع فيه لإثبات مراد المتكلّم الأصول اللفظية ، وهذا البحث

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٨١ ؛ الفصول الغرويّة : ٤١ ؛ وكفاية الأصول : ٤٧ ؛ مفاتيح الأصول : ٧٨ وغيرها من الكتب الأصوليّة.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ١٣.

٤٦

معقود لأجلها ، فينبغي الكلام فيها من جهتين :

أوّلا : في ذكرها وذكر مواردها.

ثانيا : في حجيّتها ومدرك حجيّتها.

الأصول اللفظيّة ومواردها

أمّا من الجهة الأولى : فنقول : أهمّ الأصول اللفظيّة ما يأتي :

١. أصالة الحقيقة

وموردها ما إذا شكّ في إرادة المعنى الحقيقيّ أو المجازيّ من اللفظ بأن لم يعلم وجود القرينة على إرادة المجاز مع احتمال وجودها ، فيقال حينئذ : «الأصل الحقيقة» ، أي الأصل أن نحمل الكلام على معناه الحقيقيّ ، فيكون حجّة فيه للمتكلّم على السامع ، وحجّة فيه للسامع على المتكلّم ، فلا يصحّ من السامع الاعتذار في مخالفة الحقيقة بأن يقول للمتكلّم : «لعلّك أردت المعنى المجازيّ» ، ولا يصحّ الاعتذار من المتكلّم بأن يقول للسامع : «إنّي أردت المعنى المجازيّ».

٢. أصالة العموم

وموردها ما إذا ورد لفظ عامّ وشكّ في إرادة العموم منه أو الخصوص ، أي شكّ في تخصيصه ، فيقال حينئذ : «الأصل العموم» ، فيكون حجّة في العموم على المتكلّم أو السامع.

٣. أصالة الإطلاق

وموردها ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات وقيود يمكن إرادة بعضها منه وشكّ في إرادة هذا البعض لاحتمال وجود القيد فيقال : «الأصل الإطلاق» ، فيكون حجّة على السامع والمتكلّم ؛ كقوله (تعالى) : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ (١)) ، فلو شكّ ـ مثلا ـ في البيع أنّه هل يشترط في

__________________

(١) البقرة (٢) الآية : ٢٧٥.

٤٧

صحّته أن ينشأ بألفاظ عربيّة؟ فإنّنا نتمسّك بأصالة إطلاق البيع في الآية لنفي اعتبار هذا الشرط والتقييد به ، فنحكم حينئذ بجواز البيع بالألفاظ غير العربيّة.

٤. أصالة عدم التقدير

وموردها ما إذا احتمل التقدير في الكلام وليس هناك دلالة على التقدير فالأصل عدمه.

ويلحق بأصالة عدم التقدير أصالة عدم النقل وأصالة [عدم] الاشتراك. وموردهما ما إذا احتمل معنى ثان موضوع له اللفظ ، فإن كان هذا الاحتمال مع فرض هجر المعنى الأوّل ـ وهو المسمّى بـ «المنقول» ـ فالأصل عدم النقل ، وإن كان مع عدم هذا الفرض ـ وهو المسمّى بـ «المشترك» ـ فالأصل عدم الاشتراك ؛ فيحمل اللفظ في كلّ منهما على إرادة المعنى الأوّل ما لم يثبت النقل والاشتراك. أمّا إذا ثبت النقل فإنّه يحمل على المعنى الثاني ، وإذا ثبت الاشتراك فإنّ اللفظ يبقى مجملا لا يتعيّن في أحد المعنيين إلاّ بقرينة على القاعدة المعروفة في كلّ مشترك.

٥. أصالة الظهور

وموردها ما إذا كان اللفظ ظاهرا في معنى خاصّ لا على وجه النصّ فيه الذي لا يحتمل معه الخلاف ، بل كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر ، فإنّ الأصل حينئذ أن يحمل الكلام على الظاهر فيه.

وفي الحقيقة أنّ جميع الأصول المتقدّمة راجعة إلى هذا الأصل ؛ لأنّ اللفظ مع احتمال المجاز ـ مثلا ـ ظاهر في الحقيقة ، ومع احتمال التخصيص ظاهر في العموم ، ومع احتمال التقييد ظاهر في الإطلاق ، ومع احتمال التقدير ظاهر في عدمه. فمؤدّى أصالة الحقيقة نفس مؤدّى أصالة الظهور في مورد احتمال المجاز ، ومؤدّى أصالة العموم هو نفس مؤدّى أصالة الظهور في مورد احتمال التخصيص ... وهكذا في باقي الأصول المذكورة.

فلو عبّرنا بدلا عن كلّ من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التعبير صحيحا مؤدّيا للغرض ، بل كلّها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور ، فليس عندنا في الحقيقة إلاّ

٤٨

أصل واحد هو «أصالة الظهور» ، ولذا لو كان الكلام ظاهرا في المجاز واحتمل إرادة الحقيقة انعكس الأمر ، وكان الأصل من اللفظ المجاز ، بمعنى أنّ الأصل الظهور ، ومقتضاه الحمل على المعنى المجازيّ ، ولا تجري أصالة الحقيقة حينئذ. وهكذا لو كان الكلام ظاهرا في التخصيص أو التقييد.

حجيّة الأصول اللفظيّة

وهي الجهة الثانية من البحث عن الأصول اللفظيّة ، والبحث عنها يأتي في بابه ـ وهو باب مباحث الحجّة (١) ـ. ولكن ينبغي الآن أن نتعجّل في البحث عنها ؛ لكثرة الحاجة إليها ، مكتفين بالإشارة ، فنقول :

إنّ المدرك والدليل في جميع الأصول اللفظية واحد ، وهو تباني العقلاء في الخطابات الجارية بينهم على الأخذ بظهور الكلام ، وعدم الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر ، كما لا يعتنون باحتمال الغفلة ، أو الخطأ ، أو الهزل ، أو إرادة الإهمال والإجمال ، فإذا احتمل الكلام المجاز أو التخصيص أو التقييد أو التقدير لا يوقفهم ذلك عن الأخذ بظاهره ، كما يلغون أيضا احتمال الاشتراك والنقل ونحوهما.

ولا بدّ أنّ الشارع قد أمضى هذا البناء ، وجرى في خطاباته على طريقتهم هذه ، وإلاّ لزجرنا ونهانا عن هذا البناء في خصوص خطاباته ، أو لبيّن لنا طريقته لو كان له غير طريقتهم طريقة خاصّة يجب اتّباعها ، ولا يجوز التعدّي عنها إلى غيرها ، فيعلم من ذلك على سبيل الجزم أنّ الظاهر حجّة عنده كما هو عند العقلاء بلا فرق.

١٣. الترادف والاشتراك

لا ينبغي الإشكال في إمكان الترادف والاشتراك ، بل في وقوعهما في اللغة العربيّة ، فلا يصغى إلى مقالة من أنكرهما (٢). وهذه بين أيدينا اللغة العربيّة ووقوعهما فيها واضح

__________________

(١) يأتي في مبحث «وجه حجّية الظهور» من الباب الخامس من المقصد الثالث : ٤٩٤ و ٤٩٥.

(٢) كتغلب والأبهريّ والبلخيّ على ما في مفاتيح الأصول : ٢٣. وكالمحقّق النهاونديّ في تشريح الأصول : ٤٧.

٤٩

لا يحتاج إلى بيان.

ولكن ينبغي أن نتكلّم في نشأتهما ، فإنّه يجوز أن يكونا من وضع واضع واحد ، بأن يضع شخص واحد لفظين لمعنى واحد أو لفظا لمعنيين ، ويجوز أن يكونا من وضع واضعين متعدّدين ، فتضع قبيلة ـ مثلا ـ لفظا لمعنى وقبيلة أخرى لفظا آخر لذلك المعنى ، أو تضع قبيلة لفظا لمعنى وقبيلة اخرى ذلك اللفظ لمعنى آخر. وعند الجمع بين هذه اللغات باعتبار أنّ كلّ لغة منها لغة عربيّة صحيحة يجب اتّباعها يحصل الترادف والاشتراك.

والظاهر أنّ الاحتمال الثاني أقرب إلى واقع اللغة العربيّة ، كما صرّح به بعض المؤرّخين للّغة (١) ، وعلى الأقلّ فهو الأغلب في نشأة الترادف والاشتراك ، ولذا نسمع علماء العربيّة يقولون : لغة الحجاز كذا ، ولغة حمير كذا ، ولغة تميم كذا ... وهكذا. فهذا دليل على تعدّد الوضع بتعدّد القبائل والأقوام والأقطار في الجملة. ولا تهمّنا الإطالة في ذلك.

تمرينات (٤)

١. ما المراد من قولهم : «إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز»؟

٢. ما هي طريقة العلماء السابقين في إثبات وضع اللفظ؟

٣. ما المراد من أصالة الحقيقة؟

٤. ما المراد من أصالة العموم وأصالة الإطلاق؟

٥. ما المراد من أصالة عدم التقدير؟

٦. ما المراد من أصالة الظهور؟

٧. ما الدليل على حجّيّة الأصول اللفظيّة؟

٨. ما الفرق بين الترادف والاشتراك؟

٩. ما هو المنشأ في تحقّق الترادف والاشتراك؟

__________________

(١) وهو عبد الرحمن جلال الدين السيوطيّ في المزهر ١ : ٣٦٩.

٥٠

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

ولا شكّ في جواز استعمال اللفظ المشترك في أحد معانيه بمعونة القرينة المعيّنة ، وعلى تقدير عدم القرينة يكون اللفظ مجملا لا دلالة له على أحد معانيه.

كما لا شبهة في جواز استعماله في مجموع معانيه بما هو مجموع المعاني ، غاية الأمر يكون هذا الاستعمال مجازا يحتاج إلى القرينة ؛ لأنّه استعمال للّفظ في غير ما وضع له.

وإنّما وقع البحث والخلاف في جواز إرادة أكثر من معنى واحد من المشترك في استعمال واحد ، على أن يكون كلّ من المعاني مرادا من اللفظ على حدة ، وكأنّ اللفظ قد جعل للدلالة عليه وحده.

وللعلماء في ذلك أقوال وتفصيلات كثيرة لا يهمّنا الآن التعرّض لها (١). وإنّما الحقّ عندنا عدم جواز مثل هذا الاستعمال.

الدليل أنّ استعمال أيّ لفظ في معنى إنّما هو بمعنى إيجاد ذلك المعنى باللفظ ، لكن لا بوجوده الحقيقيّ ، بل بوجوده الجعليّ التنزيليّ ؛ لأنّ وجود اللفظ وجود للمعنى تنزيلا.

فهو وجود واحد ينسب إلى اللفظ حقيقة أوّلا وبالذات ، وإلى المعنى تنزيلا ثانيا وبالعرض (٢) ، فإذا أوجد المتكلّم اللفظ لأجل استعماله في المعنى فكأنّما أوجد المعنى وألقاه بنفسه إلى المخاطب. فلذلك يكون اللفظ ملحوظا للمتكلّم بل للسامع آلة وطريقا للمعنى ، وفانيا فيه ، وتبعا للحاظه ، والملحوظ بالأصالة والاستقلال هو المعنى نفسه.

وهذا نظير الصورة في المرآة ؛ فإنّ الصورة موجودة بوجود المرآة ، والوجود الحقيقيّ للمرآة ، وهذا الوجود نفسه ينسب إلى الصورة ثانيا وبالعرض. فإذا نظر الناظر إلى الصورة في المرآة فإنّما ينظر إليها بطريق المرآة بنظرة واحدة هي للصورة بالاستقلال والأصالة ، وللمرآة بالآليّة والتبع ، فتكون المرآة كاللفظ ملحوظة تبعا للحاظ الصورة ، وفانية فيها فناء

__________________

(١) ومن أرادها فليراجع معالم الدين : ٣٢ ـ ٣٤ ؛ بدائع الأفكار «الرشتي» : ١٦٣ ؛ وكفاية الأصول : ٥٣ ؛ مقالات الأصول ١ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ؛ فوائد الأصول ١ : ٥١ ؛ مناهج الوصول ١ : ١٨ ؛ المحاضرات ١ : ٢١٠.

(٢) راجع عن توضيح الوجود اللفظي للمعنى الجزء الأوّل من المنطق : ٣٠ من الطبعة الثانية للمؤلّف.

٥١

العنوان في المعنون (١).

وعلى هذا ، فلا يمكن استعمال لفظ واحد إلاّ في معنى واحد ؛ فإنّ استعماله في معنيين مستقلاّ ـ بأن يكون كلّ منهما مرادا من اللفظ على حدة ، كما إذا لم يكن إلاّ نفسه ـ يستلزم لحاظ كلّ منهما بالأصالة ، فلا بدّ من لحاظ اللفظ في آن واحد مرّتين بالتبع ، ومعنى ذلك اجتماع لحاظين في آن واحد على ملحوظ واحد ، أعني به (٢) اللفظ الفاني في كلّ من المعنيين ، وهو محال بالضرورة ؛ فإنّ الشيء الواحد لا يقبل إلاّ وجودا واحدا في النفس في آن واحد (٣).

ألا ترى أنّه لا يمكن أن يقع لك أن تنظر في مرآة واحدة إلى صورة تسع المرآة كلّها ، وتنظر ـ في نفس الوقت ـ إلى صورة أخرى تسعها أيضا. إنّ هذا لمحال.

وكذلك النظر في اللفظ إلى معنيين ، على أن يكون كلّ منهما قد استعمل فيه اللفظ مستقلاّ ، ولم يحك إلاّ عنه.

نعم ، يجوز لحاظ اللفظ فانيا في معنى في استعمال ، ثمّ لحاظه فانيا في معنى آخر في استعمال ثان ، مثل ما تنظر في المرآة إلى صورة تسعها ، ثمّ تنظر في وقت آخر إلى صورة أخرى تسعها.

وكذا يجوز لحاظ اللفظ في مجموع معنيين في استعمال واحد ولو مجازا ، مثلما تنظر في المرآة في آن واحد إلى صورتين لشيئين مجتمعين. وفي الحقيقة إنّما استعملت اللفظ في معنى واحد هو مجموع المعنيين ، ونظرت في المرآة إلى صورة واحدة لمجموع الشيئين.

تنبيهان

الأوّل : أنّه لا فرق في عدم جواز الاستعمال في المعنيين بين أن يكونا حقيقيّين أو

__________________

(١) من قوله : «وهذا نظير الصورة» إلى هنا اقتباس من كلام المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٥٣.

(٢) أي الملحوظ الواحد.

(٣) انتهى ما استدلّ به المحقّق النائينيّ على عدم جواز الاستعمال ، كما في أجود التقريرات ١ : ٧٦ ؛ وناقش فيه السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ١ : ٢٠٦. ومناقشته تبتني على مبناه في حقيقية الوضع.

٥٢

مجازيّين أو مختلفين ؛ فإنّ المانع ـ وهو تعلّق لحاظين بملحوظ واحد في آن واحد ـ موجود في الجميع ، فلا يختصّ بالمشترك كما اشتهر.

الثاني : ذكر بعضهم (١) أنّ الاستعمال في أكثر من معنى إن لم يجز في المفرد يجوز في التثنية والجمع ، بأن يراد من كلمة «عينين» ـ مثلا ـ فرد من العين الباصرة وفرد من العين النابعة ، فلفظ «عين» ـ وهو مشترك ـ قد استعمل حال التثنية في معنيين : في الباصرة ، والنابعة. وهذا شأنه في الإمكان والصحّة شأن ما لو أريد معنى واحد من كلمة «عينين» ، بأن يراد فردان من العين الباصرة ـ مثلا ـ فإذا صحّ هذا فليصحّ ذلك بلا فرق.

واستدلّ على ذلك بما ملخّصه : أنّ التثنية والجمع في قوّة تكرار الواحد بالعطف ، فإذا قيل : «عينان» فكأنّما قيل : «عين وعين». وإذ يجوز في قولك : «عين وعين» أن تستعمل أحدهما في الباصرة ، والثانية في النابعة فكذلك ينبغي أن يجوز فيما هو بقوّتهما ، أعني «عينين» ، وكذا الحال في الجمع.

والصحيح عندنا عدم الجواز في التثنية والجمع ، كالمفرد. والدليل : (٢) أنّ التثنية والجمع وإن كانا موضوعين لإفادة التعدّد ، إلاّ أنّ ذلك من جهة وضع الهيئة في قبال وضع المادّة ، وهي ـ أي المادّة ـ نفس لفظ المفرد الذي طرأت عليه التثنية والجمع ، فإذا قيل : «عينان» ـ مثلا ـ فإن اريد من المادّة خصوص الباصرة ـ مثلا ـ فالتعدّد يكون بالقياس إليها (٣) ، أي فردان منها ، وإن أريد منها خصوص النابعة ـ مثلا ـ فالتعدّد يكون بالقياس إليها ، فلو اريد الباصرة والنابعة ، فلا بدّ أن يراد التعدّد من كلّ منهما ـ أي فردان من الباصرة وفردان من النابعة (٤) ـ ، لكنّه مستلزم لاستعمال المادّة في أكثر من معنى ، وقد عرفت استحالته.

وأمّا أنّ التثنية والجمع في قوّة تكرار الواحد فمعناه أنّهما تدلاّن على تكرار أفراد المعنى المراد من المادّة ، لا تكرار نفس المعنى المراد منهما. فلو أريد من استعمال التثنية أو

__________________

(١) وهو صاحب المعالم في معالم الدين : ٣٢ ـ ٣٤.

(٢) وهذا الدليل ما نهج السيّد الخوئي في مناقشته لصاحب المعالم ، فراجع المحاضرات ١ : ٢١١.

(٣) أي الباصرة.

(٤) والموجود في بعض النسخ المطبوعة : «أي فرد من الباصرة وفرد من النابعة» ، ولكن الصحيح ما في المتن.

٥٣

الجمع فردان أو أفراد من طبيعتين أو طبائع متعدّدة لا يمكن ذلك أبدا إلاّ أن يراد من المادّة «المسمّى بهذا اللفظ» على نحو المجاز ، فتستعمل المادّة في معنى واحد وهو معنى «مسمّى هذا اللفظ» وإن كان مجازا ، نظير الأعلام الشخصيّة غير القابلة لعرض (١) التعداد على مفاهيمها الجزئية إلاّ بتأويل المسمّى ، فإذا قيل : «محمّدان» فمعناه فردان من المسمّى بلفظ «محمّد» ، فاستعملت المادّة ـ وهي لفظ محمّد ـ في مفهوم «المسمّى» مجازا.

تمرينات (٥)

التمرين الأوّل

١. ما المراد من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد؟

٢. هل استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز أم لا؟ ما الدليل عليه؟

٣. هل عدم جواز الاستعمال يختصّ بالمشترك أم لا؟

٤. كيف استدلّ صاحب المعالم على جواز الاستعمال في الأكثر في التثنية والجمع؟ وما الجواب عن استدلاله؟

التمرين الثاني

١. ما هي الأقوال في استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد؟

__________________

(١) وفي المطبوع «لعروض» ولكن «العروض» لا تساعده اللغة.

٥٤

١٤. الحقيقة الشرعيّة

لا شكّ في أنّا ـ نحن المسلمين ـ نفهم من بعض الألفاظ المخصوصة ، كالصلاة والصوم ونحوهما ، معاني خاصّة شرعيّة ، ونجزم بأنّ هذه المعاني حادثة لم يكن يعرفها أهل اللغة العربيّة قبل الإسلام ، وإنّما نقلت تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى هذه المعاني الشرعيّة.

هذا لا شكّ فيه ، ولكنّ الشكّ وقع عند الباحثين في أنّ هذا النقل وقع في عصر الشارع المقدّس على نحو الوضع التعييني أو التعيّني ، فتثبت الحقيقة الشرعيّة ، أو أنّه وقع في عصر بعده على لسان أتباعه المتشرّعة ، فلا تثبت الحقيقة الشرعيّة ، بل الحقيقة المتشرعيّة؟.

والفائدة من هذا النزاع تظهر في الألفاظ الواردة في كلام الشارع مجرّدة عن القرينة ، سواء كانت في القرآن الكريم أم السنّة. فعلى القول الأوّل يجب حملها على المعاني الشرعيّة ، وعلى الثاني تحمل على المعاني اللغويّة ، أو يتوقّف فيها فلا تحمل على المعاني الشرعيّة ولا على اللغويّة ، بناء على رأي من يذهب إلى التوقّف فيما إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقيّ وبين المجاز المشهور (١) ؛ إذ من المعلوم أنّه إذا لم تثبت الحقيقة الشرعيّة فهذه المعاني المستحدثة تكون ـ على الأقلّ ـ مجازا مشهورا في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ نقل تلك الألفاظ إلى المعاني المستحدثة إمّا بالوضع التعيينيّ أو التعيّنيّ :

أمّا الأوّل : فهو مقطوع العدم ؛ لأنّه لو كان لنقل إلينا بالتواتر ، أو بالآحاد على الأقلّ ؛ لعدم الداعي إلى الإخفاء ، بل الدواعي متظافرة على نقله ، مع أنّه لم ينقل ذلك أبدا.

وأمّا الثاني : فهو ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى زمان إمامنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لأنّ اللفظ إذا استعمل في معنى خاصّ في لسان جماعة كثيرة زمانا معتدّا به ـ لا سيّما إذا كان المعنى جديدا ـ يصبح حقيقة فيه بكثرة الاستعمال ، فكيف إذا كان ذلك عند المسلمين قاطبة في سنين متمادية؟! فلا بدّ ـ إذن ـ من حمل تلك الألفاظ على المعاني المستحدثة فيما إذا

__________________

(١) القول بالتوقّف فيما إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقيّ وبين المجاز المشهور منسوب إلى المشهور ، كما نسبه إليهم المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ١ : ٥٦.

٥٥

تجرّدت عن القرائن في روايات الأئمّة عليهم‌السلام.

نعم ، كونها حقيقة فيها في خصوص زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير معلوم ، وإن كان غير بعيد ، بل من المظنون ذلك ، ولكن الظنّ في هذا الباب لا يغني من الحقّ شيئا ، غير أنّه لا أثر لهذا الجهل ، نظرا إلى أنّ السنّة النبويّة غير مبتلى بها إلاّ ما نقل لنا من طريق آل البيت عليهم‌السلام على لسانهم ، وقد عرفت الحال في كلماتهم أنّه لا بدّ من حملها على المعاني المستحدثة.

وأمّا القرآن المجيد : فأغلب ما ورد فيه من هذه الألفاظ أو كلّه محفوف بالقرائن المعيّنة لإرادة المعنى الشرعيّ ، فلا فائدة مهمّة في هذا النزاع بالنسبة إليه. على أنّ الألفاظ الشرعيّة ليست على نسق واحد ؛ فإنّ بعضها كثير التداول ، كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ ، لا سيّما الصلاة التي يؤدّونها كلّ يوم خمس مرّات ، فمن البعيد جدّا ألاّ تصبح حقائق في معانيها المستحدثة بأقرب وقت في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الصحيح والأعمّ

من ملحقات المسألة السابقة مسألة «الصحيح والأعمّ». فقد وقع النزاع في أنّ ألفاظ العبادات أو المعاملات أهي أسام موضوعة للمعاني الصحيحة أو للأعمّ منها ومن الفاسدة؟

وقبل بيان المختار لا بدّ من تقديم مقدّمات :

الأولى : أنّ هذا النزاع لا يتوقّف على ثبوت الحقيقة الشرعيّة (١) ؛ لأنّه قد عرفت أنّ هذه الألفاظ مستعملة في لسان المتشرّعة بنحو الحقيقة ولو على نحو الوضع التعيّني عندهم.

ولا ريب أنّ استعمالهم كان يتبع الاستعمال في لسان الشارع ، سواء كان استعماله على نحو الحقيقة أو المجاز.

فإذا عرفنا ـ مثلا ـ أنّ هذه الألفاظ في عرف المتشرّعة كانت حقيقة في خصوص الصحيح يستكشف منه أنّ المستعمل فيه في لسان الشارع هو الصحيح أيضا ، مهما كان

__________________

(١) خلافا لصاحب الفصول ، فإنّه قال : «وهذا النزاع إنّما يتفرّع على القول بأنّ هذه الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها الشرعيّة». وتبعه المحقّق الخراسانيّ ، فقال : «لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة». الفصول الغرويّة : ٤٦ ؛ كفاية الأصول : ٣٨.

٥٦

استعماله عنده أحقيقة كان أم مجازا. كما أنّه لو علم أنّها كانت حقيقة في الأعمّ في عرفهم ، كان ذلك أمارة على كون المستعمل فيه في لسانه هو الأعمّ أيضا ، وإن كان استعماله على نحو المجاز.

الثانية : أنّ المراد من الصحيحة من العبادة أو المعاملة هي التي تمّت أجزاؤها وكملت شروطها. والصحيح إذن معناه تامّ الأجزاء والشرائط (١). فالنزاع يرجع هنا إلى أنّ الموضوع له خصوص تامّ الأجزاء والشرائط من العبادة أو المعاملة ، أو الأعمّ منه ومن الناقص؟

الثالثة : أنّ ثمرة النزاع هي صحّة رجوع القائل بالوضع للأعمّ ـ المسمّى ب : «الأعمّي» ـ إلى أصالة الإطلاق ، دون القائل بالوضع للصحيح ـ المسمّى ب : «الصحيحيّ» ـ فإنّه لا يصحّ له الرجوع إلى أصالة إطلاق اللفظ.

توضيح ذلك أنّ المولى إذا أمرنا بإيجاد شيء وشككنا في حصول امتثاله بالإتيان بمصداق خارجيّ فله صورتان يختلف الحكم فيهما :

١. أن يعلم صدق عنوان المأمور به على ذلك المصداق ، ولكن يحتمل دخل قيد زائد في غرض المولى غير متوفّر في ذلك المصداق ، كما إذا أمر المولى بعتق رقبة ، فإنّه يعلم بصدق عنوان المأمور به على [إعتاق] الرقبة الكافرة ، ولكن يشكّ في دخل وصف الإيمان في غرض المولى ، فيحتمل أن يكون قيدا للمأمور به.

فالقاعدة في مثل هذا الرجوع إلى أصالة الإطلاق في نفي اعتبار القيد المحتمل اعتباره ، فلا يجب تحصيله ، بل يجوز الاكتفاء في الامتثال بالمصداق المشكوك ، فيمتثل في المثال لو أعتق رقبة كافرة.

٢. أن يشكّ في صدق نفس عنوان المأمور به على ذلك المصداق الخارجيّ ، كما إذا أمر المولى بالتيمّم بالصعيد ولا ندري أنّ ما عدا التراب هل يسمّى صعيدا أو لا؟ فيكون شكّنا في صدق الصعيد على غير التراب. وفي مثله لا يصحّ الرجوع إلى أصالة الإطلاق لإدخال المصداق المشكوك في عنوان المأمور به ليكتفى به في مقام الامتثال ، بل لا بدّ من الرجوع

__________________

(١) قد عرّف الفقهاء «الصحّة» بما يوجب سقوط الإعادة والقضاء ؛ و «الفساد» بما لا يوجب سقوط الإعادة والقضاء. وعرّفهما المتكلّمون بما وافق الشريعة وعدمه.

٥٧

إلى الأصول العمليّة ، مثل قاعدة الاحتياط أو البراءة.

ومن هذا البيان تظهر ثمرة النزاع في المقام الذي نحن فيه ، فإنّه في فرض الأمر بالصلاة والشكّ في أنّ السورة ـ مثلا ـ جزء للصلاة أم لا؟

إن قلنا : إنّ الصلاة اسم للأعمّ كانت المسألة من باب الصورة الأولى ؛ لأنّه بناء على هذا القول يعلم بصدق عنوان الصلاة على المصداق الفاقد للسورة ، وإنّما الشكّ في اعتبار قيد زائد على المسمّى ، فيتمسّك حينئذ بإطلاق كلام المولى في نفي اعتبار القيد الزائد وهو كون السورة جزءا من الصلاة ، ويجوز الاكتفاء في الامتثال بفاقدها.

وإن قلنا : إنّ الصلاة اسم للصحيح كانت المسألة من باب الصورة الثانية ؛ لأنّه عند الشكّ في اعتبار السورة يشكّ في صدق عنوان المأمور به ـ أعني الصلاة ـ على المصداق الفاقد للسورة ؛ إذ عنوان المأمور به هو الصحيح ، والصحيح هو عنوان المأمور به ، فما ليس بصحيح ليس بصلاة ، فالفاقد للجزء المشكوك كما يشكّ في صحّته يشكّ في صدق عنوان المأمور به عليه ، فلا يصحّ الرجوع إلى أصالة الإطلاق لنفي اعتبار جزئيّة السورة حتّى يكتفى بفاقدها في مقام الامتثال ، بل لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الاحتياط أو أصالة البراءة على خلاف بين العلماء في مثله ، سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى (١).

المختار في المسألة

إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات فالمختار عندنا هو الوضع للأعمّ. والدليل التبادر وعدم صحّة السلب عن الفاسد ، وهما أمارتا الحقيقة ، كما تقدّم (٢).

وهم ودفع

الوهم : قد يعترض على المختار (٣) فيقال : إنّه لا يمكن الوضع بإزاء الأعمّ ؛ لأنّ الوضع له

__________________

(١) وهو باب دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين. ولكنّ الكتاب لم ينته إليه.

(٢) راجع الصفحة : ٤١ ـ ٤٣.

(٣) والمعترض هو المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٤٠ ـ ٤٢.

٥٨

يستدعي أن نتصوّر معنى كلّيّا جامعا بين أفراده ومصاديقه هو الموضوع له ، كما في أسماء الأجناس. وكذلك الوضع للصحيح يستدعي تصوّر كلّيّ جامع بين مراتبه وأفراده. ولا شكّ أنّ مراتب الصلاة ـ مثلا ـ الفاسدة والصحيحة كثيرة متفاوتة ، وليس بينها قدر جامع يصحّ وضع اللفظ بإزائه.

توضيح ذلك : أنّ أيّ جزء من أجزاء الصلاة حتّى الأركان إذا فرض عدمه يصحّ صدق اسم الصلاة على الباقي ، بناء على القول بالأعمّ ، كما يصحّ صدقه مع وجوده وفقدان غيره من الأجزاء. وعليه ، يكون كلّ جزء مقوّما للصلاة عند وجوده غير مقوّم عند عدمه ، فيلزم التبدّل في حقيقة الماهيّة ، بل يلزم الترديد فيها عند وجود تمام الأجزاء ؛ لأنّ أيّ جزء منها لو فرض عدمه يبقى صدق الاسم على حاله ، وكلّ منهما ـ أي التبدّل والترديد في الحقيقة الواحدة ـ غير معقول ؛ إذ إنّ كلّ ماهيّة تفرض لا بدّ أن تكون متعيّنة في حدّ ذاتها ، وإن كانت مبهمة من جهة تشخّصاتها الفرديّة ، والتبدّل أو الترديد في ذات الماهيّة معناه إبهامها في حدّ ذاتها ، وهو مستحيل.

الدفع : أنّ هذا التبادل في الأجزاء وتكثّر مراتب الفاسدة لا يمنع من فرض قدر مشترك جامع بين الأفراد ، ولا يلزم التبدّل والترديد في ذات الحقيقة الجامعة بين الأفراد. وهذا نظير لفظ «الكلمة» الموضوع لما تركّب من حرفين فصاعدا ، ويكون الجامع بين الأفراد هو «ما تركّب من حرفين فصاعدا» ، مع أنّ الحروف كثيرة ، فربّما تتركّب الكلمة من الألف والباء ، كأب ، ويصدق عليها أنّها كلمة ، وربّما تتركّب من حرفين آخرين مثل «يد» ، ويصدق عليها أنّها كلمة ... وهكذا. فكلّ حرف يجوز أن يكون داخلا وخارجا في مختلف الكلمات ، مع صدق اسم الكلمة.

وكيفيّة تصحيح الوضع في ذلك أنّ الواضع يتصوّر أوّلا جميع الحروف الهجائيّة ، ثمّ يضع لفظ «الكلمة» بإزاء طبيعة «المركّب من اثنين فصاعدا إلى حدّ سبعة حروف» مثلا. والغرض من التقييد بقولنا : «فصاعدا» بيان أنّ الكلمة تصدق على الأكثر من حرفين ، كصدقها على المركّب من حرفين.

ولا يلزم الترديد في الماهية ؛ فإنّ الماهية الموضوع لها هي طبيعة اللفظ الكلّي المتركّب

٥٩

من حرفين فصاعدا ، والتبدّل والترديد إنّما يكون في أجزاء أفرادها. وقد يسمّى ذلك : «الكلّيّ في المعيّن» أو «الكلّيّ المحصور في أجزاء معيّنة». وفي المثال أجزاؤه المعيّنة هي الحروف الهجائيّة كلّها.

وعلى هذا فينبغي أن يقاس لفظ «الصلاة» ـ مثلا ـ ، فإنّه يمكن تصوّر جميع أجزاء الصلاة في مراتبها كلّها ، وهي ـ أي هذه الأجزاء ـ معيّنة معروفة ، كالحروف الهجائيّة ، فيضع اللفظ بإزاء طبيعة «العمل المركّب من خمسة أجزاء منها ـ مثلا ـ فصاعدا» ، فعند وجود تمام الأجزاء يصدق على المركّب أنّه صلاة ، وعند وجود بعضها ـ ولو خمسة على أقلّ تقدير على الفرض ـ يصدق اسم الصلاة أيضا.

بل الحقّ أنّ الذي لا يمكن تصوّر الجامع فيه هو خصوص المراتب الصحيحة ، وهذا المختصر لا يسع تفصيل ذلك.

تنبيهان

١. لا يجري النزاع في المعاملات بمعنى المسبّبات

إنّ ألفاظ المعاملات ، كالبيع والنكاح ، والإيقاعات ، كالطلاق والعتق ، يمكن تصوير وضعها على أحد نحوين :

١. أن تكون موضوعة للأسباب التي تسبّب مثل الملكيّة والزوجيّة والفراق والحرّية ونحوها. ونعني بالسبب إنشاء العقد والإيقاع ، كالإيجاب والقبول معا في العقود ، والإيجاب فقط في الإيقاعات. وإذا كانت كذلك فالنزاع المتقدّم يصحّ أن نفرضه في ألفاظ المعاملات من كونها أسامي لخصوص الصحيحة ـ أعني تامّة الأجزاء والشرائط المؤثّرة في المسبّب ـ أو للأعمّ من الصحيحة والفاسدة. ونعني بالفاسدة ما لا يؤثّر في المسبّب إمّا لفقدان جزء أو شرط.

٢. أن تكون موضوعة للمسبّبات ، ونعني بالمسبّب نفس الملكيّة والزوجيّة والفراق والحرّية ونحوها. وعلى هذا فالنزاع المتقدّم لا يصحّ فرضه في المعاملات ؛ لأنّها لا تتّصف بالصحّة والفساد ؛ لكونها بسيطة غير مركّبة من أجزاء وشرائط ، بل إنّما تتّصف بالوجود

٦٠