اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

حصل الظنّ منه ـ فلا قيمة له عندنا ، ولا دليل على حجّيّة مثله.

أمّا : كيف يستكشف من الإجماع على سبيل القطع قول المعصوم؟ فهذا ما ينبغي البحث عنه. وقد ذكروا لذلك طرائق ، أنهاها المحقّق الشيخ أسد الله التستريّ في رسالته في المواسعة والمضايقة ـ على ما نقل عنه (١) ـ إلى اثنتي عشرة طريقة. ونحن نكتفي بذكر الطرائق المعروفة ، وهي ثلاث ، بل أربع :

١. طريقة الحسّ : وبها يسمّى الإجماع «الإجماع الدخوليّ» ، وتسمّى «الطريقة التضمّنيّة». وهي الطريقة المعروفة عند قدماء الأصحاب التي اختارها السيّد المرتضى (٢) وجماعة سلكوا مسلكه (٣).

وحاصلها : أن يعلم بدخول الإمام في ضمن المجمعين على سبيل القطع ، من دون أن يعرف بشخصه من بينهم.

وهذه الطريقة إنّما تتصوّر إذا استقصى الشخص المحصّل للإجماع بنفسه وتتبّع أقوال العلماء فعرف اتّفاقهم ، ووجد من بينها أقوالا متميّزة معلومة لأشخاص مجهولين ، حتى حصل له العلم بأنّ الإمام من جملة أولئك المتّفقين ؛ أو يتواتر لديهم النقل عن أهل بلد أو عصر فعلم أنّ الإمام كان من جملتهم ، ولم يعلم قوله بعينه من بينهم ، فيكون من نوع الإجماع المنقول بالتواتر.

ومن الواضح أنّ هذه الطريقة لا تتحقّق غالبا إلاّ لمن كان موجودا في عصر الإمام. أمّا : بالنسبة إلى العصور المتأخّرة فبعيدة التحقّق ، لا سيّما في الصورة الأولى ، وهي السماع من نفس الإمام.

وقد ذكروا أنّه لا يضرّ في حجّيّة الإجماع ـ على هذه الطريقة ـ مخالفة معلوم النسب ، وإن كثروا ممّن يعلم أنّه غير الإمام ، بخلاف مجهول النسب ، على وجه يحتمل أنّه الإمام ؛ فإنّه في هذه الصورة لا يتحقّق العلم بدخول الإمام في المجمعين.

__________________

(١) والناقل هو العلاّمة الآشتياني في بحر الفوائد : ١٢٣.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ١ : ١٨ ؛ الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٢٦.

(٣) كالشيخ المفيد ، والشيخ الطوسيّ ، والسيد الرضيّ على ما في فرائد الأصول ١ : ٨٣.

٤٦١

٢. طريقة قاعدة اللطف : وهي أن يستكشف عقلا رأي المعصوم من اتّفاق من عداه (١) من العلماء الموجودين في عصره خاصّة ، أو في العصور المتأخّرة ، مع عدم ظهور ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممكنة ، خفيّة أو ظاهرة ، إمّا بظهوره نفسه ، أو بإظهار من يبيّن الحقّ في المسألة. فإنّ قاعدة اللطف ـ كما اقتضت نصب الإمام وعصمته ـ تقتضي أيضا أن يظهر الإمام الحقّ في المسألة التي يتّفق المفتون فيها على خلاف الحقّ ، وإلاّ للزم سقوط التكليف بذلك الحكم ، أو إخلال الإمام بأعظم ما وجب عليه ونصب لأجله ، وهو تبليغ الأحكام المنزّلة.

وهذه الطريقة هي التي اختارها الشيخ الطوسيّ ، ومن تبعه ، (٢) بل يرى انحصار استكشاف قول الإمام من الإجماع فيها. وربما يستظهر من كلام السيّد المرتضى ـ المنقول في «العدّة» (٣) عنه في ردّ هذه الطريقة ـ كونها معروفة قبل الشيخ أيضا.

ولازم هذه الطريقة عدم قدح المخالفة مطلقا ، سواء كانت من معلوم النسب ، أو مجهوله ، مع العلم بعدم كونه الإمام ، ولم يكن معه برهان يدلّ على صحّة فتواه.

ولازم هذه الطريقة أيضا عدم كشف الإجماع إذا كان هناك آية ، أو سنّة قطعيّة على خلاف المجمعين ، وإن لم يفهموا دلالتها على الخلاف ؛ إذ يجوز أن يكون الإمام قد اعتمد عليها في تبليغ الحقّ.

٣. طريقة الحدس : وهي أن يقطع بكون ما اتّفق عليه فقهاء الإماميّة وصل إليهم من رئيسهم وإمامهم يدا بيد ، فإنّ اتّفاقهم ـ مع كثرة اختلافهم في أكثر المسائل ـ يعلم منه أنّ الاتّفاق كان مستندا إلى رأي إمامهم ، لا عن اختراع للرأي من تلقاء أنفسهم اتّباعا للأهواء ؛ أو استقلالا بالفهم. كما يكون ذلك في اتّفاق أتباع سائر ذوي الآراء والمذاهب ، فإنّه لا نشكّ فيها أنّها مأخوذة من متبوعهم ورئيسهم الذي يرجعون إليه.

والذي يظهر ، أنّه قد ذهب إلى هذه الطريقة أكثر المتأخّرين. (٤) ولازمها أنّ الاتّفاق

__________________

(١) أي عدا المعصوم.

(٢) العدّة ٢ : ٦٢٩ ـ ٦٣١.

(٣) العدّة ٢ : ٦٣١.

(٤) منهم المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٣٣١ ، والمحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٣ : ٧٩.

٤٦٢

ينبغي أن يقع في جميع العصور من عصر الأئمّة إلى العصر الذي نحن فيه ؛ لأنّ اتّفاق أهل عصر واحد ـ مع مخالفة من تقدّم ـ يقدح في حصول القطع ، بل يقدح فيه مخالفة معلوم النسب ممّن يعتدّ بقوله ، فضلا عن مجهول النسب.

٤. طريقة التقرير : وهي أن يتحقّق الإجماع بمرأى ومسمع من المعصوم ، مع إمكان ردعهم ببيان الحقّ لهم ، ولو بإلقاء الخلاف بينهم ، فإنّ اتّفاق الفقهاء على حكم ـ والحال هذه ـ يكشف عن إقرار المعصوم لهم فيما رأوه ، وتقريرهم على ما ذهبوا إليه ؛ فيكون ذلك دليلا على أنّ ما اتّفقوا عليه هو حكم الله واقعا.

وهذه الطريقة لا تتمّ إلاّ مع إحراز جميع شروط التقرير التي قد تقدّم الكلام عليها في مبحث السنّة. (١) ومع إحراز جميع الشروط لا شكّ في استكشاف موافقة المعصوم ، بل بيان الحكم من شخص واحد بمرأى ومسمع من المعصوم ، مع إمكان ردعه وسكوته عنه يكون سكوته تقريرا كاشفا عن موافقته. ولكنّ المهمّ أن يثبت لنا أنّ الإجماع في عصر الغيبة هل يتحقّق فيه إمكان الردع من الإمام ، ولو بإلقاء الخلاف؟ أو هل يجب على الإمام بيان الحكم الواقعيّ والحال هذه؟ وسيأتي ما ينفع في المقام. (٢)

هذه خلاصة ما قيل من الوجوه المعروفة في استنتاج قول الإمام من الإجماع. (٣)

وقد يحصل للإنسان ـ المتتبّع لأقوال العلماء ، المحصّل لإجماعهم ـ بعض الوجوه دون البعض ـ أي لا يجب في كلّ إجماع أن يبتنى على وجه واحد من هذه الوجوه ـ ؛ وإن كان السيّد المرتضى يرى انحصاره في الطريقة الأولى (الطريقة التضمّنيّة) ـ أي الإجماع الدخوليّ ـ ، والشيخ الطوسيّ يرى انحصاره (٤) في الطريقة الثانية (طريقة قاعدة اللطف).

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإجماع إنّما يكون حجّة إذا كشف كشفا قطعيّا عن قول المعصوم من أيّ سبب كان ، وعلى أيّة طريقة حصل ، فليس من الضروريّ أن نفرض حصوله من

__________________

(١) راجع الصفحة : ٤٢٣.

(٢) يأتي في الصفحة : ٤٦٦.

(٣) ومنها أيضا التشرّف بخدمة الإمام عليه‌السلام ، ومعرفة رأيه ، فينقل الحكم معنونا بالإجماع لبعض الأغراض.

(٤) وفي «س» : وحصره الشيخ الطوسيّ.

٤٦٣

طريقة مخصوصة من هذه الطرائق ، أو نحوها ، بل المناط حصول القطع بقول المعصوم.

والتحقيق أنّه يندر حصول القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصّل ندرة لا تبقى معها قيمة لأكثر الإجماعات التي نحصّلها ، بل لجميعها بالنسبة إلى عصور الغيبة. وتفصيل ذلك أن نقول ببرهان السبر والتقسيم : إنّ المجمعين إمّا أن يكون رأيهم ـ الذي اتّفقوا عليه ـ بغير مستند ودليل ، أو عن مستند ودليل. لا يصحّ الفرض الأوّل ؛ لأنّ ذلك مستحيل عادة في حقّهم ، ولو جاز ذلك في حقّهم فلا تبقى قيمة لآرائهم حتى يستكشف منها الحقّ. فيتعيّن الفرض الثاني ، وهو أن يكون لهم مدرك خفي علينا وظهر لهم.

ومدارك الأحكام منحصرة عند الإماميّة في أربعة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والدليل العقليّ. ولا يصحّ أن يكون مدركهم ما عدا السنّة من هذه الأربعة.

أمّا الكتاب : فإنّما لا يصحّ أن يكون مدركهم ؛ فلأجل أنّ القرآن الكريم بين أيدينا مقروء ومفهوم ، فلا يمكن فرض آية منه خفيت علينا ، وظهرت لهم. ولو فرض أنّهم فهموا من آية شيئا خفي علينا وجهه فإنّ فهمهم ليس حجّة علينا ، فإجماعهم لو استند إلى ذلك لا يكون موجبا للقطع بالحكم الواقعيّ ، أو موجبا لقيام الحجّة علينا. فلا ينفع مثل هذا الإجماع.

وأمّا الإجماع : فواضح أنّه لا يصحّ أن يكون مدركا لهم ؛ لأنّ هذا الإجماع ـ الذي صار مدركا للإجماع ـ ننقل الكلام إليه أيضا ، فنسأل عن مدركه ، فلا بدّ أن ينتهي إلى غيره من المدارك الأخرى.

وأمّا الدليل العقليّ : فأوضح ؛ لأنّه لا تتصوّر هناك قضيّة عقليّة يتوصّل بها إلى حكم شرعيّ كانت مستورة علينا ، وظهرت لهم ؛ ضرورة أنّه لا بدّ في القضيّة العقليّة ـ التي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ ـ أن تتطابق عليها آراء جميع العقلاء ، وإلاّ فلا يصحّ التوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ. فلو أنّ المجمعين كانوا قد تمسّكوا بقضيّة عقليّة ليست بهذه المثابة فلا تبقى قيمة لآرائهم حتى يستكشف منها الحقّ وموافقة الإمام ؛ لأنّهم يكونون كمن لا مدرك لهم.

فانحصر مدركهم في جميع الأحوال في «السنّة».

٤٦٤

والاستناد إلى السنّة يتصوّر على وجهين :

١. أن يسمع المجمعون أو بعضهم الحكم من المعصوم مشافهة ، أو يرون فعله ، أو تقريره. وهذا بالنسبة إلى عصرنا لا سبيل فيه حتى إلى الظنّ به ، فضلا عن القطع ، وإن احتمل إمكان مشافهة بعض الأبدال من العلماء للإمام. بل الحال كذلك ، حتى بالنسبة إلى من هم في عصر المعصومين ، أي إنّه لا يحصل القطع فيه لنا بمشافهتهم للمعصوم ؛ لاحتمال أنّهم استندوا إلى رواية وثقوا بها ، وإن كان احتمال المشافهة قريبا جدّا ، بل هي مظنونة.

على أنّه لا مجال ـ بالنسبة إلينا ـ لتحصيل إجماع الفقهاء الموجودين في تلك العصور ؛ إذ ليست آراؤهم مدوّنة ، وكلّ ما دوّنوه هي الأحاديث التي ذكروها في أصولهم المعروفة بالأصول الأربعمائة.

٢. أن يستند المجمعون إلى رواية عن المعصوم. ولا مجال في هذا الإجماع لإفادته القطع بالحكم ، أو كشفه عن الحجّة الشرعيّة من جهة السند ، والدلالة معا.

أمّا : من جهة السند فلاحتمال أنّ المجمعين كانوا متّفقين على اعتبار الخبر الموثّق ، أو الحسن ، فمن لا يرى حجّيّتهما لا مجال له في الاستناد إلى مثله. فمن أين يحصل لنا العلم بأنّهم استندوا إلى ما هو حجّة باتّفاق الجميع؟

وأمّا : من جهة الدلالة فلاحتمال أن يكون ذلك الخبر المفروض ـ لو فرض أنّه حجّة من جهة السند ـ ليس نصّا في الحكم ، ولا ينفع أن يكون ظاهرا عندهم في الحكم ، فإنّ ظهور دليل عند قوم لا يستلزم أن يكون ظاهرا لدى كلّ أحد ، وفهم قوم ليس حجّة على غيرهم. ألا ترى أنّ المتقدّمين اشتهر عندهم استفادة النجاسة من أخبار البئر ، واشتهر عند المتأخّرين عكس ذلك ، ابتداء من العلاّمة الحلّي؟ فلعلّ الخبر الذي كان مدركا لهم ليس ظاهرا عندنا لو اطّلعنا عليه.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ الإجماع لا يستلزم القطع بقول المعصوم عدا الإجماع الدخوليّ وهو بالنسبة إلينا غير عمليّ.

وأمّا : القول بأنّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون الإمام موافقا لرأي المجمعين وإن استند المجمعون إلى خبر الواحد الذي ربما لا تثبت لنا حجّيّته من جهة السند أو الدلالة

٤٦٥

لو اطّلعنا عليه ؛ فإنّنا لم نتحقّق جريان هذه القاعدة في المقام ؛ وفاقا لما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاريّ (١) وغيره ، (٢) بالرغم من تعويل الشيخ الطوسيّ وأتباعه عليها ؛ (٣) لأنّ السبب الذي يدعو إلى اختفاء الإمام ، واحتجاب نفعه ـ مع ما فيه (٤) من تفويت لأعظم المصالح النوعيّة للبشر ـ هو نفسه قد يدعو إلى احتجاب حكم الله عند إجماع العلماء على حكم مخالف للواقع ، لا سيّما إذا كان الإجماع من أهل عصر واحد. ولا يلزم من ذلك إخلال الإمام بالواجب عليه ، وهو تبليغ الأحكام ؛ لأنّ الاحتجاب ليس من سببه.

وعلى هذا ، فمن أين يحصل لنا القطع بأنّه لا بدّ للإمام من إظهار الحقّ في حال غيبته عند حصول إجماع مخالف للواقع؟

وللمشكّك أن يزيد على ذلك ، فيقول : لما ذا لا تقتضي هذه القاعدة أن يظهر الإمام الحقّ ، حتى في صورة الخلاف ، لا سيّما أنّ بعض المسائل الخلافيّة قد يقع فيها أكثر الناس في مخالفة الواقع؟ بل لو أحصينا المسائل الخلافيّة في الفقه ـ التي هي الأكثر من مسائله ـ لوجدنا أنّ كثيرا من الناس لا محالة واقعون في مخالفة الواقع ، فلما ذا لا يجب على الإمام هنا تبليغ الأحكام ، ليقلّ الخلاف ، أو ينعدم ، وبه نجاة المؤمنين من الوقوع في مخالفة الواقع؟

وإذا جاء الاحتمال لا يبقى مجال لاستلزام الإجماع القطع بقول المعصوم من جهة قاعدة اللطف.

وأمّا : مسلك الحدس ، فإنّ عهدة دعواه على مدّعيها ، وليس من السهل حصول القطع للإنسان في ذلك ، إلاّ أن يبلغ الاتّفاق درجة يكون الحكم فيه من ضروريّات الدين ، أو المذهب ، أو قريبا من ذلك عند ما يحرز اتّفاق جميع العلماء في جميع العصور بغير استثناء ، فإنّ مثل هذا الاتّفاق يستلزم عادة موافقته لقول الإمام ، وإن كان مستند المجمعين خبر الواحد ، أو الأصل.

وكذلك يلحق بالحدس مسلك التقرير ونحوه ممّا هو من هذا القبيل.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٨٤.

(٢) كالمحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٣٣٤.

(٣) العدّة ٢ : ٦٢٩ ـ ٦٣١.

(٤) أي في اختفاء الإمام واحتجابه.

٤٦٦

وعلى كلّ حال ، لم تبق لنا ثقة بالإجماع فيما بعد عصر الإمام في استفادة قول الإمام على سبيل القطع واليقين.

الإجماع المنقول

إنّ الإجماع ـ في الاصطلاح ـ ينقسم إلى قسمين :

١. الإجماع المحصّل : والمقصود به الإجماع الذي يحصّله الفقيه بنفسه بتتبّع أقوال أهل الفتوى. وهو الذي تقدّم البحث عنه.

٢. الإجماع المنقول : والمقصود به الإجماع الذي لم يحصّله الفقيه بنفسه ، وإنّما ينقله له من حصّله من الفقهاء ، سواء كان النقل له بواسطة ، أم بوسائط.

ثمّ النقل تارة يقع على نحو التواتر ؛ وهذا حكمه حكم المحصّل من جهة الحجّيّة.

وأخرى يقع على نحو خبر الواحد. وإذا أطلق قول «الإجماع المنقول» في لسان الأصوليين فالمراد منه هذا الأخير.

وقد وقع الخلاف بينهم في حجّيّته على أقوال.

ولكنّ الذي يظهر أنّهم متّفقون على حجّيّة نقل الإجماع الدخوليّ ، وهو الإجماع الذي يعلم فيه من حال الناقل أنّه تتّبع فتاوى من نقل اتّفاقهم حتى المعصوم ، فيدخل المعصوم في جملة المجمعين. وينبغي أن يتّفقوا على ذلك ؛ لأنّه لا يشترط في حجّيّة خبر الواحد معرفة المعصوم تفصيلا حين سماع الناقل منه ، وهذا الناقل ـ حسب الفرض ـ قد نقل عن المعصوم بلا واسطة وإن لم يعرفه بالتفصيل. غير أنّ الإجماع الدخوليّ ممّا يعلم عدم وقوع نقله ، لا سيّما في العصور المتأخّرة عن عصر الأئمّة ، بل لم يعهد من الناقلين للإجماع من ينقله على هذا الوجه ويدّعي ذلك.

وعليه ، فموضع الخلاف منحصر في حجّيّة الإجماع المنقول ، غير الإجماع الدخوليّ ، وهو ـ كما قلنا ـ على أقوال :

١. إنّه حجّة مطلقا ؛ لأنّه خبر واحد. (١)

__________________

(١) هذا يظهر من الفصول الغرويّة : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، ومعالم الدين : ١٩٩.

٤٦٧

٢. إنّه ليس بحجّة مطلقا ؛ لأنّه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كونه حجّة. (١)

٣. التفصيل بين نقل إجماع جميع الفقهاء في جميع العصور الذي يعلم فيه من طريق الحدس قول المعصوم ، فيكون حجّة ، وبين غيره من الإجماعات المنقولة التي يستكشف منها بقاعدة اللطف أو نحوها قول المعصوم ، فلا يكون حجّة. وإلى هذا التفصيل مال الشيخ الأعظم الأنصاريّ. (٢)

وسرّ الخلاف في المسألة يكمن في أنّ أدلّة خبر الواحد ـ من جهة أنّها تدلّ على وجوب التعبّد بالخبر ـ لا تشمل كلّ خبر عن أيّ شيء كان ، بل مختصّة بالخبر الحاكي عن حكم شرعيّ ، أو عن ذي أثر شرعيّ ، ليصحّ أن يتعبّدنا الشارع به ، وإلاّ فالمحكيّ بالخبر إذا لم يكن حكما شرعيّا ، أو ذا أثر شرعيّ لا معنى للتعبّد به ، فلا يكون مشمولا لأدلّة حجّيّة خبر الواحد.

ومن المعلوم أنّ الإجماع المنقول ـ غير الإجماع الدخوليّ ـ إنّما المحكيّ به بالمطابقة نفس أقوال العلماء ، وأقوال العلماء في أنفسها ـ بما هي أقوال علماء ـ ليست حكما شرعيّا ، ولا ذات أثر شرعيّ.

وعليه ، فنقل أقوال العلماء من جهة كونها أقوال علماء لا يصحّ أن يكون مشمولا لأدلّة خبر الواحد. وإنّما يصحّ أن يكون مشمولا لها إذا كشف هذا النقل عن الحكم الصادر عن المعصوم ، ليصحّ التعبّد به.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن ثبت لدينا أنّه يكفي في صحّة التعبّد بالخبر كشفه ـ على أيّ نحو كان من الكشف ـ عن الحكم الصادر من المعصوم ، ولو باعتبار الناقل ، نظرا إلى أنّه لا يعتبر في حجّيّة الخبر حكاية نصّ ألفاظ المعصوم ؛ لأنّ المناط معرفة حكمه ، ولذا يجوز النقل بالمعنى ، فالإجماع (٣) المنقول ـ الذي هو موضع البحث ـ يكون حجّة مطلقا ؛ لأنّه

__________________

(١) قال في العدّة : «وحكي عن النظّام ، وجعفر بن حرب ، وجعفر بن مبشر ، أنّهم قالوا : الإجماع ليس بحجّة». العدّة ٢ : ٦٠١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٨٧ و ٩٥.

(٣) جواب «إن ثبت».

٤٦٨

كاشف وحاك عن الحكم باعتقاد الناقل ، فيكون مشمولا لأدلّة حجّيّة الخبر.

وأمّا : إن ثبت لدينا أنّ المناط في صحّة التعبّد بالخبر أن يكون حاكيا عن الحكم من طريق الحسّ ـ أي يجب أن يكون الناقل قد سمع بنفسه الحكم من المعصوم ـ ولذا لا تشمل أدلّة حجّيّة الخبر فتوى المجتهد ، وإن كان قاطعا بالحكم ، مع أنّ فتواه في الحقيقة حكاية عن الحكم بحسب اجتهاده ، فالإجماع (١) المنقول ـ الذي هو موضع البحث ـ ليس بحجّة مطلقا.

وأمّا : لو ثبت أنّ الإخبار عن حدس اللازم للإخبار عن حسّ يصحّ التعبّد به ؛ لأنّ حكمه حكم الإخبار عن حسّ بلا فرق ، فإنّ التفصيل المتقدّم في القول الثالث (٢) يكون هو الأحقّ.

وإذا اتّضح لدينا سرّ الخلاف في المسألة بقي علينا أن نفهم أيّ وجه من الوجوه المتقدّمة هو الأولى بالتصديق ، والأحقّ بالاعتماد؟ فنقول :

أوّلا : إنّ أدلّة خبر الواحد جميعها ـ من آيات ، وروايات ، وبناء عقلاء ـ أقصى دلالتها أنّها تدلّ على وجوب تصديق الثقة ، وتصويبه في نقله لغرض التعبّد بما ينقل. ولكنّها لا تدلّ على تصويبه في اعتقاده.

بيان ذلك أنّ معنى تصديق الثقة هو البناء على واقعيّة نقله ، وواقعيّة النقل تستلزم واقعيّة المنقول ، بل واقعية النقل عين واقعية المنقول ، فالقطع بواقعيّة النقل لا محالة يستلزم القطع بواقعيّة المنقول ، وكذلك البناء على واقعيّة النقل يستلزم البناء على واقعيّة المنقول.

وعليه ، فإذا كان المنقول حكما [شرعيّا] أو ذا أثر شرعيّ صحّ البناء على الخبر والتعبّد به ، بالنظر إلى هذا المنقول.

أمّا : إذا كان المنقول اعتقاد الناقل ـ كما لو أخبر شخص عن اعتقاده بحكم ـ فغاية ما يقتضي البناء على تصديق نقله هو البناء على واقعيّة اعتقاده الذي هو المنقول ، والاعتقاد في نفسه ليس حكما [شرعيّا] ، ولا ذا أثر شرعيّ.

__________________

(١) جواب «إن ثبت».

(٢) وهو قول الشيخ الأنصاريّ.

٤٦٩

أمّا : صحّة اعتقاده ومطابقته للواقع فذلك شيء آخر ، أجنبيّ عنه ؛ لأنّ واقعيّة الاعتقاد لا تستلزم واقعيّة المعتقد به ، يعني أنّنا قد نصدّق المخبر عن اعتقاده في أنّ هذا هو اعتقاده واقعا ، لكن لا يلزمنا أن نصدّق بأنّ ما اعتقده صحيح وله واقعيّة.

ومن هنا نقول : إنّه إذا أخبر شخص بأنه سمع الحكم من المعصوم صحّ أن نبني على واقعيّة نقله ؛ تصديقا له بمقتضى أدلّة حجّيّة الخبر ؛ لأنّ ذلك يستلزم واقعيّة المنقول ، وهو الحكم ؛ إذ لم يمكن التفكيك بين واقعيّة النقل وواقعيّة المنقول. أمّا إذا أخبر عن اعتقاده بأنّ المعصوم حكم بكذا فلا يصحّ البناء على واقعيّة اعتقاده تصديقا له بمقتضى أدلّة حجّية الخبر ؛ لأنّ البناء على واقعيّة اعتقاده تصديقا له لا يستلزم البناء على واقعيّة معتقده ، فيجوز التفكيك بينهما.

فتحصّل أنّ أدلّة [حجّيّة] خبر الواحد إنّما تدلّ على أنّ الثقة مصدّق ويجب تصويبه في نقله ، ولا تدلّ على تصويبه في رأيه ، واعتقاده ، وحدسه. وليس هناك أصل عقلائيّ يقول : إنّ الأصل في الإنسان ، أو الثقة خاصّة أن يكون مصيبا في رأيه ، وحدسه ، واعتقاده.

ثانيا : بعد أن ثبت أنّ أدلّة حجّيّة الخبر لا تدلّ على تصويب الناقل في رأيه وحدسه ، فنقول : لو أنّ ما أخبر به الناقل للإجماع يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم ، وإن لم يكن في نظر الناقل مستلزما لذلك ، فهل هذا أيضا غير مشمول لأدلّة حجّيّة الخبر؟

الحقّ أنّه ينبغي أن يكون مشمولا لها ؛ لأنّ الأخذ به حينئذ لا يكون من جهة تصديق الناقل في رأيه ، وربّما كان الناقل لا يرى الاستلزام ، بل لا يكون الأخذ به إلاّ من جهة تصديقه في نقله ؛ لأنّه لمّا كان المنقول ـ وهو الإجماع ـ يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم ، فالأخذ به والبناء على صحّة نقله يستلزم البناء على صدور الحكم ، فيصحّ التعبّد به بلحاظ هذه الجهة ، بل إنّ الخبر عن فتاوى الفقهاء يكون في نظر المنقول إليه ملزوما للخبر عن رأي المعصوم. وحينئذ يكون هذا الخبر الثاني اللازم للخبر الأوّل هو المشمول لأدلّة حجّيّة الخبر ، لا سيّما إذا كان في نظر الناقل أيضا مستلزما. ولا نحتاج بعدئذ إلى تصحيح شمولها للخبر الأوّل الملزوم بلحاظ استلزامه للحكم ـ يعني

٤٧٠

أنّ الخبر عن الإجماع يكون دالاّ بالدلالة الالتزاميّة على صدور الحكم من المعصوم ، فيكون من ناحية المدلول الالتزاميّ ـ وهو الإخبار عن صدور الحكم ـ حجّة مشمولا لها ؛ لأنّ الدلالة الالتزاميّة غير تابعة للدلالة المطابقيّة من ناحية الحجّيّة ، وإن كانت تابعة لأدلّة حجيّة الخبر ، وإن لم يكن من جهة المدلول المطابقي مشمولا لها ثبوتا ؛ إذ لا دلالة التزامية إلاّ مع فرض الدلالة المطابقيّة ، ولكن لا تلازم بينهما في الحجّيّة.

وإذا اتّضح لك ما شرحناه يتّضح لك أنّ الأولى التفصيل في الإجماع المنقول بين ما إذا كان كاشفا عن الحكم في نظر المنقول إليه ، لو كان هو المحصّل له ، فيكون حجّة ، وبين ما إذا كان كاشفا عن الحكم في نظر الناقل فقط دون المنقول إليه ، فلا يكون حجّة ؛ لما تقدّم أنّ أدلّة [حجّيّة] خبر الواحد لا تدلّ على تصديق الناقل في نظره ورأيه.

ولعلّه إلى هذا التفصيل يرمي الشيخ الأعظم قدس‌سره في تفصيله الذي أشرنا إليه سابقا.

تمرينات (٥٦)

١. اذكر أقوال العامّة في معنى الإجماع.

٢. ما معنى الإجماع عند الإماميّة؟

٣. ما الفرق بين الإجماع ، وتطابق آراء العقلاء؟

٤. من أين انبثق للأصوليين القول بالإجماع؟

٥. اذكر أقوال العامّة في الإجماع المعتبر.

٦. ما هو الإجماع المعتبر عند الإماميّة؟

٧. ما هي «طريقة الحسّ» في استكشاف قول المعصوم من الإجماع؟

٨. ما هي «طريقة قاعدة اللطف»؟ ومن اختارها؟

٩. ما هي «طريقة الحدس»؟ ومن ذهب إليه؟

١٠. ما هي «طريقة التقرير»؟

١١. هل يحصل القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصّل بإحدى الطرائق المذكورة أم لا؟ اذكر تحقيق المطلب تفصيلا.

١٢. ما هو الإجماع المحصّل؟

١٣. ما هو الإجماع المنقول؟

١٤. اذكر الأقوال في حجّيّة الإجماع المنقول. واذكر الراجح منها مستدلاّ.

٤٧١
٤٧٢

الباب الرابع

الدليل العقليّ

قد مضى في الجزء الثاني البحث مستوفى عن الملازمات العقليّة ، لتشخيص صغريات حجيّة [حكم] العقل (١) ـ أي لتعيين القضايا العقليّة التي يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ ـ وبيان ما هو الدليل العقليّ الذي يكون حجّة.

وقد حصرناها هناك في قسمين رئيسين :

الأوّل : حكم العقل بالحسن والقبح ، وهو قسم المستقلاّت العقليّة.

والثاني : حكمه بالملازمة بين حكم الشرع وحكم آخر ، وهو قسم غير المستقلاّت العقليّة.

ووعدنا هناك ببيان وجه حجّيّة الدليل العقليّ ، والآن قد حلّ الوفاء بالوعد ، ولكن قبل بيان وجه الحجّيّة لا بدّ من الكرّة (٢) بأسلوب جديد إلى البحث عن تلك القضايا العقليّة ؛ لغرض بيان الآراء فيها ، وبيان وجه حصرها ، وتعيينها فيما ذكرناه ، فنقول :

إنّ علماءنا الأصوليّين من المتقدّمين حصروا الأدلّة على الأحكام الشرعيّة في الأربعة المعروفة التي رابعها «الدليل العقلي» ، (٣) بينما أنّ بعض علماء أهل السنّة أضافوا إلى الأربعة المذكورة ؛ القياس ، ونحوه على اختلاف آرائهم (٤). ومن هنا نعرف أنّ المراد من الدليل

__________________

(١) كحكم العقل بالإجزاء ، وحكمه بتقديم الأهم ، وغيرهما.

(٢) الكرّة أي : الحملة. والمقصود هنا الرجوع إلى البحث.

(٣) فالأدلّة عندهم هي : ١ ـ الكتاب. ٢ ـ السنّة. ٣ ـ الاجماع. ٤ ـ دليل العقل. راجع مناهج الأحكام (للنراقيّ) : ٣ ؛ ضوابط الأصول : ٨ ؛ قوانين الأصول ١ : ٩.

(٤) راجع شرح العضديّ ٢ : ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ؛ الإحكام (للآمديّ) ١ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ؛ منتهى الوصول والأمل : ٤٥ ، اللمع في أصول الفقه : ٦ ـ ٧.

٤٧٣

العقليّ ما لا يشمل مثل القياس ، فمن ظنّ من الأخباريّين في الأصوليّين أنّهم (١) يريدون منه ما يشمل القياس [تشنيعا عليهم] ، (٢) ليس [ظنّه] في موضعه ، وهو ظنّ تأباه تصريحاتهم بعدم الاعتبار بالقياس ، ونحوه.

ومع ذلك ، فإنّه لم يظهر لي بالضبط ما كان يقصد المتقدّمون من علمائنا بالدليل العقليّ ، حتى أنّ الكثير منهم لم يذكره من الأدلّة ، أو لم يفسّره ، أو فسّره بما لا يصلح أن يكون دليلا في قبال الكتاب والسنّة.

وأقدم نصّ وجدته ما ذكره الشيخ المفيد (المتوفّى سنة ٤١٣ ه‍. ق) في رسالته الأصوليّة التي لخّصها الشيخ الكراجكيّ (٣) ؛ فإنّه لم يذكر الدليل العقليّ من جملة أدلّة الأحكام ، وإنّما ذكر أنّ أصول الأحكام ثلاثة : الكتاب ، والسنّة النبويّة ، وأقوال الأئمّة عليهم‌السلام ، ثمّ ذكر أنّ الطرق الموصلة إلى ما في هذه الأصول ثلاثة : اللسان ، والأخبار ، وأوّلها العقل ، (٤) وقال عنه : «وهو سبيل إلى معرفة حجّيّة القرآن ، ودلائل الأخبار». وهذا التصريح ـ كما ترى ـ أجنبيّ عمّا نحن في صدده.

ثمّ يأتي بعده تلميذه الشيخ الطوسيّ (المتوفّى سنة ٤٦٠ ه‍. ق) في كتابه «العدّة» الذي هو أوّل كتاب مبسّط في الأصول ، فلم يصرّح بالدليل العقليّ ، فضلا عن أن يشرحه ، أو يفرد له بحثا. وكلّ ما جاء فيه في آخر فصل منه (٥) أنّه ـ بعد أن قسّم المعلومات إلى ضروريّة ومكتسبة ، والمكتسبة إلى عقليّ وسمعيّ ـ ذكر من جملة أمثلة الضروريّ العلم بوجوب ردّ الوديعة ، وشكر المنعم ، وقبح الظلم والكذب ؛ ثمّ ذكر في معرض (٦) كلامه أنّ القتل والظلم معلوم بالعقل قبحهما ، ويريد من قبحهما تحريمهما. وذكر أيضا : فأمّا الأدلّة الموجبة للعلم ، فبالعقل يعلم كونها أدلّة ، ولا مدخل للشرع في ذلك.

__________________

(١) أي : المتقدّمين.

(٢) ما بين المعقوفين موجود في «س».

(٣) راجع كنز الفوائد : ١٨٦.

(٤) أي قال : «وأحدها : العقل».

(٥) وهو فصل في ذكر ما يعلم بالعقل والسمع. راجع العدّة ٢ : ٧٥٩ ـ ٧٦٢.

(٦) المعرض : موضع عرض الشيء وإظهاره.

٤٧٤

وأوّل من وجدته من الأصوليّين يصرّح بالدليل العقليّ ، الشيخ ابن إدريس (المتوفّى ٥٩٨ ه‍. ق) ، فقال في السرائر : «فإذا فقدت الثلاثة ـ يعني الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ـ فالمعتمد عند المحقّقين التمسّك بدليل العقل فيها» (١). ولكنّه لم يذكر المراد منه.

ثمّ يأتي المحقّق الحليّ (المتوفّى ٦٧٦ ه‍. ق) ، فيشرح المراد منه ، فيقول في كتابه «المعتبر» (٢) ما ملخّصه :

وأمّا الدليل العقليّ فقسمان :

(أحدهما) : ما يتوقّف فيه على الخطاب ، وهو ثلاثة : لحن الخطاب ، وفحوى الخطاب ، ودليل الخطاب.

وثانيهما : ما ينفرد العقل بالدلالة عليه.

ويحصره في وجوه الحسن والقبح ، بما لا يخلو من المناقشة في أمثلته.

ويزيد عليه الشهيد الأوّل (المتوفّى سنة ٧٨٦ ه‍. ق) في مقدّمة كتابه «الذكرى» ، (٣) فيجعل القسم الأوّل ما يشمل الأنواع الثلاثة التي ذكرها المحقّق ، وثلاثة أخرى ، وهي مقدّمة الواجب ، ومسألة الضدّ ، وأصل الإباحة في المنافع والحرمة في المضارّ. ويجعل القسم الثاني ما يشمل ما ذكره المحقّق ، وأربعة أخرى ، وهي : البراءة الأصليّة ، وما لا دليل عليه ، والأخذ بالأقلّ عند الترديد بينه وبين الأكثر ، والاستصحاب.

وهكذا ينهج هذا النهج جماعة آخرون من المؤلّفين ، (٤) في حين أنّ الكتب الدراسيّة المتداولة ، مثل المعالم ، والرسائل ، والكفاية لم تبحث هذا الموضوع ، ولم تعرّف الدليل العقليّ ، ولم تذكر مصاديقه ، إلاّ إشارة عابرة في ثنايا الكلام.

ومن تصريحات المحقّق والشهيد الأوّل يظهر أنّه لم تتجلّ فكرة الدليل العقليّ في تلك العصور ، فوسّعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر اللفظيّة ، مثل لحن الخطاب ـ وهو

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٦.

(٢) المعتبر في شرح المختصر ١ : ٣١.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٥٢ ـ ٥٣.

(٤) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع ١ : ٧.

٤٧٥

أن تدلّ قرينة عقليّة على حذف لفظ ـ ، وفحوى الخطاب ـ ويعنون به مفهوم الموافقة ـ ، ودليل الخطاب ، ويعنون به مفهوم المخالفة. وهذه كلّها تدخل في حجّيّة الظهور ، ولا علاقة لها بدليل العقل المقابل للكتاب والسنّة. وكذلك الاستصحاب ، فإنّه أصل عمليّ قائم برأسه ، كما بحثه (١) المتقدّمون (٢) في مقابل دليل العقل.

والغريب في الأمر أنّه حتى مثل المحقّق القمّيّ (المتوفّى سنة ١٢٣١ ه‍. ق) نسق على مثل هذا التفسير لدليل العقل ، فأدخل فيه الظواهر ، مثل المفاهيم ، بينما هو نفسه عرّفه بأنّه «حكم عقليّ يوصل به إلى الحكم الشرعيّ وينتقل من العلم بالحكم العقليّ إلى العلم بالحكم الشرعيّ». (٣)

وأحسن من رأيته قد بحث الموضوع بحثا مفيدا معاصره العلاّمة السيّد محسن الكاظميّ في كتابه «المحصول» ، وكذلك تلميذه المحقّق صاحب الحاشية على «المعالم» الشيخ محمّد تقي الأصفهانيّ الذي نسج على منواله (٤) ، وإن كان فيما ذكره بعض الملاحظات ، لا مجال لذكرها ومناقشتها هنا.

وعلى كلّ حال ، فإنّ إدخال المفاهيم ، والاستصحاب ، ونحوهما (٥) في مصاديق الدليل العقليّ (٦) لا يناسب جعله دليلا في مقابل الكتاب ، والسنّة ، ولا يناسب تعريفه بـ «أنّه ما ينتقل من العلم بالحكم العقليّ إلى العلم بالحكم الشرعيّ».

وبسبب عدم وضوح المقصود من الدليل العقليّ أنحى (٧) الأخباريّون باللائمة على الأصوليّين ؛ إذ يأخذون بالعقل حجّة على الحكم الشرعيّ. ولكنّهم أنفسهم (٨) أيضا لم يتّضح

__________________

(١) أي طلبه. والأولى : بحث عنه.

(٢) كالمحقّق الحلّي في معارج الأصول : ٢٠٦ ، والعلاّمة الحلّي في مبادئ الوصول : ٢٥٠.

(٣) راجع أوّل الجزء الثاني من قوانين الأصول.

(٤) هداية المسترشدين : ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

(٥) كالتفريع ـ وهو المنصوص على علّته ـ ، ومفهوم الموافقة ، واتّحاد طريق المسألتين.

(٦) تعريض لمن أدخلها في مصاديق الدليل العقلي ، كالفاضل المقداد ، والشهيد ، والمحقّق القمّي.

(٧) أي أقبل الأخباريون باللائمة عليهم. وبالفارسيّة : «اخباريون از راه سرزنش به اصوليين حمله كرده اند».

(٨) وفي «س» : ومع الأسف أنّهم.

٤٧٦

مقصودهم في التزهيد (١) بالعقل ، وهل تراهم يحكّمون غير عقولهم في التزهيد بالعقول؟

ويجلّي لنا عدم وضوح المقصود من الدليل العقليّ ما ذكره الشيخ المحدّث البحرانيّ في حدائقه ، وهذا نصّ عبارته :

«المقام الثالث : في دليل العقل. وفسّره بعض بالبراءة الأصليّة ، والاستصحاب.

وآخرون قصروه على الثاني. وثالث فسّره بلحن الخطاب ، وفحوى الخطاب ، ودليل الخطاب. ورابع بعد البراءة الأصليّة والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين ، المندرج فيه مقدّمة الواجب ، واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ ، والدلالة الالتزاميّة» (٢).

ثمّ تكلّم عن كلّ منها في مطالب عدا التلازم بين الحكمين لم يتحدّث عنه. ولم يذكر من الأقوال حكم العقل في مسألة الحسن والقبح ، بينما أنّ حكم العقل المقصود ـ الذي ينبغي أن يجعل دليلا ـ هو خصوص التلازم بين الحكمين ، وحكم العقل في الحسن والقبح. وما نقله من الأقوال لم يكن دقيقا ، كما سبق بيان بعضها.

وكيفما كان ، فالذي يصلح أن يكون مرادا من الدليل العقليّ المقابل للكتاب والسنّة هو «كلّ حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعيّ». وبعبارة ثانية هو «كلّ قضيّة عقليّة يتوصّل بها إلى العلم القطعيّ بالحكم الشرعيّ». وقد صرّح بهذا المعنى جماعة من المحقّقين المتأخّرين. (٣)

وهذا أمر طبيعيّ ؛ لأنّه إذا كان الدليل العقليّ مقابلا للكتاب والسنّة فلا بدّ ألاّ يعتبر حجّة إلاّ إذا كان موجبا للقطع الذي هو حجّة بذاته ؛ فلذلك لا يصحّ أن يكون شاملا للظنون وما لا يصلح للقطع بالحكم من المقدّمات العقليّة.

ولكن هذا التحديد بهذا المقدار لا يزال مجملا ، وقد وقع خلط وخبط عظيمان في فهم هذا الأمر ؛ ولأجل أن ترفع جميع الشكوك ، والمغالطات ، والأوهام لا بدّ لنا من توضيح

__________________

(١) التزهيد : ضدّ الترغيب.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٠ ـ ٤١.

(٣) منهم : صاحب «دروس في علم الأصول» ٢ : ٢٠٢.

٤٧٧

الأمر بشيء من البسط ، كوضع النقاط على الحروف ، كما يقولون ، فنقول :

١. إنّه قد تقدّم (١) أنّ العقل ينقسم إلى عقل نظريّ ، وعقل عمليّ. وهذا التقسيم باعتبار ما يتعلّق به الإدراك.

فالمراد من «العقل النظريّ» إدراك ما ينبغي أن يعلم ، أي إدراك الأمور التي لها واقع.

والمراد من «العقل العمليّ» إدراك ما ينبغي أن يعمل ، أي حكمه بأنّ هذا الفعل ينبغي فعله ، أو لا ينبغي فعله.

٢. إنّه ما المراد من العقل ـ الذي نقول : إنّه حجّة ـ من هذين القسمين؟

إن كان المراد «العقل النظريّ» فلا يمكن أن يستقلّ بإدراك الأحكام الشرعيّة ابتداء ، أي لا طريق للعقل أن يعلم ـ من دون الاستعانة بالملازمة ـ أنّ هذا الفعل حكمه كذا عند الشارع. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ أحكام الله (تعالى) توقيفيّة ، فلا يمكن العلم بها إلاّ من طريق السماع من مبلّغ الأحكام ، المنصوب من قبله (تعالى) لتبليغها ؛ ضرورة أنّ أحكام الله (تعالى) ليست من القضايا الأوّليّة ، وليست ممّا تنالها المشاهدة بالبصر ونحوه من الحواسّ الظاهرة ، بل الباطنة ، وليست أيضا ممّا تنالها التجربة والحدس. وإذا كانت كذلك فكيف يمكن العلم بها من غير طريق السماع من مبلّغها؟! وشأنها في ذلك شأن سائر المجعولات التي يضعها البشر ، كاللغات ، والخطوط ، والرموز ، ونحوها.

وكذلك ملاكات الأحكام كنفس الأحكام ، لا يمكن العلم بها إلاّ من طريق السماع من مبلّغ الأحكام ؛ لأنّه ليس عندنا قاعدة مضبوطة نعرف بها أسرار أحكام الله (تعالى) وملاكاتها التي أنيطت بها الأحكام عنده (٢) ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

وعلى هذا ، فمن نفى حجّيّة العقل ، وقال : «إنّ الأحكام سمعيّة لا تدرك بالعقول» فهو على حقّ ؛ إذا أراد من ذلك ما أشرنا إليه ، وهو نفي استقلال العقل النظريّ في إدراك الأحكام وملاكاتها. ولعلّ بعض منكري الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

__________________

(١) تقدّم في المقصد الثاني : ٢٣١.

(٢) راجع ما تقدّم في المقصد الثاني : ٢٤٧.

٤٧٨

قصد هذا المعنى ، كصاحب الفصول (١) وجماعة من الأخباريّين ، ولكن خانه التعبير عن مقصوده. (٢) وإذا كان هذا مرادهم فهو أجنبيّ عمّا نحن بصدده من كون الدليل العقليّ حجة يتوصّل به إلى الحكم الشرعيّ.

إنّنا نقصد من الدليل العقليّ حكم العقل النظريّ بالملازمة بين الحكم الثابت شرعا أو عقلا وبين حكم شرعيّ آخر ، كحكمه بالملازمة في مسألة الإجزاء ، ومقدّمة الواجب ، ونحوهما ، وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان ، اللازم منه حكم الشارع بالبراءة ، وكحكمه بتقديم الأهمّ في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعليّة حكم الأهمّ عند الله (تعالى) ، وكحكمه بوجوب مطابقة حكم الله (تعالى) لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة ؛ فإنّ هذه الملازمات وأمثالها أمور حقيقيّة واقعيّة يدركها العقل النظريّ بالبداهة ، أو بالكسب ؛ لكونها من الأوّليّات والفطريّات التي قياساتها معها ؛ أو لكونها تنتهي إليها ، فيعلم بها العقل على سبيل الجزم.

وإذا قطع العقل بالملازمة ـ والمفروض أنّه قاطع بثبوت الملزوم ـ فإنّه لا بدّ أن يقطع بثبوت اللازم وهو ـ أي اللازم ـ حكم الشارع ، ومع حصول القطع ، فإنّ القطع حجّة يستحيل النهي عنه ، (٣) بل به حجّيّة كلّ حجّة كما سبق بيانه. (٤)

وعليه ، فهذه الملازمات العقليّة هي كبريات القضايا العقليّة التي بضمّها إلى صغرياتها يتوصّل بها إلى الحكم الشرعيّ. ولا أظنّ أحدا ـ بعد التوجّه إليها ، والالتفات إلى حقيقتها ـ يستطيع إنكارها إلاّ السوفسطائيّين الذين ينكرون الوثوق بكلّ معرفة ، حتى المحسوسات.

ولا أظنّ أنّ هذه القضايا العقليّة هي مقصودة من أنكر حجّيّتها من الأخباريّين و

__________________

(١) لا يخفى أنّ صاحب الفصول لم ينكر الملازمة مطلقا ، بل أنكر الملازمة الواقعيّة ، والتزم بالملازمة الظاهريّة. راجع الفصول : ٣٣٧.

(٢) أي : لم يف به التعبير عن مقصوده.

(٣) حقّ العبارة هكذا : «ومع حصول القطع يستحيل النهى عنه ؛ فإنّه حجّة ذاتا» ؛ فإنّ ذاتية الحجّيّة علّة لاستحالة النهي.

(٤) راجع الصفحة : ٣٧٦ ـ ٣٧٩.

٤٧٩

غيرهم ، وإن أوهم بعض عباراتهم ذلك ؛ لعدم التمييز بين نقاط البحث.

وإذا عرفت ذلك تعرف أنّ الخلط في المقصود من إدراك العقل النظريّ ، وعدم التمييز بين ما يدركه من الأحكام ابتداء وما يدركه منها بتوسّط الملازمة ، هو سبب المحنة في هذا الاختلاف ، وسبب المغالطة التي وقع فيها بعضهم ؛ إذ نفى مطلقا إدراك العقل لحكم الشارع ، وحجّيّته ، قائلا : «إنّ أحكام الله توقيفيّة لا مسرح للعقول فيها» ، وغفل عن أنّ هذا التعليل إنّما يصلح لنفي إدراكه للحكم ابتداء وبالاستقلال ، ولا يصلح لنفي إدراكه للملازمة المستتبع لعلمه بثبوت اللازم ، وهو الحكم.

٣. هذا كلّه إذا أريد من العقل «العقل النظريّ».

وأمّا : لو أريد به «العقل العمليّ» فكذلك لا يمكن أن يستقلّ في إدراك أنّ هذا ينبغي فعله عند الشارع أو لا ينبغي ، بل لا معنى لذلك ؛ لأنّ هذا الإدراك وظيفة العقل النظريّ ؛ باعتبار أنّ كون هذا الفعل ينبغي فعله عند الشارع بالخصوص أو لا ينبغي ، من الأمور الواقعيّة التي تدرك بالعقل النظريّ ، لا بالعقل العمليّ ، وإنّما كلّ ما للعقل العمليّ من وظيفة هو أن يستقلّ بإدراك أنّ هذا الفعل في نفسه ممّا ينبغي فعله أو لا ينبغي ، مع قطع النظر عن نسبته إلى الشارع المقدّس ، أو إلى أيّ حاكم آخر ، يعني أنّ العقل العمليّ يكون هو الحاكم في الفعل ، لا حاكيا عن حاكم آخر.

وإذا حصل للعقل العمليّ هذا الإدراك جاء العقل النظريّ عقيبه ، فقد يحكم بالملازمة بين حكم العقل العمليّ وحكم الشارع ، وقد لا يحكم. ولا يحكم بالملازمة إلاّ في خصوص مورد مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، أي خصوص القضايا المشهورات التي تسمّى «الآراء المحمودة» ، والتي تطابقت عليها آراء العقلاء كافّة بما هم عقلاء.

وحينئذ ـ بعد حكم العقل النظريّ بالملازمة ـ يستكشف حكم الشارع على سبيل القطع ؛ لأنّه بضمّ المقدمّة العقليّة المشهورة ـ التي هي من الآراء المحمودة التي يدركها العقل العمليّ ـ إلى المقدّمة التي تتضمّن الحكم بالملازمة التي يدركها العقل النظريّ ، يحصل للعقل النظريّ العلم بأنّ الشارع له هذا الحكم ؛ لأنّه حينئذ يقطع باللازم ـ وهو الحكم ـ بعد فرض قطعه بثبوت الملزوم والملازمة.

٤٨٠