اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

قال الشيخ الأعظم ـ بعد نقله لهذه الطوائف من الأخبار ، وهو على حقّ فيما قال ـ : «إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها رضى الأئمّة عليهم‌السلام بالعمل بالخبر وإن لم يفد القطع. وقد ادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة ، إلاّ أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء ، ويقبّحون التوقّف فيه ؛ لأجل ذلك الاحتمال ، كما دلّ عليه ألفاظ : «الثقة» و «المأمون» و «الصادق» وغيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة ، وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها».

وأضاف : «وأمّا : العدالة فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها ، بل وفي كثير منها التصريح بخلافه». (١)

ج. دليل حجّيّة خبر الواحد من الإجماع

حكى جماعة كبيرة ـ تصريحا وتلويحا ـ الإجماع من قبل علماء الإماميّة على حجّيّة خبر الواحد إذا كان ثقة مأمونا في نقله وإن لم يفد خبره العلم. وعلى رأس الحاكين للإجماع شيخ الطائفة الطوسيّ رحمه‌الله في كتابه «العدّة» ، (٢) لكنّه اشترط فيما اختاره من الرأي ، وحكى عليه الإجماع أن يكون خبر الواحد واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة ، وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عن الواحد من الأئمّة عليهم‌السلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله. وتبعه على ذلك في التصريح بالإجماع السيّد رضيّ الدين بن طاوس ، (٣) والعلاّمة الحلّي في «النهاية» ، (٤) ، والمحدّث المجلسيّ في بعض رسائله ، كما حكى ذلك عنهم الشيخ الأعظم في «الرسائل». (٥)

وفي مقابل ذلك حكى جماعة أخرى إجماع الإماميّة على عدم الحجّيّة. وعلى رأسهم

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ١٤٤.

(٢) العدّة ١ : ١٢٦.

(٣) كما في فرائد الأصول ١ : ١٥٦.

(٤) النهاية ، مخطوط.

(٥) فرائد الأصول ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

٤٤١

السيّد الشريف المرتضى رحمه‌الله ، وجعله بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة (١). وتبعه على ذلك الشيخ ابن إدريس في «السرائر» ، ونقل كلاما للسيّد المرتضى في المقدّمة ، وانتقد في أكثر من موضع في كتابه الشيخ الطوسيّ في عمله بخبر الواحد ، وكرّر تبعا للسيّد قوله : «إنّ خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا». (٢) وكذلك نقل عن الطبرسيّ صاحب «مجمع البيان» قدس‌سره تصريحه في نقل الإجماع على عدم العمل بخبر الواحد. (٣)

والغريب في الباب وقوع مثل هذا التدافع بين نقل الشيخ والسيّد عن إجماع الإماميّة ، مع أنّهما متعاصران ، بل الأوّل تلمذ على الثاني ، وهما الخبيران العالمان بمذهب الإماميّة ، وليس من شأنهما أن يحكيا مثل هذا الأمر بدون تثبّت وخبرة كاملة.

فلذلك وقع الباحثون في حيرة عظيمة من أجل التوفيق بين نقليهما. وقد حكى الشيخ الأعظم في «الرسائل» وجوها للجمع ، مثل أن يكون مراد السيّد المرتضى من خبر الواحد ـ الذي حكى الإجماع على عدم العمل به ـ هو خبر الواحد الذي يرويه مخالفونا ، والشيخ يتّفق معه على ذلك. (٤)

وقيل : «يجوز أن يكون مراده من خبر الواحد ما يقابل المأخوذ من الثقات المحفوظ في الأصول ، المعمول بها عند جميع خواصّ الطائفة ، وحينئذ يتقارب مع الشيخ في الحكاية عن الإجماع». (٥)

وقيل : «يجوز أن يكون مراد الشيخ من خبر الواحد خبر الواحد ، المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم بصدقه ، فيتّفق حينئذ نقله مع نقل السيّد». (٦)

وهذه الوجوه من التوجيهات قد استحسن الشيخ الأنصاريّ منها الأوّل ، ثمّ الثاني. ولكنّه

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ ـ ٢٥ ؛ الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥٢٨ ـ ٥٣١.

(٢) السرائر ١ : ٤٨.

(٣) مجمع البيان ٩ : ١٩٩.

(٤) وهذا ما يظهر من بعض كلمات السيّد المرتضى في رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٠ ـ ٣١١.

(٥) وهذا ما قال به الفاضل القزويني في «لسان الخواصّ» على ما في : فرائد الأصول ١ : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٦) وهذا ما يظهر من كلام السيّد أيضا في رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢ ، حيث قال ـ معترضا على نفسه ـ : «إذا سددتم ...».

٤٤٢

يرى أنّ الأرجح من الجميع ما ذكره هو من الوجه (١) وأكّد عليه أكثر من مرّة ، فقال : «ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر ، وهو أنّ مراد السيّد من العلم الذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان ، فإنّ المحكيّ عنه في تعريف العلم أنّه ما اقتضى سكون النفس ، وهو الذي ادّعى بعض الأخباريّين أنّ مرادنا من العلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا.

فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن تجرّدها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلا ، وهي موافقة الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والدليل العقليّ.

ومراد السيّد من القرائن ـ التي ادّعى في عبارته المتقدّمة (٢) احتفاف أكثر الأخبار بها ـ هي الأمور الموجبة للوثوق بالراوي أو بالرواية ، بمعنى سكون النفس بهما ، وركونها إليهما».

ثمّ قال : «ولعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي الشيخ والسيّد ، خصوصا مع ملاحظة تصريح السيّد في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة ، أو محفوفة ، وتصريح الشيخ في كلامه المتقدّم بإنكار ذلك». (٣)

هذا ما أفاده الشيخ الأنصاريّ في توجيه كلام هذين العلمين ، ولكنّي لا أحسب أنّ السيّد المرتضى يرتضي بهذا الجمع ؛ لأنّه صرّح في عبارته المنقولة في مقدّمة السرائر بأنّ مراده من العلم القطع الجازم ، قال :

«اعلم أنّه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم بها ؛ لأنّه متى لم نعلم الحكم ونقطع (٤) بالعلم على أنّه مصلحة ، جوّزنا كونه مفسدة» (٥).

__________________

(١) ذكر المحقّق الآشتيانيّ في حاشيته على الرسائل في هذا الموقع : أنّ هذا الوجه من التوجيه سبقه إليه بعض أفاضل المتأخّرين وهو المحقّق النراقيّ صاحب المناهج ، ونقل نصّ عبارته. * ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) غرضه من «عبارته المتقدّمة» عبارته التي نقلها في السرائر عن السيّد ، وقد نقلها الشيخ الأعظم في الرسائل ـ منه قدس‌سره ـ.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٥٦.

(٤) عطف على المجزوم.

(٥) السرائر ١ : ٤٦.

__________________

* بحر الفوائد : ١٦٩.

٤٤٣

وأصرح منه (١) قوله بعد ذلك : «ولذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار الآحاد ؛ لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ؛ لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلا ، فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وإن ظننت به الصدق ؛ فإنّ الظنّ لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه إقدام على ما لا نأمن من كونه فسادا ، أو غير صلاح». (٢)

هذا ، ويحتمل ـ احتمالا بعيدا ـ أنّ السيّد لم يرد من «التجويز» ـ الذي قال عنه : إنّه لا يمنع منه الظنّ ـ كلّ تجويز حتى الضعيف الذي لا يعتني به العقلاء ويجتمع مع اطمئنان النفس ، بل أراد منه التجويز الذي لا يجتمع مع اطمئنان النفس ، ويرفع الأمان بصدق الخبر.

وإنّما قلنا : «إنّ هذا الاحتمال بعيد» ؛ لأنّه يدفعه أنّ السيّد حصر في بعض عباراته ما يثبت الأحكام ـ عند من نأى (٣) عن المعصومين ، أو وجد بعدهم ـ في خصوص الخبر المتواتر المفضي إلى العلم وإجماع الفرقة المحقّة ، لا غيرهما. (٤)

وأمّا : تفسيره للعلم بسكون النفس فهذا تفسير شائع في عبارات المتقدّمين ، ومنهم : الشيخ نفسه في «العدّة». (٥) والظاهر أنّهم يريدون من سكون النفس الجزم القاطع ، لا مجرّد الاطمئنان وإن لم يبلغ القطع ، كما هو متعارف التعبير به في لسان المتأخّرين.

نعم ، لقد عمل السيّد المرتضى على خلاف ما أصّله هنا ، وكذلك ابن إدريس الذي تابعة في هذا القول ؛ لأنّه كان كثيرا ما يأخذ بأخبار الآحاد الموثوقة المرويّة في كتب أصحابنا. ومن العسير عليه وعلى غيره أن يدّعي تواترها جميعا ، أو احتفافها بقرائن توجب القطع بصدورها. وعلى ذلك جرت استنباطاته الفقهيّة ، وكذلك ابن إدريس في «السرائر». ولعلّ

__________________

(١) إنّما قلت : أصرح منه ؛ لأنّه يحتمل في العبارة المتقدّمة أنّه يريد من العلم ما يعمّ العلم بالحكم والعلم بمشروعيّة الطريق إليه وإن كان الطريق في نفسه ظنّيّا. وهذا الاحتمال لا يتطرّق إلى عبارته الثانية ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) السرائر ١ : ٤٧.

(٣) أي بعد.

(٤) راجع رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١١ ـ ٣١٢ ، والذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٥١٧.

(٥) العدّة ١ : ١٢.

٤٤٤

عمله هذا يكون قرينة على مراده من ذلك الكلام ، ومفسّرا له على نحو ما احتمله الشيخ الأنصاريّ.

وعلى كلّ حال ـ سواء استطعنا تأويل كلام السيّد بما يوافق كلام الشيخ أو لم نستطع ـ فإنّ دعوى الشيخ إجماع الطائفة على اعتبار خبر الواحد الموثوق به المأمون من الكذب ـ وإن لم يكن عادلا بالمعنى الخاصّ ، ولم يوجب قوله العلم القاطع ـ دعوى مقبولة ، ومؤيّدة ، يؤيّدها عمل جميع العلماء من لدن الصدر الأوّل إلى اليوم ، حتى نفس السيّد ، وابن إدريس ، كما ذكرنا ، بل السيّد نفسه اعترف في بعض كلامه بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه ادّعى أنّه لمّا كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّدة ، كعدم عملهم بالقياس فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة بالقرائن ، قائلا : «ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها ـ ويقصد بالأمور المعلومة ، عدم عملهم بالظنون ـ إلى ما هو مشتبه ، وملتبس ، ومجمل ـ ويقصد بالمشتبه المجمل ، وجه عملهم بأخبار الآحاد ـ ، وقد علم كلّ موافق ومخالف أنّ الشيعة الإماميّة تبطل القياس في الشريعة ، حيث لا يؤدّي إلى العلم ، وكذلك نقول في أخبار الآحاد». (١)

ونحن نقول للسيّد المرتضى : صحيح أنّ المعلوم من طريقة الشيعة الإماميّة عدم عملهم بالظنون بما هي ظنون ، ولكن خبر الواحد الثقة المأمون وما سواه من الظنون المعتبرة ـ كالظواهر ـ إذا كانوا قد عملوا بها فإنّهم لم يعملوا بها إلاّ لأنّها ظنون قام الدليل القاطع على اعتبارها وحجّيّتها ، فلم يكن العمل بها عملا بالظنّ ، بل يكون ـ بالأخير ـ عملا بالعلم.

وعليه ، فنحن نقول معه : «إنّه لا بدّ في الأحكام الشرعيّة من طريق يوصل إلى العلم بها ؛ لأنّه متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوّزنا كونه مفسدة» (٢) ، و [لكن] خبر الواحد الثقة المأمون لمّا ثبت اعتباره فهو طريق يوصل إلى العلم بالأحكام ، ونقطع بالعلم ـ على حدّ تعبيره ـ على أنّه مصلحة لا نجوّز كونه مفسدة.

ويؤيّد أيضا دعوى الشيخ للإجماع قرائن كثيرة ، ذكر جملة منها الشيخ الأنصاريّ

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٠٢.

٤٤٥

في «الرسائل» :

منها : ما ادّعاه الكشّي (١) من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة ؛ فإنّه من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحا ، بمعنى عملهم به ، لا القطع بصدوره ؛ إذ الإجماع وقع على التصحيح لا على الصّحة.

ومنها : دعوى النجاشيّ (٢) أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب. وهذه العبارة من النجاشيّ تدلّ دلالة صريحة على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عمير ، لا من أجل القطع بالصدور ، بل لعلمهم أنّه لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة. إلى غير ذلك من القرائن التي ذكرها الشيخ الأنصاريّ من هذا القبيل. (٣)

وعليك بمراجعة الرسائل في هذا الموضوع ، فقد استوفت البحث أحسن استيفاء ، وأجاد فيها الشيخ فيما أفاد ، وألمّ (٤) بالموضوع من جميع أطرافه ، كعادته في جميع أبحاثه. وقد ختم البحث بقوله السديد : «والإنصاف أنّه لم يحصل في مسألة ـ يدّعى فيها الإجماع من الإجماعات المنقولة ، والشهرة العظيمة ، والأمارات الكثيرة الدالّة على العمل ـ ما حصل في هذه المسألة ، فالشاكّ في تحقّق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة ، اللهمّ إلاّ في ضروريّات المذهب».

وأضاف «لكنّ الإنصاف أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان ، لا مطلق الظنّ» (٥). ونحن له من المؤيّدين. جزاه الله خير ما يجزي العلماء العاملين.

د. دليل حجّيّة خبر الواحد من بناء العقلاء

إنّه من المعلوم قطعا ـ الذي لا يعتريه الريب ـ استقرار بناء العقلاء طرّا ، واتّفاق سيرتهم العمليّة ـ على اختلاف مشاربهم وأذواقهم ـ على الأخذ بخبر من يثقون بقوله ويطمئنّون

__________________

(١) رجال الكشي : ٤٦٦.

(٢) رجال النجاشي ٢ : ٢٠٦.

(٣) فرائد الأصول ١ : ١٥٨ ـ ١٦١.

(٤) ألمّ بالموضوع أي : عرفه.

(٥) فرائد الأصول ١ : ١٦١.

٤٤٦

إلى صدقه ويأمنون كذبه ، وعلى اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. وهذه السيرة العمليّة جارية حتى في الأوامر الصادرة من ملوكهم ، وحكّامهم ، وذوي الأمر منهم.

وسرّ هذه السيرة أنّ الاحتمالات الضعيفة المقابلة ملغاة بنظرهم لا يعتنون بها ، فلا يلتفتون إلى احتمال تعمّد الكذب من الثقة ، كما لا يلتفتون إلى احتمال خطئه ، واشتباهه ، أو غفلته.

وكذلك أخذهم بظواهر الكلام وظواهر الأفعال ؛ فإنّ بناءهم العمليّ على إلغاء الاحتمالات الضعيفة المقابلة. وذلك من كلّ ملّة ونحلة. (١)

وعلى هذه السيرة العمليّة قامت معايش الناس ، وانتظمت حياة البشر ، ولولاها لاختلّ نظامهم الاجتماعيّ ، ولسادهم (٢) الاضطراب ؛ لقلّة ما يوجب العلم القطعيّ من الأخبار المتعارفة ، سندا ومتنا.

والمسلمون بالخصوص ـ كسائر الناس ـ جرت سيرتهم العمليّة على مثل ذلك في استفادة الأحكام الشرعيّة من القديم إلى يومنا هذا ؛ لأنّهم متّحدو المسلك والطريقة مع سائر البشر ، كما جرت سيرتهم بما هم عقلاء على ذلك في غير الأحكام الشرعيّة. ألا ترى هل كان يتوقّف المسلمون في أخذ أحكامهم الدينيّة من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام الموثوقين عندهم؟ وهل ترى يتوقّف المقلّدون اليوم وقبل اليوم في العمل بما يخبرهم الثقات عن رأي المجتهد الذي يرجعون إليه؟ وهل ترى تتوقّف الزوجة في العمل بما يحكيه لها زوجها ـ الذي تطمئنّ إلى خبره ـ عن رأي المجتهد في المسائل التي تخصّها ، كالحيض مثلا؟

وإذا ثبتت سيرة العقلاء من الناس بما فيهم المسلمون على الأخذ بخبر الواحد الثقة ـ فإنّ الشارع المقدّس متّحد المسلك معهم ؛ لأنّه منهم ، بل هو رئيسهم ـ فلا بدّ أن نعلم بأنّه (٣) متّخذ لهذه الطريقة العقلائيّة ، كسائر الناس ما دام أنّه لم يثبت لنا أنّ له في تبليغ الأحكام

__________________

(١) النحلة والنحلة : المذهب والديانة.

(٢) أي : لتسلّط عليهم.

(٣) أي الشارع.

٤٤٧

طريقا خاصّا مخترعا منه غير طريق العقلاء ، ولو كان له طريق خاصّ قد اخترعه غير مسلك العقلاء لأذاعه (١) وبيّنه للناس ، ولظهر واشتهر ، ولما جرت سيرة المسلمين على طبق سيرة باقي البشر.

وهذا الدليل قطعيّ لا يداخله الشكّ ؛ لأنّه مركّب من مقدّمتين قطعيّتين :

١ ـ ثبوت بناء العقلاء على الاعتماد على خبر الثقة والأخذ به.

٢ ـ كشف هذا البناء منهم عن موافقة الشارع لهم واشتراكه معهم ؛ لأنّه متّحد المسلك معهم.

قال شيخنا النائينيّ قدس‌سره ـ كما في تقريرات تلميذه الكاظميّ قدس‌سره ـ : «وأمّا طريقة العقلاء فهي عمدة أدلّة الباب ، بحيث لو فرض أنّه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلّة ، فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائيّة القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتّكال عليه في محاوراتهم». (٢)

وأقصى ما قيل (٣) في الشكّ في هذا الاستدلال هو : أنّ الشارع لئن كان متّحد المسلك مع العقلاء فإنّما يستكشف موافقته لهم ، ورضاه بطريقتهم ، إذا لم يثبت الردع منه عنها. (٤) وتكفي في الردع الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ وما وراء العلم التي ذكرناها سابقا في البحث السادس من المقدّمة ؛ (٥) ؛ لأنّها بعمومها تشمل خبر الواحد غير المفيد للعلم.

وقد عالجنا هذا الأمر فيما يتعلّق بشمول هذه الآيات الناهية للاستصحاب في الجزء

__________________

(١) أي : لنشره.

(٢) فوائد الأصول ٣ : ١٩٤.

(٣) هذا الإشكال تعرّض له المحقّق الخراسانيّ ، ثمّ أجاب عنه بعدم صلاحية الآيات المذكورة للردع ، للزوم الدور. راجع الكفاية ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

وتعرّض له أيضا المحقّق النائينيّ ، وأجاب عنه بما يأتي في المتن. راجع فوائد الأصول ٣ : ١٩٣.

وادّعى المحقّق الحائريّ في درر الفوائد ٢ : ٥٩ أنّه يكفي في عدم الحجّيّة عدم العلم بإمضاء الشارع ، وهو حاصل قبل الفراغ عن عدم كون تلك الأدلّة رادعة.

وأجاب المحقّق الأصفهانيّ عن هذه الدعوى في نهاية الدراية ٢ : ٢٣٣ ، فراجع.

(٤) أي ما لم يثبت الردع من الشارع عن طريقة العقلاء.

(٥) راجع الصفحة : ٢٢.

٤٤٨

الرابع (مبحث الاستصحاب) (١) فقلنا : إنّ هذه الآيات غير صالحة للردع عن الاستصحاب الذي جرت سيرة العقلاء على الأخذ به ؛ لأنّ المقصود من النهي عن اتّباع غير العلم النهي عنه إذ يراد به إثبات الواقع ، كقوله (تعالى) : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢) ، بينما أنّه ليس المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع والحقّ ، بل هو أصل وقاعدة عمليّة يرجع إليها في مقام العمل عند الشكّ في الواقع والحقّ. فيخرج الاستصحاب عن عموم هذه الآيات موضوعا.

وهذا العلاج ـ طبعا ـ لا يجري في مثل خبر الواحد ؛ لأنّ المقصود به كسائر الأمارات الأخرى إثبات الواقع وتحصيل الحقّ.

ولكن مع ذلك نقول : إنّ خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآيات تخصّصا ، كالظواهر التي حجّيّتها أيضا مستندة إلى بناء العقلاء على ما سيأتي (٣).

وذلك بأن يقال ـ حسبما أفاده أستاذنا المحقّق الاصفهانيّ قدس‌سره في حاشيته على الكفاية ـ : «إنّ لسان النهي عن اتّباع الظنّ ، وأنّه لا يغني من الحقّ شيئا ليس لسان التعبّد بأمر على خلاف الطريقة العقلائيّة ، بل من باب إيكال الأمر إلى عقل المكلّف من جهة أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا مسوّغ للاعتماد عليه والركون إليه ، فلا نظر [في الآيات الناهية] إلى ما استقرّت عليه سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اتّباعه من حيث كونه خبر الثقة. ولذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي للفراغ عن لزوم اتّباع روايته بعد فرض وثاقته». (٤)

أو يقال ـ حسبما أفاده شيخنا النائينيّ قدس‌سره على ما في تقريرات الكاظمي قدس‌سره ـ : «إنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقة [حتى يتوهّم أنّها تكفي للردع عن الطريقة العقلائية] (٥) ؛ لأنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم ، بل هو من أفراد العمل بالعلم ؛ لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع ؛ لما قد جرت على ذلك

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٦١٩.

(٢) النجم (٥٣) الآية ٢٨ ، يونس (١٠) الآية : ٣٦.

(٣) يأتي في الصفحة : ٤٩٢.

(٤) نهاية الدراية ٣ : ٣٦.

(٥) ما بين المعقوفين موجود في المصدر.

٤٤٩

طباعهم واستقرّت عليه عادتهم ، فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعا. فلا تصلح أن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم أن تكون رادعة عن العمل بخبر الثقة ، بل الردع يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص». (١)

وعلى كلّ حال ، لو كانت هذه الآيات صالحة للردع عن مثل خبر الواحد والظواهر التي جرت سيرة العقلاء على العمل بها ، ومنهم : المسلمون ، لعرف ذلك بين المسلمين ، وانكشف لهم ، ولما أطبقوا على العمل بها ، و [لما] جرت سيرتهم عليه.

فهذا دليل قطعيّ على عدم صلاحية هذه الآيات للردع عن العمل بخبر الواحد ، فلا نطيل بذكر الدور الذي أشكلوا به في المقام ، والجواب عنه. وإن شئت الاطّلاع فراجع الرسائل (٢) وكفاية الأصول. (٣)

تمرينات (٥٥)

١. ما هو الخبر المتواتر ، وخبر الواحد؟

٢. اذكر الأقوال في حجّيّة خبر الواحد.

٣. اذكر إشكال الخصم على الاستدلال بالآيات على حجّيّة خبر الواحد. واذكر الجواب عنه.

٤. بيّن تقريب الاستدلال بآية النبأ على حجّيّة خبر الواحد.

٥. بيّن تقريب الاستدلال بآية النفر على حجّيّة خبر الواحد.

٦. هل يتمّ الاستدلال بآية حرمة الكتمان على حجّيّة خبر الواحد؟ ما وجه الاستدلال بها؟ وما وجه عدم تماميّته؟

٧. لم لا يصحّ الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بنفس خبر الواحد؟

٨. اذكر طائفتين من الروايات الدالة على حجيّة خبر الواحد. واذكر تقريب الاستدلال بها.

٩. بيّن تقريب الاستدلال بالإجماع على حجّيّة خبر الواحد ، مع أنّه قد يدّعى الإجماع على عدم حجّيّته.

١٠. بيّن تقريب الاستدلال ببناء العقلاء على حجّيّة خبر الواحد.

١١. اذكر ما قيل في الإيراد على الاستدلال ببناء العقلاء ، واذكر جواب المحقّقين الأصفهانيّ ، والنائيني عنه.

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٣ : ١٩٥.

(٢) فرائد الأصول ١ : ١١٢.

(٣) كفاية الأصول : ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

٤٥٠

الباب الثالث

الإجماع

تمهيد

الإجماع أحد معانيه في اللغة : «الاتّفاق». والمراد منه في الاصطلاح : «اتّفاق خاصّ» ، وهو إمّا اتّفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعيّ ، (١) ، أو اتّفاق أهل الحلّ والعقد من المسلمين على الحكم ، (٢) ، أو اتّفاق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على الحكم ، (٣) على اختلاف التعريفات عندهم.

ومهما اختلفت هذه التعبيرات فإنّها ـ على ما يظهر ـ ترمي إلى معنى جامع بينها ، وهو اتّفاق جماعة لاتّفاقهم (٤) شأن في إثبات الحكم الشرعيّ. ولذا استثنوا من المسلمين سواد الناس (٥) وعوامّهم ؛ لأنّهم لا شأن لآرائهم في استكشاف الحكم الشرعيّ ، وإنّما هم تبع للعلماء ولأهل الحلّ والعقد.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا الإجماع بما له من هذا المعنى قد جعله الأصوليّون من أهل السنّة أحد الأدلّة الأربعة (٦) ، أو الثلاثة (٧) على الحكم الشرعيّ ، في مقابل الكتاب والسنّة.

__________________

(١) هكذا عرّفه الحاجبيّ كما في شرح العضديّ ١ : ١٢٢.

(٢) كذا عرّفه في المحصول في علم الأصول ٢ : ٣ ، ونهاية السئول ٣ : ٢٣٧.

(٣) هذا معنى الإجماع عند الغزاليّ في المستصفى ١ : ١٧٣.

(٤) أي : اتّفاق جماعة كان لاتّفاقهم شأن ....

(٥) سواد الناس : عامّتهم.

(٦) كما في المستصفى ١ : ١٠٠ ، ونهاية السئول ١ : ٩ ، والموافقات ٣ : ٥ ، واللمع في أصول الفقه : ٦ ، وأصول الفقه (للخضري بك) : ٢٠٧.

(٧) ولعلّه مذهب المانعين من حجيّة القياس ، كالنظّام ، وبعض المعتزلة ، كما في إرشاد الفحول : ٢٠٠. ـ

٤٥١

أمّا : الإماميّة فقد جعلوه أيضا أحد الأدلّة على الحكم الشرعيّ ، ولكن من ناحية شكليّة واسميّة فقط ؛ مجاراة (١) للنهج الدراسيّ في أصول الفقه عند السنّيّين ، أي إنّهم لا يعتبرونه دليلا مستقلاّ في مقابل الكتاب والسنّة ، بل إنّما يعتبرونه إذا كان كاشفا عن السنّة ، أي عن قول المعصوم ؛ فالحجّيّة والعصمة ليستا للإجماع ، بل الحجّة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع عند ما تكون له أهليّة هذا الكشف.

ولذا توسّع الإماميّة في إطلاق كلمة «الإجماع» على اتّفاق جماعة قليلة لا يسمّى اتّفاقهم في الاصطلاح إجماعا ، باعتبار أنّ اتّفاقهم يكشف كشفا قطعيّا عن قول المعصوم ، فيكون له حكم الإجماع ، بينما لا يعتبرون الإجماع الذي لا يكشف عن قول المعصوم وإن سمّي إجماعا بالاصطلاح. وهذه نقطة خلاف جوهريّة في الإجماع ينبغي أن نجلّيها ، ونلتمس الحقّ فيها ، فإنّ لها كلّ الأثر في تقييم الإجماع من جهة حجّيّته.

ولأجل أن نتوصّل إلى الغرض المقصود لا بدّ من توجيه بعض الأسئلة لأنفسنا لنلتمس الجواب عليها :

أوّلا : من أين انبثق (٢) للأصوليّين القول بالإجماع ، فجعلوه حجّة ودليلا مستقلاّ على الحكم الشرعيّ في مقابل الكتاب والسنّة؟

ثانيا : هل المعتبر عند من يقول بالإجماع اتّفاق جميع الأمّة ، أو اتّفاق جميع العلماء في عصر من العصور ، أو بعض منهم يعتدّ به؟ ومن هم الذين يعتدّ بأقوالهم؟

أمّا السؤال الأوّل :

فإنّ الذي يثيره (٣) في النفس ويجعلها في موضع الشكّ فيه أنّ إجماع الناس جميعا على

__________________

وذهب بعض آخر إلى أنّه أحد الأدلّة الخمسة ، كالآمدي في الإحكام ١ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، وابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل : ٤٥.

(١) أي : تبعا.

(٢) أي : انتشر وظهر.

(٣) أي : يصيّره يثور. ويثور أي يرتفع.

٤٥٢

شيء ، أو إجماع أمّة من الأمم بما هو إجماع واتّفاق لا قيمة علميّة له في استكشاف حكم الله (تعالى) ؛ لأنّه لا ملازمة بينه وبين حكم الله (تعالى) ، فالعلم به لا يستلزم العلم بحكم الله (تعالى) بأيّ وجه من وجوه الملازمة.

نعم ، الشيء الذي يجب ألاّ يفوتنا التنبيه عليه في الباب أنّا قد قلنا فيما سبق في الجزء الثاني (١) وسيأتي : (٢) إنّ تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء في القضايا المشهورة العمليّة التي نسمّيها «الآراء المحمودة» ، والتي تتعلّق بحفظ النظام والنوع ، يستكشف به الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ الشارع من العقلاء ، بل رئيسهم ، وهو خالق العقل ، فلا بدّ أن يحكم بحكمهم.

ولكن هذا التطابق ليس من نوع الإجماع المقصود ، بل هو نفس الدليل العقليّ الذي نقول بحجّيّته في مقابل الكتاب ، والسنّة ، والإجماع. وهو من باب التحسين والتقبيح العقليّين الذي (٣) ينكره هؤلاء الذاهبون إلى حجّيّة الإجماع.

أمّا : إجماع الناس ـ الذي لا يدخل في تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء ـ فلا سبيل إلى اتّخاذه دليلا على الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ اتّفاقهم قد يكون بدافع العادة ، أو العقيدة ، أو الانفعال النفسيّ ، أو الشبهة ، أو نحو ذلك. وكلّ هذه الدوافع من خصائص البشر ، لا يشاركهم الشارع فيها ؛ لتنزّهه عنها. فإذا حكموا بشيء بأحد هذه الدوافع لا يجب أن يحكم الشارع بحكمهم ، فلا يستكشف من اتّفاقهم على حكم ـ بما هو اتّفاق ـ أنّ هذا الحكم واقعا هو حكم الشارع.

ولو أنّ إجماع الناس بما هو إجماع ـ كيفما كان وبأيّ دافع كان ـ هو حجّة ودليل لوجب أن يكون إجماع الأمم الأخرى غير المسلمة أيضا حجّة ودليلا. ولا يقول بذلك واحد ممّن يرى حجّيّة الإجماع.

إذن ، كيف اتّخذ الأصوليّون إجماع المسلمين بالخصوص حجّة؟! وما الدليل لهم على ذلك؟

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢٤٤ ـ ٢٤٦.

(٢) يأتي في الصفحة : ٤٨٠ و ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

(٣) صفة «باب».

٤٥٣

وللجواب عن هذا السؤال علينا أن نرجع القهقرى إلى أوّل إجماع اتّخذ دليلا في تأريخ المسلمين. إنّه الإجماع المدّعى على بيعة أبي بكر ؛ خليفة للمسلمين ، فإنّه إذا وقعت البيعة له ـ والمفروض أنّه لا سند لها (١) من طريق النصّ القرآنيّ ، والسنّة النبويّة ـ اضطرّوا إلى تصحيح شرعيّتها من طريق الإجماع ، فقالوا :

أوّلا : إنّ المسلمين من أهل المدينة أو أهل الحلّ والعقد منهم أجمعوا على بيعته. (٢)

وثانيا : إنّ الإمامة من الفروع لا من الأصول. (٣)

وثالثا : إنّ الإجماع حجّة في مقابل الكتاب والسنّة ، أي إنّه دليل ثالث ، غير الكتاب والسنّة. (٤)

ثمّ منه توسّعوا ، فاعتبروه دليلا في جميع المسائل الشرعيّة الفرعيّة. وسلكوا لإثبات حجّيّته ثلاثة مسالك : الكتاب ، والسنّة ، والعقل.

ومن الطبيعي ألاّ يجعلوا الإجماع من مسالكه ؛ لأنّه يؤدّي إلى إثبات الشيء بنفسه ، وهو دور باطل.

أمّا مسلك الكتاب : فآيات استدلّوا بها [وهي] لا تنهض دليلا على مقصودهم. وأولاها بالذكر آية سبيل المؤمنين ، وهي قوله (تعالى) : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٥). فإنّها توجب اتّباع سبيل المؤمنين ، فإذا أجمع المؤمنون على حكم فهو سبيلهم ، فيجب اتّباعه. وبهذه الآية تمسّك الشافعيّ على ما نقل عنه. (٦)

ويكفينا في ردّ الاستدلال بها ما استظهره الشيخ الغزاليّ منها ؛ إذ قال : «الظاهر أنّ المراد

__________________

(١) أي للبيعة.

(٢) راجع شرح المواقف ٨ : ٣٥٣ ، شرح المقاصد ٥ : ٢٦٤ ؛ الأربعين (للرازي) : ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٣) راجع شرح المواقف ٨ : ٣٤٤ ؛ شرح المقاصد ٥ : ٢٣٢.

(٤) راجع التعليقة (٦) من الصفحة : ٤٥١.

(٥) النساء (٤) الآية : ١١٥.

(٦) راجع نهاية السئول ٣ : ٢٤٨ ؛ المستصفى ١ : ١٧٥ ؛ الإحكام (للآمدي) ١ : ٢٨٦.

٤٥٤

بها أنّ من يقاتل الرسول ويشاقّه ويتّبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نولّه ما تولّى ؛ فكأنّه لم يكتف بترك المشاقّة حتى تنضمّ إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته ، والذبّ عنه ، والانقياد له فيما يأمر وينهى». ثمّ قال : «وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم». (١)

وهو كذلك كما استظهره.

أمّا : الآيات الأخرى فقد اعترف الغزاليّ (٢) كغيره (٣) بعدم ظهورها في حجّيّة الإجماع ، فلا نطيل بذكرها ، ومناقشة الاستدلال بها.

وأمّا مسلك السنّة : فهي أحاديث رووها بما يؤدّي مضمون الحديث «لا تجتمع أمّتي على الخطأ» (٤) ، وقد ادّعوا تواترها معنى ، فاستنبطوا منه عصمة الأمّة الإسلاميّة من الخطأ والضلالة ، (٥) ، فيكون إجماعها كقول المعصوم حجّة ومصدرا مستقلاّ لمعرفة حكم الله (تعالى).

وهذه الأحاديث (٦) ـ على تقدير التسليم بصحّتها ، وأنّها توجب العلم ؛ لتواترها معنى ـ لا تنفع في تصحيح دعواهم ؛ لأنّ المفهوم من اجتماع الأمّة كلّ الأمّة ، لا بعضها ، فلا تثبت بهذه الأحاديث عصمة البعض من الأمّة ، بينما أنّ مقصودهم من الإجماع ، إجماع خصوص الفقهاء ، أو أهل الحلّ والعقد في عصر من العصور ، بل خصوص الفقهاء المعروفين ، بل خصوص المعروفين من فقهاء طائفة خاصّة ، وهي طائفة أهل السنّة ، بل يكتفون باتّفاق جماعة ، ويطمئنّون إليهم ، كما هو الواقع في بيعة السقيفة.

فأنّى لنا أن نحصل على إجماع جميع الأمّة بجميع طوائفها وأشخاصها في جميع

__________________

(١) المستصفى ١ : ١٧٥.

(٢) المستصفى ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٣) كالشوكاني في إرشاد الفحول : ٧٦ ـ ٧٨.

(٤) لم أجده في المصادر الحديثيّة بهذه العبارة.

(٥) راجع المستصفى ١ : ١٧٥ ؛ أصول الفقه (للخضري بك) : ٢٨٦ ؛ نهاية السئول ٣ : ٢٥٩.

(٦) إن شئت فراجع المستصفى ١ : ١٧٥ ؛ الإحكام (للآمدي) ١ : ٣١٣ ؛ أصول الفقه (للخضري بك) : ٢٨٦.

٤٥٥

العصور إلاّ في ضروريّات الدين ، مثل وجوب الصلاة ، والزكاة ، ونحوهما. وهذه ضروريّات الدين ليست من نوع الإجماع المبحوث عنه. ولا نحتاج في إثبات الحكم بها إلى القول بحجّيّة الإجماع.

وأمّا مسلك العقل الذي عبّر عنه بعضهم (١) بالطريق المعنويّ ـ : فغاية ما يقال في توجيهه أنّ الصحابة إذا قضوا بقضيّة ، وزعموا أنّهم قاطعون بها فلا يقطعون بها إلاّ عن مستند قاطع ، وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حدّ التواتر فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب ، وتحيل عليهم الغلط. فقطعهم في غير محلّ القطع محال في العادة. والتابعون وتابعو التابعين إذا قطعوا بما قطع به الصحابة ، فيستحيل في العادة أن يشذّ عن جميعهم الحقّ مع كثرتهم. (٢)

ومثل هذا الدليل يصحّ أن يناقش فيه بأنّ إجماعهم هذا إن كان يعلم بسببه قول المعصوم فلا شكّ في أنّ هذا علم قطعيّ بالحكم الواقعيّ ، فيكون حجّة ؛ لأنّه قطع بالسنّة ، ولا كلام لأحد فيه ؛ لأنّ هذا الإجماع يكون من طرق إثبات السنّة.

وأمّا : إذا لم يعلم بسببه قول المعصوم ـ كما هو المقصود من فرض الإجماع حجّة مستقلّة ، ودليلا في مقابل الكتاب والسنّة ـ فإنّ قطع المجمعين ـ مهما كانوا ـ لئن كان يستحيل في العادة قصدهم الكذب في ادّعاء القطع ، كما في الخبر المتواتر ، فإنّه لا يستحيل في حقّهم الغفلة ، أو الاشتباه ، أو الغلط ، كما لا يستحيل أن يكون إجماعهم بدافع العادة ، أو العقيدة ، أو أيّ دافع من الدوافع الأخرى التي أشرنا إليها سابقا.

ولأجل ذلك اشترطنا في التواتر الموجب للعلم ألاّ يتطرّق إليه احتمال خطأ المخبرين في فهم الحادثة ، واشتباههم ، كما شرحناه في كتاب المنطق. (٣)

ولا عجب في تطرّق احتمال الخطأ في اتّفاق الناس على رأي ، بل تطرّق الاحتمال إلى ذلك أكثر من تطرّقه إلى الاتّفاق في النقل ؛ لأنّ أسباب الاشتباه والغلط فيه أكثر.

ثمّ إنّ هذا الطريق العقليّ أو المعنويّ لو تمّ فأيّ شيء يخصّصه بخصوص الصحابة ،

__________________

(١) وهو الغزاليّ في المستصفى ١ : ١٧٩.

(٢) انتهى ملخّص ما قال الغزاليّ في توجيهه.

(٣) المنطق ٣ : ٢٨٤.

٤٥٦

أو المسلمين ، أو علماء طائفة خاصّة ، من دون باقي الناس ، وسائر الأمم؟ إلاّ إذا ثبت من دليل آخر اختصاص المسلمين ، أو بعض منهم بمزيّة خاصّة ليست للأمم الأخرى ، وهي العصمة من الخطأ. فإذن ، ـ على هذا التقدير ـ لا يكون الدليل على الإجماع إلاّ هذا الدليل الذي يثبت العصمة للأمّة المسلمة ، أو بعضها ، لا الطريق العقلي المدّعى. وهذا رجوع إلى المسلك الأوّل والثاني ، وليس هو مسلكا مستقلاّ عنهما.

وبالختام نقول : إذا كانت هذه المسالك الثلاثة لم تتمّ لنا أدلّة على حجّيّة الإجماع من أصله من جهة أنّه إجماع فلا يظهر للإجماع قيمة من ناحية كونه حجّة ، ومصدرا للتشريع الإسلاميّ مهما بالغ الناس في الاعتماد عليه. وإنّما يصحّ الاعتماد عليه إذا كشف لنا عن قول المعصوم ، فيكون حينئذ كالخبر المتواتر الذي تثبت به السنّة. وسيأتي البحث عن ذلك. (١)

وأمّا السؤال الثاني :

فالذي يثيره أنّ ظاهر تلك المسالك الثلاثة المتقدّمة يقضي بأنّ الحجّة إنّما هو إجماع الأمّة كلّها ، أو جميع المؤمنين بدون استثناء ، فمتى ما شذّ واحد منهم ـ أيّ [مخالف] كان ـ فلا يتحقّق الإجماع الذي قام الدليل على حجّيّته ؛ فإنّه مع وجود المخالف ـ وإن كان واحدا ـ لا يحصل القطع بحجّيّة إجماع من عداه مهما كان شأنهم ؛ لأنّ العصمة ـ على تقدير ثبوتها بالأدلّة المتقدّمة ـ إنّما ثبتت لجميع الأمّة ، لا لبعضها.

ولكن ما توقّعوه من ذهابهم إلى حجّيّة الإجماع ـ وهو إثبات شرعيّة بيعة أبي بكر ـ لم يحصل لهم ؛ لأنّه قد ثبتت من طريق التواتر مخالفة عليّ عليه‌السلام وجماعة كبيرة من بني هاشم وباقي المسلمين ، ولئن التجأ أكثرهم بعد ذلك إلى البيعة ، فإنّه بقي منهم من لم يبايع حتى مات ، مثل سعد بن عبادة (قتيل الجنّ!).

ولأجل هذه المفارقة بين أدلّة الإجماع وواقعه الذي أرادوا تصحيحه كثرت الأقوال

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٤٩١.

٤٥٧

في هذا الباب لتوجيهها (١) ، فقال مالك ـ على ما نسب إليه (٢) ـ : «إنّ الحجّة هو إجماع أهل المدينة فقط». وقال قوم : «الحجّة إجماع أهل الحرمين : مكّة ، والمدينة. والمصرين : الكوفة ، والبصرة (٣)». وقال قوم : «المعتبر إجماع أهل الحلّ والعقد (٤)». وقال بعض : «المعتبر إجماع الفقهاء الأصوليّين خاصّة (٥)». وقال بعض : «الاعتبار بإجماع أكثر المسلمين (٦)». واشترط بعض في المجمعين أن يحقّقوا عدد التواتر. (٧) وقال آخرون : «الاعتبار بإجماع الصحابة فقط دون غيرهم ممّن جاءوا بعد عصرهم» ، كما نسب ذلك إلى داود (٨) وشيعته (٩). إلى غير ذلك من الأقوال التي يطول ذكرها ، المنقولة في جملة من كتب الأصول. (١٠)

وكلّ هذه الأقوال تحكّمات ، لا سند لها ولا دليل ، ولا ترفع الغائلة من تلك المفارقة الصارخة. والذي دفع أولئك القائلين بتلك المقالات أمور وقعت في تأريخ بيعة الخلفاء ، يطول شرحها ، أرادوا تصحيحها بالإجماع.

هذه هي الجذور العميقة للمسألة التي أوقعت القائلين بحجّيّة الإجماع في حيص بيص لتصحيحه وتوجيهه ، وإلاّ فتلك المسالك الثلاثة ـ إن سلّمت ـ لا تدلّ على أكثر من حجّيّة

__________________

(١) أي لتوجيه الأدلّة.

(٢) نسب إليه في نهاية السئول ٣ : ٢٦٣ ، والمستصفى ١ : ١٨٧ ، والإحكام (للآمدي) ١ : ٣٤٩.

(٣) وهذا منسوب إلى زعم بعض أهل الأصول. والناسب الشوكاني في إرشاد الفحول : ٨٣.

(٤) هذا ما اختاره صاحب نهاية السئول ٣ : ٢٣٧ ، والفخر الرازي في المحصول في علم الأصول ٢ : ٣.

(٥) ذهب إليه الخضري بك في كتابه أصول الفقه : ٢٧١ و ٢٧٦.

(٦) هذا ما نسبه الآمدي إلى محمد بن جرير الطبريّ ، وأبي بكر الرازيّ ، وأبي الحسين الخيّاط ، وأحمد بن حنبل. راجع الإحكام (للآمدي) ١ : ٣٣٦.

(٧) وهذا القول نسبه الآمدي إلى من استدلّ على حجيّة الإجماع بدلالة العقل ، كإمام الحرمين ، راجع الإحكام ١ : ٣٥٨.

(٨) وهو أبو سفيان داود بن خلف الأصبهاني ، المعروف بالظاهرىّ ، وهو إمام الظاهريّة.

(٩) نسب إليه ، وإلى ابن حيّان ، وأحمد بن حنبل في إرشاد الفحول : ٨١ ـ ٨٢ ، وفواتح الرحموت «المطبوع بهامش المستصفى ٢ : ٢٢٠».

ونسب إليه وشيعته في المستصفى ١ : ١٨٩ ، والإحكام (للآمدي) ١ : ٣٢٨.

(١٠) راجع بعض المصادر المتقدّمة.

٤٥٨

إجماع الكلّ بدون استثناء ، فتخصيص حجّيّته ببعض الأمّة دون بعض بلا مخصّص. نعم ، المخصّص هو الرغبة في إصلاح أصل المذهب ، والمحافظة عليه على كلّ حال.

الإجماع عند الإماميّة

إنّ الإجماع بما هو إجماع لا قيمة علميّة له عند الإماميّة ما لم يكشف عن قول المعصوم ، كما تقدّم وجهه (١). فإذا كشف على نحو القطع عن قوله فالحجّة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف ، فيدخل حينئذ في السنّة ، ولا يكون دليلا مستقلاّ في مقابلها.

وقد تقدّم أنّه لم تثبت عندنا عصمة الأمّة عن الخطأ ، (٢) وإنّما أقصى ما يثبت عندنا من اتّفاق الأمّة أنّه يكشف عن رأي من له العصمة ، فالعصمة في المنكشف لا في الكاشف.

وعلى هذا ، فيكون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر ، الكاشف بنحو القطع عن قول المعصوم ، فكما أنّ الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلا على الحكم الشرعيّ رأسا ، بل هو دليل على الدليل (٣) على الحكم ، فكذلك الإجماع ليس بنفسه دليلا ، بل هو دليل على الدليل.

غاية الأمر أنّ هناك فرقا بين الإجماع والخبر المتواتر : إنّ الخبر دليل لفظيّ على قول المعصوم ، أي إنّه يثبت به نفس كلام المعصوم ولفظه فيما إذا كان التواتر للّفظ.

أمّا : الإجماع فهو دليل قطعيّ على نفس رأي المعصوم ، لا على لفظ خاصّ له ؛ لأنّه لا يثبت به ـ في أيّ حال ـ أنّ المعصوم قد تلفّظ بلفظ خاصّ معيّن في بيانه للحكم ؛ ولأجل هذا يسمّى الإجماع بـ «الدليل اللبّيّ» ، نظير الدليل العقليّ. يعني : أنّه يثبت بهما نفس المعنى والمضمون من الحكم الشرعيّ الذي هو كاللبّ بالنسبة إلى اللفظ الحاكي عنه الذي هو كالقشر له.

والثمرة بين الدليل اللفظيّ واللبّيّ تظهر في المخصّص إذا كان لبّيّا أو لفظيّا ، على ما ذكره الشيخ الأنصاريّ ـ كما تقدّم ـ (٤) لذهابه إلى جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة

__________________

(١ و ٢). تقدّم في الصفحة : ٤٤٥ ـ ٤٤٨.

(٣) وهو قول المعصوم مثلا. فالخبر المتواتر كاشف عن قول المعصوم ـ مثلا ـ الذي هو الدليل على الحكم الشرعيّ.

(٤) تقدّم في المقصد الأوّل : ١٦٥.

٤٥٩

المصداقيّة ، إذا كان المخصّص لبّيّا ، دون ما إذا كان لفظيا. (١)

وإذا كان الإجماع حجّة من جهة كشفه عن قول المعصوم فلا يجب فيه اتّفاق الجميع بغير استثناء ، كما هو مصطلح أهل السنّة على مبناهم ، بل يكفي اتّفاق كلّ من يستكشف من اتّفاقهم قول المعصوم ، كثروا أم قلّوا ، إذا كان العلم باتّفاقهم يستلزم العلم بقول المعصوم ، كما صرّح بذلك جماعة من علمائنا.

قال المحقّق في «المعتبر» ـ بعد أن أناط حجّيّة الإجماع بدخول المعصوم ـ : «فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجّة ، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجّة» (٢).

وقال السيّد المرتضى ـ على ما نقل عنه ـ : «إذا كان علّة كون الإجماع حجّة كون الإمام فيهم فكلّ جماعة ـ كثرت أو قلّت ـ كان الإمام في أقوالها فإجماعها حجّة». (٣)

إلى غير ذلك من التصريحات المنقولة عن جماعة كثيرة من علمائنا. (٤) ولكن سيأتي أنّه على بعض المسالك في الإجماع لا بدّ من إحراز اتّفاق الجميع. (٥)

وعلى هذا ، فيكون تسمية اتّفاق جماعة من علماء الإماميّة بالإجماع مسامحة ظاهرة ؛ فإنّ الإجماع حقيقة عرفيّة في اتّفاق جميع العلماء من المسلمين على حكم شرعيّ. ولا يلزم من كون مثل اتّفاق الجماعة القليلة حجّة أن يصحّ تسميتها بالإجماع. ولكن قد شاع هذا التسامح في لسان الخاصّة من علماء الإماميّة على وجه أصبح لهم اصطلاح آخر فيه ، فيراد من الإجماع عندهم كلّ اتّفاق يستكشف منه قول المعصوم ، سواء كان اتّفاق الجميع أو البعض ، فيعمّ القسمين.

والخلاصة [أنّ] التي نريد أن ننصّ عليها ، وتعنينا من البحث أنّ الإجماع إنّما يكون حجّة إذا علم بسببه ـ على سبيل القطع ـ قول المعصوم ، فما لم يحصل العلم بقوله ـ وإن

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٤ ، ولكن في نسبته إليه نظر ، كما مرّ في التعليقة (٢) من الصفحة ١٦٥.

(٢) المعتبر في شرح المختصر ١ : ٦.

(٣) انتهى كلامه ملخّصا على ما نقل عنه الشيخ الأنصاريّ في : فرائد الأصول ١ : ٨٠ ، وراجع كلامه في الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ : ٦٣٠.

(٤) وإن شئت فراجع فرائد الأصول ١ : ٧٩ ـ ٨٠.

(٥) وهو مسلك الحدس ، كما يأتي في الصفحة : ٣٦١.

٤٦٠