اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

إلاّ المعذّريّة في مخالفته ، ورفع العقاب على المخالفة ، لا أكثر ، وهذه المعذّريّة يقتضيها نفس الرخصة في اتّباع الأمارة التي قد تخطأ.

وعلى هذا ، فليس لهذا الأمر الطريقيّ المتعلّق باتّباع الأمارة ـ بما هو أمر طريقيّ ـ مخالفة ، ولا موافقة ؛ لأنّه في الحقيقة ليس فيه جعل للداعي إلى الفعل الذي هو مؤدّى الأمارة مستقلاّ عن الأمر الواقعيّ ؛ وإنّما هو جعل للأمارة ؛ منجّزة للأمر الواقعيّ ، فهو موجب لدعوة الأمر الواقعيّ ، فلا بعث حقيقيّ في مقابل البعث الواقعيّ ، فلا تكون له مصلحة إلاّ مصلحة الواقع ، ولا طاعة غير طاعة الواقع. إذ لا بعث فيه إلاّ بعث الواقع.

١٤. المصلحة السلوكيّة

ذهب الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره (١) إلى فرض المصلحة السلوكيّة في الأمارات ؛ لتصحيح جعلها ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في مبحث الإجزاء (٢) ـ ، وحمل عليه كلام الشيخ الطوسيّ في «العدّة» (٣) والعلاّمة في «النهاية». (٤)

وإنّما ذهب إلى هذا الفرض ؛ لأنّه لم يتمّ عنده تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقيّة المحضة ، ووجد أيضا أنّ القول بالسببيّة المحضة يستلزم القول بالتصويب المجمع على بطلانه عند الإماميّة ، (٥) ، فسلك طريقا وسطا ، لا يذهب به إلى الطريقيّة المحضة ، ولا إلى السببيّة المحضة ، وهو أن يفرض المصلحة في نفس سلوك الأمارة وتطبيق العمل على ما أدّت إليه ، وبهذه المصلحة يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع عند الخطأ ؛ فتكون الأمارة من ناحية لها شأن الطريقيّة إلى الواقع ، ومن ناحية أخرى لها شأن السببيّة.

وغرضه من فرض المصلحة السلوكيّة أنّ نفس سلوك طريق الأمارة والاستناد إليها في العمل بمؤدّاها فيه مصلحة تعود لشخص المكلّف ، يتدارك بها ما يفوته من مصلحة

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٢.

(٢) راجع المقصد الثاني : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٣) العدّة ١ : ٢٥ ـ ٢٧.

(٤) نهاية الأصول للعلاّمة الحلّي ، مخطوط.

(٥) كما في فوائد الأصول ٣ : ٩٥ ، و ٤ : ٧٥٨.

٤٠١

الواقع عند الخطأ ، من دون أن تحدث في نفس المؤدّى ـ أي في ذات الفعل والعمل ـ مصلحة ، حتى تستلزم إنشاء حكم آخر غير الحكم الواقعيّ على طبق ما أدّت إليه الأمارة الذي هو نوع من التصويب. (١)

قال رحمه‌الله في رسائله فيما قال : «ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة وجوب ترتيب أحكام الواقع على مؤدّاها ، من دون أن تحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع». (٢)

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ القول بالمصلحة السلوكيّة هو نفس ما ذكرناه في أحد وجهي تصحيح الطريقيّة من فرض مصلحة التسهيل ؛ لأنّ الغرض من القول بالمصلحة السلوكيّة أن تحدث مصلحة في سلوك الأمارة ، تعود تلك المصلحة لشخص المكلّف لتدارك ما يفوته من مصلحة الواقع ، بينما أنّ غرضنا من مصلحة التسهيل مصلحة نوعيّة قد لا تعود لشخص من قامت عنده الأمارة ، وتلك المصلحة النوعيّة مقدّمة في مقام المزاحمة عند الشارع على مصلحة الواقع التي قد تفوت على شخص المكلّف.

وإذا اتّضح الفرق بينهما ، نقول : إنّ القول بالمصلحة السلوكيّة وفرضها يأتي بالمرتبة الثانية للقول بمصلحة التسهيل ، يعني : أنّه إذا لم تثبت عندنا مصلحة التسهيل ، أو قلنا بعدم تقديم المصلحة النوعيّة على المصلحة الشخصيّة ، ولم يصح عندنا أيضا احتمال مساواة خطأ الأمارات للعلوم فإنّا نلتجئ إلى ما سلكه الشيخ من المصلحة السلوكيّة ؛ إذا استطعنا تصحيحها ؛ فرارا من الوقوع في التصويب الباطل.

__________________

(١) إنّ التصويب الباطل ـ على ما بيّنه الشيخ ـ على نحوين : الأوّل : ما ينسب إلى الأشاعرة ، وهو أن يفرض أن لا حكم ثابتا في نفسه يشترك فيه العالم والجاهل ، بل الشارع ينشئ أحكامه على طبق ما تؤدّي إليه آراء المجتهدين. الثاني : ما ينسب إلى المعتزلة ، وهو أن تكون هناك أحكام واقعيّة ثابتة في نفسها ، يشترك فيها العالم والجاهل ، ولكنّ لرأي المجتهد أثرا في تبدّل عنوان موضوع الحكم أو متعلّقه ، فتحدث على وفق ما أدّى إليه رأيه مصلحة غالبة على مصلحة الواقع ، فينشئ الشارع أحكاما ظاهريّة ثانويّة ، غير الأحكام الواقعيّة. وهذا المعنى من التصويب ترجع إليه السببيّة المحضة. وإنّما كان هذا تصويبا باطلا ؛ لأنّ معناه خلوّ الواقع عن الحكم حين قيام الأمارة على خلافه. ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) هذا نصّ كلامه على ما في بعض نسخ فرائد الأصول ، كما في فرائد الأصول (المحشّى) : ٢٨. وفي المطبوع حديثا هكذا : «ومعنى الأمر بالعمل على طبق الأمارة الرخصة في أحكام الواقع على مؤدّاها من دون أن تحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع». فرائد الأصول ١ : ٤٥.

٤٠٢

وأمّا نحن ، فإذ ثبت عندنا أنّ هناك مصلحة التسهيل في جعل الأمارة تفوق المصالح الشخصيّة ومقدّمة عليها عند الشارع أصبحنا في غنى عن فرض المصلحة السلوكيّة ؛ على أنّ المصلحة السلوكيّة إلى الآن لم نتحقّق مراد الشيخ منها ، ولم نجد الوجه لتصحيحها في نفسها ؛ فإنّ في عبارته شيئا من الاضطراب والإيهام ، وكفى أن تقع في بعض النسخ زيادة كلمة «الأمر» على قوله : «إلاّ أنّ العمل على طبق تلك الأمارة» ، فتصير العبارة هكذا «إلاّ أنّ الأمر بالعمل ...» ، (١) فلا يدرى مقصوده ، هل إنّه في نفس العمل مصلحة سلوكيّة أو في الأمر به؟. وقيل : «إنّ هذا التصحيح وقع من بعض تلامذته ؛ إذ أوكل إليه أمر تصحيح العبارة بعد مناقشات تلاميذه لها في مجلس البحث». (٢)

وعلى كلّ حال ، فالظاهر أنّ الفارق عنده بين السببيّة المحضة وبين المصلحة السلوكيّة ـ بمقتضى عبارته قبل التصحيح المذكور ـ أنّ المصلحة على الأوّل تكون قائمة بذات الفعل ، وعلى الثاني قائمة بعنوان آخر هو السلوك ، فلا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل.

ولكنّنا لم نتعقّل هذا الفارق المذكور ؛ لأنّه إنّما يتمّ إذا استطعنا أن نتعقّل لعنوان السلوك عنوانا مستقلاّ في وجوده عن ذات الفعل ، لا ينطبق عليه ، ولا يتّحد معه ، حتى لا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل ، وتصوير هذا في غاية الإشكال. ولعلّ هذا هو السرّ في مناقشة تلاميذه له ، فحمل بعضهم على إضافة كلمة «الأمر» ، (٣) ليجعل المصلحة تعود إلى نفس الأمر ، لا إلى متعلّقه ، فلا يقع التزاحم بين المصلحتين.

وجه الإشكال : أوّلا : أنّنا لا نفهم من عنوان السلوك والاستناد إلى الأمارة إلاّ عنوانا للفعل الذي تؤدّي إليه الأمارة بأيّ معنى فسّرنا السلوك والاستناد ؛ إذ ليس للسلوك ومتابعة الأمارة وجود آخر مستقلّ ، غير نفس وجود الفعل المستند إلى الأمارة.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٤. وقال في فوائد الأصول ٣ : ٩٨ : «إنّ زيادة لفظ «الأمر» ممّا لا حاجة إليه». وقال المحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ١٣٦ : «إنّ ما في بعض نسخ فرائد الشيخ الأجلّ قدس‌سره من فرض المصلحة في الأمر غير صحيح».

(٢) راجع فوائد الأصول ٣ : ٩٨.

(٣) ومراده من «بعضهم» بعض أصحاب الشيخ ، كما في فوائد الأصول ٣ : ٩٨.

٤٠٣

نعم ، إذا أردنا من الاستناد إلى الأمارة معنى آخر ، وهو الفعل القصديّ من النفس ، فإنّ له وجودا آخر غير وجود الفعل ؛ لأنّه فعل قلبيّ جوانحيّ لا وجود له إلاّ وجودا قصديّا. ولكنّه من البعيد جدّا أن يكون ذلك غرض الشيخ من السلوك ؛ لأنّ هذا الفعل القلبيّ إنّما يصحّ أن يفرض وجوبه في خصوص الأمور العباديّة ؛ ولا معنى للالتزام بوجوب القصد في جميع أفعال الإنسان المستند فعلها إلى الأمارة.

ثانيا : على تقدير تسليم اختلافهما وجودا ؛ فإنّ قيام المصلحة بشيء إنّما يدعو إلى تعلّق الأمر به ، لا بشيء آخر غيره وجودا ، وإن كانا متلازمين في الوجود. فمهما فرضنا من معنى للسلوك ـ وإن كان بمعنى الفعل القلبيّ ـ فإنّه إذا كانت المصلحة المقتضية للأمر قائمة به ، فكيف يصحّ توجيه الأمر إلى ذات الفعل ، والمفروض أنّ له وجودا آخر لم تقم به المصلحة؟!

وأمّا : إضافة كلمة «الأمر» على عبارة الشيخ فهي بعيدة جدّا عن مراده وعباراته الأخرى.

تمرينات (٥١)

التمرين الأوّل :

١. ما هي الشبهة العويصة في صحّة جعل الأمارة؟ وما الجواب عنها؟

٢. ما هو غرض الشارع في الترخيص في اتّباع الأمارات الخاصّة؟

٣. ما هو معنى كون الأمارة طريقا؟ وما هو معنى كونها سببا؟

٤. هل الأمارة حجّة على نحو الطريقيّة ، أو أنّها حجّة على نحو السببيّة؟ وعلى أيّ تقدير ، فما الدليل عليه؟

٥. ما معنى قول المصنّف : «إنّ الطريقيّة هي الأصل»؟

٦. اذكر ما يستدلّ به على السببيّة ، واذكر الجواب عنه.

٧. ما هو القول بالمصلحة السلوكيّة؟ وهل يكون مصحّحا لجعل الأمارة؟

٨. ما الفرق بين المصلحة السلوكية ، ومصلحة التسهيل؟

التمرين الثاني :

١. ما هو معنى التصويب؟ وما الفرق بين التصويب الأشعري وبين التصويب المعتزلي؟ أيّهما كان تصويبا باطلا؟

٤٠٤

١٥. الحجّيّة أمر اعتباريّ أو انتزاعيّ؟

من الأمور التي وقعت موضع البحث أيضا عند المتأخّرين مسألة أنّ الحجّيّة هل هي من الأمور الاعتباريّة المجعولة بنفسها وذاتها ، أو أنّها من الانتزاعيّات التي تنتزع من المجعولات؟

وهذا النزاع في الحجّيّة فرع ـ في الحقيقة ـ على النزاع في أصل الأحكام الوضعيّة. وهذا النزاع في خصوص الحجّيّة ـ على الأقلّ ـ لم أجد له ثمرة عمليّة في الأصول.

على أنّ هذا النزاع في أصله غير محقّق ، ولا مفهوم له ؛ لأنّ لكلمتي : «الاعتباريّة» و «الانتزاعيّة» مصطلحات كثيرة ، في بعضها تكون الكلمتان متقابلتين ، وفي البعض الآخر متداخلتين. وتفصيل ذلك يخرجنا عن وضع الرسالة. (١)

ونكتفي أن نقول ـ على سبيل الاختصار ـ : إنّ الذي يظهر من أكثر كلمات المتنازعين في المسألة أنّ المراد من الأمر الانتزاعيّ هو المجعول ثانيا وبالعرض في مقابل المجعول أوّلا وبالذات ، بمعنى أنّ الإيجاد والجعل الاعتباريّ ينسب أوّلا وبالذات إلى شيء هو المجعول حقيقة ، ثمّ ينسب الجعل ثانيا وبالعرض إلى شيء آخر ، فالمجعول الأوّل هو الأمر الاعتباريّ ، والثاني هو الأمر الانتزاعيّ ، فيكون هناك جعل واحد ينسب إلى الأوّل بالذات ، وإلى الثاني بالعرض ، لا أنّه هناك جعلان واعتباران ينسب أحدهما إلى شيء ابتداء وينسب ثانيهما إلى آخر بتبع الأوّل ؛ فإنّ هذا ليس مراد المتنازعين قطعا.

فيقال في الملكيّة مثلا ـ التي هي من جملة موارد النزاع ـ : إنّ المجعول أوّلا وبالذات هو إباحة تصرّف الشخص بالشيء المملوك ، فينتزع منها أنّه مالك ـ أي إنّ الجعل ينسب ثانيا وبالعرض إلى الملكيّة ـ. فالملكيّة يقال لها : «إنّها مجعولة بالعرض». ويقال لها : «إنّها منتزعة من الإباحة». هذا إذا قيل : «إنّ الملكية انتزاعيّة» ، أمّا : إذا قيل : «إنّها اعتبارية» فتكون عندهم هي المجعولة أوّلا وبالذات للشارع أو العرف.

وعلى هذا ، فإذا أريد من الانتزاعيّ هذا المعنى فالحقّ أنّ الحجّيّة أمر اعتباريّ ، وكذلك

__________________

(١) وإن شئت فراجع فوائد الأصول ٤ : ٣٨٠ ـ ٣٨٢ ؛ مصباح الأصول ٣ : ٧٩.

٤٠٥

الملكيّة ، والزوجيّة ، ونحوها من الأحكام الوضعيّة. وشأنها في ذلك شأن الأحكام التكليفيّة المسلّم فيها أنّها من الاعتباريّات الشرعيّة.

توضيح ذلك أنّ حقيقة الجعل هو الإيجاد. والإيجاد على نحوين :

١. ما يراد منه إيجاد الشيء حقيقة في الخارج. ويسمّى : «الجعل التكوينيّ» أو «الخلق».

٢. ما يراد منه إيجاد الشيء اعتبارا وتنزيلا ، وذلك بتنزيله منزلة الشيء الخارجيّ الواقعيّ من جهة ترتيب أثر من آثاره ، أو لخصوصيّة فيه من خصوصيّات الأمر الواقعيّ. ويسمّى «الجعل الاعتباريّ» ، أو «التنزيليّ» ، وليس له واقع إلاّ الاعتبار والتنزيل ، وإن كان نفس الاعتبار أمرا واقعيّا حقيقيّا ، لا اعتباريّا ، مثلا حينما يقال : «زيد أسد» ، فإنّ الأسد مطابقه الحقيقيّ هو الحيوان المفترس المخصوص ، وهو ـ طبعا ـ مجعول ومخلوق بالجعل والخلق التكوينيّ. ولكنّ العرف يعتبرون الشجاع أسدا ، فزيد أسد اعتبارا وتنزيلا من قبل العرف من جهة ما فيه من خصوصيّة الشجاعة كالأسد الحقيقيّ.

ومن هذا المثال يظهر كيف أنّ الأحكام التكليفيّة اعتبارات شرعيّة ؛ لأنّ الآمر حينما يريد من شخص أن يفعل فعلا ما فبدلا عن أن يدفعه بيده ـ مثلا ـ ليحرّكه نحو العمل ينشئ الأمر بداعي جعل الداعي في دخيلة (١) نفس المأمور. فيكون هذا الإنشاء للآمر دفعا وتحريكا اعتباريّا ؛ تنزيلا له منزلة الدفع الخارجيّ باليد مثلا. وكذلك النهي زجر اعتباريّ ؛ تنزيلا له منزلة الردع والزجر الخارجيّ باليد مثلا.

وكذلك يقال في حجّيّة الأمارة المجعولة ؛ فإنّ القطع لمّا كان موصلا إلى الواقع حقيقة ، وطريقا بنفسه إليه فالشارع يعتبر الأمارة الظنّيّة طريقا إلى الواقع ؛ تنزيلا لها منزلة القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف ، فتكون الأمارة قطعا اعتباريّا ، وطريقا تنزيليّا.

ومتى صحّ وأمكن أن تكون الحجّيّة هي المعتبرة أوّلا وبالذات فما الذي يدعو إلى فرضها مجعولة ثانيا وبالعرض ، حتى تكون أمرا انتزاعيّا؟! إلاّ أن يريدوا من الانتزاعيّ

__________________

(١) أي : باطنه.

٤٠٦

معنى آخر ، وهو ما يستفاد من دليل الحكم على نحو الدلالة الالتزاميّة ، كأن تستفاد الحجّيّة للأمارة من الأمر باتّباعها ، مثل ما لو قال الإمام عليه‌السلام : «صدّق العادل» الذي يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على حجّيّة خبر العادل ، واعتباره عند الشارع. وهذا المعنى للانتزاعيّ صحيح ، ولا مانع من أن يقال للحجّيّة : «إنّها أمر انتزاعيّ بهذا المعنى» ، ولكنّه بعيد عن مرامهم ؛ لأنّ هذا المعنى من الانتزاعيّة لا يقابل الاعتباريّة بالمعنى الذي شرحناه.

وعلى كلّ حال ، فدعوى انتزاعيّة الحجّيّة ـ بأيّ معنى للانتزاعيّ ـ لا موجب لها ، لا سيّما إن لم يتّفق ورود أمر من الشارع باتّباع أمارة من الأمارات في جميع ما بأيدينا من الآيات والروايات ، حتى يفرض أنّ الحجّيّة منتزعة من ذلك الأمر.

هذا كلّ ما أردنا بيانه من المقدّمات قبل الدخول في المقصود. والآن نشرع في البحث عن المقصود ، وهو تشخيص الأدلّة التي هي حجّة على الأحكام الشرعيّة من قبل الشارع المقدّس. ونضعها في أبواب.

تمرينات (٥٢)

١. هل الحجيّة أمر اعتباريّ ، أو انتزاعيّ؟

٢. ما الفرق بين الجعل التكوينيّ والجعل الاعتباريّ؟

٤٠٧
٤٠٨

الباب الأوّل

الكتاب العزيز

تمهيد

إنّ القرآن الكريم هو المعجز الخالد لنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والموجود بأيدي الناس بين الدفّتين هو الكتاب المنزل إلى الرسول بالحقّ ، لا ريب فيه ، هدى ، ورحمة (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ). (١)

فهو ـ إذن ـ الحجّة القاطعة بيننا وبينه (تعالى) ، التي لا شكّ ولا ريب فيها ، وهو المصدر الأوّل لأحكام الشريعة الإسلاميّة بما تضمّنته آياته من بيان ما شرعه الله (تعالى) للبشر. وأمّا ما سواه ـ من سنّة أو إجماع أو عقل ـ فإليه ينتهي ، ومن منبعه يستقي.

ولكنّ الذي يجب أن يعلم أنّه قطعيّ الحجّة من ناحية الصدور فقط ؛ لتواتره عند المسلمين جيلا بعد جيل. وأمّا من ناحية الدلالة فليس قطعيّا كلّه ؛ لأنّ فيه متشابها ، ومحكما.

ثمّ «المحكم» منه ما هو نصّ ـ أي قطعيّ الدلالة ـ ، ومنه ما هو ظاهر تتوقّف حجّيّته على القول بحجّيّة الظواهر.

ومن الناس من لم يقل بحجّيّة ظاهره خاصّة ، (٢) وإن كانت الظواهر حجّة.

ثمّ إنّ فيه ناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومطلقا ومقيّدا ، ومجملا ومبيّنا ، وكلّ ذلك لا يجعله قطعيّ الدلالة في كثير من آياته. (٣)

__________________

(١) يونس (١٠) الآية : ٣٧.

(٢) منهم المحدّث الاسترآباديّ في الفوائد المدنيّة : ١٢٨ ، والمحدّث البحرانيّ في الدرر النجفيّة : ١٧٤.

(٣) أي كلّ ذلك أمور تمنع عن كون القرآن قطعيّ الدلالة في كثير من آياته.

٤٠٩

ومن أجل ذلك وجب البحث عن هذه النواحي لتكميل حجّيّته. وأهمّ ما يجب البحث عنه من ناحية أصوليّة في أمور ثلاثة :

١. في حجّيّة ظواهره. وهذا بحث ينبغي أن يلحق بمباحث الظواهر ، الآتية ، فلنرجئه (١) إلى هناك.

٢. في جواز تخصيصه وتقييده بحجّة أخرى ، كخبر الواحد ونحوه. وقد تقدّم البحث عنه. (٢)

٣. في جواز نسخه. والبحث عن ذلك ليس فيه كثير فائدة في الفقه ، كما ستعرف ، ومع ذلك ينبغي ألاّ يخلو كتابنا من الإشارة إليه بالاختصار ، فنقول :

نسخ الكتاب العزيز

حقيقة النسخ

النسخ اصطلاحا : رفع ما هو ثابت في الشريعة من الأحكام ونحوها.

والمراد من «الثبوت في الشريعة» الثبوت الواقعيّ الحقيقيّ في مقابل الثبوت الظاهريّ بسبب الظهور اللفظيّ. ولذلك ، فرفع الحكم ـ الثابت بظهور العموم أو الإطلاق ـ بالدليل المخصّص أو المقيّد لا يسمّى نسخا ، بل يقال له : «تخصيص» ، أو «تقييد» ، أو نحوهما ، باعتبار أنّ هذا الدليل الثاني المقدّم على ظهور الدليل الأوّل يكون قرينة عليه ، وكاشفا عن المراد الواقعيّ للشارع ، فلا يكون رافعا للحكم إلاّ ظاهرا ، ولا رفع فيه للحكم حقيقة ، بخلاف النسخ.

ومن هنا يظهر الفرق الحقيقيّ بين النسخ وبين التخصيص والتقييد. وسيأتي مزيد إيضاح لهذه الناحية في جواب الاعتراضات على النسخ.

و [أمّا] قولنا : «من الأحكام ونحوها» ، فلبيان تعميم النسخ للأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، ولكلّ أمر بيد الشارع رفعه ووضعه بالجعل التشريعيّ بما هو شارع.

__________________

(١) أي : نؤخّره.

(٢) راجع المقصد الأوّل : ١٧٧ ـ ١٧٨.

٤١٠

وعليه ، فلا يشمل النسخ الاصطلاحيّ المجعولات التكوينيّة التي بيده رفعها ووضعها بما هو خالق الكائنات.

والنسخ بهذا التعبير يشمل نسخ تلاوة القرآن الكريم على القول به ؛ باعتبار أنّ القرآن من المجعولات الشرعيّة التي ينشئها الشارع بما هو شارع ، وإن كان لنا كلام في دعوى نسخ التلاوة من القرآن ، ليس هذا موضع تفصيله ، ولكن ـ بالاختصار ـ نقول : إنّ نسخ التلاوة ـ في الحقيقة ـ يرجع إلى القول بالتحريف ؛ لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعيّ ، سواء كان نسخا لأصل التلاوة ، أو نسخا لها ولما تضمّنته من حكم معا (١) ، وإن كان في القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة ، كقوله (تعالى) : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) (٢) ، وقوله (تعالى) : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (٣). ولكن ليستا صريحتين بوقوع ذلك ، ولا ظاهرتين ، وإنّما أكثر ما تدلّ عليه الآيتان إمكان وقوعه.

إمكان نسخ القرآن

قد وقعت عند بعض الناس (٤) شبهات في إمكان أصل النسخ (٥) ، ثمّ في إمكان نسخ القرآن خاصّة. وتنويرا للأذهان نشير إلى أهمّ الشبه ودفعها ، فنقول :

١. قيل : «إنّ المرفوع في النسخ إمّا حكم ثابت ، أو ما لا ثبات له. والثابت يستحيل

__________________

(١) قال السيّد المرتضى : «ومثال نسخ التلاوة دون الحكم ، غير مقطوع به ؛ لأنّه من جهة خبر الآحاد» ، ثمّ قال : «ومثال نسخ الحكم والتلاوة معا موجود ـ أيضا ـ في أخبار الآحاد». الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٢٩.

(٢) النحل (١٦) الآية : ١٠١.

(٣) البقرة (٢) الآية : ١٠٦.

(٤) والمراد من «بعض الناس» هو جماعة من اليهود ، والنصارى ، وأبو مسلم الأصفهانيّ المعتزليّ من المسلمين ، على ما في الفصول الغرويّة : ٢٣٣ ، ومفاتيح الأصول : ٢٤٦ ، وفواتح الرحموت (المستصفى ٢ : ٥٥) ، والإحكام (للآمدي) ٣ : ١٦٥ ، ومبادئ الوصول : ١٧٥ ـ ١٧٦.

وقد ينسب عدم إمكان النسخ في الشرائع جميعا إلى اليهود ، وعدم إمكانه في القرآن خاصّة إلى أبي مسلم الأصفهانيّ ، كما في إرشاد الفحول : ١٨٥.

(٥) أي في إمكان النسخ في مطلق الشرائع ، أو مطلق الحكم.

٤١١

رفعه ، وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه. وعلى هذا ، فلا بدّ أن يؤوّل النسخ بمعنى رفع مثل الحكم ، لا رفع عينه ، أو بمعنى انتهاء أمد الحكم».

والجواب : أنّا نختار الشقّ الأوّل ـ وهو أنّ المرفوع ما هو ثابت ـ ، ولكن ليس معنى رفع الثابت رفعه بما هو عليه من حالة الثبوت وحين فرض ثبوته ، حتى يكون ذلك مستحيلا ، بل هو من باب إعدام الموجود ، وليس إعدام الموجود بمستحيل.

والأحكام لمّا كانت مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة فإنّ قوام الحكم يكون بفرض الموضوع موجودا ، ولا يتوقّف على ثبوته خارجا تحقيقا ، فإذا أنشئ الحكم كذلك فهو ثابت في عالم التشريع والاعتبارات بثبوت الموضوع فرضا ، ولا يرتفع إلاّ برفعه تشريعا.

وهذا هو معنى رفع الحكم الثابت ، وهو النسخ.

٢. وقيل : «إنّ ما أثبته الله (تعالى) من الأحكام لا بدّ أن يكون لمصلحة أو مفسدة في متعلّق الحكم. وما له مصلحة في ذاته لا ينقلب ، فيكون ذا مفسدة ، وكذلك العكس ، وإلاّ لزم انقلاب الحسن قبيحا ، والقبيح حسنا ، وهو محال. وحينئذ يستحيل النسخ ؛ لأنّه يلزم منه هذا الانقلاب المستحيل ، أو عدم حكمة الناسخ ، أو جهله بوجه الحكمة. والأخيران مستحيلان بالنسبة إلى الشارع المقدّس».

والجواب واضح ، بعد معرفة ما ذكرناه في الجزء الثاني في المباحث العقليّة من معاني الحسن والقبيح (١) ؛ فإنّ المستحيل انقلاب الحسن والقبيح الذاتيّين ، ولا معنى لقياسهما على المصالح والمفاسد التي تتبدّل وتتغيّر بحسب اختلاف الأحوال والأزمان. ولا يبعد أن يكون الشيء ذا مصلحة في زمان ، ذا مفسدة في زمان آخر وإن كان لا يعلم ذلك إلاّ من قبل الشارع العالم المحيط بحقائق الأشياء. وهذا غير معنى الحسن والقبح اللذين نقول فيهما : إنّه يستحيل فيهما الانقلاب.

مضافا إلى أنّ الأشياء تختلف فيها وجوه الحسن والقبح باختلاف الأحوال ممّا لم يكن (٢) الحسن والقبح فيه ذاتيّين ـ كما تقدّم هناك ـ (٣) ، وإذا كان الأمر كذلك فمن الجائز أن يكون

__________________

(١) راجع المقصد الثاني : ٢٢٦ ـ ٢٢٩.

(٢) قوله : «ممّا لم يكن ...» بيان عن قوله : «الأشياء».

(٣) تقدّم في المقصد الثاني : ٢٣٠.

٤١٢

[متعلّق] الحكم المنسوخ ذا مصلحة ، ثمّ زالت في الزمان الثاني فنسخ ، أو كان ينطبق عليه عنوان حسن ثمّ زال عنه [ذلك] العنوان في الزمان الثاني فنسخ. فهذه هي الحكمة في النسخ.

٣. وقيل : «إذا كان النسخ ـ كما قلتم ـ لأجل انتهاء أمد المصلحة فينتهي أمد الحكم بانتهائها ، فإنّه ـ والحال هذه ـ إمّا أن يكون الشارع الناسخ قد علم بانتهاء أمد المصلحة من أوّل الأمر ، وإمّا أن يكون جاهلا به. لا مجال للثاني ؛ لأنّ ذلك مستحيل في حقّه (تعالى) ، وهو البداء الباطل المستحيل ، فيتعيّن الأوّل. وعليه ، فيكون الحكم في الواقع موقّتا وإن أنشأه الناسخ مطلقا في الظاهر ، ويكون الدليل على النسخ في الحقيقة مبيّنا وكاشفا عن مراد الناسخ. وهذا هو معنى التخصيص ، غاية الأمر يكون تخصيصا بحسب الأوقات لا الأحوال ، فلا يكون فرق بين النسخ والتخصيص إلاّ بالتسمية.»

والجواب : نحن نسلّم أنّ الحكم المنسوخ ينتهي أمده في الواقع ، والله (تعالى) عالم بانتهائه ، ولكن ليس معنى ذلك أنّه موقّت ـ أي مقيّد إنشاء بالوقت ـ بل هو قد أنشئ على طبق المصلحة مطلقا على نحو القضايا الحقيقيّة ، فهو ثابت ما دامت المصلحة ، كسائر الأحكام المنشأة على طبق مصالحها ، فلو قدّر للمصلحة أن تستمرّ لبقي الحكم مستمرّا ، غير أنّ الشارع لمّا علم بانتهاء أمد المصلحة ، رفع الحكم ونسخه وهذا نظير أن يخلق الله (تعالى) الشيء ، ثمّ يرفعه بإعدامه ، وليس معنى ذلك أن يخلقه موقّتا على وجه يكون التوقيت قيدا للخلق والمخلوق بما هو مخلوق ، وإن علم به من الأوّل أنّ أمده ينتهي.

ومن هنا يظهر الفرق ـ جليّا ـ بين النسخ والتخصيص ؛ فإنّه في «التخصيص» يكون الحكم من أوّل الأمر أنشئ مقيّدا ، ومخصّصا ، ولكنّ اللفظ كان عامّا بحسب الظاهر ، فيأتي الدليل المخصّص ، فيكون كاشفا عن المراد ، لا أنّه مزيل ورافع لما هو ثابت في الواقع.

وأمّا : في «النسخ» فإنّه لمّا أنشئ الحكم مطلقا فمقتضاه أن يدوم لو لم يرفعه النسخ ، فالنسخ يكون محوا لما هو ثابت (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ...) (١) ، لا أنّ الدوام والاستمرار مدلول لظاهر الدليل بحسب إطلاقه وعمومه ، والمنشأ في الواقع الحكم الموقّت ، ثمّ يأتي

__________________

(١) الرعد (١٣) الآية : ٣٩.

٤١٣

الدليل الناسخ ، فيكشف عن المراد من الدليل الأوّل ويفسّره ، بل الدوام من اقتضاء نفس ثبوت الحكم من دون أن يكون لفظ دليل الحكم دالاّ عليه بعموم أو إطلاق. يعني : أنّ الحكم المنشأ ـ لو خلّي وطبعه مع قطع النظر عن دلالة دليله ـ لدام واستمرّ ما لم يأت ما يزيله ويرفعه ، كسائر الموجودات التي تقتضي بطبيعتها الاستمرار والدوام.

٤. وقيل : «إنّ كلام الله (تعالى) قديم ، والقديم لا يتصوّر رفعه».

والجواب : ـ بعد تسليم هذا الفرض وهو قدم كلام الله ـ (١) : أنّ هذا يختصّ بنسخ التلاوة ، فلا يكون دليلا على بطلان أصل النسخ. مع أنّه قد تقدّم من نصّ القرآن الكريم ما يدلّ على إمكان نسخ التلاوة ، وإن لم يكن صريحا في وقوعه ، كقوله (تعالى) : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ ...) (٢) ، فهو إمّا أن يدلّ على أنّ كلامه (تعالى) غير قديم ، أو أنّ القديم يمكن رفعه. مضافا إلى أنّه ليس معنى نسخ التلاوة رفع أصل الكلام ، بل رفع تبليغه ، وقطع علاقة المكلّفين بتلاوته.

وقوع نسخ القرآن ، وأصالة عدم النسخ

هذا هو الأمر الذي يهمّنا إثباته من ناحية أصوليّة. ولا شكّ في أنّه قد أجمع علماء الأمّة الإسلاميّة على أنّه لا يصحّ الحكم بنسخ آية من القرآن إلاّ بدليل قطعيّ ، سواء كان بقرآن أيضا ، أو بسنّة ، أو بإجماع (٣) ، كما أنّه ممّا أجمع عليه العلماء أيضا أنّ في القرآن الكريم ناسخا ومنسوخا. وكلّ هذا قطعيّ لا شكّ فيه.

ولكنّ الذي هو موضع البحث والنظر تشخيص موارد الناسخ والمنسوخ في القرآن. وإذا لم يحصل القطع بالنسخ بطل موضع الاستدلال عليه بالأدلّة الظنّيّة ، للإجماع المتقدّم.

__________________

(١) إنّ قدم الكلام في الله يرتبط بمسألة الكلام النفسيّ ، وإنّ من صفات الله (تعالى) الذاتيّة أنّه متكلّم. والحقّ الثابت عندنا بطلان هذا الرأي في أصله ، وما يتفرّع عليه من فروع. وهذا أمر موكول إثباته إلى الفلسفة وعلم الكلام ـ منه قدس‌سره ـ.

(٢) النحل (١٦) الآية : ١٠١.

(٣) وإن شئت فراجع الفصول الغرويّة : ٢٣٧ ؛ مفاتيح الأصول : ٢٦٥ ـ ٢٦٩ ؛ الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٤٦٠ ؛ الإحكام (للآمدي) ٣ : ٢٠٨ ـ ٢١٧ ؛ إرشاد الفحول : ١٩١.

٤١٤

وأمّا : ما ثبت فيه النسخ منه على سبيل الجزم فهو موارد قليلة جدّا ، لا تهمّنا كثيرا من ناحية فقهيّة استدلاليّة ؛ لمكان القطع فيها.

وعلى هذا ، فالقاعدة الأصوليّة التي ننتفع بها ونستخلصها هنا هي أنّ الناسخ إن كان قطعيّا أخذنا به واتّبعناه ، وإن كان ظنّيّا فلا حجّة فيه ، ولا يصحّ الأخذ به ؛ لما تقدّم من الإجماع على عدم جواز الحكم بالنسخ إلاّ بدليل قطعيّ.

ولذا أجمع الفقهاء من جميع طوائف المسلمين على أنّ «الأصل عدم النسخ» عند الشكّ في النسخ ، وإجماعهم هذا ليس من جهة ذهابهم إلى حجّيّة الاستصحاب ، كما ربما يتوهّمه بعضهم ، (١) بل حتى من لا يذهب إلى حجّيّة الاستصحاب يقول بأصالة عدم النسخ ، وما ذلك إلاّ من جهة هذا الإجماع على اشتراط العلم في ثبوت النسخ.

تمرينات (٥٣)

١. ما هي حقيقة النسخ؟

٢. ما الفرق بين النسخ وبين التخصيص والتقييد؟

٣. اذكر الشبهات في إمكان أصل النسخ ، واذكر الجواب عنها؟

٤. اذكر الشبهات في إمكان نسخ القرآن ، واذكر الجواب عنها؟

٥. ما المراد من أصالة عدم النسخ؟

__________________

(١) ولعلّه هو المحقّق النائينيّ ، حيث قال : «وأمّا أصالة عدم النسخ فهي من الأصول العمليّة ، إذ لا مدرك للحكم باستمرار حكم شخصيّ ثابت في مورد ما عند الشكّ في ارتفاعه إلاّ الاستصحاب المجمع على حجيّته». أجود التقريرات ٢ : ٥١٠.

٤١٥
٤١٦

الباب الثاني

السنّة

تمهيد

السنّة (١) في اصطلاح الفقهاء : «قول النبيّ أو فعله أو تقريره» (٢).

ومنشأ هذا الاصطلاح أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله باتّباع سنّته ، (٣) فغلبت كلمة «السنّة» حينما تطلق ـ مجرّدة عن نسبتها إلى أحد ـ على خصوص ما يتضمّن بيان حكم من الأحكام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سواء كان ذلك بقول أو فعل أو تقرير ، على ما سيأتي من ذكر مدى ما يدلّ الفعل والتقرير على بيان الأحكام. (٤)

أمّا : فقهاء الإماميّة بالخصوص فلمّا ثبت لديهم أنّ المعصوم من آل البيت عليهم‌السلام يجري قوله مجرى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من كونه حجّة على العباد واجب الاتّباع ، فقد توسّعوا في اصطلاح السنّة إلى ما يشمل قول كلّ واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره ، فكانت السنّة باصطلاحهم : «قول المعصوم أو فعله أو تقريره». (٥)

والسرّ في ذلك أنّ الأئمّة من آل البيت عليهم‌السلام ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمحدّثين عنه ليكون قولهم حجّة من جهة أنّهم ثقاة في الرواية ، بل لأنّهم هم المنصوبون

__________________

(١) وهي في اللغة : الطريقة.

(٢) هذا معناها في اصطلاح علماء العامّة. راجع الإحكام (للآمدي) ١ : ٢٤١ ؛ فواتح الرحموت «المستصفى» ٢ : ٩٦ ؛ أصول الفقه (للخضري بك) : ٢١٤ ؛ نهاية السئول ٣ : ٣ ؛ إرشاد الفحول : ٣٣.

(٣) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به». بحار الأنوار ٢ : ٢٢٥.

(٤) يأتي في الصفحات الآتية قريبا.

(٥) كما في قوانين الأصول ١ : ٤٠٩.

٤١٧

من الله (تعالى) على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لتبليغ الأحكام الواقعيّة ، (١) فلا يحكون إلاّ عن الأحكام الواقعيّة عند الله (تعالى) كما هي ، وذلك من طريق الإلهام ، كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من طريق الوحي ، أو من طريق التلقّي من المعصوم قبله ، كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ينفتح لي من كلّ باب ألف باب». (٢)

وعليه ، فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنّة وحكايتها ، ولا من نوع الاجتهاد في الرأي والاستنباط من مصادر التشريع ، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع ، فقولهم سنّة ، لا حكاية السنّة.

وأمّا : ما يجيء على لسانهم أحيانا من روايات وأحاديث عن نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي إمّا لأجل نقل النصّ عنه ، كما يتّفق في نقلهم لجوامع كلمه ، وإمّا لأجل إقامة الحجّة على الغير ، وإمّا لغير ذلك من الدواعي.

وأمّا : إثبات إمامتهم وأنّ قولهم يجري مجرى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو بحث يتكفّل به علم الكلام. (٣)

وإذا ثبت أنّ السنّة ـ بما لها من المعنى الواسع الذي عندنا ـ هي مصدر من مصادر التشريع الإسلاميّ ، فإن حصل عليها الإنسان بنفسه بالسماع من نفس المعصوم ومشاهدته فقد أخذ الحكم الواقعيّ من مصدره الأصليّ على سبيل الجزم واليقين من ناحية السند ، كالأخذ من القرآن الكريم ثقل الله الأكبر ، والأئمّة من آل البيت عليهم‌السلام ثقله الأصغر. (٤)

__________________

(١) يدلّ عليه ما يدلّ على إمامتهم. فراجع الكافي ١ : ١٨٩ و ٢١٥ و ٢٨٦ ـ ٢٨٨ و ٣٣٦ و ٥٢٧ ـ ٥٢٨ ؛ مصابيح السنّة ٤ : ١٣٧ ؛ كمال الدين ١ : ٢٥٢ و ٢٦٢ ؛ كفاية الأثر : ١٠ ـ ١١.

(٢) لم أجده في المصادر الحديثيّة بهذه العبارة. وأمّا مضمونه ، بل متنه مع اختلاف يسير موجود في المصادر الحديثيّة للإماميّة والعامّة. فراجع بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٨ ؛ إحقاق الحقّ ٦ : ٤٠ ـ ٤٣ ؛ سليم بن قيس : ٢١٣ ؛ كشف الغمّة ١ : ١٧٧.

(٣) وإن شئت فراجع كشف المراد : ٣٦٤ ـ ٣٧٢ و ٣٩٧ ؛ النافع يوم الحشر : ٤٤ ـ ٥٠ ؛ مفتاح الباب : ١٨٧ ـ ٢٠٥ ؛ الحاشية على إلهيات الشرح الجديد للتجريد : ٢٠٩ ـ ٢٤٥ و ٤١٤ ـ ٤٤٦.

(٤) كما يدلّ عليه حديث الثقلين الذي هو من المتواترات. فراجع المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٠٩ ؛ ـ

٤١٨

أمّا : إذا لم يحصل ذلك لطالب الحكم الواقعيّ ـ كما في العهود المتأخّرة عن عصرهم ـ فإنّه لا بدّ له في أخذ الأحكام من طريق أن يرجع ـ بعد القرآن الكريم ـ إلى الأحاديث التي تنقل السنّة ، إمّا من طريق التواتر ، أو من طريق أخبار الآحاد على الخلاف الذي سيأتي في مدى حجّيّة أخبار الآحاد. (١)

وعلى هذا ، فالأحاديث ليست هي السنّة ، بل هي الناقلة لها ، والحاكية عنها ، ولكن قد تسمّى بالسنّة ، توسّعا من أجل كونها مثبتة لها.

ومن أجل هذا يلزمنا البحث عن الأخبار في باب السنّة ؛ لأنّه يتعلّق ذلك بإثباتها.

ونعقد الفصل في مباحث أربعة :

١. دلالة فعل المعصوم

لا شكّ في أنّ فعل المعصوم ـ بحكم كونه معصوما ـ يدلّ على إباحة الفعل على الأقلّ ، كما أنّ تركه لفعل يدلّ على عدم وجوبه على الأقلّ. ولا شكّ في أنّ هذه الدلالة بهذا الحدّ أمر قطعيّ ليس موضعا للشبهة بعد ثبوت عصمته.

ثمّ نقول بعد هذا : إنّه قد يكون لفعل المعصوم من الدلالة ما هو أوسع من ذلك ، وذلك فيما إذا صدر منه الفعل محفوفا بالقرينة ، كأن يحرز أنّه في مقام بيان حكم من الأحكام ، أو عبادة من العبادات ، كالوضوء ، والصّلاة ، ونحوها ؛ فإنّه حينئذ يكون لفعله ظهور في وجه الفعل من كونه واجبا ، أو مستحبّا ، أو غير ذلك ، حسبما تقتضيه القرينة.

ولا شبهة في أنّ هذا الظهور حجّة ، كظواهر الألفاظ بمناط واحد ، وكم استدلّ الفقهاء على حكم أفعال الوضوء ، والصلاة ، والحجّ ، وغيرها ، وكيفيّاتها بحكاية فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الإمام في هذه الأمور.

كلّ هذا لا كلام ولا خلاف لأحد فيه. وإنّما وقع الكلام للقوم في موضعين :

__________________

ـ حلية الأولياء ١ : ٣٥٥ ؛ إحقاق الحقّ ٤ : ٤٢٦ ـ ٤٤٣ و ٩ : ٣٠٩ ـ ٣٧٥ ؛ مجمع الزوائد ٩ : ١٦٣ ؛ أسد الغابة ٣ : ١٤٧ ؛ صحيح الترمذي ٥ : ٦٦٣ ، وغيرها من المصادر الروائيّة.

(١) يأتي في الصفحتين : ٧٢ ـ ٧٤ من هذا الجزء.

٤١٩

١ ـ في دلالة فعل المعصوم (١) ، المجرّد عن القرائن على أكثر من إباحة الفعل. فقد قال بعضهم : «إنّه يدلّ بمجرّده على وجوب الفعل بالنسبة إلينا» (٢). وقيل : «يدلّ على استحبابه» (٣). وقيل : «لا دلالة له على شيء منهما ، أي إنّه لا يدلّ على أكثر من إباحة الفعل في حقّنا» (٤).

والحقّ هو الأخير ؛ لعدم ما يصلح أن يجعل له مثل هذه الدلالة.

وقد يظنّ ظانّ أنّ قوله (تعالى) في سورة الأحزاب (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (٥) يدلّ على وجوب التأسّي والاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أفعاله. ووجوب الاقتداء بفعله يلزم منه وجوب كلّ فعل يفعله في حقّنا وإن كان بالنسبة إليه لم يكن واجبا ، إلاّ ما دلّ الدليل الخاصّ على عدم وجوبه في حقّنا (٦).

وقيل : «إنّه إن لم تدلّ الآية على وجوب الاقتداء فعلى الأقلّ تدلّ على حسن الاقتداء ، به واستحبابه» (٧).

وقد أجاب العلاّمة الحلّيّ قدس‌سره عن هذا الوهم ، فأحسن ـ كما نقل عنه ـ ، إذ قال : «إنّ الأسوة : عبارة عن الإتيان بفعل الغير ؛ لأنّه فعله على الوجه الذي فعله ، فإن كان واجبا تعبّدنا بإيقاعه واجبا ، وإن كان مندوبا تعبّدنا بإيقاعه مندوبا ، وإن كان مباحا تعبّدنا

__________________

(١) أي فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عند العامّة ، وفعله وفعل فاطمة والأئمّة عليهم‌السلام عند الإماميّة.

(٢) هذا منسوب إلى جماعة من المعتزلة وابن سريج ، وأبي سعيد الاصطخري ، وابن خيران ، وابن أبي هريرة من العامّة. راجع إرشاد الفحول : ٣٦ ؛ الإحكام (للآمدي) ١ : ٢٤٨.

ونسبه الشيخ الطوسيّ إلى مالك وأصحابه ، وطائفة من الشافعيّة ، فراجع العدّة ٢ : ٥٧٥.

(٣) من القائلين به المحقّق القميّ ، وصاحب الفصول. راجع قوانين الأصول ١ : ٤٩٠ ، والفصول الغرويّة : ٣١٣. وهذا القول قد ينسب إلى الشافعي ، كما في إرشاد الفحول : ٣٧ ، ونهاية السئول ٣ : ١٦ ، والإحكام (للآمدي) : ١ : ٢٤٨.

(٤) وهذا منسوب إلى مالك من العامّة. راجع الإحكام (للآمدي) ١ : ٢٤٨ ؛ نهاية السئول ٣ : ١٦ ـ ١٧ ؛ مبادئ الوصول : ١٦٨.

(٥) الأحزاب (٣٣) الآية : ٢١.

(٦) هذا ما ظنّه القائلون بدلالة فعل المعصوم على وجوب الفعل بالنسبة إلينا.

(٧) هذا ما قال به صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٣١٣.

٤٢٠