اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليّين المتأخّرين ، (١) أم أنّ المراد أنّ طريقيّته ذاتيّة؟

وإنّما صحّ أن يسأل هذا السؤال ، فمن أجل قياسه على الظنّ حينما نقول : «إنّه حجّة» ، فإنّ فيه جهتين :

١. جهة طريقيّته للواقع : فحينما نقول : «إنّ حجّيّته مجعولة» ، نقصد أنّ طريقيّته مجعولة ؛ لأنّها ليست ذاتيّة له ؛ لوجود احتمال الخلاف. فالشارع يجعله طريقا إلى الواقع ؛ بإلغاء احتمال الخلاف ، كأنّه لم يكن ، فتتمّ بذلك طريقيّته الناقصة ليكون كالقطع في الإيصال إلى الواقع. وهذا المعنى هو المجعول للشارع.

٢. جهة وجوب متابعته : فحينما نقول : «إنّه حجّة» ، نقصد أنّ الشارع أمر بوجوب متابعة ذلك الظنّ ، والأخذ به ، أمرا مولويّا ؛ فينتزع من هذا الأمر أنّ هذا الظنّ موصل إلى الواقع ، ومنجّز له ؛ فيكون المجعول هذا الوجوب ، ويكون هذا معنى حجّيّة الظنّ.

وإذا كان هذا حال الظنّ فالقطع ينبغي أن يكون له أيضا هاتان الجهتان ، فنلاحظهما حينما نقول ـ مثلا ـ : «إنّ حجّيّته ذاتيّة» إمّا من جهة كونه طريقا بذاته ، وإمّا من جهة وجوب متابعته لذاته.

ولكن في الحقيقة أنّ التعبير بوجوب متابعة القطع لا يخلو عن مسامحة ظاهرة ، منشؤها ضيق العبارة عن المقصود ؛ إذ يقاس على الظنّ. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّه ليس للقطع متابعة مستقلّة غير الأخذ بالواقع المقطوع به ، فضلا عن أن يكون لهذه المتابعة وجوب مستقلّ غير نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به ـ أي وجوب طاعة الواقع المنكشف بالقطع من وجوب ، أو حرمة ، أو نحوهما ـ ؛ إذ ليس وراء انكشاف الواقع شيء ينتظره الإنسان ، فإذا انكشف الواقع له فلا بدّ أن يأخذ به.

وهذه اللابدّيّة لابدّيّة عقليّة (٢) منشؤها أنّ القطع بنفسه طريق إلى الواقع ، وعليه ، فيرجع

__________________

(١) كالمحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٣ : ٦.

(٢) هذه اللابدّيّة العقليّة هي نفس وجوب الطاعة الذي هو وجوب عقليّ ؛ لأنّه داخل في الآراء المحمودة التي تتطابق عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء ، كما شرحناه في الجزء الثاني * ـ منه قدس‌سره ـ.

__________________

* راجع المقصد الثاني : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٣٨١

التعبير بوجوب متابعة القطع إلى معنى كون القطع بنفسه طريقا إلى الواقع ، وأنّ نفسه نفس انكشاف الواقع ، فالجهتان فيه جهة واحدة في الحقيقة.

وهذا هو السرّ في تعليل الشيخ الأعظم الأنصاريّ رحمه‌الله لوجوب متابعته بكونه (١) طريقا بذاته ، ولم يتعرّض في التعليل لنفس الوجوب. ومن أجل هذا ركز البحث كلّه على طريقيّته الذاتيّة.

ويظهر لنا ـ حينئذ ـ أنّه لا معنى لأن يقال في تعليل حجّيّته الذاتيّة : «إنّ وجوب متابعته أمر ذاتيّ له».

وإذا اتّضح ما تقدّم وجب علينا توضيح معنى كون القطع طريقا ذاتيّا ، وهو كلّ البحث عن حجّيّة القطع ، وما وراءه من الكلام فكلّه فضول ، وعليه فنقول :

تقدّم أنّ القطع حقيقته انكشاف الواقع ؛ لأنّه حقيقة نوريّة محضة لا غطش (٢) فيها ، ولا احتمال للخطإ يرافقها ؛ فالعلم نور لذاته [و] نور لغيره ، فذاته نفس الانكشاف (٣) لا أنّه شيء له الانكشاف. (٤)

وقد عرفتم في مباحث الفلسفة أنّ الذات أو الذاتيّ يستحيل جعله بالجعل التأليفيّ ؛ (٥) لأنّ جعل شيء لشيء إنّما يصحّ أن يفرض فيما يمكن فيه التفكيك بين المجعول والمجعول له. وواضح أنّه يستحيل التفكيك بين الشيء وذاته ـ أي بين الشيء ونفسه ـ وكذا بينه وبين ذاتيّاته. وهذا معنى قولهم المشهور : «الذاتيّ لا يعلّل» (٦) وإنّما المعقول من

__________________

(١) أي القطع. واختلفت كلمات المتأخّرين في معنى وجوب متابعة القطع ، فراجع الحاشية على الرسائل «للمحقّق الخراسانيّ» : ٤ ؛ نهاية الدراية ٢ : ٣١ ؛ نهاية الأفكار ٣ : ٧ ؛ فوائد الأصول ٣ : ٦.

(٢) الغطش : الظلمة.

(٣) كما قال به المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٣ : ٦ ـ ٧ ، والمحقّق الأصفهانيّ في نهاية الدراية ٢ : ٣١ ، والعلاّمة العراقيّ في نهاية الأفكار ٣ : ٦.

(٤) كما يظهر من كلام المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٢٩٧.

(٥) اعلم أنّ الجعل قسمان :

الأوّل : الجعل البسيط وهو مفاد «كان» التامّة ، أي جعل الشيء وإيجاده ، كجعل الإنسان.

الثاني : الجعل التأليفيّ وهو مفاد «كان» الناقصة ، أي جعل الشيء شيئا ، كجعل الإنسان كاتبا.

(٦) كما قال الحكيم السبزواريّ : «ذاتيّ شيء لم يكن معلّلا». شرح المنظومة (قسم المنطق) : ٢٩.

٣٨٢

جعل القطع هو جعله بالجعل البسيط ، أي خلقه وإيجاده.

وعليه ، فلا معنى لفرض جعل الطريقيّة للقطع جعلا تأليفيّا ، بأيّ نحو فرض للجعل ، سواء كان جعلا تكوينيّا أم جعلا تشريعيّا ؛ فإنّ ذلك مساوق لجعل القطع لنفس القطع ، وجعل الطريق لذات الطريق.

وعلى تقدير التنزّل عن هذا والقول مع من قال : «إنّ القطع شيء له الطريقيّة والكاشفيّة عن الواقع» ـ كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليّين المتأخّرين عن الشيخ (١) ـ فعلى الأقلّ تكون الطريقيّة من لوازم ذاته ، التي لا تنفكّ عنه ، كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة. ولوازم الذات كالذات يستحيل أيضا جعلها بالجعل التأليفيّ على ما هو الحقّ ، وإنّما يكون جعلها بنفس جعل الذات جعلا بسيطا ، لا بجعل آخر وراء جعل الذات. وقد أوضحنا ذلك في مباحث الفلسفة (٢).

وإذا استحال جعل الطريقيّة للقطع استحال نفيها عنه ؛ لأنّه كما يستحيل جعل الذات ولوازمها يستحيل نفي الذات ولوازمها عنها ، وسلبها بالسلب التأليفيّ ؛ بل نحن إنّما نعرف استحالة جعل الذات والذاتيّ ولوازم الذات بالجعل التأليفيّ ؛ لأنّا نعرف أوّلا امتناع انفكاك الذات عن نفسها ، وامتناع انفكاك لوازمها عنها ، كما تقدّم بيانه.

على أنّ نفي الطريقيّة عن القطع يلزم منه التناقض بالنسبة إلى القاطع وفي نظره ، فإنّه ـ مثلا ـ حينما يقطع بأنّ هذا الشيء واجب ، يستحيل عليه أن يقطع ثانيا بأنّ هذا القطع ليس طريقا موصلا إلى الواقع ؛ فإنّ معنى هذا أن يقطع ثانيا بأنّ ما قطع بأنّه واجب ليس بواجب مع فرض بقاء قطعه الأوّل على حاله. وهذا تناقض بحسب نظر القاطع ووجدانه ، يستحيل أن يقع منه ، حتّى لو كان في الواقع على خطأ في قطعه الأوّل ، ولا يصحّ هذا إلاّ إذا تبدّل قطعه وزال ، وهذا شيء آخر غير ما نحن في صدده.

والحاصل أنّ اجتماع القطعين بالنفي والإثبات محال ، كاجتماع النفي والإثبات ، بل يستحيل في حقّه حتّى احتمال أنّ قطعه ليس طريقا إلى الواقع ؛ فإنّ هذا الاحتمال مساوق

__________________

(١) منهم المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٢٩٧.

(٢) راجع الفلسفة الإسلاميّة للمظفّر (الدرس الحادي عشر) : ٣١ ، ٣٢.

٣٨٣

لانسلاخ القطع عنده ، وانقلابه إلى الظنّ ، فما فرض أنّه قطع لا يكون قطعا ، وهو خلف محال.

وهذا الكلام لا ينافي أن يحتمل الإنسان ، أو يقطع أنّ بعض علومه على الإجمال ـ غير المعيّن في نوع خاصّ ، ولا في زمن من الأزمنة ـ كان على خطأ ، فإنّه بالنسبة إلى كلّ قطع فعليّ بشخصه لا يتطرّق إليه الاحتمال بخطئه ، وإلاّ لو اتّفق له ذلك لانسلخ عن كونه قطعا جازما.

نعم ، لو احتمل خطأ أحد علوم محصورة ومعيّنة في وقت واحد فإنّه لا بدّ أن ينسلخ كلّها عن كونها اعتقادا جازما ؛ فإنّ بقاء قطعه في جميعها وتطرّق احتمال خطأ واحد منها لا على التعيين ، لا يجتمعان.

والخلاصة أنّ القطع يستحيل جعل الطريقيّة له [جعلا] تكوينيّا وتشريعيّا ، ويستحيل نفيها عنه ، مهما كان السبب الموجب له [ولو كان من خفقان جناح أو مرور هواء]. (١)

وعليه ، فلا يعقل التصرّف فيه بأسبابه ، كما نسب ذلك إلى بعض الأخباريّين من حكمهم بعدم جواز الأخذ بالقطع إذا كان سببه من مقدّمات عقليّة ، (٢) وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثاني (٣).

وكذلك لا يمكن التصرّف فيه من جهة الأشخاص ، بأن يعتبر قطع شخص ولا يعتبر قطع آخر ، كما قيل بعدم الاعتبار بقطع القطّاع (٤) قياسا على كثير الشكّ الذي حكم شرعا

__________________

(١) ما بين المعقوفين موجود في «س».

(٢) ولعلّ المراد من «بعض الأخباريّين» هو الشيخ الأمين الاسترآبادي في الفوائد المدنيّة : ١٢٨ ـ ١٣١ ، والعلاّمة البحرانيّ في الحدائق الناضرة ١ : ١٢٥ ـ ١٣٣.

ولكن لم أعثر على من نسبه إليهم صريحا. والشيخ الأنصاريّ إنّما نقل النسبة إليهم وقال : «وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريّين ...». بل المحقّق الخراسانيّ أنكر نسبته إليهم ، وقال : «وإن نسب إلى بعض الأخباريّين أنّه لا اعتبار بما إذا كان بمقدّمات عقليّة ، إلاّ أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ، بل تشهد بكذبها ...» راجع كلامهما في فرائد الأصول ١ : ١٥ ، وكفاية الأصول : ٣١١.

(٣) راجع الجزء الثاني : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٤) ككاشف الغطاء ، حيث قال : «وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو في ظنّه فيلغو اعتبارهما في حقّه». كشف الغطاء : ٦١.

٣٨٤

بعدم الاعتبار بشكّه في ترتّب أحكام الشكّ.

وكذلك ، لا يمكن التصرّف فيه من جهة الأزمنة ، ولا من جهة متعلّقه بأن يفرّق في اعتباره بين ما إذا كان متعلّقه الحكم فلا يعتبر ، وبين ما إذا كان متعلّقه موضوع الحكم أو متعلّقه فيعتبر ؛ فإنّ القطع في كلّ ذلك طريقيّته ذاتيّة غير قابلة للتصرّف فيها بوجه من الوجوه ، وغير قابلة لتعلّق الجعل بها نفيا وإثباتا. وإنّما الذي يصحّ ويمكن أن يقع في الباب هو أن يلفت نظر الخاطئ في قطعه إلى الخلل في مقدّمات قطعه ، فإذا تنبّه إلى الخلل في سبب قطعه فلا محالة أنّ قطعه سيتبدّل إمّا إلى احتمال الخلاف أو إلى القطع بالخلاف ، ولا ضير في ذلك ، وهذا واضح.

تمرينات (٤٧)

التمرين الأوّل :

١. ما معنى قولهم : «حجيّة العلم ذاتيّة»؟

٢. بيّن ما علّل به الشيخ وجوب متابعة القطع؟

٣. ما هو منشأ المسامحة في التعبير بوجوب متابعة القطع؟

٤. ما معنى كون القطع طريقا ذاتيّا؟ بيّن وجه استحالة جعل الطريقيّة للقطع ، ووجه استحالة نفيها عنه.

التمرين الثاني :

١. قال المصنّف : «وهذا الكلام فيه شيء من الغموض» بيّن وجه الغموض.

٢. اذكر أقوال المتأخّرين في معنى وجوب متابعة القطع.

٣. اذكر الأقوال في حقيقة القطع ، واذكر القول الراجح عند المصنّف.

٤. ما الفرق بين الجعل التأليفي ، والجعل التشريعي؟

٥. ما معنى قولهم : «الذاتي لا يعلّل»؟

٦. اذكر ما نسب إلى بعض الأخباريّين في الأخذ بالقطع ، واذكر وجه النظر في هذه النسبة.

٧. من هو القائل بعدم اعتبار قطع القطّاع؟

٣٨٥

٨. موطن حجّيّة الأمارات

قد أشرنا في مبحث الإجزاء (١) إلى أنّ جعل الطرق والأمارات يكون في فرض التمكّن من تحصيل العلم ، وأحلنا بيانه إلى محلّه ، وهذا هو محلّه ، فنقول :

إنّ غرضنا من ذلك القول هو أنّنا إذ نقول : «إنّ الأمارة حجّة» كخبر الواحد ـ مثلا ـ ، فإنّما نعني أنّ تلك الأمارة مجعولة حجّة مطلقا (٢) ، أي إنّها في نفسها حجّة مع قطع النظر عن كون الشخص ـ الذي قامت عنده تلك الأمارة ـ متمكّنا من تحصيل العلم بالواقع أو غير متمكّن منه ، فهي حجّة يجوز الرجوع إليها لتحصيل الأحكام مطلقا ، حتى في موطن يمكن فيه أن يحصل القطع بالحكم لمن قامت عنده الأمارة ـ أي كان باب العلم بالنسبة إليه مفتوحا ـ. فمثلا ، إذا قلنا بحجّيّة خبر الواحد فإنّا نقول : إنّه حجّة حتى في زمان يسع المكلّف أن يرجع إلى المعصوم رأسا ، فيأخذ الحكم منه مشافهة على سبيل اليقين ، فإنّه في هذا الحال لو كان خبر الواحد حجّة يجوز للمكلّف أن يرجع إليه ، ولا يجب عليه أن يرجع إلى المعصوم.

وعلى هذا ، فلا يكون موطن حجّيّة الأمارات خصوص مورد تعذّر حصول العلم ، أو امتناعه ، ـ أي ليس في خصوص مورد انسداد باب العلم ـ بل الأعمّ من ذلك ، فيشمل حتى موطن التمكّن من تحصيل العلم وانفتاح بابه.

نعم ، مع حصول العلم بالواقع فعلا لا يبقى موضع للرجوع إلى الأمارة ، بل لا معنى لحجّيّتها حينئذ ، لا سيّما مع مخالفتها للعلم ؛ لأنّ معنى ذلك انكشاف خطئها.

ومن هنا كان هذا الأمر موضع حيرة الأصوليّين وبحثهم ؛ إذ للسائل ـ كما سيأتي ـ أن يسأل : كيف جاز أن تفرضوا صحّة الرجوع إلى الأمارات الظنّيّة مع انفتاح باب العلم بالأحكام ؛ إذ قد يوجب سلوكها تفويت الواقع عند خطئها؟! ولا يحسن من الشارع أن يأذن بتفويت الواقع مع التمكّن من تحصيله ، بل ذلك قبيح يستحيل في حقّه.

__________________

(١) راجع المقصد الثاني : ٢٥٥.

(٢) هكذا في «س». وهو الصحيح.

٣٨٦

ولأجل هذا السؤال المحرّج سلك الأصوليّون عدّة طرق للجواب عنه ، وتصحيح جعل حجّيّة الأمارات. وسيأتي بيان هذه الطرق والصحيح منها في المبحث (١٢) (١).

وغرضنا من ذكر هذا التنبيه هو أنّ هذا التصحيح شاهد على ما أردنا الإشارة إليه هنا ، من أنّ موطن حجّيّة الأمارات وموردها ما هو أعمّ من فرض التمكّن من تحصيل العلم وانفتاح بابه ومن فرض انسداد بابه.

ومن هنا نعرف وجه المناقشة في استدلال بعضهم على حجّيّة خبر الواحد ، بالخصوص بدليل انسداد باب العلم ، كما صنع صاحب المعالم (٢) ، فإنّه لمّا كان المقصود إثبات حجّيّة خبر الواحد في نفسه ـ حتى مع فرض انفتاح باب العلم ـ لا يبقى معنى للاستدلال على حجّيّته بدليل الانسداد.

على أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت به حجّيّة مطلق الظنّ من حيث هو ظنّ ـ كما سيأتي بيانه (٣) ـ ، فلا يثبت به حجّيّة ظنّ خاصّ بما هو ظنّ خاصّ.

نعم ، استدلّ بعضهم (٤) على حجّيّة خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير ، ولا يبعد صحّة ذلك ، ويعنون به انسداد باب العلم في خصوص الأخبار التي بأيدينا التي نعلم على الإجمال بأنّ بعضها موصل إلى الواقع ومحصّل له ، ولا يتميّز الموصل إلى الواقع من غيره ، مع انحصار السنّة في هذه الأخبار التي بأيدينا ؛ وحينئذ نلتجئ إلى الاكتفاء بما يفيد الظنّ والاطمئنان من هذه الأخبار ، وهذا ما نعنيه بخبر الواحد.

والفرق بين دليل الانسداد الكبير والصغير (٥) أنّ الكبير هو انسداد باب العلم في جميع

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٣٩٧.

(٢) معالم الدين : ٢١١.

(٣) يأتي في المبحث الآتي.

(٤) ولعلّه هو الشيخ الأعظم الأنصاريّ في البحث عن حجّيّة كلام اللغوي في فرائد الأصول ١ : ٧٦. ولكن أجاب عنه في البحث عن حجّيّة خبر الواحد في فرائد الأصول ١ : ١٧٢ ـ ١٧٣.

(٥) وقد يقرّر الفرق بينهما بوجوه أخر :

منها : ما اختاره المحقّق النائينيّ ، وحاصله أنّ استفادة الحكم الشرعيّ من الخبر تتوقّف على أمور : ـ

٣٨٧

الأحكام من جهة السنّة وغيرها ، والصغير هو انسداد باب العلم [من جهة] السنّة مع انفتاح باب العلم في الطرق الأخرى ، والمفروض أنّه ليس لدينا إلاّ هذه الأخبار التي لا يفيد أكثرها العلم ، وبعضها حجّة قطعا وموصل إلى الواقع.

تمرينات (٤٨)

التمرين الأوّل :

١. ما هو موطن حجيّة الأمارات؟

٢. بيّن وجه المناقشة في استدلال صاحب المعالم على حجيّة خبر الواحد بدليل الانسداد.

٣. بيّن استدلال الشيخ الأنصاري على حجيّة خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير.

٤. ما الفرق بين دليل الانسداد الكبير والصغير؟

التمرين الثاني :

١. ما هو رأي المحقّق النائينيّ في الفرق بين الانسداد الكبير والصغير؟ وما هو رأي المحقّق العراقي في ذلك؟

__________________

ـ الأوّل : العلم بصدور الخبر. الثاني : العلم بجهة صدوره. الثالث : كون الخبر ظاهرا في المعنى المنطبق عليه. الرابع : حجيّة الظهور. والفرق بين الانسداد الكبير والانسداد الصغير هو أنّ مقدّمات الانسداد الكبير إنّما تجري في نفس الأحكام ليستنتج منها حجيّة مطلق الظنّ فيها ، وأمّا مقدّمات الانسداد الصغير فهي إنّما تجري في بعض ما يتوقّف عليه استنباط الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع المتقدّمة ليستنتج منها حجيّة مطلق الظنّ في خصوص الجهة التي انسدّ باب العلم فيها.

ومنها : ما اختاره المحقّق العراقيّ ، فإنّه قال ـ تعليقا على كلام المحقّق النائينيّ ـ : «أقول : ميزان الكبر والصغر في باب الانسداد كبر دائرة العلم الإجماليّ وصغرها بنحو لا يلزم محذور في ترك العمل في هذه الدائرة لو لا العلم المخصوص بها من ناحية العلم الكبير ...».

راجع عن كلامهما فوائد الأصول ٣ : ١٩٧.

٣٨٨

٩. الظنّ الخاصّ والظنّ المطلق

تكرّر منّا التعبير بالظنّ الخاصّ والظنّ المطلق ، وهو اصطلاح للأصوليّين المتأخّرين ، فينبغي بيان ما يعنون بهما ، فنقول :

١. يراد من الظنّ الخاصّ كلّ ظنّ قام دليل قطعيّ على حجّيّته واعتباره بخصوصه غير دليل الانسداد الكبير.

وعليه ، فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجّة مطلقا ، حتى مع انفتاح باب العلم ، ويسمّى أيضا «الطريق العلميّ» ، نسبة إلى العلم باعتبار قيام العلم على حجّيّته ، كما تقدّم (١).

٢. يراد من الظنّ المطلق كلّ ظنّ قام دليل الانسداد الكبير على حجّيّته واعتباره ، فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجّة في خصوص حالة انسداد باب العلم والعلميّ ، أي انسداد باب نفس العلم بالأحكام ، وباب الطرق العلميّة المؤدّية إليها.

ونحن في هذا المختصر لا نبحث إلاّ عن الظنون الخاصّة فقط ، أمّا الظنون المطلقة فلا نتعرّض لها ؛ لثبوت حجّيّة جملة من الأمارات المغنية عندنا عن فرض انسداد باب العلم والعلميّ ، فلا تصل النوبة إلى هذا الفرض حتى نبحث عن دليل الانسداد لإثبات حجّيّة مطلق الظنّ.

ولكن بعد أن انتهينا إلى هنا ينبغي ألاّ يخلو هذا المختصر من الإشارة إلى مقدّمات دليل الانسداد على نحو الاختصار ؛ تنويرا لذهن الطالب ، فنقول :

١٠. مقدّمات دليل الانسداد

إنّ الدليل المعروف بـ «دليل الانسداد» يتألّف من مقدّمات أربع ، إذا تمّت يترتّب عليها حكم العقل بلزوم العمل بما قام عليه الظنّ في الأحكام ، أيّ ظنّ كان ، عدا الظنّ الثابت فيه ـ على نحو القطع ـ عدم جواز العمل به كالقياس مثلا.

__________________

(١) تقدّم في المبحث السادس.

٣٨٩

ونحن نذكر بالاختصار هذه المقدّمات :

١. المقدّمة الأولى : دعوى انسداد باب العلم والعلميّ في معظم أبواب الفقه في عصورنا المتأخّرة عن عصر أئمّتنا عليهم‌السلام. وقد علمت أنّ أساس المقدّمات كلّها هي هذه المقدّمة ، وهي دعوى قد ثبت عندنا عدم صحّتها ؛ لثبوت انفتاح باب الظنّ الخاصّ ، بل العلم في معظم أبواب الفقه ، فانهار (١) هذا الدليل من أساسه.

٢. المقدّمة الثانية : أنّه لا يجوز إهمال امتثال الأحكام الواقعيّة المعلومة إجمالا ، ولا يجوز طرحها في مقام العمل. وإهمالها وطرحها يقع بفرضين : إمّا بأن نعتبر أنفسنا كالبهائم والأطفال لا تكليف علينا ؛ وإمّا بأن نرجع إلى أصالة البراءة ، وأصالة عدم التكليف في كلّ موضع لا يعلم وجوبه وحرمته. وكلا الفرضين ضروريّ البطلان.

٣. المقدّمة الثالثة : أنّه بعد فرض وجوب التعرّض للأحكام المعلومة إجمالا فإنّ الأمر لتحصيل فراغ الذمّة منها يدور بين حالات أربع ، لا خامسة لها :

أ : تقليد من يرى انفتاح باب العلم.

ب : الأخذ بالاحتياط في كلّ مسألة.

ج : الرجوع إلى الأصل العمليّ الجاري في كلّ مسألة ، من نحو البراءة ، والاحتياط ، والتخيير والاستصحاب ، حسبما يقتضيه حال المسألة.

د : الرجوع إلى الظنّ في كلّ مسألة فيها ظنّ بالحكم ، وفيما عداها يرجع إلى الأصول العمليّة.

ولا يصحّ الأخذ بالحالات الثلاث الأولى ، فتتعيّن الرابعة.

أمّا الأولى : ـ وهي تقليد الغير في انفتاح باب العلم ـ فلا يجوز ؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف يعتقد بالانسداد ، فكيف يصحّ له الرجوع إلى من يعتقد بخطئه وأنّه على جهل؟!.

وأمّا الثانية : ـ وهي الأخذ بالاحتياط ـ فإنّه يلزم منه العسر والحرج الشديدان ، بل يلزم اختلال النظام لو كلّف جميع المكلّفين بذلك.

وأمّا الثالثة : ـ وهي الأخذ بالأصل الجاري ـ فلا يصحّ أيضا ؛ لوجود العلم الإجماليّ

__________________

(١) انفعال من (هـ. و. ر) أي : انهدم وسقط.

٣٩٠

بالتكاليف ، ولا يمكن ملاحظة كلّ مسألة على حدة ، غير منضمّة إلى غيرها من المسائل الأخرى المجهولة الحكم. والحاصل أنّ وجود العلم الإجماليّ بوجود المحرّمات والواجبات في جميع المسائل المشكوكة الحكم يمنع من إجراء أصل البراءة ، والاستصحاب ، ولو في بعضها.

٤. المقدّمة الرابعة : أنّه ـ بعد أن أبطلنا الرجوع إلى الحالات الثلاث ـ ينحصر الأمر في الرجوع إلى الحالة الرابعة في المسائل التي يقوم فيها الظنّ ، وفيها يدور الأمر بين الرجوع إلى الطرف الراجح في الظنّ ، وبين الرجوع إلى الطرف المرجوح ـ أي الموهوم ـ. ولا شكّ في أنّ الأخذ بطرف المرجوح ترجيح للمرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلا.

وعليه ، فيتعيّن الأخذ بالظنّ ما لم يقطع بعدم جواز الأخذ به ، كالقياس ، وهو المطلوب.

وفي فرض الظنّ المقطوع بعدم حجيّته يرجع إلى الأصول العمليّة ، كما يرجع إليها في المسائل المشكوكة التي لا يقوم فيها ظنّ أصلا.

ولا ضير حينئذ بالرجوع إلى الأصول العمليّة ؛ لانحلال العلم الإجماليّ بقيام الظنّ في معظم المسائل الفقهيّة إلى علم تفصيليّ بالأحكام التي قامت عليها الحجّة ، وشكّ بدويّ في الموارد الأخرى ، فتجري فيها الأصول.

هذه خلاصة «مقدّمات دليل الانسداد» ، وفيها أبحاث دقيقة ، طويلة الذيل ، لا حاجة لنا بها ، (١) ويكفي عنها ما ذكرناه بالاختصار.

تمرينات (٤٩)

١. ما المراد من الظن الخاصّ والظنّ المطلق؟

٢. ما هي مقدّمات دليل الانسداد؟

__________________

(١) وإن شئت فراجع فوائد الأصول ٣ : ٢٢٥ ـ ٣٢١.

٣٩١

١١. اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل

قام إجماع الإماميّة على أنّ أحكام الله (تعالى) مشتركة بين العالم والجاهل بها ، أي إنّ حكم الله ثابت لموضوعه في الواقع ، سواء علم به المكلّف أم لم يعلم ، فإنّه مكلّف به على كلّ حال. فالصّلاة ـ مثلا ـ واجبة على جميع المكلّفين ، سواء علموا بوجوبها أم جهلوه ، فلا يكون العلم دخيلا في ثبوت الحكم أصلا.

وغاية ما نقوله في دخالة العلم في التكليف دخالته في تنجّز الحكم التكليفيّ ، بمعنى أنّه لا يتنجّز على المكلّف على وجه يستحقّ على مخالفته العقاب إلاّ إذا علم به ، سواء كان العلم تفصيليّا أو إجماليّا (١) أو قامت لديه حجّة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم.

فالعلم أو ما يقوم مقامه يكون ـ على ما هو التحقيق ـ شرطا لتنجّز التكليف ، لا علّة تامّة ؛ خلافا للشيخ الآخوند صاحب الكفاية قدس‌سره ؛ (٢) فإذا لم يحصل العلم ولا ما يقوم مقامه بعد الفحص واليأس لا يتنجّز عليه التكليف الواقعيّ ، يعني لا يعاقب المكلّف لو وقع في مخالفته عن جهل ، وإلاّ لكان العقاب عليه عقابا بلا بيان ، وهو قبيح عقلا ، وسيأتي إن شاء الله (تعالى) في أصل البراءة شرح ذلك. (٣)

وفي قبال هذا القول زعم من يرى أنّ الأحكام إنّما تثبت لخصوص العالم بها ، أو من قامت عنده الحجّة ، فمن لم يعلم بالحكم ولم تقم لديه الحجّة عليه لا حكم في حقّه حقيقة وفي الواقع. (٤)

__________________

(١) سيأتي في المقصد الرابع ـ إن شاء الله (تعالى) ـ مدى تأثير العلم الإجماليّ في تنجّز الأحكام الواقعيّة. ـ منه قدس‌سره. (يأتي في المقصد الرابع : ٥٩٧).

(٢) لا يخفى أنّ المحقّق الخراسانيّ ذهب إلى أنّ العلم التفصيليّ بالتكليف الفعليّ علّة تامّة لتنجّز التكليف ، وأمّا : العلم الاجماليّ فكان كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء ، لا في العلّيّة التامّة ، فيوجب التنجّز لو لم يمنع عن التنجّز دليل ، وترخيص عقليّ ، كما في غير المحصورة ، أو شرعيّ كما في المحصورة. راجع كفاية الأصول : ٢٩٧ و ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٣) لم ينته الكتاب إلى أصل البراءة. وإن شئت فراجع فوائد الأصول ٣ : ٣٦٥.

(٤) هذا ما زعمه أكثر العامّة فراجع الإحكام في أصول الأحكام (للآمدي) ١ : ٢١٥ ؛ نهاية السئول ١ : ٣١٥ ؛ المستصفى ١ : ٨٣ ؛ فواتح الرحموت (المطبوع بهامش المستصفى ١ : ١٤٣).

٣٩٢

ومن هؤلاء من يذهب إلى تصويب المجتهد ؛ إذ يقول : «إنّ كلّ مجتهد مصيب» (١). وسيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله (تعالى) في هذا الجزء (٢).

وعن الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله (٣) ، وعن غيره أيضا ـ كصاحب الفصول رحمه‌الله (٤) ـ : أنّ أخبارنا متواترة معنى في اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل. وهو كذلك. والدليل على هذا الاشتراك ـ مع قطع النظر عن الإجماع وتواتر الأخبار ـ واضح ، وهو أن نقول :

١. إنّ الحكم لو لم يكن مشتركا لكان مختصّا بالعالم به ؛ إذ لا يجوز أن يكون مختصّا بالجاهل به ، وهو واضح.

٢. وإذا ثبت أنّه مختصّ بالعالم به فإنّ معناه تعليق الحكم على العلم به.

٣. ولكن تعليق الحكم على العلم به محال ؛ لأنّه يلزم منه الخلف.

٤. إذن يتعيّن أن يكون مشتركا بين العالم والجاهل.

بيان لزوم الخلف أنّه لو كان الحكم معلّقا على العلم به ، كوجوب الصلاة ـ مثلا ـ ، فإنّه يلزم ـ بل هو نفس معنى التعليق ـ عدم الوجوب لطبيعيّ الصلاة ؛ إذ الوجوب يكون حسب الفرض للصلاة المعلومة الوجوب بما هي معلومة الوجوب ، بينما أنّ تعلّق العلم بوجوب الصلاة لا يمكن فرضه إلاّ إذا كان الوجوب متعلّقا بطبيعيّ الصلاة. فما فرضناه متعلّقا بطبيعيّ الصلاة لم يكن متعلّقا بطبيعيّها ، بل بخصوص المعلومة الوجوب. وهذا هو الخلف المحال.

وببيان آخر في وجه استحالة تعليق الحكم على العلم به ، نقول :

إنّ تعليق الحكم على العلم به يستلزم المحال ، وهو استحالة العلم بالحكم ، والذي يستلزم المحال محال ، فيستحيل نفس الحكم. وذلك لأنّه قبل حصول العلم لا حكم

__________________

(١) وهذا مذهب جماعة من الأشاعرة والمعتزلة ، كالقاضي أبي بكر ، والشيخ الأشعريّ ، والجبّائي ، وابنه ، وأبي الهذيل ، راجع الإحكام (للآمدي) ٤ : ٢٤٦ ؛ فواتح الرحموت (المطبوع بهامش المستصفى ٢ : ٣٨٠).

(٢) يأتي في المبحث الرابع عشر : ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٤٤.

(٤) راجع الفصول الغرويّة : ٤٢٩. إلاّ أنّه لم يصرّح بتواتر الأخبار في الاشتراك ، بل يظهر ذلك من بعض كلماته ، فراجع كلماته في الفصول : ٤٢٧ ـ ٤٣٣.

٣٩٣

ـ حسب الفرض ـ فإذا أراد أن يعلم ، يعلم بما ذا؟ فلا يعقل حصول العلم لديه بغير متعلّق مفروض الحصول ، وإذا استحال حصول العلم استحال حصول الحكم المعلّق عليه ؛ لاستحالة ثبوت الحكم بدون موضوعه. وهو واضح.

وعلى هذا ، فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به. وإذا استحال ذلك ، تعيّن أن يكون الحكم مشتركا بين العالم والجاهل ، ـ أي [القول] بثبوته واقعا في صورتي العلم والجهل ـ ، وإن كان الجاهل القاصر معذورا ، أي إنّه لا يعاقب على المخالفة. وهذا شيء آخر غير نفس عدم ثبوت الحكم في حقّه.

ولكنّه قد يستشكل في استكشاف اشتراك الأحكام من هذا الدليل بما تقدّم منّا في الجزء الأوّل (١) ، من أنّ الإطلاق والتقييد متلازمان في مقام الإثبات ؛ لأنّهما من قبيل العدم والملكة ، فإذا استحال التقييد في مورد استحال معه الإطلاق أيضا. فكيف ـ إذن ـ نستكشف اشتراك الأحكام من إطلاق أدلّتها لامتناع تقييدها بالعلم؟! ، والإطلاق كالتقييد محال بالنسبة إلى قيد العلم في أدلّة الأحكام.

وقد أصرّ شيخنا النائينيّ رحمه‌الله على امتناع الإطلاق في ذلك ، وقال ـ بما محصّله ـ : إنّه لا يمكن أن نحكم بالاشتراك من نفس أدلّة الأحكام ، بل لا بدّ لإثباته من دليل آخر سمّاه «متمّم الجعل» ، على أن يكون الاشتراك من باب «نتيجة الإطلاق» ، كاستفادة تقييد الأمر العباديّ بقصد الامتثال من دليل ثان متمّم للجعل ، على أن يكون ذلك من باب «نتيجة التقييد» ، وكاستفادة تقييد وجوب الجهر ، والإخفات ، والقصر ، والإتمام بالعلم بالوجوب من دليل آخر متمّم للجعل ، على أن يكون ذلك أيضا من باب «نتيجة التقييد».

وقال ـ بما خلاصته ـ : «يمكن استفادة الإطلاق في المقام من الأدلّة التي ادّعى الشيخ الأنصاريّ تواترها ، فتكون هي المتمّمة للجعل». (٢)

أقول : ويمكن الجواب عن الإشكال المذكور ـ بما محصّله ـ : إنّ هذا الكلام صحيح لو كانت استفادة اشتراك الأحكام متوقّفة على إثبات إطلاق أدلّتها بالنسبة إلى العالم بها ،

__________________

(١) راجع المقصد الأوّل : ٨٦ و ١٨٤.

(٢) انتهى محصّل كلام المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٣ : ١١ ـ ١٢.

٣٩٤

غير أنّ المطلوب الذي ينفعنا هو نفس عدم اختصاص الأحكام بالعالم على نحو السالبة المحصّلة ، فيكون التقابل بين اشتراك الأحكام واختصاصها بالعالم من قبيل تقابل السلب والإيجاب ، لا من باب تقابل العدم والملكة ؛ لأنّ المراد من الاشتراك نفس عدم الاختصاص بالعالم.

وهذا السلب يكفي في استفادته من أدلّة الأحكام نفس إثبات امتناع الاختصاص ، ولا يحتاج إلى مئونة (١) زائدة لإثبات الإطلاق ، أو إثبات نتيجة الإطلاق بمتمّم الجعل من إجماع أو أدلّة أخرى ؛ لأنّه من نفس امتناع التقييد نعلم أنّ الحكم مشترك ، لا يختصّ بالعالم.

نعم ، يتمّ ذلك الإشكال لو كان امتناع التقييد ليس إلاّ من جهة بيانيّة ، وفي مرحلة الإنشاء في دليل نفس الحكم ، وإن كان واقعه يمكن أن يكون مقيّدا ، أو مطلقا ، مع قطع النظر عن أدائه باللفظ ؛ فإنّه ـ حينئذ ـ لا يمكن بيانه بنفس دليله الأوّل ، فنحتاج إلى استكشاف الواقع المراد من دليل آخر ، نسمّيه «متمّم الجعل» : ولأجل ذلك نسمّيه بـ «المتمّم للجعل» ، فتحصل لنا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، من دون أن يحصل تقييد أو إطلاق المفروض أنّهما مستحيلان ، كما كان الحال في تقييد الوجوب بقصد الامتثال في الواجب التعبّديّ.

أمّا لو كان نفس الحكم واقعا ـ مع قطع النظر عن أدائه بأيّة عبارة كانت ، كما فيما نحن فيه ـ يستحيل تقييده ، سواء أدّى ذلك ببيان واحد ، أو ببيانين ، أو بألف بيان ؛ فإنّ واقعه لا محالة ينحصر في حالة واحدة ، وهو أن يكون في نفسه شاملا لحالتي وجود القيد المفروض وعدمه.

وعليه ، فلا حاجة في مثله إلى استكشاف الاشتراك من نفس إطلاق دليله الأوّل ، ولا من دليل ثان متمّم للجعل. ولا نمانع أن نسمّي ذلك «نتيجة الإطلاق» إذا حلا لكم هذا التعبير.

ويبقى الكلام ـ حينئذ ـ في وجه تقييد وجوب الجهر ، والإخفات ، والقصر ، والإتمام

__________________

(١) مئونة ومئونة بمعنى.

٣٩٥

بالعلم ، مع فرض امتناعه ، حتى بمتمّم الجعل ، والمفروض أنّ هذا التقييد ثابت في الشريعة ، فكيف تصحّحون ذلك؟! فنقول :

إنّه لمّا امتنع تقييد الحكم بالعلم فلا بدّ أن نلتمس توجيها لهذا الظاهر من الأدلّة ، وينحصر التوجيه في أن نفرض أن يكون هذا التقييد من باب إعفاء الجاهل بالحكم في هذين الموردين عن الإعادة ، والقضاء ، وإسقاطهما عنه ، اكتفاء بما وقع ، كإعفاء الناسي ، وإن كان الوجوب واقعا غير مقيّد بالعلم. والإعادة والقضاء بيد الشارع رفعهما ووضعهما.

ويشهد لهذا التوجيه أنّ بعض الروايات ـ في البابين ـ عبّرت بسقوط الإعادة عنه ، كالرواية عن أبي جعفر عليه‌السلام فيمن صلّى في السفر أربعا : «إن كان قرئت عليه آية التقصير (١) ، وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ، ولم يعلمها فلا إعادة». (٢)

تمرينات (٥٠)

١. اذكر أقوال العلماء في اشتراك الأحكام ، وعدمه.

٢. ما الدليل على الاشتراك ـ بعد الإجماع وتواتر الأخبار ـ؟ واذكر الجواب عن الإشكال الذي قد يرد عليه.

٣. ما هو مراد العلاّمة النائيني من دليل متمّم الجعل؟

٤. ما هو التوجيه في تقييد وجوب الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام بالعلم؟

__________________

(١) وهي قوله (تعالى) : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا ....) النساء (٤) الآية : ١٠١.

(٢) وسائل الشيعة ٥ : ٥٣١ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٤. هذا في باب القصر والإتمام. وأمّا : في باب الجهر والإخفات ، كرواية أخرى عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه : «... فإن فعل ذلك ناسيا ، أو ساهيا ، ولا يدري فلا شيء عليه ، وقد تمّت صلاته». راجع وسائل الشيعة ٤ : ٧٦٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث ١.

٣٩٦

١٢. تصحيح جعل الأمارة

بعد ما ثبت أنّ جعل الأمارة يشمل فرض انفتاح باب العلم ـ مع ما ثبت من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ـ تنشأ «شبهة عويصة» في صحّة جعل الأمارة قد أشرنا إليها فيما سبق ، (١) وهي أنّه في فرض التمكّن من تحصيل الواقع والوصول إليه كيف جاز أن يأذن الشارع باتّباع الأمارة الظنّية ، وهي ـ حسب الفرض ـ تحتمل الخطأ المفوّت للواقع ، والإذن في تفويته قبيح عقلا ؛ لأنّ الأمارة لو كانت دالّة على جواز الفعل ـ مثلا ـ وكان الواقع هو الوجوب أو الحرمة ، فإنّ الإذن باتّباع الأمارة ـ في هذا الفرض ـ يكون إذنا بترك الواجب ، أو فعل الحرام ، مع أنّ الفعل لا يزال باقيا على وجوبه الواقعيّ ، أو حرمته الواقعيّة ، مع تمكّن المكلّف من الوصول إلى معرفة الواقع حسب الفرض ، ولا شكّ في قبح ذلك من الحكيم؟!

وهذه الشبهة هي التي ألجأت بعض الأصوليّين إلى القول بأنّ الأمارة مجعولة على نحو «السببيّة» (٢) ، إذ عجزوا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو «الطريقيّة» التي هي الأصل في الأمارة على ما سيأتي شرح ذلك قريبا. (٣)

والحقّ معهم ؛ إذا نحن عجزنا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقيّة ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمارة قد ثبتت حجّيّتها قطعا ، فلا بدّ أن يفرض ـ حينئذ ـ في قيام الأمارة ، أو في اتّباعها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير خطئها ، حتى لا يكون إذن الشارع بتفويت الواقع قبيحا ، ما دام أنّ تفويته له يكون لمصلحة أقوى وأجدى (٤) أو مساوية لمصلحة الواقع ، فينشأ على طبق مؤدّى الأمارة حكم ظاهريّ بعنوان أنّه الواقع ، إمّا أن يكون مماثلا للواقع عند الإصابة ، أو مخالفا له عند الخطأ.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٣٨٦.

(٢) وهذا منسوب إلى بعض الإماميّة ، كما في فوائد الأصول ٤ : ٧٥٨.

(٣) سيأتي في المبحث الآتي.

(٤) الأجدى أي الأنفع.

٣٩٧

ونحن ـ بحمد الله (تعالى) ـ نرى أنّ الشبهة يمكن دفعها على تقدير الطريقيّة ، فلا حاجة إلى فرض السببيّة.

والوجه في دفع الشبهة أنّه بعد أن فرضنا أنّ القطع قام على أنّ الأمارة الكذائيّة ، كخبر الواحد حجّة يجوز اتّباعها مع التمكّن من تحصيل العلم ، فلا بدّ أن يكون الإذن من الشارع ـ العالم بالحقائق الواقعيّة ـ لأمر علم به ، وغاب عنّا علمه. ولا يخرج هذا الأمر عن أحد شيئين ، لا ثالث لهما ، وكلّ منهما جائز عقلا ، لا مانع منه :

١. أن يكون قد علم بأنّ إصابة الأمارة للواقع مساوية لإصابة العلوم التي تتّفق للمكلّفين ، أو أكثر منها ، بمعنى أنّ العلوم التي يتمكّن المكلّفون من تحصيلها يعلم الشارع بأنّ خطأها سيكون مساويا لخطأ الأمارة المجعولة ، أو أكثر خطأ منها.

٢. أن يكون قد علم بأنّ في عدم جعل أمارات خاصّة لتحصيل الأحكام ، والاقتصار على العلم ، تضييقا على المكلّفين ومشقّة عليهم ، (١) لا سيّما بعد أن كانت تلك الأمارات قد اعتادوا سلوكها والأخذ بها في شئونهم الخاصّة وأمورهم الدنيويّة ، وبناء العقلاء كلّهم كان عليها.

وهذا الاحتمال الثاني قريب إلى التصديق جدّا ؛ فإنّه لا نشكّ في أنّ تكليف كلّ واحد من الناس بالرجوع إلى المعصوم أو الأخبار المتواترة في تحصيل جميع الأحكام أمر ، فيه ما لا يوصف من الضيق والمشقّة ، لا سيّما أنّ ذلك على خلاف ما جرت عليه طريقتهم في معرفة ما يتعلّق بشئونهم الدنيويّة.

وعليه ، فمن القريب ـ جدّا ـ أنّ الشارع إنّما رخّص في اتّباع الأمارات الخاصّة لغرض تسهيل الأخذ بأحكامه ، والوصول إليها. ومصلحة التسهيل من المصالح النوعيّة المتقدّمة في نظر الشارع على المصالح الشخصيّة التي قد تفوت أحيانا على بعض المكلّفين عند العمل بالأمارة لو أخطأت. وهذا أمر معلوم من طريقة الشريعة الإسلاميّة التي بنيت في تشريعها على التيسير والتسهيل. (٢)

__________________

(١) قوله : «تضييقا ...» اسم أنّ ، وقوله : «ومشقّة عليهم» عطف عليه.

(٢) ويدلّ عليه قوله (تعالى) : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.) البقرة (٢) الآية : ١٨٥.

٣٩٨

وعلى التقديرين والاحتمالين ؛ فإنّ الشارع في إذنه باتّباع الأمارة ـ طريقا إلى الوصول إلى الواقع من أحكامه ـ لا بدّ أن يفرض فيه أنّه قد تسامح في التكاليف الواقعيّة عند خطأ الأمارة ـ أي إنّ الأمارة تكون معذّرة للمكلّف ، فلا يستحقّ العقاب في مخالفة الحكم ، كما لا يستحقّ ذلك عند المخالفة في خطأ القطع ـ ، لا أنّه بقيام الأمارة يحدث حكم آخر ثانويّ ، بل شأنها في هذه الجهة شأن القطع ، بلا فرق.

ولذا ، إنّ الشارع ـ في الموارد التي يريد فيها المحافظة على تحصيل الواقع على كلّ حال ـ أمر باتّباع الاحتياط ، ولم يكتف بالظنون فيها ، وذلك كموارد الدماء ، والفروج.

١٣. الأمارة طريق أو سبب؟

قد أشرنا في البحث السابق إلى مذهبي السببيّة والطريقيّة في الأمارة ، وقد عقدنا هذا البحث لبيان هذا الخلاف ؛ فإنّ ذلك من الأمور التي وقعت أخيرا موضع البحث ، والردّ والبدل عند الأصوليّين ، فاختلفوا في أنّ الأمارة هل هي حجّة مجعولة على نحو الطريقيّة ، أو أنّها حجّة مجعولة على نحو السببيّة ، أي إنّها طريق أو سبب؟

والمقصود من كونها «طريقا» أنّها مجعولة لتكون موصلة فقط إلى الواقع للكشف عنه ؛ فإن أصابته فإنّه يكون منجّزا بها وهي منجّزة له ، وإن أخطأته فإنّها حينئذ تكون صرف معذّرة للمكلّف في مخالفة الواقع.

والمقصود من كونها «سببا» أنّها تكون سببا لحدوث مصلحة في مؤدّاها تقاوم تفويت مصلحة الأحكام الواقعيّة على تقدير الخطأ ، فينشئ الشارع حكما ظاهريّا على طبق ما أدّت إليه الأمارة.

والحقّ أنها مأخوذة على نحو «الطريقيّة». (١)

والسرّ في ذلك واضح بعد ما تقدّم ؛ فإنّ القول بالسببيّة ـ كما قلنا ـ مترتّب على القول بالطريقيّة ، يعني أنّ منشأ قول من قال بالسببيّة هو العجز عن تصحيح جعل الطرق على

__________________

(١) وهذا ما ذهب إليه كثير من المتأخّرين ، منهم : المحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ٤٩٩ ، والمحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٣ : ١٠٨ ، والمحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٤ (القسم الأوّل) : ١١١.

٣٩٩

نحو الطريقيّة ، فيلتجئ إلى فرض السببيّة.

أمّا : إذا أمكن تصحيح الطريقيّة فلا يبقى دليل على السببيّة ، ويتعيّن كون الأمارة طريقا محضا ؛ لأنّ الطريقيّة هي الأصل فيها.

ومعنى أنّ الطريقيّة هي الأصل أنّ طبع الأمارة ـ لو خلّيت ونفسها ـ يقتضي أن تكون طريقا محضا إلى مؤدّاها ؛ لأنّ لسانها التعبير عن الواقع ، والحكاية والكشف عنه ؛ على أنّ العقلاء إنّما يعتبرونها ، ويستقرّ بناؤهم عليها ، لأجل كشفها عن الواقع ، ولا معنى لأن يفرض في بناء العقلاء أنّه على نحو السببيّة ، وبناء العقلاء هو الأساس الأوّل في حجّيّة الأمارة ، كما سيأتي. (١)

نعم ، إذا منع مانع عقليّ من فرض الأمارة طريقا من جهة الشبهة المتقدّمة أو نحوها ، فلا بدّ أن تخرج على خلاف طبعها ، ونلتجئ إلى فرض السببيّة.

ولمّا كنّا دفعنا الشبهة في جعلها على نحو الطريقيّة فلا تصل النوبة إلى التماس دليل على سببيّتها ، أو طريقيّتها ؛ إذ لا موضع للترديد والاحتمال لنحتاج إلى الدليل ، هذا.

وقد يلتمس الدليل على السببيّة من نفس دليل حجّيّة الأمارة ، بأن يقال : إنّ دليل الحجّيّة لا شكّ أنّه يدلّ على وجوب اتّباع الأمارة. ولمّا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلّقاتها فلا بدّ أن تكون في اتّباع الأمارة مصلحة تقتضي وجوب اتّباعها ، وإن كانت على خطأ في الواقع. وهذه هي السببيّة بعينها.

أقول : والجواب عن ذلك واضح ؛ فإنّا نسلّم أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، ولكن لا يلزم في المقام أن تكون في نفس اتّباع الأمارة مصلحة ، بل يكفي أن ينبعث الوجوب من نفس مصلحة الواقع ، فيكون جعل وجوب اتّباع الأمارة لغرض تحصيل مصلحة الواقع ، بل يجب أن يكون الحال فيها كذلك ؛ لأنّه لا شكّ أنّ الغرض من جعل الأمارة هو الوصول بها إلى الواقع ، فالمحافظة على الواقع والوصول إليه هو الباعث على جعل الأمارة ؛ لغرض تنجيزه وتحصيله ، فيكون الأمر باتّباع الأمارة طريقا إلى تحصيل الواقع.

ولذا نقول : إذا لم تصب الواقع لا تكليف هناك ، ولا تدارك لما فات من الواقع ، وما هي

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٤٤٦ ـ ٤٤٧ من هذا الجزء.

٤٠٠