اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

المقصد الثالث

مباحث الحجّة

٣٦١
٣٦٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تمهيد :

إنّ مقصودنا من هذا البحث ـ وهو «مباحث الحجّة» ـ تنقيح ما يصلح أن يكون دليلا وحجّة على الأحكام الشرعيّة ، لنتوصّل إلى الواقع من أحكام الله (تعالى).

فإن أصبنا بالدليل ذلك الواقع ـ كما أردنا ـ فذلك هو الغاية القصوى والمقصد الأعلى ، وإن أخطأناه ، فنحن نكون معذورين غير معاقبين في مخالفة الواقع.

والسرّ في كوننا معذورين عند الخطأ هو أنّنا قد بذلنا جهدنا وقصارى وسعنا في البحث عن الطرق الموصلة إلى الواقع من أحكام الله (تعالى) ، حتى ثبت لدينا ـ على سبيل القطع ـ أنّ هذا الدليل المعيّن ـ كخبر الواحد مثلا ـ قد ارتضاه الشارع لنا طريقا إلى أحكامه ، وجعله حجّة عليها ، فالخطأ الذي نقع فيه إنّما جاء من [قبل] الدليل ـ الذي نصبه وارتضاه لنا ـ لا من قبلنا.

وسيأتي (١) بيان [أنّه] كيف نكون معذورين؟ وكيف يصحّ وقوع الخطأ في الدليل المنصوب حجّة ، مع أنّ الشارع هو الذي نصبه وجعله حجّة؟

ولا شكّ في أنّ هذا المقصد هو غاية الغايات من مباحث علم أصول الفقه ، وهو العمدة فيها ؛ لأنّه هو الذي يحصّل كبريات مسائل المقصدين السابقين (الأوّل والثاني) ، فإنّه لمّا كان يبحث في المقصد الأوّل عن تشخيص صغريات الظواهر اللفظيّة (٢) ، فإنّه في هذا

__________________

(١) سيأتي في الصفحة : ٤٠٠ «ولذا نقول : إذا لم تصب الواقع ...».

(٢) إنّ بعض مشايخنا الأعاظم قدس‌سره * التزم في المسألة الأصوليّة أنّها يجب أن تقع كبرى في القياس الذي ـ

__________________

* وهو المحقّق العراقي في مقالات الأصول ١ : ١٠ ـ ١١ ، ونهاية الأفكار ١ : ٢٢ ـ ٢٣.

٣٦٣

المقصد يبحث عن حجّيّة مطلق الظواهر اللفظيّة بنحو العموم ، فتتألّف الصغرى من نتيجة المقصد الأوّل ، والكبرى من نتيجة هذا المقصد ؛ ليستنتج من ذلك الحكم الشرعيّ ، فيقال ـ مثلا ـ :

صيغة «افعل» ظاهرة في الوجوب

(الصغرى)

وكلّ ظاهر حجّة

(الكبرى)

فينتج : صيغة «افعل» حجّة في الوجوب

(النتيجة)

فإذا وردت صيغة «افعل» في آية أو حديث استنتج (١) من ذلك وجوب متعلّقها.

وهكذا يقال في المقصد الثاني ؛ إذ يبحث فيه عن تشخيص صغريات أحكام العقل (٢) ، وفي هذا المقصد يبحث عن حجّيّة حكم العقل ، فتتألّف منهما صغرى وكبرى. (٣)

وقد أوضحنا كلّ ذلك في تمهيد المقصدين. فراجع. (٤)

__________________

ـ يستنبط منه الحكم الشرعيّ ، وجعل ذلك مناطا في كون المسألة أصوليّة ، ووجّه المسائل الأصوليّة على هذا النحو. وهو في الحقيقة لزوم ما لا يلزم * وقد أوضحنا الحقيقة هنا وفيما سبق.

(١) الأولى : يستنتج.

(٢) فيبحث فيه عن الإجزاء ، ووجوب مقدّمة الواجب ، وغيرهما من صغريات حكم العقل بالملازمة بينها وبين شيء آخر.

وهذه الصغريات كبريات عقليّة تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، فيقال مثلا : هذا المأتيّ به مأمور به في حال الاضطرار ... (الصغرى).

وكلّ مأتيّ به ـ الذي هو مأمور به حال الاضطرار ـ يلزمه عقلا الإجزاء عن المأمور به حال الاختيار ... (الكبرى). فينتج : فهذا المأتيّ به حال الاضطرار يجزئ عقلا عن المأمور به حال الاختيار.

(٣) والنتيجة الحاصلة من الصغرى والكبرى في القياس المذكور تقع صغرى لقياس آخر كبراه حجّية العقل ، فيقال ـ مثلا ـ :

العقل يحكم بالإجزاء (الصغرى).

وحكم العقل حجّة (الكبرى).

فحكم العقل بالإجزاء حجّة (النتيجة).

(٤) راجع الجزء الأوّل : ٦٧ ، والجزء الثاني : ٢٢١.

__________________

* أي التزام بما لا يلزم.

٣٦٤

وعليه ، فلا بدّ أن نستقصي في بحثنا عن كلّ ما قيل أو يمكن أن يقال باعتباره وحجّيّته ؛ لنستوفي البحث ، ولنعذر عند الله (تعالى) في اتّباع ما يصحّ اتّباعه ، وطرح ما لا يثبت اعتباره.

وينبغي لنا أيضا ـ من باب التمهيد والمقدّمة ـ أن نبحث عن موضوع هذا المقصد ، وعن معنى الحجّيّة ، وخصائصها ، والمناط فيها ، وكيفيّة اعتبارها ، وما يتعلّق بذلك ، فنضع المقدّمة في عدّة مباحث ، كما نضع المقصد في عدّة أبواب :

تمرينات (٤٢)

التمرين الأوّل :

١. ما المقصود من البحث عن المقصد الثالث «مباحث الحجّة»؟

٢. ما السرّ في كوننا معذورين عند الخطأ؟

٣. كيف يستنتج الحكم الشرعي من نتيجة المقصد الأوّل ، ونتيجة المقصد الثالث؟ اذكر مثالا.

التمرين الثاني :

١. ما هو رأي المحقّق العراقيّ في مناط كون المسألة أصوليّة؟

٢. كيف يستنتج الحكم الشرعي من نتيجة المقصد الثاني ونتيجة هذا المقصد؟ اذكر مثالا.

٣٦٥

المقدّمة

وفيها مباحث :

١. موضوع المقصد الثالث

من التمهيد المتقدّم في بيان المقصود من «مباحث الحجّة» يتبيّن لنا أنّ الموضوع لهذا المقصد ـ الذي يبحث فيه عن لواحق ذلك الموضوع ومحمولاته ـ هو «كلّ شيء يصلح أن يدّعى ثبوت الحكم الشرعيّ به ، ليكون دليلا وحجّة عليه».

فإن استطعنا في هذا المقصد أن نثبت بدليل قطعيّ (١) أنّ هذا الطريق ـ مثلا ـ حجّة أخذنا به ورجعنا إليه لإثبات الأحكام الشرعيّة ، وإلاّ طرحناه وأهملناه ، (٢) وبصريح العبارة نقول :

إنّ الموضوع لهذا المقصد في الحقيقة هو «ذات الدليل» بما هو في نفسه ، لا بما هو دليل.

وأمّا محمولاته ولواحقه ـ التي نفحصها ونبحث عنها لإثباتها له ـ فهي كون ذلك الشيء دليلا وحجّة ، فإمّا أن نثبت ذلك أو ننفيه.

ولا يصحّ أن نجعل موضوعه «الدليل بما هو دليل» ، أو «الحجّة بما هي حجّة» ،

__________________

(١) سيأتي في المبحث السادس بيان أنّه لما ذا يجب أن يكون ثبوت حجّيّة الدليل بالدليل القطعيّ ، ولا يكفي الدليل الظنّيّ؟ ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) وفي س ونبذناه.

٣٦٦

أي بصفة كونه دليلا وحجّة ، كما نسب ذلك إلى المحقّق القمّي رحمه‌الله في قوانينه ؛ إذ جعل موضوع علم الأصول الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة (١).

ولو كان الأمر كما ذهب إليه رحمه‌الله ، لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد كلّها عن علم الأصول ؛ لأنّها تكون حينئذ من مبادئه التصوّريّة ، لا من مسائله. وذلك واضح ؛ لأنّ البحث عن حجّيّة الدليل يكون بحثا عن أصل وجود الموضوع وثبوته الذي هو مفاد «كان» التامّة ، لا بحثا عن لواحق الموضوع الذي هو مفاد «كان» الناقصة. والمعروف عند أهل الفنّ أنّ البحث عن وجود الموضوع ـ أيّ موضوع كان ، سواء كان موضوع العلم أو موضوع أحد أبوابه ومسائله ـ معدود من مبادئ العلم التصوّريّة ، لا من مسائله.

ولكن هنا ملاحظة (٢) ينبغي التنبيه عليها في هذا الصدد ، (٣) وهي : أنّ تخصيص موضوع علم الأصول بالأدلّة الأربعة ـ كما فعل الكثير من مؤلّفينا (٤) ـ يستدعي أن يلتزموا بأنّ الموضوع هو الدليل بما هو دليل ، كما فعل صاحب القوانين ؛ وذلك لأنّ هؤلاء لمّا خصّصوا الموضوع بهذه الأربعة فإنّما خصّصوه بها ؛ لأنّها معلومة الحجّيّة عندهم ، فلا بدّ أنّهم لاحظوها موضوعا للعلم بما هي أدلّة ، لا بما هي هي ، وإلاّ لجعلوا الموضوع شاملا لها ولغيرها ممّا هو غير معتبر عندهم ، كالقياس ، والاستحسان ، ونحوهما ، وما كان وجه لتخصيصه بالأدلّة الأربعة.

وحينئذ لا مخرج لهم من الإشكال المتقدّم ، وهو لزوم خروج عمدة مسائل علم الأصول عنه.

وعلى هذا ، فيتّضح أنّ مناقشة صاحب الفصول (٥) لصاحب القوانين ليست في محلّها ؛ لأنّ دعواه هذه لا بدّ من الالتزام بها بعد الالتزام بأنّ الموضوع خصوص الأدلّة الأربعة ، وإن لزم عليه إشكال خروج أهمّ المسائل عنه.

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٩.

(٢) وفي س : نكتة.

(٣) أي القصد والمقصد.

(٤) منهم : صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١١ و ١٢.

(٥) المصدر السابق.

٣٦٧

ولو كان الموضوع هي الأدلّة بما هي هي ـ كما ذهب إليه صاحب الفصول ـ لما كان معنى لتخصيصه بخصوص الأربعة ، ولوجب تعميمه لكلّ ما يصلح أن يبحث عن دليليّته ، وإن ثبت بعد البحث أنّه ليس بدليل.

والخلاصة أنّه إمّا أن نخصّص الموضوع بالأدلّة الأربعة فيجب أن نلتزم بما التزم به صاحب القوانين ، فتخرج مباحث هذا المقصد الثالث عن علم الأصول ، وإمّا أن نعمّم الموضوع ـ كما هو الصحيح ـ لكلّ ما يصلح أن يدّعى أنّه دليل فلا يختصّ بالأربعة ، وحينئذ يصحّ أن نلتزم بما التزم به صاحب الفصول ، وتدخل مباحث هذا المقصد في مسائل العلم.

فالالتزام بأنّ الموضوع هي [الأدلّة] الأربعة فقط ، ثمّ الالتزام بأنّها بما هي هي ، لا يجتمعان. (١)

وهذا (٢) أحد الشواهد على تعميم موضوع علم الأصول لغير الأدلّة الأربعة ، وهو الذي نريد إثباته هنا. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. (٣)

والنتيجة أنّ الموضوع ـ الذي يبحث عنه في هذا المقصد ـ هو «كلّ شيء يصلح أن يدّعى أنّه دليل وحجّة» ، فيعمّ البحث كلّ ما [يصلح أن] يقال : إنّه حجّة ، فيدخل فيه البحث عن حجّيّة خبر الواحد ، والظواهر ، والشهرة ، والإجماع المنقول ، والقياس ، والاستحسان ، ونحو ذلك ، بالإضافة إلى البحث عن أصل الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل.

فما ثبت أنّه حجّة من هذه الأمور أخذنا به ، وما لم يثبت طرحناه.

كما يدخل فيه أيضا البحث عن مسألة التعادل والتراجيح ؛ لأنّ البحث فيها ـ في الحقيقة ـ عن تعيين ما هو حجّة ودليل من بين المتعارضين ، فتكون المسألة من مسائل مباحث الحجّة.

__________________

(١) قوله : «لا يجتمعان» خبر للالتزامين.

(٢) أي عدم اجتماع الالتزامين.

(٣) راجع المقصد الأوّل : ٢١.

٣٦٨

ونحن جعلناها في الجزء الأوّل خاتمة لعلم الأصول (١) ؛ اتّباعا لمنهج القوم ، ورأينا الآن العدول عن ذلك ؛ رعاية لواقعها ، وللاختصار.

تمرينات (٤٣)

١. ما هو موضوع المقصد الثالث؟

٢. لم لا يصحّ أن يجعل موضوع هذا المقصد الدليل بما هو دليل ، أو الحجّة بما هي حجّة؟

٣. ما الفرق بين مفاد «كان» التامّة ، و «كان» الناقصة؟

٤. ما هو رأي صاحب الفصول في موضوع علم الأصول؟

٥. ما الدليل على تعميم موضوع علم الأصول لغير الأدلّة الأربعة؟

٦. كيف تدخل مسألة التعادل والتراجيح في مباحث الحجّة؟

__________________

(١) راجع المقصد الأوّل : ٢٢.

٣٦٩

٢. معنى الحجّة

١. الحجّة لغة : كلّ شيء يصلح أن يحتجّ به على الغير. (١)

وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه. والظفر على الغير على نحوين : إمّا بإسكاته وقطع عذره وإبطاله ، وإمّا بأن يلجئه إلى [قبول] عذر صاحب الحجّة ، فتكون الحجّة معذّرة له لدى الغير.

٢. وأمّا الحجّة في الاصطلاح العلميّ فلها معنيان أو اصطلاحان :

أ : ما عند المناطقة. ومعناها : «كلّ ما يتألّف من قضايا تنتج مطلوبا» ، أي مجموع القضايا المترابطة التي يتوصّل بتأليفها وترابطها إلى العلم بالمجهول ، سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن. وقد يطلقون الحجّة أيضا على نفس «الحدّ الأوسط» في القياس. (٢)

ب : ما عند الأصوليّين. ومعناها عندهم حسب تتبّع استعمالها : «كلّ شيء يثبت متعلّقه ولا يبلغ درجة القطع» ، أي لا يكون سببا للقطع بمتعلّقه ، وإلاّ فمع القطع يكون القطع هو الحجّة ، ولكن هو حجّة بمعناها اللغويّ. أو قل بتعبير آخر : «الحجّة : كلّ شيء يكشف عن شيء آخر ، ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له».

ونعني بكونه مثبتا له : أنّ إثباته له يكون بحسب الجعل من الشارع لا بحسب ذاته. ويكون معنى «إثباته له» حينئذ أنّه يثبت الحكم الفعليّ في حقّ المكلّف بعنوان أنّه (٣) هو الواقع. وإنّما يصحّ ذلك ويكون مثبتا له بضميمة الدليل على اعتبار ذلك الشيء الكاشف الحاكي ، وعلى أنّه حجّة من قبل الشارع.

وسيأتي إن شاء الله (تعالى) تحقيق معنى الجعل للحجيّة ، و [أنّه] كيف يثبت

__________________

(١) كما قال في مجمع البحرين ١٥٥ : «الحجّة ـ بضمّ الحاء ، ـ : الاسم من الاحتجاج».

(٢) راجع حاشية ملاّ عبد الله : ٣٧. وقال في فوائد الأصول ٣ : ٧ : «الحجّة باصطلاح المنطقي عبارة عن الوسط الذي بينه وبين الأكبر ـ الذي يراد إثباته للأصغر ـ علقة وربط ثبوتي».

(٣) أي ذلك الحكم الفعليّ.

٣٧٠

الحكم بالحجّة؟ (١)

وعلى هذا ، فالحجّة بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع ـ أي : إنّ القطع لا يسمّى حجّة بهذا المعنى ، بل بالمعنى اللغويّ ؛ لأنّ طريقيّة القطع ـ كما سيأتي (٢) ـ ذاتيّة غير مجعولة من قبل أحد.

وتكون الحجّة بهذا المعنى الأصوليّ مرادفة لكلمة «الأمارة» ، كما أنّ كلمة «الدليل» ، وكلمة «الطريق» تستعملان في هذا المعنى ، فتكونان مرادفتين لكلمة «الأمارة» ، و «الحجّة» ، أو كالمرادفتين.

وعليه ، فلك أن تقول في عنوان هذا المقصد بدل كلمة «مباحث الحجّة» : مباحث الأمارات ، (٣) أو مباحث الأدلّة ، (٤) أو مباحث الطرق. (٥) وكلّها يؤدّي معنى واحدا. (٦)

وممّا ينبغي التنبيه عليه في هذا الصدد أنّ استعمال كلمة «الحجّة» في المعنى الذي تؤدّيه كلمة «الأمارة» مأخوذ من المعنى اللغويّ (٧) من باب تسمية الخاصّ باسم العامّ ؛ نظرا إلى أنّ الأمارة ممّا يصحّ أن يحتجّ المكلّف بها إذا عمل بها وصادفت مخالفة الواقع ، فتكون معذّرة له ، كما أنّها ممّا يصحّ أن يحتجّ بها المولى على المكلّف إذا لم يعمل بها ، ووقع في مخالفة الحكم الواقعيّ ، فيستحقّ العقاب على المخالفة.

__________________

(١) سيأتي في المبحث الثاني عشر.

(٢) يأتي في المبحث السابع.

(٣) كما في كفاية الأصول : ٢٩٥.

(٤) كما في كتاب دروس في علم الأصول ١ : ١٩١ و ٢ : ٤٥.

(٥) كما في فوائد الأصول ٣ : ٨٨.

(٦) وهو الكاشفيّة عن شيء آخر ، والحكاية عنه على وجه يكون مثبتا له.

(٧) وهو الاحتجاج المطلق.

٣٧١

تمرينات (٣)

التمرين الأوّل :

١. ما هو معنى الحجّة لغة؟

٢. ما هو معنى الحجّة عند المناطقة؟

٣. ما هو معنى الحجّة عند الأصوليّين؟

التمرين الثاني :

١. ما الفرق بين المرادف وبين كالمرادف في عبارة المصنّف؟

٢. اذكر أقوال العلماء في عنوان المقصد الثالث؟

٣٧٢

٣. مدلول كلمة «الأمارة» و «الظنّ المعتبر»

بعد أن قلنا : إنّ الأمارة مرادفة لكلمة «الحجّة» باصطلاح الأصوليّين ، ينبغي أن ننقل الكلام إلى كلمة «الأمارة» لنتسقّط بعض استعمالاتها ، كما سنستعملها بدل كلمة «الحجّة» في المباحث الآتية ، فنقول :

إنّه كثيرا ما يجري على ألسنة الأصوليّين إطلاق كلمة «الأمارة» على معنى ما تؤدّيه كلمة «الظنّ» ، ويقصدون من الظنّ «الظنّ المعتبر» ، أي الذي اعتبره الشارع ، وجعله حجّة ، ويوهم ذلك أنّ الأمارة والظنّ المعتبر لفظان مترادفان يؤدّيان معنى واحدا ، مع أنّهما ليسا كذلك.

وفي الحقيقة أنّ هذا تسامح في التعبير منهم على نحو المجاز في الاستعمال ، لا أنّه وضع آخر لكلمة «الأمارة». وإنّما مدلول الأمارة الحقيقي (١) هو كلّ شيء اعتبره الشارع لأجل أنّه يكون سببا للظنّ ، كخبر الواحد والظواهر.

والمجاز هنا إمّا من جهة إطلاق السبب على مسبّبه فيسمّى الظنّ المسبّب «أمارة» ؛ وإمّا من جهة إطلاق المسبّب على سببه فتسمّى الأمارة ـ التي هي سبب للظنّ ـ : «ظنّا» ، فيقولون : «الظنّ المعتبر» ، و «الظنّ الخاصّ» ، والاعتبار والخصوصيّة إنّما هما لسبب الظنّ.

ومنشأ هذا التسامح في الإطلاق هو أنّ السرّ في اعتبار الأمارة وجعلها حجّة وطريقا هو إفادتها للظنّ دائما أو على الأغلب ، ويقولون للثاني ـ الذي يفيد الظنّ على الأغلب ـ : «الظنّ النوعيّ» على ما سيأتي بيانه.

٤. الظنّ النوعيّ

ومعنى «الظنّ النوعيّ» : أنّ الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظنّ عند غالب الناس ونوعهم. واعتبارها عند الشارع إنّما يكون من هذه الجهة ، فلا يضرّ في اعتبارها وحجيّتها ألاّ يحصل منها ظنّ فعليّ للشخص الذي قامت عنده الأمارة ، بل تكون حجّة عند

__________________

(١) أي إنّما المدلول الحقيقي لكلمة «الأمارة» هو ....

٣٧٣

هذا الشخص أيضا حيث إنّ دليل اعتبارها دلّ على أنّ الشارع إنّما اعتبرها حجّة ورضي بها طريقا ؛ لأنّ من شأنها أن تفيد الظنّ ، وإن لم يحصل الظنّ الفعليّ منها لدى بعض الأشخاص.

ثمّ لا يخفى عليك أنّا قد نعبّر فيما يأتي تبعا للأصوليّين فنقول : «الظنّ الخاصّ» ، أو «الظنّ المعتبر» ، أو «الظنّ الحجّة» ، وأمثال هذه التعبيرات ، والمقصود منها دائما سبب الظنّ ـ أعني الأمارة المعتبرة وإن لم تفد ظنّا فعليّا ـ ، فلا يشتبه عليك الحال.

٥. الأمارة والأصل العمليّ

واصطلاح الأمارة لا يشمل «الأصل العمليّ» ، كالبراءة ، والاحتياط ، والتخيير ، والاستصحاب ، بل هذه الأصول تقع في جانب والأمارة في جانب آخر مقابل له ، فإنّ المكلّف إنّما يرجع إلى الأصول إذا افتقد الأمارة ، أي إذا لم تقم عنده الحجّة على الحكم الشرعيّ الواقعيّ على ما سيأتي توضيحه ، وبيان السرّ فيه. (١)

ولا ينافي ذلك أنّ هذه الأصول أيضا قد يطلق عليها أنّها حجّة ، فإنّ إطلاق الحجّة عليها ليس بمعنى الحجّة في باب الأمارات ، بل بالمعنى اللغويّ باعتبار أنّها معذّرة للمكلّف إذا عمل بها وأخطأ الواقع ، ويحتجّ بها المولى على المكلّف إذا خالفها ولم يعمل بها ففوّت الواقع المطلوب ؛ ولأجل هذا جعلنا باب «الأصول العمليّة» بابا آخر مقابل باب «مباحث الحجّة».

وقد أشير في تعريف «الأمارة» إلى خروج الأصول العمليّة بقولهم : «يثبت متعلّقه» ؛ لأنّ الأصول العمليّة لا تثبت متعلّقاتها ؛ لأنّه ليس لسانها لسان إثبات الواقع والحكاية عنه ، وإنّما هي في حقيقتها مرجع للمكلّف في مقام العمل عند الحيرة والشكّ في الواقع ، وعدم ثبوت حجّة عليه. وغاية شأنها أنّها تكون معذّرة للمكلّف.

ومن هنا اختلفوا في الاستصحاب ، هل إنّه أمارة أو أصل؟ باعتبار أنّ له شأن الحكاية عن الواقع ، وإحرازه في الجملة ؛ لأنّ اليقين السابق غالبا ما يورث الظنّ ببقاء المتيقّن في

__________________

(١) يأتي في المقصد الرابع : ٥٩٧ ـ ٥٩٨.

٣٧٤

الزمان اللاحق ؛ ولأنّ حقيقته ـ كما سيأتي في موضعه (١) ـ البناء على اليقين السابق بعد الشكّ ، كأنّ المتيقّن السابق لم يزل ولم يشكّ في بقائه. ولأجل هذا سمّي الاستصحاب عند من يراه أصلا : «أصلا محرزا».

فمن لاحظ في الاستصحاب جهة ما له من إحراز وأنّه يوجب الظنّ ، واعتبر حجّيّته من هذه الجهة عدّه من الأمارات. (٢) ومن لاحظ فيه أنّ الشارع إنّما جعله مرجعا للمكلّف عند الشكّ والحيرة ، واعتبر حجّيّته من جهة دلالة الأخبار عليه عدّه من جملة الأصول. (٣) وسيأتي إن شاء الله (تعالى) شرح ذلك في محلّه مع بيان الحقّ فيه. (٤)

تمرينات (٤٥)

١. ما معنى «الظنّ المعتبر»؟

٢. ما هو مدلول الأمارة؟

٣. ما هو الوجه المصحّح لإطلاق كلمة «الأمارة» على الظنّ المعتبر وبالعكس؟

٤. ما معنى «الظنّ النوعيّ»؟

٥. ما الفرق بين الأمارة والأصل العملي؟

٦. هل الاستصحاب أمارة أو أصل؟ اذكر آراء العلماء.

__________________

(١) يأتي في المقصد الرابع : ٦٠٢.

(٢) هذا يظهر من كلمات القدماء. راجع معالم الدين : ٢٤٩ ـ ٢٥٣ ؛ معارج الأصول : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ؛ الغنية «الجوامع الفقهيّة» : ٥٤٨.

(٣) ذهب الشيخ الأنصاريّ إلى أنّه من الأصول بناء على كونه حجّة من جهة دلالة الأخبار ، وأنّه من الأمارات بناء على كونه من أحكام العقل ، واختار الأوّل وعدّه من الأصول العمليّة. راجع فرائد الأصول ٢ : ٥٤٣.

(٤) خلاصة مذهبه أنّه من جملة الأصول على جميع المباني ، كما يأتي في الجزء الرابع : ٢٥٩ و ٢٦٠.

٣٧٥

٦. المناط في إثبات حجّيّة الأمارة

ممّا يجب أن نعرفه ـ قبل البحث والتفتيش عن الأمارات التي هي حجّة ـ [أنّ] المناط في إثبات حجّيّة الأمارة [ما هو؟] وأنّه بأيّ شيء يثبت لنا أنّها حجّة يعوّل عليها؟ وهذا هو أهمّ شيء تجب معرفته قبل الدخول في المقصود ، فنقول :

إنّه لا شكّ في أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا يصحّ أن يكون هو المناط في حجّيّة الأمارة ، ولا يجوز أن يعوّل عليه في إثبات الواقع ؛ لقوله (تعالى) : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (١). وقد ذمّ الله (تعالى) في كتابه المجيد من يتّبع الظنّ بما هو ظنّ ، كقوله (تعالى) : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (٢) ، وقال (تعالى) : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٣).

وفي هذه الآية الأخيرة ـ بالخصوص ـ قد جعل ما أذن به أمرا مقابلا للافتراء عليه ، فما لم يأذن به لا بدّ أن يكون افتراء بحكم المقابلة بينهما ، فلو نسبنا الحكم إلى الله (تعالى) من دون إذن منه فلا محالة يكون افتراء محرّما ، مذموما بمقتضى الآية. ولا شكّ في أنّ العمل بالظنّ والالتزام به على أنّه من الله (تعالى) ومثبت لأحكامه يكون من نوع نسبة الحكم إليه من دون إذن منه ، فيدخل في قسم الافتراء المحرّم.

وعلى هذا التقرير ، فالقاعدة تقتضي أنّ الظنّ بما هو ظنّ لا يجوز العمل على مقتضاه ، ولا الأخذ به لإثبات أحكام الله (تعالى) مهما كان سببه ؛ لأنّه لا يغني من الحقّ شيئا ، فيكون خرصا باطلا ، (٤) وافتراء محرّما.

هذا مقتضى القاعدة الأوّليّة في الظنّ بمقتضى هذه الآيات الكريمة ، ولكن لو ثبت بدليل قطعيّ وحجّة يقينيّة أنّ الشارع قد جعل ظنّا خاصّا من سبب مخصوص طريقا لأحكامه ،

__________________

(١) النجم (٥٣) الآية : ٢٨ ؛ يونس (١٠) الآية : ٣٦.

(٢) الأنعام (٦) الآية : ١١٦ ؛ يونس (١٠) الآية : ٦٦.

(٣) يونس (١٠) الآية : ٥٩.

(٤) الخرص أي الحدس والقول بالظنّ.

٣٧٦

واعتبره حجّة عليها ، وارتضاه أمارة يرجع إليها ، وجوّز لنا الأخذ بذلك السبب المحقّق للظنّ ، فإنّ هذا الظنّ يخرج عن مقتضى تلك القاعدة الأوّليّة ؛ إذ لا يكون خرصا ، وتخمينا ، ولا افتراء.

وخروجه من القاعدة يكون تخصيصا بالنسبة إلى آية النهي عن اتّباع الظنّ ، ويكون تخصّصا بالنسبة إلى آية الافتراء ؛ لأنّه يكون حينئذ من قسم ما أذن الله (تعالى) به ، وما أذن به ليس افتراء.

وفي الحقيقة أنّ الأخذ بالظنّ المعتبر ـ الذي ثبت على سبيل القطع أنّه حجّة ـ لا يكون أخذا بالظنّ بما هو ظنّ ، وإن كان اعتباره عند الشارع من جهة كونه ظنّا ، بل يكون أخذا بالقطع واليقين ، ذلك القطع الذي قام على اعتبار ذلك السبب المحقّق للظنّ ، وسيأتي أنّ القطع حجّة بذاته ، لا يحتاج إلى جعل من أحد. (١)

ومن هنا يظهر الجواب عمّا شنع (٢) به جماعة من الأخباريّين على الأصوليّين من أخذهم ببعض الأمارات الظنّيّة الخاصّة ، كخبر الواحد ونحوه ، إذ شنعوا عليهم بأنّهم أخذوا بالظنّ الذي لا يغني من الحقّ شيئا.

وقد فاتهم أنّ الأصوليّين إذ أخذوا بالظنون الخاصّة لم يأخذوا بها من جهة أنّها ظنون فقط ، بل أخذوا بها من جهة أنّها معلومة الاعتبار على سبيل القطع بحجيّتها ، فكان أخذهم بها في الحقيقة أخذا بالقطع واليقين ، لا بالظنّ والخرص والتخمين ؛ ولأجل هذا سمّيت الأمارات المعتبرة بـ «الطرق العلميّة» ؛ نسبة إلى العلم القائم على اعتبارها وحجّيّتها ؛ لأنّ حجّيّتها ثابتة بالعلم.

إلى هنا يتّضح ما أردنا أن نرمي إليه ، وهو أنّ المناط في إثبات حجّيّة الأمارات ، ومرجع اعتبارها ، وقوامها ما هو؟ إنّه العلم القائم على اعتبارها وحجّيّتها ، فإذا لم يحصل العلم بحجّيّتها واليقين بإذن الشارع بالتعويل عليها والأخذ بها لا يجوز الأخذ بها وإن أفادت ظنّا غالبا ؛ لأنّ الأخذ بها يكون حينئذ خرصا وافتراء على الله (تعالى) ؛ ولأجل

__________________

(١) يأتي في المبحث السابع : ٣٨٠.

(٢) أي استقبح وفضح.

٣٧٧

هذا قالوا : يكفي في طرح الأمارة أن يقع الشكّ في اعتبارها ، أو فقل على الأصحّ : يكفي ألاّ يحصل العلم باعتبارها ؛ فإنّ نفس عدم العلم بذلك كاف في حصول العلم بعدم اعتبارها ، أي بعدم جواز التعويل عليها والاستناد إليها. وذلك كالقياس والاستحسان وما إليهما وإن أفادت ظنّا قويّا.

ولا نحتاج في مثل هذه الأمور إلى الدليل على عدم اعتبارها ، وعدم حجّيّتها ، بل بمجرّد عدم حصول القطع بحجّيّة الشيء يحصل القطع بعدم جواز الاستناد إليه في مقام العمل ، وبعدم صحّة التعويل عليه ، فيكون القطع مأخوذا في موضوع حجّيّة الأمارة.

ويتحصّل من ذلك كلّه أنّ أماريّة الأمارة وحجّيّة الحجّة إنّما تحصل وتتحقّق بوصول علمها إلى المكلّف ، وبدون العلم بالحجّيّة لا معنى لفرض كون الشيء أمارة وحجّة ، ولذا قلنا : «إنّ مناط إثبات الحجّيّة وقوامها (١) العلم» ، فهو (٢) مأخوذ في موضوع الحجيّة ؛ فإنّ العلم تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة.

ولزيادة الإيضاح لهذا الأمر ، ولتمكين النفوس المبتدئة من الاقتناع بهذه الحقيقة البديهيّة نقول من طريق آخر لإثباتها :

أوّلا : إنّ الظنّ بما هو ظنّ ليس حجّة بذاته.

وهذه مقدّمة واضحة قطعيّة ، وإلاّ لو كان الظنّ حجة بذاته ، لما جاز النهي عن اتّباعه والعمل به ، ولو في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئيّة ؛ لأنّ ما هو بذاته حجّة يستحيل النهي عن الأخذ به ، كما سيأتي في حجّيّة القطع (المبحث الآتي) ، ولا شكّ في وقوع النهي عن اتّباع الظنّ في الشريعة الإسلاميّة المطهّرة ، ويكفي في إثبات ذلك قوله (تعالى) : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ...) (٣)

ثانيا : إذا لم يكن الظنّ حجّة بذاته فحجّيّته تكون عرضيّة ـ أي إنّها تكون مستفادة من الغير ـ ؛ فننقل الكلام إلى ذلك الغير المستفادة منه حجّيّة الظنّ ؛ فإن كان هو القطع ، فذلك هو

__________________

(١) أي قوام الأمارة.

(٢) أي العلم.

(٣) الأنعام (٦) الآية : ١١٦ ؛ يونس (١٠) الآية : ٦٦.

٣٧٨

المطلوب ؛ وإن لم يكن قطعا ، فما هو؟

وليس يمكن فرض شيء آخر غير نفس الظنّ ؛ فإنّه لا ثالث لهما يمكن فرض حجّيّته.

ولكنّ الظنّ الثاني القائم على حجّيّة الظنّ الأوّل أيضا ليس حجّة بذاته ؛ إذ لا فرق بين ظنّ وظنّ من هذه الناحية ؛ فننقل الكلام إلى هذا الظنّ الثاني ، ولا بدّ أن تكون حجّيّته أيضا مستفادة من الغير ، فما هو ذلك الغير؟ فإن كان هو القطع فذلك هو المطلوب ؛ وإن لم يكن قطعا فظنّ ثالث. فننقل الكلام إلى هذا الظنّ الثالث ، فيحتاج إلى ظنّ رابع ، وهكذا إلى غير النهاية ، ولا ينقطع التسلسل إلاّ بالانتهاء إلى ما هو حجّة بذاته ، وليس هو إلاّ العلم.

ثالثا : فانتهى الأمر بالأخير إلى العلم ، فتمّ المطلوب.

وبعبارة أسدّ وأخصر ، نقول :

إنّ الظنّ لمّا كانت حجّيّته ليست ذاتيّة ، فلا تكون إلاّ بالعرض ؛ وكلّ ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما هو بالذات ، ولا مجاز بلا حقيقة ؛ وما هو حجّة بالذات ليس إلاّ «العلم» ؛ فانتهى الأمر بالأخير إلى «العلم».

وهذا ما أردنا إثباته ، وهو أنّ قوام الأمارة والمناط في إثبات حجّيّتها هو العلم ؛ فإنّه تنتهي إليه حجّيّة كلّ حجّة ؛ لأنّ حجّيّته ذاتيّة.

تمرينات (٤٦)

١. ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية في الظنّ؟

٢. ما المناط في إثبات حجيّة الأمارة؟ بيّن المقدّمات الثلاث التي ذكرها المصنّف في المقام.

٣. اذكر ما شنع به الأخباريّون على الأصوليين ، والجواب عنه.

٣٧٩

٧. حجّية العلم ذاتيّة

كرّرنا في البحث السابق القول بأنّ «حجّيّة العلم ذاتيّة» ، ووعدنا ببيانها ، وقد حلّ هنا الوفاء بالوعد ؛ فنقول :

قد ظهر ممّا سبق معنى كون الشيء حجّيّته ذاتيّة ؛ (١) فإنّ معناه أنّ حجّيّته منبعثة من نفس طبيعة ذاته ، فليست مستفادة من الغير ، ولا تحتاج إلى جعل من الشارع ، ولا إلى صدور أمر منه باتّباعه ، بل العقل هو الذي يكون حاكما بوجوب اتّباع ذلك الشيء ؛ وما هذا شأنه ليس هو إلاّ العلم.

ولقد أحسن الشيخ العظيم الأنصاريّ قدس‌سره مجلّي (٢) هذه الأبحاث في تعليل وجوب متابعة القطع (٣) ، فإنّه بعد أن ذكر أنّه «لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا» علّل ذلك بقوله : «لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع. وليست طريقيّته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا». (٤)

وهذا الكلام فيه شيء من الغموض (٥) بعد أن اختلفت تعبيرات الأصوليّين من بعده ، فنقول لبيانه :

إنّ هنا شيئين أو تعبيرين :

أحدهما : وجوب متابعة القطع والأخذ به.

ثانيهما : طريقيّة القطع للواقع.

فما المراد من كون القطع حجّة بذاته؟ هل المراد أنّ وجوب متابعته أمر ذاتيّ له ،

__________________

(١) والأولى : معنى كون حجيّة الشيء ذاتيّة.

(٢) المجلّي : موضح هذه الأبحاث.

(٣) ممّا يجب التنبيه عليه أنّ المراد من العلم هنا هو «القطع» ، أي الجزم الذي لا يحتمل الخلاف ، ولا يعتبر فيه أن يكون مطابقا للواقع في نفسه ، وإن كان في نظر القاطع ليس إلاّ مطابقا للواقع ، فالقطع ـ الذي هو حجّة تجب متابعته ـ أعمّ من اليقين والجهل المركّب ، يعني أنّ المبحوث عنه هو العلم من جهة أنّه جزم لا يحتمل الخلاف عند القاطع ـ منه قدس‌سره ـ.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٤.

(٥) ولعلّ الوجه في الغموض أنّه لا معنى لوجوب متابعة القطع إلاّ كون القطع بنفسه طريقا إلى الواقع ، كما سيأتي.

٣٨٠