اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

لما عرفت سابقا (١) من أنّ المعنون لا يقع بنفسه متعلّقا للتكليف ، لا قبل وجوده ولا بعد وجوده ، وإنّما يكون الداعي إلى إتيان الفعل هو تطبيق العنوان المأمور به عليه الذي ليس بمنهيّ عنه ، لا أنّ الداعي إلى إتيانه تعلّق الأمر به ذاته ، فيكون المكلّف في فعل واحد بالجمع بين عنواني الأمر والنهي مطيعا للأمر من جهة انطباق العنوان المأمور به [عليه] ، وعاصيا من جهة انطباق العنوان المنهيّ عنه [عليه] ، نظير الاجتماع المورديّ ، كما تقدّم توضيحه في تحرير محلّ النزاع (٢).

وقيل : إنّ الثمرة في مسألتنا هو إجراء أحكام المتعارضين على دليلي الأمر والنهي بناء على الامتناع ، وإجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز (٣).

ولكن إجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز إنّما يلزم إذا كان القائل بالجواز إنّما يقول بالجواز في مقام الجعل والإنشاء ، دون مقام الامتثال ، بل يمتنع الاجتماع في مقام الامتثال ، وحينئذ لا محالة يقع التزاحم بين الأمر والنهي.

أمّا : إذا قلنا بالجواز في مقام الامتثال أيضا ـ كما أوضحناه ـ فلا موجب للتزاحم بين الحكمين ، مع وجود المندوحة ، بل يكون مطيعا عاصيا في فعل واحد ، كالاجتماع المورديّ بلا فرق ؛ إذ لا دوران حينئذ بين امتثال الأمر ، وامتثال النهي.

اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة (٤)

تقدّم الكلام كلّه في اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك مندوحة من الجمع بين المأمور به والمنهيّ عنه ، وقد جمع المكلّف بينهما في فعل واحد بسوء اختياره. ويلحق به ما كان الجمع بينهما عن غفلة أو جهل. وقد ذهبنا إلى جواز الاجتماع في مقامي الجعل والامتثال.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٣٣٣.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٣٢١.

(٣) قال به في دروس في علم الأصول ٢ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

(٤) وفي «س» زاد قوله : أي مع الاضطرار.

٣٤١

وبقي الكلام في اجتماعهما مع عدم المندوحة ، وذلك بأن يكون المكلّف مضطرّا إلى هذا الجمع بينهما. والاضطرار على نحوين :

الأوّل : أن يكون بدون سبق اختيار للمكلّف في الجمع ، كمن اضطرّ لإنقاذ غريق إلى التصرّف في أرض مغصوبة ، فيكون تصرّفه في الأرض واجبا من جهة إنقاذ الغريق ، وحراما من جهة التصرّف في المغصوب.

فإنّه في هذا الفرض لا بدّ أن يقع التزاحم بين الواجب والحرام في مقام الامتثال ؛ إذ لا مندوحة للمكلّف حسب الفرض ، فلا بدّ في مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغريق من الجمع ؛ لانحصار امتثال الواجب في هذا الفرد المحرّم ، فيدور الأمر بين أن يعصي الأمر أو يعصي النهي. وفي مثله يرجع إلى أقوى الملاكين ، فإن كان ملاك الأمر أقوى ـ كما في المثال المذكور ـ قدّم جانب الأمر ، ويسقط النهي عن الفعليّة ، وإن كان ملاك النهي أقوى قدّم جانب النهي ، كمن انحصر عنده إنقاذ حيوان محترم من الهلكة بهلاك إنسان.

تنبيه :

ممّا يلحق بهذا الباب ويتفرّع عليه ما لو اضطرّ إلى ارتكاب فعل محرّم لا بسوء اختياره ، ثمّ اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة على وجه يكون ذلك الفعل المحرّم مصداقا لتلك العبادة ، بمعنى أنّه اضطرّ إلى الإتيان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الذي قد اضطرّ إليه. ومثاله المحبوس في مكان مغصوب ، فيضيّق عليه وقت الصلاة ، ولا يسعه الإتيان بها خارج المكان المغصوب. فهل في هذا الفرض يجب عليه الإتيان بالعبادة وتقع صحيحة ، أو لا؟

نقول : لا ينبغي الشكّ في أنّ عبادته على هذا التقدير تقع صحيحة ؛ لأنّه مع الاضطرار إلى الفعل الحرام لا تبقى فعليّة للنهي ؛ لاشتراط القدرة في التكليف ، فالأمر لا مزاحم لفعليّته ، فيجب عليه أداء الصلاة ، ولا بدّ أن تقع حينئذ صحيحة.

نعم ، يستثنى من ذلك ما لو كان دليل الأمر ودليل النهي متعارضين بأنفسهما من أوّل الأمر ، وقد رجّحنا جانب النهي بأحد مرجّحات باب التعارض ؛ فإنّه في هذه الصورة لا وجه لوقوع العبادة صحيحة ؛ لأنّ العبادة لا تقع صحيحة إلاّ إذا قصد بها امتثال الأمر الفعليّ بها

٣٤٢

ـ إن كان ـ أو قصد بها الرجحان الذاتيّ قربة إلى الله (تعالى). والمفروض أنّه هنا لا أمر فعليّ ؛ لعدم شمول دليله بما هو حجّة لمورد الاجتماع ؛ لأنّ المفروض تقديم جانب النهي.

وقيل : «إنّ النهي إذا زالت فعليّته من جهة الاضطرار ، لم يبق مانع من التمسّك بعموم الأمر». وهذه (١) غفلة ظاهرة ، فإنّ دليل الأمر بما هو حجّة لا يكون شاملا لمورد الاجتماع ، لمكان التعارض بين الدليلين وتقديم دليل النهي ، فإذا اضطرّ المكلّف إلى فعل المنهيّ عنه لا يلزم منه أن يعود دليل الأمر حجّة في مورد الاجتماع مرّة ثانية. وإنّما يتصوّر أن يعود الأمر فعليّا إذا كان تقديم النهي من باب التزاحم ، فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعليّا.

وأمّا الرجحان الذاتيّ : فإنّه بعد فرض التعارض بين الدليلين وتقديم جانب النهي لا يكون الرجحان محرزا في مورد الاجتماع ؛ لأنّ عدم شمول دليل الأمر بما هو حجّة لمورد الاجتماع يحتمل فيه وجهان : وجود المانع مع بقاء الملاك ، وانتفاء المقتضي وهو الملاك ، فلا يحرز وجود الملاك حتّى يصحّ قصده متقرّبا به إلى الله (تعالى).

الثاني : أن يكون الاضطرار بسوء الاختيار ، كمن دخل منزلا مغصوبا متعمّدا ، فبادر إلى الخروج تخلّصا من استمرار الغصب ، فإنّ هذا التصرّف في المنزل في الخروج لا شكّ في أنّه تصرّف غصبيّ أيضا ، وهو مضطرّ إلى ارتكابه للتخلّص من استمرار فعل الحرام ، وكان اضطراره إليه بمحض اختياره ، إذ دخل المنزل غاصبا باختياره.

وتعرف هذه المسألة في لسان المتأخّرين بمسألة «التوسّط في المغصوب» ، والكلام يقع فيها من ناحيتين :

١. في حرمة هذا التصرّف الخروجيّ أو وجوبه.

٢. في صحّة الصلاة المأتيّ بها حال الخروج.

حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه

أمّا الناحية الأولى : فقد تعدّدت الأقوال فيها ، فقيل بحرمة التصرّف الخروجيّ فقط (٢).

__________________

(١) أي هذه المقالة.

(٢) ذهب إليه المصنّف في المقام. وذهب إليه أيضا الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ٢ : ١٤٣.

٣٤٣

وقيل بوجوبه فقط ، ولكن يعاقب فاعله (١). وقيل بوجوبه فقط ، ولا يعاقب فاعله (٢). وقيل بحرمته ووجوبه معا (٣). وقيل : لا هذا ولا ذاك ، ومع ذلك يعاقب عليه (٤).

فينبغي أن نبحث عن وجه القول بالحرمة ، وعن وجه القول بالوجوب ؛ ليتّضح الحقّ في المسألة ، وهو القول الأوّل.

أمّا وجه الحرمة : فمبنيّ على أنّ التصرّف بالغصب ، بأيّ نحو من أنحاء التصرّف ـ دخولا ، وبقاء ، وخروجا ـ محرّم من أوّل الأمر قبل الابتلاء بالدخول ، فهو قبل أن يدخل منهيّ عن كلّ تصرّف في المغصوب ، حتّى هذا التصرّف الخروجيّ ؛ لأنّه كان متمكّنا من تركه بترك الدخول.

ومن يقول بعدم حرمته فإنّه يقول به ؛ لأنّه يجد أنّ هذا المقدار من التصرّف مضطرّ إليه ، سواء خرج الغاصب أو بقي ، فيمتنع عليه تركه ، ومع فرض امتناع تركه كيف يبقى على صفة الحرمة؟!

ولكنّا نقول له : إنّ هذا الامتناع هو الذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره ، وكان متمكّنا من تركه بترك الدخول ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فهو مخاطب من أوّل الأمر بترك التصرّف حتّى يخرج ، فالخروج في نفسه ـ بما هو تصرّف ـ داخل من أوّل الأمر في أفراد العنوان المنهيّ عنه ، أي إنّ العنوان المنهيّ عنه ـ وهو التصرّف بمال الغير بدون رضاه ـ يسع في عمومه كلّ تصرّف متمكّن من تركه حتّى الخروج ، وامتناع ترك هذا التصرّف بسوء اختياره لا يخرجه عن عموم العنوان. ونحن لا نقول ـ كما سبق (٥) ـ : إنّ المعنون بنفسه هو متعلّق الخطاب ، حتّى يقال لنا : إنّه يمتنع تعلّق الخطاب بالممتنع تركه ، وإن كان الامتناع بسوء الاختيار.

__________________

(١) هذا ما اختاره صاحب الفصول ونسبه إلى الفخر الرازيّ. راجع الفصول الغرويّة : ١٣٨.

(٢) وهذا ما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ ، وقوّاه المحقّق النائينيّ. مطارح الأنظار : ١٥٣ ، فوائد الأصول ٢ : ٤٤٧.

(٣) ذهب إليه المحقّق القميّ وقال : «وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخّرينا ، بل هو ظاهر الفقهاء».

قوانين الأصول ١ : ١٥٣.

(٤) ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ٢٠٤. واختاره تلميذه المحقّق الحائريّ في درر الفوائد ١ : ١٢٨.

(٥) راجع الصفحة : ٣٣٤.

٣٤٤

وأمّا وجه الوجوب : فقد قيل : «إنّ الخروج واجب نفسيّ ، باعتبار أنّ الخروج معنون بعنوان التخلّص عن الحرام ، والتخلّص عن الحرام في نفسه عنوان حسن عقلا ، وواجب شرعا». وقد نسب هذا الوجه إلى الشيخ الأعظم الأنصاريّ قدس‌سره على ما يظهر من تقريرات درسه (١).

وقيل : «إنّ الخروج واجب غيريّ ـ كما يظهر من بعض التعبيرات في تقريرات الشيخ أيضا (٢) ـ باعتبار أنّه مقدّمة للتخلّص من الحرام ، وهو الغصب الزائد الذي كان يتحقّق لو لم يخرج».

والحقّ أنّه ليس بواجب نفسيّ ؛ ولا غيريّ.

أمّا : أنّه ليس بواجب نفسيّ ؛ فلأنّه :

أوّلا : أنّ التخلّص عن الشيء بأيّ معنى فرض عنوان مقابل لعنوان الابتلاء به ، بديل له ، لا يجتمعان ، وهما من قبيل الملكة وعدمها. وهذا واضح.

وحينئذ نقول له : ما مرادك من التخلّص الذي حكمت عليه بأنّه عنوان حسن؟ إن كان المراد به التخلّص من أصل الغصب فهو بالخروج ـ أي الحركات الخروجيّة ـ مبتلى بالغصب ، لا أنّه متخلّص منه ؛ لأنّه تصرّف بالمغصوب. وإن كان المراد به التخلّص من الغصب الزائد الذي يقع لو لم يخرج فهو لا ينطبق على الحركات الخروجيّة ؛ وذلك لأنّ التخلّص لمّا كان مقابلا للابتلاء بديلا له ـ كما قدّمنا ـ فالزمان الذي يصلح أن يكون زمانا للابتلاء لا بدّ أن يكون هو الذي يصدق عليه عنوان التخلّص ، مع أنّ زمان الحركات الخروجيّة سابق على زمان الغصب الزائد عليها لو لم يخرج ، فهو في حال الحركات الخروجيّة لا مبتلى بالغصب الزائد ، ولا متخلّص منه ، بل الغاصب مبتلى بالغصب من حين

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٢) قال : «والظاهر أنّ ذلك الأمر قد استفيد من جهة كونه من مقدّمات ترك الغصب الواجب ، ومقدّمة الترك أعمّ من الخروج ، وإن انحصر أفراده في الخروج بحسب العادة». مطارح الأنظار : ١٥٤. وهذا يظهر أيضا من بعض عبارات المحقّق القمّي ، حيث قال : «إنّ الخروج ليس مورد للأمر من حيث هو خروج ...». قوانين الأصول ١ : ١٥٤.

٣٤٥

دخوله إلى حين خروجه ، وبعد خروجه يصدق عليه أنّه متخلّص من الغصب.

وثانيا : أنّ التخلّص لو كان عنوانا يصدق على الخروج ، فلا ينبغي أن يراد من الخروج نفس الحركات الخروجيّة ، بل على تقديره ينبغي أن يراد منه ما تكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له أو بمنزلة المقدّمة ؛ فلا ينطبق ـ إذن ـ عنوان التخلّص على التصرّف بالمغصوب المحرّم ، كما يريد أن يحقّقه هذا القائل.

والسرّ واضح ؛ فإنّ الخروج يقابل الدخول ، ولمّا كان الدخول عنوانا للكون داخل الدار المسبوق بالعدم فلا بدّ أن يكون الخروج بمقتضى المقابلة عنوانا للكون خارج الدار المسبوق بالعدم ، أمّا نفس التصرّف بالمغصوب بالحركات الخروجيّة التي منها يكون الخروج فهو مقدّمة أو شبه المقدّمة للخروج لا نفسه.

وثالثا : لو سلّمنا أنّ التخلّص عنوان ينطبق على الحركات الخروجيّة فلا نسلّم بوجوبه النفسيّ ؛ لأنّ التخلّص عن الحرام ليس هو إلاّ عبارة أخرى عن ترك الحرام ، وترك الحرام ليس واجبا نفسيّا على وجه يكون ذا مصلحة نفسيّة في مقابل المفسدة النفسيّة في الفعل. نعم ، هو مطلوب بتبع النهي عن الفعل ، وقد تقدّم ذلك في مبحث النواهي في الجزء الأوّل (١) وفي مسألة الضدّ في الجزء الثاني (٢) ، فكما أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ـ أي نقيضه وهو الترك ـ كذلك أنّ النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضدّه العام ـ أي نقيضه وهو الترك ـ. ولذا قلنا في مبحث النواهي : «إنّ تفسير النهي بطلب الترك ـ كما وقع للقوم (٣) ـ ليس في محلّه ، وإنّما هو تفسير للشيء بلازم المعنى العقليّ ، فإنّ مقتضى الزجر عن الفعل طلب تركه عقلا ، لا على أن يكون الترك ذا مصلحة نفسيّة في مقابل مفسدة الفعل ؛ وكذلك في الأمر ، فإنّ مقتضى الدعوة إلى الفعل الزجر عن تركه عقلا لا على أن يكون الترك ذا مفسدة نفسيّة في مقابل مصلحة الفعل ، بل ليس في النهي إلاّ مفسدة الفعل ،

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ١١٥.

(٢) راجع : الصفحة : ٣٠٢ و ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٣) ومنهم : المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٣٥ ـ ١٣٧ ، وصاحب المعالم في معالم الدين : ١٠٤ ، وصاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٢٠.

٣٤٦

وليس في الأمر إلاّ مصلحة الفعل.

وأمّا : أنّ الخروج ليس بواجب غيريّ ؛ فلأنّه :

أوّلا : قد تقدّم أنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة (١) على تقدير القول بأنّ التخلّص واجب نفسيّ.

وثانيا : أنّ الخروج ـ الذي هو عبارة عن الحركات الخروجيّة في مقصود هذا القائل ـ ليس مقدّمة لنفس التخلّص عن الحرام ، بل على التحقيق إنّما هو مقدّمة للكون في خارج الدار ، والكون في خارج الدار ملازم لعنوان التخلّص عن الحرام لا نفسه ، ولا يلزم من فرض وجوب التخلّص فرض وجوب ملازمه ، فإنّ الملازمين لا يجب أن يشتركا في الحكم ـ كما تقدّم في مسألة الضدّ (٢) ـ. وإذا لم يجب الكون خارج الدار كيف تجب مقدّمته؟!

وثالثا : لو سلّمنا أنّ التخلّص واجب نفسيّ ، وأنّه نفس الكون خارج الدار فتكون الحركات الخروجيّة مقدّمة له ، وأنّ مقدّمة الواجب واجبة ـ لو سلّمنا كلّ ذلك ـ ، فإنّ مقدّمة الواجب إنّما تكون واجبة حيث لا مانع من ذلك ، كما لو كانت محرّمة في نفسها ، كركوب المركب الحرام في طريق الحجّ ؛ فإنّه لا يقع على صفة الوجوب وإن توصّل به إلى الواجب. وهنا الحركات الخروجيّة تقع على صفة الحرمة ـ كما قدّمنا ـ باعتبار أنّها من أفراد الحرام ، وهو التصرّف بالمغصوب ، فلا تقع على صفة الوجوب من باب المقدّمة.

فإن قلت : إنّ المقدّمة المحرّمة إنّما لا تقع على صفة الوجوب حيث لا تكون منحصرة ، وأمّا مع انحصار التوصّل بها إلى الواجب فإنّه يقع التزاحم بين حرمتها ووجوب ذيها ؛ لأنّ الأمر يدور حينئذ بين امتثال الوجوب وبين امتثال الحرمة ، فلو كان الوجوب أهمّ قدّم على حرمة المقدّمة فتسقط حرمتها. وهنا الأمر كذلك ؛ فإنّ المقدّمة منحصرة ، والواجب ـ وهو ترك الغصب الزائد ـ أهمّ.

قلت : هذا صحيح لو كان الدوران لم يقع بسوء اختيار المكلّف ؛ فإنّه حينئذ يكون

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٢٩٩ ـ ٣٠١.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٣٠٦.

٣٤٧

الدوران في مقام التشريع. وأمّا لو كان الدوران واقعا بسوء اختيار المكلّف ـ كما هو مفروض في المقام ـ ، فإنّ المولى في مقام التشريع قد استوفى غرضه من أوّل الأمر بالنهي عن الغصب مطلقا ، ولا دوران فيه حتّى يقال : «يقبح من المولى تفويت غرضه الأهمّ». وإنّما الدوران وقع في مقام استيفاء الغرض استيفاء خارجيّا بسبب سوء اختيار المكلّف بعد فرض أنّ المولى من أوّل الأمر ـ قبل أن يدخل المكلّف في المحلّ المغصوب ـ قد استوفى كلّ غرضه في مقام التشريع ؛ إذ نهى عن كلّ تصرّف بالمغصوب ، فليس هناك تزاحم في مقام التشريع ؛ فالمكلّف يجب عليه أن يترك الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب ، ونفس الحركات الخروجيّة تكون أيضا محرّمة يستحقّ عليها العقاب ؛ لأنّها من أفراد ما هو منهيّ عنه ، وقد وقع في هذا المحذور والدوران بسوء اختياره.

صحّة الصلاة حال الخروج

وأمّا الناحية الثانية : وهي صحّة الصلاة حال الخروج ؛ فإنّها تبتني على اختيار أحد الأقوال في الناحية الأولى.

فإن قلنا بأنّ الخروج يقع على صفة الوجوب فقط ؛ فإنّه لا مانع من الإتيان بالصلاة حالته ، سواء ضاق وقتها أم لم يضق ، ولكن بشرط ألاّ يستلزم أداء الصلاة تصرّفا زائدا على الحركات الخروجيّة ، فإنّ هذا التصرّف الزائد حينئذ يقع محرّما منهيّا عنه.

فإذا استلزم أداء الصلاة تصرّفا زائدا فإن كان الوقت ضيقا فلا بدّ أن يؤدّي الصلاة حال الخروج ، ولا بدّ أن يقتصر منها على أقلّ الواجب ، فيصلّي إيماء بدل الركوع والسجود. وإن كان الوقت متّسعا لأدائها بعد الخروج وجب أن ينتظر بها إلى ما بعد الخروج.

وإن قلنا بوقوع الخروج على صفة الحرمة فإنّه مع سعة الوقت لا بدّ أن يؤدّيها بعد الخروج ، سواء استلزمت تصرّفا زائدا أم لم تستلزم ، ومع ضيق الوقت يقع التزاحم بين الحرام الغصبيّ والصلاة الواجبة ، والصلاة لا تترك بحال ، فيجب أداؤها مع ترك ما يستلزم منها تصرّفا زائدا ، فيصلّي إيماء للركوع والسجود ويقرأ ماشيا ، فيترك الاطمئنان الواجب وهكذا.

٣٤٨

وإن قلنا بعدم وقوع الخروج على صفة الحرمة ولا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرّفا زائدا حتّى مع سعة الوقت على النحو الذي تقدّم.

تمرينات (٤٠)

التمرين الأوّل

١. ما هو محلّ النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي؟

٢. ما هي الأقوال في المقام؟

٣. ما المراد من كلمة «الاجتماع» في محلّ النزاع؟

٤. ما المراد من كلمة «الواحد» في المقام؟ وهل الواحد الشخصي والواحد بالجنس يدخلان في محلّ النزاع؟

٥. ما المقصود من كلمة «الجواز» في المقام؟

٦. كيف تدخل المسألة في الملازمات العقليّة غير المستقلّة؟

٧. ما هي مسألة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدمه؟ وهل تعدّده يوجب تعدّد المعنون؟

٨. بيّن ما أفاد المحقّق الخراساني رحمه‌الله في محلّ النزاع وما فيه.

٩. ما المراد من قيد «المندوحة» في المقام؟ وهل هو معتبر أم لا؟

١٠. ما الفرق بين باب التعارض والتزاحم ، وبينهما وبين مسألة الاجتماع؟ بيّنه تفصيلا.

١١. ما هو مختار المصنّف رحمه‌الله في مسألة الاجتماع؟ وما دليله عليه؟

١٢. ما هي ثمرة النزاع في مسألة الاجتماع؟

١٣. ما هي الأقوال في مسألة «الخروج من المغصوب»؟ وما وجه القول بالوجوب ووجه القول بالحرمة؟ وما هو الحق؟

١٤. كيف دفع القول بأنّ الخروج من المغصوب واجب غيريّ.

١٥. هل الصلاة حال الخروج صحيحة أم لا؟

التمرين الثاني

١. هل مسألة «الاجتماع» من المسائل الأصوليّة التي تدخل في باب الملازمات العقليّة غير مستقلّة أم لا؟ بيّن أقوال العلماء وما فيها.

٣٤٩

المسألة الخامسة : دلالة النهي على الفساد

تحرير محلّ النزاع

هذه المسألة من أمّهات المسائل الأصوليّة التي بحثت من القديم. ولأجل تحرير محلّ النزاع فيها وتوضيحه ، علينا أن نشرح الألفاظ الواردة في عنوانها ، وهي كلمة الدلالة ، النهي ، الفساد.

ولا بدّ من ذكر المراد من الشيء المنهيّ عنه أيضا ؛ لأنّه مدلول عليه بكلمة «النهي» ؛ إذ النهي لا بدّ له من متعلّق. إذن ينبغي البحث عن أربعة أمور :

١. الدلالة ، فإنّ ظاهر اللفظة يعطي أنّ المراد منها الدلالة اللفظيّة ، ولعلّه لأجل هذا الظهور البدويّ أدرج بعضهم هذه المسألة في مباحث الألفاظ (١) ، ولكنّ المعروف أنّ مرادهم منها ما يؤدّي إليه لفظ «الاقتضاء» ، حسبما يفهم من بحثهم المسألة وجملة من الأقوال فيها ، لا سيّما المتأخّرون من الأصوليّين.

وعليه ، فيكون المراد من الدلالة خصوص الدلالة العقليّة (٢) ؛ وحينئذ يكون المقصود من النزاع «البحث عن اقتضاء طبيعة النهي عن الشيء فساد المنهيّ عنه عقلا» ، ومن هنا يعلم أنّه لا يشترط في النهي أن يكون مستفادا من دليل لفظيّ. وفي الحقيقة يكون النزاع هنا عن ثبوت الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء وفساده ، أو عن الممانعة والمنافرة عقلا بين النهي عن الشيء وصحّته ، ولا فرق بين التعبيرين.

ولأجل هذا أدرجنا نحن هذه المسألة في قسم الملازمات العقليّة.

نعم ، قد يدّعي بعضهم (٣) أنّ هذه الملازمة ـ على تقدير ثبوتها ـ من نوع الملازمات البيّنة بالمعنى الأخصّ. وحينئذ يكون اللفظ الدالّ بالمطابقة على النهي دالاّ بالدلالة الالتزاميّة

__________________

(١) وهو بعيد ؛ لأنّهم أهل الدقّة والنظر. بل إنّهم لمّا لم يفرّدوا بابا للبحث عن الملازمات العقليّة فأدرجوها في مباحث الألفاظ.

(٢) وذهب المحقّق العراقيّ إلى أنّ المسألة من المسائل اللفظيّة لا من المسائل العقليّة. نهاية الأفكار ٢ : ٤٥٢.

(٣) كالمحقق المشكينيّ في حاشية الكفاية. راجع كفاية الأصول «المحشّى» ١ : ٢٨٣.

٣٥٠

على فساد المنهيّ عنه ، فيصحّ أن يراد من الدلالة ما هو أعمّ من الدلالة اللفظيّة والعقليّة.

ونحن نقول : هذا صحيح على هذا القول ، ولا بأس بتعميم الدلالة إلى اللفظيّة والعقليّة في العنوان حينئذ ، ولكنّ النزاع مع هذا القائل أيضا يقع في الملازمة العقليّة قبل فرض الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة ، فالبحث معه أيضا يرجع إلى البحث عن الاقتضاء العقليّ. فالأولى أن يراد من الدلالة في العنوان الاقتضاء العقليّ ؛ فإنّه يجمع جميع الأقوال والاحتمالات ، لا سيّما أنّ البحث يشمل كلّ نهي وإن لم يكن مستفادا من دليل لفظيّ.

والعبارة تكون أكثر استقامة لو عبّر عن عنوان المسألة بما عبّر به صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : «اقتضاء النهي الفساد» (١) ، فأبدل كلمة «الدلالة» بكلمة «الاقتضاء» ، ولكن نحن عبّرنا بما جرت عليه عادة القدماء في عنوان المسألة متابعة لهم.

٢. النهي ، إنّ كلمة «النهي» ظاهرة ـ كما تقدّم في الجزء الأوّل (٢) ـ في خصوص الحرمة ، وقلنا هناك : «إنّ الظهور ليس من جهة الوضع بل بمقتضى حكم العقل» ، أمّا نفس الكلمة من جهة الوضع فهي تشمل النهي التحريميّ والنهي التنزيهيّ ـ أي الكراهة ـ ، ولعلّ كلمة «النهي» في مثل عنوان المسألة ليس فيها ما يقتضي عقلا ظهورها في الحرمة ، فلا بأس من تعميم النهي في العنوان لكلّ من القسمين بعد أن كان النزاع قد وقع في كلّ منهما (٣).

وكذلك كلمة «النهي» ـ بإطلاقها ـ ظاهرة في خصوص الحرمة النفسيّة دون الغيريّة ، ولكنّ النزاع أيضا وقع في كلّ منهما ؛ فإذن ينبغي تعميم كلمة «النهي» في العنوان للتحريميّ والتنزيهيّ ، وللنفسيّ والغيريّ ، كما صنع صاحب الكفاية قدس‌سره (٤).

وشيخنا النائينيّ قدس‌سره جزم باختصاص النهي في عنوان المسألة بخصوص التحريميّ النفسيّ (٥) ؛ لأنّه يجزم بأنّ التنزيهيّ لا يقتضي الفساد ، وكذا الغيريّ.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١٧.

(٢) تقدّم في الصفحة : ١١٥.

(٣) خلافا للشيخ الأنصاريّ ؛ فإنّه خصّ النزاع بالنهي التحريميّ. مطارح الأنظار : ١٥٧.

(٤) كفاية الأصول : ٢١٨. واختاره السيّد الإمام الخمينيّ في المناهج ٢ : ١٥١.

(٥) فوائد الأصول ٢ : ٤٥٦. والمحقّق الخوئيّ اختصّ النزاع بالنهي النفسيّ التحريميّ والنهي التنزيهيّ المتعلّق بذات العبادة ، راجع المحاضرات ٥ : ٥ ـ ٧.

٣٥١

والذي ينبغي أن يقال له : أنّ الاختيار شيء وعموم النزاع في المسألة شيء آخر ، فإنّ اختياركم بأنّ النهي التنزيهيّ والغيريّ لا يقتضيان الفساد ليس معناه اتّفاق الكلّ على ذلك ، حتّى يكون النزاع في المسألة مختصّا بما عداهما ، والمفروض أنّ هناك من يقول بأنّ النهي التنزيهيّ والغيريّ يقتضيان الفساد. فتعميم كلمة «النهي» في العنوان هو الأولى.

٣. الفساد : إنّ الفساد كلمة ظاهرة المعنى ، والمراد منها ما يقابل الصحّة (١) تقابل العدم والملكة على الأصحّ (٢) ، لا تقابل النقيضين ، ولا تقابل الضدّين. وعليه ، فما له قابليّة أن يكون صحيحا يصحّ أن يتّصف بالفساد ، وما ليس له ذلك لا يصحّ وصفه بالفساد.

وصحّة كلّ شيء بحسبه ، فمعنى صحّة العبادة مطابقتها لما هو المأمور به من جهة تمام أجزائها ، وجميع ما هو معتبر فيها (٣) ، ومعنى فسادها عدم مطابقتها له من جهة نقصان فيها. ولازم عدم مطابقتها لما هو مأمور به عدم سقوط الأمر ، وعدم سقوط الأداء والقضاء.

ومعنى صحّة المعاملة مطابقتها لما هو المعتبر فيها من أجزاء وشرائط ونحوها ، ومعنى فسادها عدم مطابقتها لما هو معتبر فيها. ولازم عدم مطابقتها عدم ترتّب أثرها المرغوب فيه عليها من نحو : النقل ، والانتقال في عقد البيع والإجارة ، ومن نحو : العلقة الزوجيّة في عقد النكاح ... وهكذا.

__________________

(١) نسب إلى المشهور أنّ الصحّة هي التماميّة ، والفساد هو النقصان. راجع كفاية الأصول : ٣٩ و ٢٣٠ ؛ نهاية الأفكار ١ : ٧٣.

وقال الشيخ البهائيّ : «[قال] المتكلّمون : صحيح العبادات ما وافق الشرع. والفقهاء : ما أسقط القضاء». زبدة الأصول : ٤٥.

(٢) وهذا مختار أكثر المحقّقين. فراجع كفاية الأصول : ٢١٩ ؛ نهاية الأفكار ١ : ٧٧ ؛ نهاية الأصول : ٢٥٥.

(٣) هذا بناء على اعتبار الأمر في عباديّة العبادة * ، أمّا إذا قلنا بكفاية الرجحان الذاتيّ في عباديّتها إذا قصدها متقرّبا بها إلى الله (تعالى) ـ كما هو الصحيح ـ ، فيكون معنى صحّة العبادة ما هو أعمّ من مطابقتها لما هو مأمور به ومن مطابقتها لما هو راجح ذاتا وإن لم يكن هناك أمر. ـ منه رحمه‌الله ـ. بها إلى الله (تعالى) ـ كما هو الصحيح ـ ، فيكون معنى صحّة العبادة ما هو أعمّ من مطابقتها لما هو مأمور به ومن مطابقتها لما هو راجح ذاتا وإن لم يكن هناك أمر. ـ منه رحمه‌الله ـ.

__________________

* كما ذهب إليه صاحب الجواهر ، فراجع جواهر الكلام ٢ : ٨٨ و ٩ : ١٥٥ ـ ١٥٦.

٣٥٢

٤. متعلّق النهي ، لا شكّ في أنّ متعلّق النهي ـ هنا ـ يجب أن يكون ممّا يصحّ أن يتّصف بالصّحّة والفساد ليصحّ النزاع فيه ، وإلاّ فلا معنى لأن يقال ـ مثلا ـ : إنّ النهي عن شرب الخمر يقتضي الفساد أو لا يقتضي.

وعليه ، فليس كلّ ما هو متعلّق للنهي يقع موضعا للنزاع في هذه المسألة ، بل خصوص ما يقبل وصفي الصحّة والفساد. وهذا واضح.

ثمّ إنّ متعلّق النهي يعمّ العبادة والمعاملة اللتين يصحّ وصفهما بالفساد ، فلا اختصاص للمسألة بالعبادة ، كما ربّما ينسب إلى بعضهم (١).

وإذا اتّضح المقصود من الكلمات التي وردت في العنوان يتّضح المقصود من النزاع ومحلّه هنا ؛ فإنّه يرجع إلى النزاع في الملازمة العقليّة بين النهي عن الشيء وفساده ، فمن يقول بالاقتضاء فإنّما يقول بأنّ النهي يستلزم عقلا فساد متعلّقه ، وقد يقول مع ذلك بأنّ اللفظ الدالّ على النهي دالّ على فساد المنهيّ عنه بالدلالة الالتزاميّة. ومن يقول بعدمه إنّما يقول بأنّ النهي عن الشيء لا يستلزم عقلا فساده.

أو فقل : إنّ النزاع هنا يرجع إلى النزاع في وجود الممانعة والمنافرة عقلا بين كون الشيء صحيحا وبين كونه منهيّا عنه ، أي إنّه هل هناك ممانعة من الجمع بين صحّة الشيء والنهي عنه أو لا؟

ولأجل هذا تدخل هذه المسألة في بحث الملازمات العقليّة ، كما صنعنا.

ولمّا كان البحث يختلف اختلافا كثيرا في كلّ واحدة من العبادة والمعاملة عقدوا البحث في موضعين : العبادة ، والمعاملة ، فينبغي البحث عن كلّ منهما مستقلاّ في مبحثين :

المبحث الأوّل : النهي عن العبادة

المقصود من العبادة التي هي محلّ النزاع في المقام العبادة بالمعنى الأخصّ ـ أي خصوص ما يشترط في صحّتها قصد القربة ـ ، أو فقل : هي خصوص الوظيفة التي شرعها الله (تعالى) لأجل التقرّب بها إليه.

__________________

(١) لم أعثر على الناسب ولا المنسوب إليه.

٣٥٣

ولا يشمل النزاع العبادة بالمعنى الأعمّ ، مثل غسل الثوب من النجاسة ؛ لأنّه ـ وإن صحّ أن يقع عبادة متقرّبا به إلى الله (تعالى) ـ لا يتوقّف حصول أثره المرغوب فيه ـ وهو زوال النجاسة ـ على وقوعه قربيّا ، فلو فرض وقوعه منهيّا عنه كالغسل بالماء المغصوب فإنّه يقع به الامتثال ، ويسقط الأمر به ، فلا يتصوّر وقوعه فاسدا من أجل تعلّق النهي به.

نعم ، إذا وقع محرّما منهيّا عنه فإنّه لا يقع عبادة متقرّبا به إلى الله (تعالى) ؛ فإذا قصد من الفساد هذا المعنى فلا بأس في أن يقال : «إنّ النهي عن العبادة بالمعنى الأعمّ يقتضي الفساد» ؛ فإنّ من يدّعي الممانعة بين الصحّة والنهي يمكن أن يدّعي الممانعة بين وقوع غسل الثوب صحيحا ـ أي عبادة متقرّبا به إلى الله (تعالى) ـ وبين النهي عنه.

وليس معنى العبادة هنا أنّها ما كانت متعلّقة للأمر فعلا ؛ لأنّه مع فرض تعلّق النهي بها فعلا لا يعقل فرض تعلّق الأمر بها أيضا ، وليس ذلك كـ «باب اجتماع الأمر والنهي» الذي فرض فيه تعلّق النهي بعنوان غير العنوان الذي تعلّق به الأمر ؛ فإنّه إن جاز هناك اجتماع الأمر والنهي فلا يجوز هنا ؛ لعدم تعدّد العنوان ، وإنّما العنوان الذي تعلّق به الأمر هو نفسه صار متعلّقا للنهي.

وعلى هذا ، فلا بدّ أن يراد بالعبادة المنهيّ عنها ما كانت طبيعتها متعلّقة للأمر ، وإن لم تكن شاملة ـ بما هي مأمور بها ـ لما هو متعلّق النهي ، أو ما كانت من شأنها أن يتقرّب بها لو تعلّق بها أمر.

وبعبارة أخرى جامعة أن يقال : إنّ المقصود بالعبادة هنا هي الوظيفة التي لو شرعها الشارع لشرعها لأجل التعبّد بها وإن لم يتعلّق بها أمر فعليّ لخصوصيّة المورد.

ثمّ إنّ النهي عن العبادة يتصوّر على أنحاء :

أحدها : أن يتعلّق النهي بأصل العبادة ، كالنهي عن صوم العيدين ، وصوم الوصال ، وصلاة الحائض والنفساء.

وثانيها : أن يتعلّق بجزئها ، كالنهي عن قراءة سورة من سور العزائم في الصلاة.

وثالثها : أن يتعلّق بشرطها أو بشرط جزئها ، كالنهي عن الصلاة باللباس المغصوب ،

٣٥٤

أو المتنجّس.

ورابعها : أن يتعلّق بوصف ملازم لها أو لجزئها ، كالنهي عن الجهر بالقراءة في موضع الإخفات ، والنهي عن الإخفات في موضع الجهر (١).

والحقّ أنّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد ، سواء كان نهيا عن أصلها ، أو جزئها ، أو شرطها ، أو وصفها ؛ للتمانع الظاهر بين العبادة التي يراد بها التقرّب إلى الله (تعالى) ومرضاته ، وبين النهي عنها المبعّد عصيانه عن الله (تعالى) ، والمثير لسخطه ، فيستحيل التقرّب بالمبعّد ، والرضا بما يسخطه ، ويستحيل أيضا التقرّب بما يشتمل على المبعّد المبغوض المسخط له ، أو بما هو مقيّد بالمبعّد ، أو بما هو موصوف بالمبعّد (٢).

ومن الواضح أنّ المقصود من القرب والبعد من المولى القرب والبعد المعنويّان ، وهما يشبهان القرب والبعد المكانيّين ، فكما يستحيل التقرّب المكاني بما هو مبعّد مكانا كذلك يستحيل التقرّب المعنويّ بما هو مبعّد معنى.

ونحن إذ نقول ذلك في النهي عن الجزء والشرط والوصف ، نقول به ، لا لأجل أنّ النهي عن هذه الامور يسري إلى أصل العبادة ، وأنّ ذلك واسطة في الثبوت ، (٣) أو واسطة في العروض ـ كما قيل (٤) ـ ، ولا لأجل أنّ جزء العبادة وشرطها عبادة ، فإذا فسد الجزء والشرط استلزم فسادهما فساد المركّب والمشروط (٥) ، بل نحن لا نستند في قولنا في الجزء والشرط والوصف إلى ذلك ؛ لأنّه لا حاجة إلى مثل هذه التعليلات ، ولا تصل النوبة إليها بعد ما قلناه من أنّه يستحيل التقرّب بما يشتمل على المبعّد ، أو بما هو مقيّد أو موصوف بالمبعّد ، كما يستحيل التقرّب بنفس المبعّد بلا فرق.

__________________

(١) وفي المقام قسم آخر ، وهو أن يتعلّق النهي بوصفها غير الملازم ، كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها. وقال المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥ : ٢٦ : «هذا القسم خارج عن محلّ البحث ، بل داخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي». ولعلّه لم يذكره المصنّف في المقام.

(٢) هكذا قال المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٥٩١.

(٣) كما في كفاية الأصول : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٤) لاحظ نهاية الدراية ١ : ٥٩٠.

(٥) كما في الفصول الغرويّة : ١٤٥.

٣٥٥

على أنّ في هذه التعليلات من المناقشة ما لا يسعه هذا المختصر ، ولا حاجة إلى مناقشتها بعد ما ذكرناه. هذا كلّه في النهي النفسيّ.

أمّا النهي الغيريّ المقدّميّ : فحكمه حكم النفسيّ بلا فرق ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم (١) ؛ فإنّه أشرنا هناك إلى الوجه الذي ذكره بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سرهم (٢) للفرق بينهما بأنّ النهي الغيريّ لا يكشف عن وجود مفسدة وحزازة في المنهيّ عنه ، فيبقى المنهيّ عنه على ما كان عليه من المصلحة الذاتيّة بلا مزاحم لها من مفسدة للنهي ، فيمكن التقرّب به بقصد تلك المصلحة الذاتيّة المفروضة ، بخلاف النهي النفسيّ الكاشف عن المفسدة والحزازة في المنهيّ عنه ، المانعة من التقرّب به.

وقد ناقشناه هناك بأنّ التقرّب والابتعاد ليسا يدوران مدار المصلحة والمفسدة الذاتيّتين حتّى يتمّ هذا الكلام ، بل ـ كما ذكرناه هناك ـ أنّ الفعل المبعّد عن المولى في حال كونه مبعّدا لا يعقل أن يكون متقرّبا به إليه ، كالتقرّب والابتعاد المكانيّين ، والنهي وإن كان غيريّا يوجب البعد ومبغوضيّة المنهيّ عنه وإن لم يشتمل على مفسدة نفسيّة.

ويبقى الكلام في النهي التنزيهيّ ـ أي الكراهة ـ ، فالحقّ أيضا أنّه يقتضي الفساد ، كالنهي التحريميّ ، لنفس التعليل السابق من استحالة التقرّب بما هو مبعّد بلا فرق ، غاية الأمر أنّ مرتبة البعد في التحريميّ أشدّ وأكثر منها في التنزيهيّ ، كاختلاف مرتبة القرب في موافقة الأمر الوجوبيّ والاستحبابيّ. وهذا الفرق لا يوجب تفاوتا في استحالة التقرّب بالمبعّد. ولأجل هذا حمل الأصحاب الكراهة في العبادة على أقلّيّة الثواب مع ثبوت صحّتها شرعا لو أتى بها المكلّف ، لا الكراهة الحكميّة الشرعيّة ، ومعنى حمل الكراهة على أقلّيّة الثواب أنّ النهي الوارد فيها يكون مسوقا لبيان هذا المعنى ، وبداعي الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب ، وليس مسوقا لبيان الحكم التكليفيّ المقابل للأحكام الأربعة الباقية بداعي الزجر عن الفعل والردع عنه.

وعليه ، فلو أحرز بدليل خاصّ أنّ النهي بداعي الزجر التنزيهيّ ، ولم يحرز من

__________________

(١) راجع الصفحة : ٣١١.

(٢) وهو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٤٥٦.

٣٥٦

دليل خاصّ صحّة العبادة المكروهة فلا محالة لا نقول بصحّة العبادة المنهيّ عنها بالنهي التنزيهيّ.

هذا فيما إذا كان النهي التنزيهيّ عن نفس عنوان العبادة ، أو جزئها ، أو شرطها ، أو وصفها ؛ أمّا : لو كان النهي عن عنوان آخر غير عنوان المأمور به ، كما لو كان بين المنهيّ عنه والمأمور به عموم وخصوص من وجه ؛ فإنّ هذا المورد يدخل في باب الاجتماع ، وقد قلنا هناك بجواز الاجتماع في الأمر والنهي التحريميّ ، فضلا عن الأمر والنهي التنزيهيّ ، وليس هو من باب النهي عن العبادة إلاّ إذا ذهبنا إلى امتناع الاجتماع فيدخل في مسألتنا.

تنبيه

إنّ النهي الذي هو موضع النزاع ـ والذي قلنا باقتضائه الفساد في العبادة ـ هو النهي بالمعنى الظاهر من مادّته وصيغته ـ أعني ما يتضمّن حكما تحريميّا أو تنزيهيّا ـ بأن يكون إنشاؤه بداعي الردع والزجر.

أمّا : النهي بداع آخر ، كداعي بيان أقلّيّة الثواب ، أو داعي الإرشاد إلى مانعيّة الشيء ، مثل النهي عن لبس جلد الميتة في الصلاة ، أو نحو ذلك من الدواعي فإنّه ليس موضع النزاع في مسألتنا ، ولا يقتضي الفساد بما هو نهي ، إلاّ أن يتضمّن اعتبار شيء في المأمور به ، فمع فقد ذلك الشيء لا ينطبق المأتيّ به على المأمور به ، فيقع فاسدا ، كالنهي بداعي الإرشاد إلى مانعيّة شيء ، فيستفاد منه أنّ عدم ذلك الشيء يكون شرطا في المأمور به. ولكن هذا شيء آخر لا يرتبط بمسألتنا ، فإنّ هذا يجري حتّى في الواجبات التوصّلية ، فإنّ فقد أحد شروطها يوجب فسادها.

المبحث الثاني : النهي عن المعاملة

إنّ النهي في المعاملة على نحوين ـ كالنهي عن العبادة ـ ؛ فإنّه تارة يكون النهي بداعي بيان مانعيّة الشيء المنهيّ عنه ، أو بداع آخر مشابه له ، وأخرى يكون بداعي الردع والزجر من أجل مبغوضيّة ما تعلّق به النهي ، ووجود الحزازة فيه.

٣٥٧

فإن كان الأوّل فهو خارج عن مسألتنا ـ كما تقدّم في التنبيه السابق ـ ؛ إذ لا شكّ في أنّه لو كان النهي بداعي الإرشاد إلى مانعيّة الشيء في المعاملة فإنّه يكود دالاّ على فسادها عند الإخلال ؛ لدلالة النهي على اعتبار عدم المانع فيها ، فتخلّفه تخلّف للشرط المعتبر في صحّتها. وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان.

وإن كان الثاني فإنّ النهي إمّا أن يكون عن ذات السبب ـ أي عن العقد الإنشائي ـ ، أو فقل : عن التسبيب به لإيجاد المعاملة ، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة في قوله (تعالى) : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...) (١) ؛ وإمّا أن يكون عن ذات المسبّب ـ أي عن نفس وجود المعاملة ـ كالنهي عن بيع الآبق وبيع المصحف.

فإن كان النهي على النحو الأوّل ـ أي عن ذات السبب ـ ، فالمعروف أنّه لا يدلّ على فساد المعاملة (٢) ؛ إذ لم تثبت المنافاة لا عقلا ولا عرفا بين مبغوضيّة العقد والتسبيب به ، وبين إمضاء الشارع له بعد أن كان العقد مستوفيا لجميع الشروط المعتبرة فيه ، بل ثبت خلافها ، كحرمة الظهار التي لم تناف ترتّب الأثر عليه من الفراق.

وإن كان النهي على النحو الثاني ـ أي عن المسبّب ـ ، فقد ذهب جماعة من العلماء (٣) إلى أنّ النهي في هذا القسم يقتضي الفساد.

وأقصى ما يمكن تعليل ذلك بما ذكره بعض أعاظم مشايخنا (٤) من أنّ صحّة كلّ معاملة مشروطة بأن يكون العاقد مسلّطا على المعاملة في حكم الشارع ، غير محجور عليه من قبله من التصرّف في العين التي تجري عليها المعاملة. ونفس النهي عن المسبّب يكون معجّزا مولويا للمكلّف عن الفعل ، ورافعا لسلطنته عليه ، فيختلّ به ذلك الشرط المعتبر في

__________________

(١) الجمعة (٦٢) الآية : ٩.

(٢) ذهب إليه في القوانين ١ : ١٥٩ ، والفصول : ١٤٠ ، ودرر الفوائد ١ : ١٥٧ ، وفوائد الأصول ٢ : ٤٧١ ، والمحاضرات ٥ : ٣١.

(٣) ومنهم المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٤٧١.

(٤) وهو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٤٧١ ـ ٤٧٢.

٣٥٨

صحّة المعاملة ، فلا محالة يترتّب على ذلك فسادها.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في بيان اقتضاء النهي عن المسبّب لفساد المعاملة ، ولكنّ التحقيق أن يقال :

إنّ استناد الفساد إلى النهي إنّما يصحّ أن يفرض ويتنازع فيه فيما إذا كان العقد بشرائطه موجودا حتّى بشرائط المتعاقدين ، وشرائط العوضين ، وأنّه ليس في البين إلاّ المبغوضيّة الصرفة المستفادة من النهي. وحينئذ يقع البحث في أنّ هذه المبغوضيّة هل تنافي صحّة المعاملة أو لا تنافيها؟

أمّا : إذا كان النهي دالاّ على اعتبار شيء في المتعاقدين والعوضين أو العقد ، مثل النهي عن أن يبيع السفيه ، والمجنون ، والصغير الدالّ على اعتبار [الرشد و] العقل والبلوغ في البائع ، وكالنهي عن بيع الخمر ، والميتة ، والآبق ، ونحوها الدالّ على اعتبار إباحة المبيع والتمكّن من التصرّف منه ، وكالنهي عن العقد بغير العربيّة ـ مثلا ـ الدالّ على اعتبارها في العقد ، فإنّ هذا النهي في كلّ ذلك لا شكّ في كونه دالاّ على فساد المعاملة ؛ لأنّ هذا النهي في الحقيقة يرجع إلى القسم الأوّل الذي ذكرناه ، وهو ما كان النهي بداعي الإرشاد إلى اعتبار شيء في المعاملة ، وقد تقدّم أنّ هذا ليس موضع الكلام من منافاة نفس النهي بداعي الردع والزجر لصحّة المعاملة.

فالعمدة هو الكلام في هذه المنافاة ، وليس من دليل عليها حتّى تثبت الملازمة بين النهي وفساد المعاملة ؛ وكون النهي عن المسبّب يكون معجّزا مولويّا للمكلّف عن الفعل ، ورافعا لسلطنته عليه ، فإنّ معنى ذلك أنّ النهي في المعاملة شأنه أن يدلّ على اختلال شرط في المعاملة بارتكاب المنهيّ عنه ، وهذا لا كلام لنا فيه.

وفي هذا القدر من البحث في هذه المسألة الكفاية ، وفّقنا الله (تعالى) لمراضيه.

٣٥٩

تمرينات (٤١)

١. ما هو محلّ النزاع في مسألة «دلالة النهي على الفساد»؟

٢. ما المراد من «الدلالة» في محلّ النزاع؟

٣. ما المراد من كلمة «النهي» في المقام؟

٤. ما هو رأي المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني في المراد من كلمة «النهي» في المقام؟

٥. ما المراد من كلمة «الفساد» في المقام؟

٦. ما المراد من الشيء المنهيّ عنه؟

٧. كيف تدخل هذه المسألة في بحث الملازمات العقليّة؟

٨. ما المراد من العبادة التى هي محلّ النزاع؟

٩. اذكر أنحاء تعلّق النهي بالعبادة ، ومثّل لكلّ منها.

١٠. هل النهي عن العبادة يقتضي فسادها أم لا؟

١١. ما هو رأي المحقّق النائيني في النهي عن العبادة؟

١٢. هل النهي التنزيهي يقتضي الفساد؟ ما الدليل عليه؟

١٣. هل النهي عن المعاملة يقتضي الفساد أم لا؟

٣٦٠