اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

وكأنّ المسألة ـ فيما يبدو من عنوانها ـ من الأبحاث التافهة (١) ؛ إذ لا يمكن أن نتصوّر النزاع في إمكان اجتماع الأمر والنهى في واحد حتى لو قلنا بعدم امتناع التكليف بالمحال ، كما تقوله الأشاعرة ؛ لأنّ التكليف هنا نفسه محال ، وهو الأمر والنهي بشيء واحد. وامتناع ذلك من أوضح الواضحات ، وهو محلّ وفاق بين الجميع.

إذن ، فكيف صحّ هذا النزاع من القوم؟! وما معناه؟

والجواب أنّ التعبير باجتماع الأمر والنهي من خداع العناوين ، فلا بدّ من توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة في هذا العنوان ، وهي كلمة «الاجتماع ، الواحد ، الجواز». ثمّ ينبغي أن نبحث أيضا عن قيد آخر لتصحيح النزاع ، وهو قيد «المندوحة» الذي أضافه بعض المؤلّفين (٢) ، وهو على حقّ. وعليه نقول :

١. «الاجتماع» والمقصود منه هو الالتقاء الاتفاقيّ بين المأمور به والمنهيّ عنه في شيء واحد. ولا يفرض ذلك إلاّ حيث يفرض تعلّق الأمر بعنوان ، وتعلّق النهي بعنوان آخر لا ربط له بالعنوان الأوّل ، ولكن قد يتّفق نادرا أن يلتقي العنوانان في شيء واحد ويجتمعا فيه ، وحينئذ يجتمع ـ أي يلتقي ـ الأمر والنهي.

ولكن هذا الاجتماع والالتقاء بين العنوانين على نحوين :

أ ـ أن يكون اجتماعا مورديّا ، يعني أن لا يكون هنا فعل واحد مطابقا لكلّ من العنوانين ، بل يكون هنا فعلان تقارنا وتجاورا في وقت واحد ، أحدهما يكون مطابقا لعنوان الواجب ، وثانيهما مطابقا لعنوان المحرّم ، مثل النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة ، فلا النظر هو مطابق عنوان الصلاة ولا الصلاة مطابق عنوان النظر إلى الأجنبيّة ، ولا هما ينطبقان على فعل واحد ؛ فإنّ مثل هذا الاجتماع المورديّ لم يقل أحد بامتناعه ، وليس هو داخلا في مسألة الاجتماع هذه ، فلو جمع المكلّف بينهما بأن نظر إلى الأجنبيّة في أثناء

__________________

(١) تفه تفها : قلّ وخسّ. بالفارسيّة : «كم ، ناچيز». والمراد منها «بى مزه».

(٢) أوّل من أخذ قيد «المندوحة» في محلّ النزاع هو المحقّق القميّ ، وإن لم يصرّح به. راجع قوانين الأصول ١ : ١٤٠ و ١٤٢ و ١٥٣.

وأوّل من صرّح بذلك هو صاحب الفصول ، حيث قال : «وإن اختلفت الجهتان وكان للمكلّف مندوحة في الامتثال فهو موضع النزاع». الفصول الغرويّة : ١٢٤.

٣٢١

الصلاة فقد عصى وأطاع في آن واحد ، ولا تفسد صلاته.

ب ـ أن يكون اجتماعا حقيقيّا ، وإن كان ذلك في النظر العرفيّ ، وفي بادئ الرأي ـ يعني أنّه فعل واحد يكون مطابقا لكلّ من العنوانين ، كالمثال المعروف «الصلاة في المكان المغصوب» ، فإنّ مثل هذا المثال هو محلّ النزاع في مسألتنا ، المفروض فيه أنّه لا ربط لعنوان الصلاة المأمور به بعنوان الغصب المنهيّ عنه ؛ ولكن قد يتّفق للمكلّف صدفة أن يجمع بينهما بأن يصلّي في مكان مغصوب ، فيلتقي العنوان المأمور به ـ وهو الصلاة ـ مع العنوان المنهيّ عنه ـ وهو الغصب ـ ، وذلك في الصلاة المأتيّ بها في مكان مغصوب ، فيكون هذا الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصلاة ولعنوان الغصب معا. وحينئذ إذا اتّفق ذلك للمكلّف فإنّه يكون هذا الفعل الواحد داخلا فيما هو مأمور به من جهة ، فيقتضي أن يكون المكلّف مطيعا للأمر ممتثلا ، وداخلا فيما هو منهيّ عنه من جهة أخرى ، فيقتضي أن يكون المكلّف عاصيا به مخالفا.

٢. «الواحد» والمقصود منه الفعل الواحد باعتبار أنّ له وجودا واحدا يكون ملتقى ومجمعا للعنوانين في مقابل المتعدّد بحسب الوجود ، كالنظر إلى الأجنبيّة والصلاة ، فإنّ وجود أحدهما غير وجود الآخر ، فإنّ الاجتماع في مثل هذا يسمّى «الاجتماع المورديّ» كما تقدّم.

والفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانين ، فإنّ التقاء العناوين فيه لا يخلو من حالتين : إحداهما : أن يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الشخصيّة. وثانيتهما : أن يكون الالتقاء بسبب ماهيّته الكلّية ، كأن يكون الكلّي نفسه مجمعا للعنوانين ، كالكون الكلّي الذي ينطبق عليه أنّه صلاة وغصب.

وعليه ، فالمقصود من الواحد في المقام الواحد في الوجود (١) ، فلا معنى لتخصيص النزاع بالواحد الشخصيّ (٢).

وبما ذكرنا يظهر خروج الواحد بالجنس عن محلّ الكلام ؛ والمراد به ما إذا كان

__________________

(١) كما في الكفاية : ١٨٣.

(٢) خلافا للمحقّق القميّ وصاحب الفصول ، فإنّهما خصّصا النزاع بالواحد الشخصيّ. راجع قوانين الأصول ١ : ١٤٠ ، والفصول الغرويّة : ١٢٤.

٣٢٢

المأمور به والمنهيّ عنه متغايرين وجودا ، ولكنّهما يدخلان تحت ماهيّة واحدة ، كالسجود لله والسجود للصنم ، فإنّهما واحد بالجنس باعتبار أنّ كلاّ منهما داخل تحت عنوان السجود ، ولا شكّ في خروج ذلك عن محلّ النزاع.

٣. «الجواز» والمقصود منه الجواز العقليّ ـ أي الإمكان المقابل للامتناع ـ وهو واضح ؛ ويصحّ أن يراد منه الجواز العقليّ المقابل للقبح العقليّ ، وهو قد يرجع إلى الأوّل باعتبار أنّ القبيح ممتنع على الله (تعالى).

والجواز له معان أخر ، كالجواز المقابل للوجوب والحرمة الشرعيّين ، والجواز بمعنى الاحتمال ؛ وكلّها غير مرادة قطعا.

إذا عرفت تفسير هذه الكلمات الثلاث الواردة في عنوان المسألة يتّضح لك جيّدا تحرير النزاع فيها ، فإنّ حاصل النزاع في المسألة يكون أنّه في مورد التقاء عنواني المأمور به ، والمنهيّ عنه في واحد وجودا هل يجوز اجتماع الأمر والنهي؟

ومعنى ذلك : أنّه هل يصحّ أن يبقى الأمر متعلّقا بذلك العنوان المنطبق على ذلك الواحد ، ويبقى النهي كذلك متعلّقا بالعنوان المنطبق على ذلك الواحد ، فيكون المكلّف مطيعا وعاصيا معا في الفعل الواحد ، أو أنّه يمتنع ذلك ولا يجوز ، فيكون ذلك المجتمع للعنوانين إمّا مأمورا به فقط ، أم منهيّا عنه فقط ، أي إنّه إمّا أن يبقى الأمر على فعليّته فقط ، فيكون المكلّف مطيعا لا غير ، أو يبقى النهي على فعليّته فقط ، فيكون المكلّف عاصيا لا غير.

والقائل بالجواز لا بدّ أن يستند في قوله إلى أحد رأيين :

١. أن يرى أنّ العنوان بنفسه هو متعلّق التكليف ، ولا يسري الحكم إلى المعنون ، فانطباق عنوانين على فعل واحد لا يلزم منه أن يكون ذلك الواحد متعلّقا للحكمين ، فلا يمتنع الاجتماع ـ أي اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهيّ عنه في واحد ـ ؛ لأنّه لا يلزم منه اجتماع نفس الأمر والنهي في واحد.

٢. أن يرى أنّ المعنون ـ على تقدير تسليم أنّه هو متعلّق الحكم حقيقة لا العنوان ـ ، يكون متعدّدا واقعا ، إذا تعدّد العنوان ؛ لأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون بالنظر الدقيق الفلسفيّ ، ففي الحقيقة ـ وإن كان فعل واحد في ظاهر الحال صار مطابقا للعنوانين ـ هناك

٣٢٣

معنونان كلّ واحد منهما مطابق لأحد العنوانين ، فيرجع اجتماع الوجوب والحرمة بالدقّة العقليّة إلى الاجتماع المورديّ الذي قلنا : إنّه لا بأس فيه من الاجتماع.

وعلى هذا ، فليس هناك واحد بحسب الوجود يكون مجمعا بين العنوانين في الحقيقة ، بل ما هو مأمور به في وجوده غير ما هو منهيّ عنه في وجوده. ولا تلزم سراية الأمر إلى ما تعلّق به النهي ، ولا سراية النهي إلى ما تعلّق به الأمر ، فيكون المكلّف في جمعه بين العنوانين مطيعا وعاصيا في آن واحد ، كالناظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة.

وبهذا يتّضح معنى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وفي الحقيقة ليس هو قولا باجتماع الأمر والنهي في واحد ، بل إمّا أنّه يرجع إلى القول باجتماع عنوان المأمور به والمنهيّ عنه في واحد دون أن يكون هناك اجتماع بين الأمر والنهي ، وإمّا أن يرجع إلى القول بالاجتماع المورديّ فقط ، فلا يكون اجتماع بين الأمر والنهي ، ولا بين المأمور به والمنهيّ عنه.

وأمّا القائل بالامتناع : فلا بدّ أن يذهب إلى أنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون وأنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ؛ فإنّه لا يمكن حينئذ بقاء الأمر والنهي معا وتوجّههما متعلّقين بذلك المعنون الواحد بحسب الوجود ؛ لأنّه يلزم اجتماع نفس الأمر والنهي في واحد ، وهو مستحيل ، فإمّا أن يبقى الأمر ولا نهي ، أو يبقى النهي ولا أمر.

ولقد أحسن صاحب المعالم في تحرير النزاع ؛ إذ عبّر بكلمة «التوجّه» بدلا عن كلمة «الاجتماع» فقال : «الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شيء واحد ...» (١).

المسألة من الملازمات العقليّة غير المستقلّة (٢)

ومن التقرير المتقدّم لبيان محلّ النزاع يظهر كيف أنّ المسألة هذه ينبغي أن تدخل في

__________________

(١) معالم الدين : ١٠٧.

(٢) اعلم أنّهم اختلفوا في كونها من المسائل الأصوليّة أو غيرها. فذهب المحقّق القميّ إلى أنّها من المسائل الكلاميّة. وذهب الشيخ الأنصاريّ إلى أنّها من المبادئ الأحكاميّة. وذهب المحقّق النائيني إلى أنّها من المبادئ التصديقيّة لعلم الأصول. وذهب أكثر المعاصرين إلى أنّها من المسائل الأصوليّة غير المستقلّة ، واختاره المصنّف في المقام. راجع القوانين ١ : ١٤٠ ؛ مطارح الأنظار : ١٢٦ ؛ فوائد الأصول ٢ : ٣٩٨ ؛ نهاية الأفكار ٢ : ٤٠٧ ؛ المحاضرات ٤ : ١٨٠ ؛ مناهج الوصول ٢ : ١١٣.

٣٢٤

الملازمات العقليّة غير المستقلّة ، فإنّ معنى القول بالامتناع هو تنقيح صغرى الكبرى العقليّة القائلة بامتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد حقيقيّ.

توضيح ذلك أنّه إذا قلنا بأنّ الحكم يسري من العنوان إلى المعنون ، وأنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ؛ فإنّه يتنقّح عندنا موضوع اجتماع الأمر والنهي في واحد الثابتين شرعا ، فيقال على نهج القياس الاستثنائيّ هكذا : «إذا التقى عنوان المأمور به والمنهيّ عنه في واحد بسوء الاختيار ، فإن بقي الأمر والنهي فعليّين معا ، فقد اجتمع الأمر والنهي في واحد». وهذه هي الصغرى.

ومستند هذه الملازمة في الصغرى هو سراية الحكم من العنوان إلى المعنون ، وأنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون. وإنّما تفرض هذه الملازمة حيث يفرض ثبوت الأمر والنهي شرعا بعنوانيهما.

ثمّ نقول : «ولكنّه يستحيل اجتماع الأمر والنهي في واحد». وهذه هي الكبرى. وهذه الكبرى عقليّة تثبت في غير هذه المسألة.

وهذا القياس استثنائيّ قد استثني فيه نقيض التالي ، فيثبت به نقيض المقدّم ، وهو عدم بقاء الأمر والنهي فعليّين معا.

وأمّا بناء على الجواز : فيخرج هذا المورد من مورد الالتقاء عن أن يكون صغرى لتلك الكبرى العقليّة.

ولا يجب في كون المسألة أصوليّة من المستقلاّت العقليّة وغيرها أن تقع صغرى للكبرى العقليّة على تقدير جميع الأقوال ، بل يكفي أن تقع صغرى على أحد الأقوال فقط ، فإنّ هذا شأن جميع المسائل الأصوليّة المتقدّمة اللفظيّة والعقليّة ، ألا ترى أنّ المباحث اللفظيّة كلّها لتنقيح صغرى أصالة الظهور ، مع أنّ المسألة لا تقع صغرى لأصالة الظهور على جميع الأقوال فيها ، كمسألة دلالة صيغة «افعل» على الوجوب ، فإنّه على القول بالاشتراك اللفظيّ أو المعنويّ لا يبقى لها ظهور في الوجوب أو غيره.

ولا وجه لتوهّم كون هذه المسألة فقهيّة ، أو كلاميّة ، أو أصوليّة لفظيّة ، وهو واضح بعد ما قدّمناه من شرح تحرير النزاع ، وبعد ما ذكرناه سابقا في أوّل هذا الجزء من مناط كون

٣٢٥

المسألة الأصوليّة من باب غير المستقلاّت العقليّة (١).

مناقشة الكفاية في تحرير النزاع

وبعد ما حرّرناه من بيان النزاع في المسألة يتّضح ابتناء القول بالجواز فيها على أحد رأيين : إمّا القول بأنّ متعلّق الأحكام هي نفس العنوانات دون معنوناتها ، وإمّا القول بأنّ تعدّد العنوان يستدعي تعدّد المعنون (٢).

فتكون مسألة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدم تعدّده حيثيّة تعليليّة في مسألتنا ومن المبادئ التصديقيّة لها على أحد احتمالين ، لا أنّها هي نفس محلّ النزاع في الباب ، فإنّ البحث هنا ليس إلاّ عن نفس الجواز وعدمه ، كما عبّر بذلك كلّ من بحث عن هذه المسألة من القديم.

ومن هنا تتجلّى المناقشة فيما أفاده في كفاية الأصول من رجوع محلّ البحث هنا إلى البحث عن استدعاء تعدّد العنوان لتعدّد المعنون وعدمه (٣) ، فإنّه فرق عظيم بين ما هو محلّ النزاع وبين ما يبتني عليه النزاع في أحد احتمالين ؛ فلا وجه للخلط بينهما وإرجاع أحدهما إلى الآخر ، وإن كان في هذه المسألة لا بدّ للأصوليّ من البحث عن أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون؟ باعتبار أنّ هذا البحث ليس ممّا يذكر في موضع آخر.

قيد المندوحة

ذكرنا فيما سبق أنّ بعضهم قيّد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة في مقام الامتثال (٤).

ومعنى «المندوحة» أن يكون المكلّف متمكّنا من امتثال الأمر في مورد آخر غير مورد الاجتماع.

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢٢١ و ٢٤٩.

(٢) بالنظر الدقيق الفلسفيّ.

(٣) راجع كفاية الأصول : ١٨٤.

(٤) راجع التعليقة رقم (٢) من الصفحة : ٣٢١.

٣٢٦

ونظر إلى ذلك كلّ من قيّد موضع النزاع بما إذا كان الجمع بين العنوانين بسوء اختيار المكلّف.

وإنّما قيّد بها موضع النزاع للاتّفاق بين الطرفين على عدم جواز الاجتماع في صورة عدم وجود المندوحة ، وذلك فيما إذا انحصر امتثال الأمر في مورد الاجتماع ، لا بسوء اختيار المكلّف.

والسرّ واضح ؛ فإنّه عند الانحصار تستحيل فعليّة التكليفين ؛ لاستحالة امتثالهما معا ؛ لأنّه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي ، وإن تركه فقد عصى الأمر ، فيقع التزاحم حينئذ بين الأمر والنهي.

وظاهر أنّ اعتبار قيد المندوحة لازم لما ذكرناه ؛ إذ ليس النزاع جهتيّا ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) ـ ، أي من جهة كفاية تعدّد العنوان في تعدّد المعنون وعدمه وإن لم يجز الاجتماع من جهة أخرى ، حتّى لا نحتاج إلى هذا القيد ، بل النزاع ـ كما تقدّم (٢) ـ هو في جواز الاجتماع وعدمه من أيّة جهة فرضت وليس جهتيّا. وعليه ، فما دام النزاع غير واقع في عدم الجواز في صورة عدم المندوحة فهذه الصورة لا تدخل في محلّ النزاع في مسألتنا.

فوجب ـ إذن ـ تقييد عنوان المسألة بقيد المندوحة كما صنع بعضهم (٣).

الفرق بين بابي التعارض والتزاحم ومسألة الاجتماع

من المسائل العويصة مشكلة التفرقة بين باب التعارض وباب التزاحم ، ثمّ بينهما وبين مسألة الاجتماع. ولا بدّ من بيان فرق بينها لتنكشف جيّدا حقيقة النزاع في مسألتنا «مسألة الاجتماع».

وجه الإشكال في التفرقة أنّه لا شبهة في أنّ من موارد التعارض بين الدليلين ما إذا كان

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٧. واعترض عليه المحقّق الأصفهاني ، ثمّ ذكر وجها آخر لإنكار لزوم قيد المندوحة ، راجع نهاية الدراية ١ : ٥١٣ ـ ٥١٤.

(٢) تقدّم في الصفحة : ٣٢٠ ـ ٣٢٤.

(٣) منهم صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ١٢٤ ، والمحقّق الحائري في درر الفوائد ١ : ١١٥ ، وأبو المجد الأصفهاني في وقاية الأذهان : ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٣٢٧

بين دليلي الأمر والنهي عموم وخصوص من وجه ، وذلك من أجل العموم من وجه بين متعلّقي الأمر والنهي ـ أي العموم من وجه الذي يقع بين عنوان المأمور به ، وعنوان المنهيّ عنه ـ ، بينما أنّ التزاحم بين الوجوب والحرمة من موارده أيضا العموم من وجه بين الأمر والنهي من هذه الجهة. وكذلك مسألة الاجتماع موردها منحصر فيما إذا كان بين عنواني المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه.

فيتّضح أنّه مورد واحد ـ وهو مورد العموم من وجه بين متعلّقي الأمر والنهي ـ يصحّ أن يكون موردا للتعارض وباب التزاحم ومسألة الاجتماع ، فما المائز والفارق؟

فنقول : إنّ العموم من وجه إنّما يفرض بين متعلّقي الأمر والنهي فيما إذا كان العنوانان يلتقيان في فعل واحد ، سواء كان العنوان بالنسبة إلى الفعل من قبيل العنوان ومعنونه ، أو من قبيل الكلّي ، وفرده (١) ؛ وهذا بديهيّ ، ولكنّ العنوان المأخوذ في متعلّق الخطاب من

__________________

(١) إنّما يفرض العموم من وجه بين العنوانين إذا لم يكن الاجتماع بينهما اجتماعا مورديّا ، بل كان اجتماعا حقيقيّا ، ونعني بالاجتماع الحقيقيّ أن يكون فعل واحد ينطبق عليه العنوانان على وجه يصحّ في كلّ منهما أن يكون حاكيا عنه ، ومرآة له وإن كان منشأ كلّ من العنوانين مباينا في وجوده بالدقّة العقليّة لمنشا العنوان الآخر.

ولكن انطباق العناوين على فرد واحد لا يجب فيه أن يكون من قبيل انطباق الكلّي على فرده ، أي لا يجب أن يكون المعنون فردا للعنوان ومن حقيقته ، لأنّ المعنون كما يجوز أن يكون من حقيقة العنوان يجوز أن يكون من حقيقة أخرى ، وإنّما الذهن يجعل من العنوان حاكيا ، ومرآة عن ذلك المعنون ، كمفهوم الوجود الذي هو عنوان لحقيقة الوجود ، مع أنّه ليس من حقيقته ، ومثله مفهوم الجزئيّ الذي هو عنوان للجزئيّ الحقيقيّ وليس هو بجزئيّ بل كلّيّ ، وكذا مفهوم الحرف والنسبة وهكذا.

ولأجل هذا عمّمنا العنوان إلى قسمين. وهذا التعميم سينفعك فيما يأتي في بيان المختار في المسألة ، فكن على ذكر منه. ولقد أحسن المولى صدر المحقّقين في تعبيره للتفرقة بين القسمين ؛ إذ قال في الجزء الأوّل من الأسفار : «وفرق بين كون الذات مصدوقا عليه بصدق مفهوم ، وكونها مصداقا لصدقه» *. وقد أراد بالمصدوق النحو الثاني ، وهو العنوان الصرف بالنسبة الى معنونه ، وأراد بالمصداق فرد الكلّي ، ويا ليت أن يعمّم هذا الاصطلاح المخترع منه للتفرقة بين القسمين. ـ منه رحمه‌الله ـ.

__________________

* الحكمة المتعالية (الأسفار) ١ : ١٥٧.

٣٢٨

جهة عمومه على نحوين :

١. أن يكون ملحوظا في الخطاب ، فانيا في مصاديقه على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميّزات ، فيكون شاملا في سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم بالحكم الآخر ، فيعدّ في حكم المتعرّض لحكم خصوص موضع الالتقاء ، ولو من جهة كون موضع الالتقاء متوقّع الحدوث على وجه يكون من شأنه أن ينبّه عليه المتكلّم في خطابه ، فيكون أخذ العنوان على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميّزات لهذا الغرض من التنبيه ونحوه. ولا نضايقك أن تسمّي مثل هذا العموم «العموم الاستغراقيّ» ، كما صنع بعضهم (١).

والمقصود أنّ العنوان إذا أخذ في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميّزات ، يكون في حكم المتعرّض لحكم كلّ فرد من أفراده ، فيكون نافيا بالدلالة الالتزاميّة لكلّ حكم مناف لحكمه.

٢. أن يكون العنوان ملحوظا في الخطاب ، فانيا في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد ـ أي لم تلحظ فيه الكثرات والمميّزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة ، ولا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأخرى ـ ، فيكون المطلوب في الأمر والمنهيّ عنه في النهي صرف وجود الطبيعة. وليسمّ مثل هذا العموم «العموم البدليّ» ، كما صنع بعضهم (٢).

فإن كان العنوان مأخوذا في الخطاب على النحو الأوّل فإنّ موضع الالتقاء يكون العامّ حجّة فيه ، كسائر الأفراد الأخرى ، بمعنى أن يكون متعرّضا بالدلالة الالتزاميّة لنفي أيّ حكم آخر ، مناف لحكم العامّ بالنسبة إلى الأفراد وخصوصيّات المصاديق.

وفي هذه الصورة لا بدّ أن يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع ؛ لأنّهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الالتزاميّة في كلّ منهما على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء.

__________________

(١) وهو المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥ : ١٥٢.

(٢) المصدر السابق.

٣٢٩

والتحقيق أنّ التعارض بين العامّين من وجه إنّما يقع بسبب دلالة كلّ منهما بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم الآخر ، ومن أجلها يتكاذبان ، وإلاّ فالدلالتان المطابقيّتان بأنفسهما في العامّين من وجه لا يتكاذبان ، فلا تتعارضان ما لم يلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفي مدلول الأخرى ، فليس التنافي بين المدلولين المطابقيّين إلاّ تنافيا بالعرض لا بالذات.

ومن هنا يعلم أنّ هذا الفرض ـ وهو فرض كون العنوان مأخوذا في الخطاب على النحو الأوّل ـ ينحصر في كونه موردا للتعارض بين الدليلين ، ولا تصل النوبة إلى فرض التزاحم بين الحكمين فيه ، ولا إلى النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ؛ لأنّ مقتضى القاعدة في باب التعارض هو تساقط الدليلين عن حجّيتهما بالنسبة إلى مورد الالتقاء ، فلا يجوز فيه الوجوب ولا الحرمة. ولا يفرض التزاحم ، أو مسألة النزاع في جواز الاجتماع إلاّ حيث يفرض شمول الدليلين لمورد الالتقاء وبقاء حجّيتهما بالنسبة إليه ، أي إنّه لم يكن تعارض بين الدليلين في مقام الجعل والتشريع.

وإن كان العنوان مأخوذا على النحو الثاني ، فهو مورد التزاحم ، أو مسألة الاجتماع ، ولا يقع بين الدليلين تعارض حينئذ. وذلك مثل قوله : «صلّ» ، وقوله : «لا تغصب» ، باعتبار أنّه لم يلحظ في كلّ من خطاب الأمر والنهي الكثرات والمميّزات على وجه يسع العنوان جميع الأفراد ، وإن كان نفس العنوان في حدّ ذاته وإطلاقه شاملا لجميع الأفراد ؛ فإنّه في مثله يكون الأمر متعلّقا بصرف وجود الطبيعة للصلاة ، وامتثاله يكون بفعل أيّ فرد من الأفراد ، فلم يكن ظاهرا في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون دالاّ بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافيا لحرمة الغصب في المورد. وكذلك النهي يكون متعلّقا بصرف طبيعة الغصب ، فلم يكن ظاهرا في حرمة الغصب حتّى في مورد الصلاة على وجه يكون دالاّ بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ؛ ليكون نافيا لوجوب الصلاة.

وفي مثل هذين الدليلين ـ إذا كانا على هذا النحو ـ يكون كلّ منهما أجنبيّا في عموم عنوان متعلّق الحكم فيه عن عنوان متعلّق الحكم الآخر ـ أي إنّه غير متعرّض بدلالته

٣٣٠

الالتزاميّة لنفي الحكم الآخر ـ ، فلا يتكاذبان في مقام الجعل والتشريع ، فلا يقع التعارض بينهما ، إذ لا دلالة التزاميّة لكلّ منهما على نفي الحكم الآخر في مورد الالتقاء ، ولا تعارض بين الدلالتين المطابقيّتين بما هما ؛ لأنّ المفروض أنّ المدلول المطابقيّ من كلّ منهما هو الحكم المتعلّق بعنوان أجنبيّ في نفسه عن العنوان المتعلّق للحكم الآخر.

وحينئذ إذا صادف أن ابتلي المكلّف بجمعهما على نحو الاتّفاق فحاله لا يخلو عن أحد أمرين : إمّا أن تكون له مندوحة من الجمع بينهما ، ولكنّه هو الذي جمع بينهما بسوء اختياره وتصرّفه ، وإمّا أن لا تكون له مندوحة من الجمع بينهما.

فإن كان الأوّل فإنّ المكلّف حينئذ يكون قادرا على امتثال كلّ من التكليفين ، فيصلّي ويترك الغصب ، وقد يصلّي ويغصب في فعل آخر. فإذا جمع بينهما بسوء اختياره بأن صلّى في مكان مغصوب ، فهنا يقع النزاع في جواز الاجتماع بين الأمر والنهي ، فإن قلنا بالجواز كان مطيعا وعاصيا في آن واحد ، وإن قلنا بعدم الجواز فإنّه : إمّا أن يكون مطيعا لا غير إذا رجّحنا جانب الأمر ، أو عاصيا لا غير إذا رجّحنا جانب النهي ؛ لأنّه حينئذ يقع التزاحم بين التكليفين فيرجع فيه إلى أقوى الملاكين.

وإن كان الثاني فإنّه لا محالة يقع التزاحم بين التكليفين الفعليّين ؛ لأنّه ـ حسب الفرض ـ لا معارضة بين الدليلين في مقام الجعل والإنشاء بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المكلّف على التفريق بين الامتثالين ، فيدور الأمر حينئذ بين امتثال الأمر وبين امتثال النهي ؛ إذ لا يمكنه امتثالهما معا من جهة عدم المندوحة.

هذا هو الحقّ الذي ينبغي أن يعوّل عليه في سرّ التفريق بين بابي التعارض والتزاحم ، وبينهما وبين مسألة الاجتماع في مورد العموم من وجه بين متعلّقي الخطابين ـ خطاب الوجوب والحرمة ـ ، ولعلّه يمكن استفادته من مطاوي كلماتهم وإن كانت عباراتهم تضيق عن التصريح بذلك ، بل اختلفت كلمات أعلام أساتذتنا رحمهم‌الله في وجه التفريق.

فقد ذهب صاحب الكفاية إلى «أنّه لا يكون المورد من باب الاجتماع إلاّ إذا أحرز في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا ، حتّى في مورد التصادق والاجتماع ، وأمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط أحد

٣٣١

الحكمين بلا تعيين فالمورد يكون من باب التعارض ؛ للعلم الإجماليّ حينئذ بكذب أحد الدليلين الموجب للتنافي بينهما عرضا (١)».

هذا خلاصة رأية رحمه‌الله ، فجعل إحراز مناط الحكمين في مورد الاجتماع وعدمه هو المناط في التفرقة بين مسألة الاجتماع وباب التعارض ، بينما أنّ المناط عندنا في التفرقة بينهما هو دلالة الدليلين بالدلالة الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر وعدمها ، فمع هذه الدلالة يحصل التكاذب بين الدليلين ، فيتعارضان ، وبدونها لا تعارض ، فيدخل المورد في مسألة الاجتماع.

ويمكن دعوى التلازم بين المسلكين في الجملة ؛ لأنّه مع تكاذب الدليلين من ناحية دلالتهما الالتزاميّة لا يحرز وجود مناط الحكمين في مورد الاجتماع ، كما أنّه مع عدم تكاذبهما يمكن إحراز وجود المناط لكلّ من الحكمين في مورد الاجتماع ، بل لا بدّ من إحراز مناط الحكمين بمقتضى إطلاق الدليلين في مدلولهما المطابقيّ.

وأمّا شيخنا النائينيّ : فقد ذهب إلى «أنّ مناط دخول المورد في باب التعارض أن تكون الحيثيّتان في العامّين من وجه حيثيّتين تعليليّتين ؛ لأنّه حينئذ يتعلّق الحكم في كلّ منهما بنفس ما يتعلّق به الآخر ، فيتكاذبان ، وأمّا إذا كانتا تقييديّتين : فلا يقع التعارض بينهما ، ويدخلان حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة ، وفي باب التزاحم مع عدم المندوحة (٢)».

ونحن نقول : في الحيثيّتين التقييديّتين إذا كان بين الدلالتين تكاذب من أجل دلالتهما الالتزاميّة على نفي الحكم الآخر ـ على نحو ما فصّلناه ـ فإنّ التعارض بينهما لا محالة واقع ، ولا تصل النوبة في هذا المورد للدخول في مسألة الاجتماع.

ولنا مناقشة معه في صورة الحيثية التعليليّة ، يطول شرحها ، ولا يهمّ التعرّض لها الآن ، وفيما ذكرناه الكفاية ، وفوق الكفاية للطالب المبتدئ.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٨٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٦٠.

٣٣٢

الحقّ في المسألة

بعد ما قدّمنا ـ من توضيح تحرير النزاع وبيان موضع النزاع ـ نقول : إنّ الحقّ في المسألة هو «الجواز». وقد ذهب إلى ذلك جمع من المحقّقين المتأخّرين (١).

وسندنا يبتني على توضيح واختيار ثلاثة أمور مترتّبة :

أوّلا : أنّ متعلّق التكليف ـ سواء كان أمرا أو نهيا ـ ليس هو المعنون (٢) ، أي الفرد الخارجيّ للعنوان بما له من الوجود الخارجيّ ؛ فإنّه يستحيل ذلك ، بل متعلّق التكليف دائما وأبدا هو العنوان ، على ما سيأتي توضيحه (٣).

واعتبر ذلك بالشوق ، فإنّ الشوق يستحيل أن يتعلّق بالمعنون ؛ لأنّه إمّا أن يتعلّق به حال عدمه أو حال وجوده ، وكلّ منهما لا يكون ؛ أمّا الأوّل : فيلزم تقوّم الموجود بالمعدوم ، وتحقّق المعدوم بما هو معدوم ـ لأنّ المشتاق إليه له نوع من التحقّق بالشوق إليه ـ وهو محال واضح ؛ وأمّا الثاني : فلأنّه يكون الاشتياق إليه تحصيلا للحاصل وهو محال ؛ فإذن لا يتعلّق الشوق بالمعنون لا حال وجوده ، ولا حال عدمه.

مضافا إلى أنّ الشوق من الأمور النفسيّة ، ولا يعقل أن يتشخّص ما في النفس بدون متعلّق ما ، كجميع الأمور النفسيّة ، كالعلم ، والخيال ، والوهم ، والإرادة ، ونحوها ، ولا يعقل أن يتشخّص بما هو خارج عن أفق النفس من الأمور العينيّة ؛ فلا بدّ أن يتشخّص بالشيء المشتاق إليه بما له من الوجود العنوانيّ الفرضيّ ، وهو المشتاق إليه أوّلا وبالذات ، وهو الموجود بوجود الشوق ، لا بوجود آخر وراء الشوق ، ولكن لمّا كان يؤخذ العنوان بما هو حاك ومرآة عمّا في الخارج ـ أي عن المعنون ـ فإنّ المعنون يكون مشتاقا إليه ثانيا و

__________________

(١) راجع : التعليقة رقم «٤» من الصفحة : ٣٢٠.

(٢) خلافا للمحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ١٩٣ ؛ فإنّه قال : «لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ، ولا ما هو عنوانه ...». واختاره المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٤٠٠ ـ ٤٠٢.

(٣) يأتي بعد أسطر.

٣٣٣

بالعرض ، نظير العلم ؛ فإنّه لا يعقل أن يتشخّص بالأمر الخارجيّ ، والمعلوم بالذات دائما وأبدا هو العنوان الموجود بوجود العلم ، ولكن بما هو حاك ومرآة عن المعنون.

وأمّا المعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه.

وفي الحقيقة إنّما يتعلّق الشوق بشيء إذا كان له جهة وجدان وجهة فقدان ، فلا يتعلّق بالمعدوم من جميع الجهات ، ولا بالموجود من جميع الجهات. وجهة الوجدان في المشتاق إليه هو العنوان الموجود بوجود الشوق في أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنوانيّ فرضيّ. وجهة الفقدان في المشتاق إليه هو عدمه الحقيقيّ في الخارج ، ومعنى الشوق إليه هو الرغبة في إخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعليّة والتحقيق.

وإذا كان الشوق على هذا النحو ، فكذلك حال الطلب والبعث بلا فرق ، فيكون حقيقة طلب الشيء هو تعلّقه بالعنوان لإخراجه من حدّ الفرض والتقدير إلى حدّ الفعليّة والتحقيق (١).

ثانيا : أنّا لمّا قلنا بأنّ متعلّق التكليف هو العنوان لا المعنون لا نعني أنّ العنوان بما له من الوجود الذهنيّ يكون متعلّقا للطلب ؛ فإنّ ذلك باطل بالضرورة ؛ لأنّ مثار الآثار ومتعلّق الغرض والذي تترتّب عليه المصلحة والمفسدة هو المعنون لا العنوان ؛ بل نعني أنّ المتعلّق هو العنوان حال وجوده الذهنيّ ، لا أنّه بما له من الوجود الذهنيّ أو هو مفهوم ، ومعنى تعلّقه بالعنوان حال وجوده الذهنيّ أنّه يتعلّق به نفسه باعتبار أنّه مرآة عن المعنون وفان فيه ، فتكون التخلية فيه عن الوجود الذهنيّ عين التحلية به.

ثالثا : أنّا إذ نقول : «إنّ المتعلّق للتكليف هو العنوان بما هو مرآة عن المعنون ، وفان فيه» لا نعني أنّ المتعلّق الحقيقيّ للتكليف هو المعنون ، وأنّ التكليف يسري من العنوان إلى المعنون باعتبار فنائه فيه ـ كما قيل (٢) ـ ، فإنّ ذلك باطل بالضرورة أيضا ؛ لما تقدّم أنّ المعنون يستحيل أن يكون متعلّقا للتكليف بأيّ حال من الأحوال ، وهو محال حتّى لو كان بتوسّط العنوان ، فإنّ توسّط العنوان لا يخرجه عن استحالة تعلّق التكليف به ؛ بل نعني

__________________

(١) هذا الأمر كلّه ما أفاده المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٤٨٤ و ٥٢٥ ـ ٥٢٨.

(٢) وهو الظاهر من كلام المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ، وبدائع الأفكار ١ : ٤٢٠.

٣٣٤

ونقول : إنّ الصحيح أنّ متعلّق التكليف هو العنوان بما هو مرآة وفان في المعنون على أن يكون فناؤه في المعنون هو المصحّح لتعلّق التكليف به فقط ؛ إذ إنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون المفنيّ فيه ، لا أنّ الفناء يجعل التكليف ساريا إلى المعنون ومتعلّقا به. وفرق كبير بين ما هو مصحّح لتعلّق التكليف بشيء ، وبين ما هو بنفسه متعلّق التكليف. وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلين بأنّ التكليف يسري إلى المعنون باعتبار فناء العنوان فيه ، ولا يزال هذا الخلط بين ما هو بالذات وما هو بالعرض مثار كثير من الاشتباهات التي تقع في علمي الأصول والفلسفة. والفناء والآليّة في الملاحظة هو الذي يوقع الاشتباه والخلط ، فيعطى ما للعنوان للمعنون وبالعكس.

وإذا عسر عليك تفهّم ما نرمي إليه فاعتبر ذلك في مثال الحرف حينما نحكم عليه بأنّه لا يخبر عنه ؛ فإنّ عنوان الحرف ومفهومه اسم يخبر عنه ، كيف وقد أخبر بأنّه لا يخبر عنه؟ ولكن إنّما صحّ الإخبار عنه بذلك فباعتبار فنائه في المعنون ؛ لأنّه هو الذي له هذه الخاصيّة ، ويقوم به الغرض من الحكم ، ومع ذلك لا يجعل ذلك كون المعنون ـ وهو الحرف الحقيقيّ ـ موضوعا للحكم حقيقة أوّلا وبالذات ؛ فإنّ الحرف الحقيقيّ يستحيل أن يكون موضوعا للحكم وطرفا للنسبة بأيّ حال من الأحوال ولو بتوسّط شيء ، كيف وحقيقته النسبة والربط ، وخاصّته أنّه لا يخبر عنه؟. وعليه ، فالمخبر عنه أوّلا وبالذات هو عنوان الحرف ، لكن لا بما هو مفهوم موجود في الذهن ؛ فإنّه بهذا الاعتبار يخبر عنه ، بل بما هو فان في المعنون وحاك عنه ، فالمصحّح للإخبار عنه بأنّه لا يخبر عنه هو فناؤه في معنونه ، فيكون الحرف الحقيقيّ المعنون مخبرا عنه ثانيا وبالعرض ، وإن كان الغرض من الحكم إنّما يقوم بالمفنيّ فيه ، وهو الحرف الحقيقيّ.

وعلى هذا يتّضح جليّا كيف أنّ دعوى سراية الحكم أوّلا وبالذات من العنوان إلى المعنون منشؤها الغفلة [عن التفرقة] بين ما هو المصحّح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك المصحّح ، فيجعل الموضوع عنوانا حاكيا عنه ، وبين ما هو الموضوع للحكم القائم به الغرض ، فالمصحّح للحكم شيء والمحكوم عليه والمجعول موضوعا شيء آخر. ومن العجيب أن يصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفنّ في المعقول.

٣٣٥

نعم ، إذا كان القائل بالسراية يقصد أنّ العنوان يؤخذ فانيا في المعنون ، وحاكيا عنه ، وأنّ الغرض إنّما يقوم بالمعنون فذلك حقّ ونحن نقول به ، ولكن ذلك لا ينفعه في الغرض الذي يهدف إليه ؛ لأنّا نقول بذلك من دون أن نجعل متعلّق التكليف نفس المعنون ، وإنّما يكون متعلّقا له ثانيا وبالعرض ، كالمعلوم بالعرض ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ ، فإنّ العلم إنّما يتعلّق بالمعلوم بالذات ، ويتقوّم به ، وليس هو إلاّ العنوان الموجود بوجود علميّ ، ولكن باعتبار فنائه في معنونه يقال للمعنون : «إنّه معلوم» ، ولكنّه في الحقيقة هو معلوم بالعرض لا بالذات ، وهذا الفناء هو الذي يخيّل الناظر أنّ المتعلّق الحقيقيّ للعلم هو المعنون ، ولقد أحسنوا في تعريف العلم بأنّه «حصول صورة الشيء لدى العقل ، لا حصول نفس الشيء» ، فالمعلوم بالذات هو الصورة ، والمعلوم بالعرض نفس الشيء الذي حصلت صورته لدى العقل.

وإذا ثبت ما تقدّم ، واتّضح ما رمينا إليه ـ من أنّ متعلّق التكليف أوّلا وبالذات هو العنوان وأنّ المعنون متعلّق له بالعرض ـ يتّضح لك الحقّ جليّا في مسألتنا «مسألة اجتماع الأمر والنهي» ، وهو أنّ الحقّ جواز الاجتماع.

ومعنى جواز الاجتماع أنّه لا مانع من أن يتعلّق الإيجاب بعنوان ، ويتعلّق التحريم بعنوان آخر ، وإذا جمع المكلّف بينهما صدفة بسوء اختياره فإنّ ذلك لا يجعل الفعل الواحد المعنون لكلّ من العنوانين متعلّقا للإيجاب والتحريم إلاّ بالعرض ، وليس ذلك بمحال ؛ فإنّ المحال إنّما هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعلّقا للإيجاب والتحريم.

وعليه ، فيصحّ أن يقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق العنوان المأمور به عليه ، وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان المنهيّ عنه عليه. ولا محذور في ذلك ما دام أنّ ذلك الفعل الواحد ليس بنفسه وبذاته متعلّقا للأمر وللنهي ليكون ذلك محالا ، بل العنوانان الفانيان هما المتعلّقان للأمر والنهي ، غاية الأمر أنّ تطبيق العنوان المأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل ، ولا فرق بين فرد وفرد في انطباق العنوان عليه ، فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان المنهيّ عنه كالفرد الخالي من ذلك في كون كلّ منهما ينطبق عليه العنوان المأمور به بلا جهة خلل في الانطباق.

٣٣٦

ولا فرق في ذلك بين أن يكون تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون ، أو لم يكن ما دام أنّ المعنون ليس هو متعلّق التكليف بالذات.

نعم ، لو كان العنوان مأخوذا في المأمور به والمنهيّ عنه على وجه يسع جميع الأفراد حتّى موضع الاجتماع ـ وهو الفرد الذي ينطبق عليه العنوانان ـ ، ولو كان ذلك من جهة إطلاق الدليل ؛ فإنّه حينئذ تكون لكلّ من الدليلين الدلالة الالتزاميّة على نفي حكم الآخر (١) في موضع الالتقاء ، فيتكاذبان ، وعليه ، يقع التعارض بينهما ويخرج المورد عن مسألة الاجتماع كما سبق بيان ذلك مفصّلا.

كما أنّه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة في متعلّق الأمر على وجه يكون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور فإنّ عنوان المأمور به حينئذ لا يسع ولا يعمّ الفرد غير المقدور ، فلا ينطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به على موضع الاجتماع ، ولا يكون هذا الفرد غير المقدور شرعا من أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها.

بخلاف ما إذا كانت القدرة مصحّحة فقط لتعلّق التكليف بالعنوان ، فإنّ عنوان المأمور به يكون مقدورا عليه ولو بالقدرة على فرد واحد من أفراده ؛ ولهذا قلنا : إنّه لو انحصر تطبيق المأمور به في خصوص موضع الاجتماع ـ كما في مورد عدم المندوحة ـ يقع التزاحم بين الحكمين في موضع الاجتماع ؛ لأنّه لا يصحّ تطبيق المأمور به على هذا الفرد ـ وهو موضع الاجتماع ـ إلاّ إذا لم يكن النهي فعليّا ، كما لا يصحّ تطبيق عنوان المنهيّ عنه عليه إلاّ إذا لم يكن الأمر فعليّا ، فلا بدّ من رفع اليد عن فعليّة أحد الحكمين ، وتقديم الأهمّ منهما.

ولقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا (٢) إلى أنّ القدرة مأخوذة في متعلّق التكليف ، باعتبار أنّ الخطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك ؛ لأنّ الأمر إنّما هو لتحريك المكلّف نحو الفعل على أن يصدر منه بالاختيار ، وهذا نفسه يقتضي كون متعلّقه مقدورا ؛ لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع وإن كان الامتناع من ناحية شرعيّة.

ولكنّنا لم نتحقّق صحّة هذه الدعوى ؛ لأنّ صحّة التكليف بطبيعة الفعل لا تتوقّف على أكثر

__________________

(١) أي مدلول الآخر.

(٢) وهو المحقّق النائينيّ في أجود التقريرات ٢ : ٢٤ و ١٧٨.

٣٣٧

من القدرة على صرف وجود الطبيعة ولو بالقدرة على فرد من أفرادها ، فالعقل هو الذي يحكم بلزوم القدرة في متعلّق التكليف ، وذلك لا يقتضي القدرة على كلّ فرد من أفراد الطبيعة إلاّ إذا قلنا بأنّ التكليف يتعلّق بالأفراد أوّلا وبالذات ، وقد تقدّم توضيح فساد هذا الوهم (١).

تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون

بعد ما تقدّم من البيان من أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس الأفراد ، فإنّ القول بالجواز لا يتوقّف على القول بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ ؛ لأنّه سواء كان المعنون متعدّدا بتعدّد العنوان أو غير متعدّد ، فإنّ ذلك لا يرتبط بمسألتنا نفيا وإثباتا ما دام أنّ المعنون ليس متعلّقا للتكليف أبدا. وعلى كلّ حال فالحقّ هو الجواز ، تعدّد المعنون أو لم يتعدّد.

ولو سلّمنا جدلا بأنّ التكليف يتعلّق بالمعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إلى المعنون ـ كما هو المعروف ـ ، فإنّ الحقّ أنّه لا يجب تعدّد المعنون بتعدّد العنوان ، فقد يتعدّد وقد لا يتعدّد ، فليس هناك قاعدة عامّة تقضي بأن نحكم بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون ، كما تكلّف بتنقيحها بعض أعاظم مشايخنا (٢) ، وكأنّ نظره الشريف يرمي إلى أنّ العامّين من وجه يمتنع صدقهما على شيء واحد من جهة واحدة ، وإلاّ لما كانا عامّين من وجه ، فلا بدّ أن يفرض هناك جهتان موجودتان في المجمع : إحداهما : هو الواجب ، وثانيتهما : هو المحرّم ، فيكون التركيب بين الحيثيّتين تركيبا انضماميّا لا اتّحاديّا ، إلاّ إذا كانت الحيثيّتان المفروضتان تعليليّتين لا تقييديّتين ؛ فإنّ الواجب والمحرّم على هذا الفرض يكونان شيئا واحدا وهو ذات المحيّث بهاتين الحيثيّتين. وحينئذ يقع التعارض بين دليلي العامّين ، ويخرج المورد عن مسألتنا.

وفي هذا التقرير ما لا يخفى على الفطن.

أمّا أوّلا : فإنّ العنوان بالنسبة إلى معنونه تارة يكون منتزعا منه باعتبار ضمّ حيثيّة زائدة

__________________

(١) تقدّم في الصفحة السابقة.

(٢) وهو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٤٠٦ ـ ٤١٤.

٣٣٨

على الذات ، مباينة لها ماهية ووجودا ، كالأبيض بالقياس إلى الجسم ، فإنّ صدق الأبيض عليه باعتبار عرض (١) صفة البياض عليه الخارجة عن مقام ذاته ؛ وأخرى يكون منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بلا ضمّ حيثيّة زائدة على الذات ، كالأبيض بالقياس إلى نفس البياض ؛ فإنّ نفس البياض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبيض منه بلا حاجة إلى ضمّ بياض آخر إليه ؛ لأنّه بنفس ذاته أبيض لا ببياض آخر. ومثل ذلك صفات الكمال لذات واجب الوجود ؛ فإنّها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضمّ حيثيّة أخرى زائدة على الذات.

وعليه ، فلا يجب في كلّ عنوان منتزع أن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضمّ حيثيّة زائدة على الذات.

وأمّا ثانيا : فإنّ العنوان لا يجب فيه أن يكون كاشفا عن حقيقة متأصّلة على وجه يكون انطباق العنوان أو مبدئه عليه من باب انطباق الكلّي على فرده ، بل من العناوين ما هو مجعول ومعتبر لدى العقل لصرف الحكاية والكشف عن المعنون ، من دون أن يكون بإزائه في الخارج حقيقة متأصّلة ، مثل عنوان «العدم» و «الممتنع» ، بل مثل عنوان «الحرف» و «النسبة» ؛ فإنّه لا يجب في مثله فرض حيثيّة متأصّلة ينتزع منها العنوان. ومثل هذا العنوان المعتبر قد يكون عامّا يصحّ انطباقه على حقائق متعدّدة ، من دون أن يكون بإزائه حيثيّة واقعية غير تلك الحقائق المتأصّلة. ولعلّ عنوان الغصب من هذا الباب في انطباقه على الصلاة ـ التي تتألّف من حقائق متباينة ـ وعلى غيرها من سائر التصرّفات ، فكلّ تصرّف في مال الغير بدون رضاه غصب مهما كانت حقيقة ذلك التصرّف ، ومن أيّة مقولة كانت.

ثمرة المسألة

من الواضح ظهور ثمرة النزاع فيما إذا كان المأمور به عبادة ؛ فإنّه بناء على القول بالامتناع ، وترجيح جانب النهي ـ كما هو المعروف ـ تقع العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة ، والعمد بالجمع بين المأمور به والمنهيّ عنه ـ كما هو المفروض في المسألة ـ ؛ لأنّه لا أمر مع ترجيح جانب النهي ، وليس هناك في ذات المأتيّ به ما يصلح للتقرّب به مع فرض

__________________

(١) وفي المطبوع سابقا : «عروض» ولكنه لا تساعده اللغة.

٣٣٩

النهي الفعليّ ؛ لامتناع التقرّب بالمبعّد وإن كان ذات المأتيّ به مشتملا على المصلحة الذاتيّة ، وقلنا بكفاية قصد المصلحة الذاتيّة في صحّة العبادة.

نعم ، إذا وقع الجمع بين المأمور به والمنهيّ عنه عن جهل بالحرمة قصورا لا تقصيرا أو عن نسيان وكان قد أتى بالفعل على وجه القربة فالمشهور أنّ العبادة تقع صحيحة (١) ؛ ولعلّ الوجه فيه هو القول بكفاية رجحانها الذاتيّ واشتمالها على المصلحة الذاتيّة في التقرّب بها مع قصد ذلك وإن لم يكن الأمر فعليّا.

وقيل (٢) : إنّه لا يبقى مصحّح في هذه الصورة للعبادة ، فتقع فاسدة ؛ نظرا إلى أنّ دليلي الوجوب والحرمة على القول بالامتناع يصبحان متعارضين ، وإن لم يكونا في حدّ أنفسهما متعارضين ، فإذا قدّم جانب النهي فكما لا يبقى أمر كذلك لا يحرز وجود المقتضي له وهو المصلحة الذاتيّة في المجمع ؛ إذ تخصيص دليل الأمر بما عدا المجمع يجوز أن يكون لوجود المانع في المجمع عن شمول الأمر له ، ويجوز أن يكون لانتفاء المقتضي للأمر فلا يحرز وجود المقتضي.

هذا بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي ، وأمّا بناء على الامتناع وتقديم جانب الأمر فلا شبهة في وقوع العبادة صحيحة ؛ إذ لا نهي حتّى يمنع من صحّتها ، لا سيّما إذا قلنا بتعارض الدليلين ؛ بناء على الامتناع ؛ فإنّه لا يحرز معه المفسدة الذاتيّة في المجمع.

وكذلك الحقّ هو صحّة العبادة إذا قلنا بالجواز ؛ فإنّه كما جاز توجّه الأمر والنهي إلى عنوانين مختلفين مع التقائهما في المجمع فقلنا بجواز الاجتماع في مقام التشريع ، فكذلك نقول : لا مانع من الاجتماع في مقام الامتثال أيضا ـ كما أشرنا إليه في تحرير محلّ النزاع (٣) ـ ، حتّى لو كان المعنون للعنوانين واحدا وجودا ، ولم يوجب تعدّد العنوان تعدّده ؛

__________________

(١) نسب إلى المشهور في المحاضرات ٤ : ٢١٢.

(٢) والقائل هو المحقّق النائينيّ في «أجود التقريرات ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٤» ، بناء على أن يكون مراده من الجهل بالغصب هو الجهل بالحرمة حكما أو موضوعا ، كما فسّره بذلك تلميذه المحقّق الخوئيّ في تعليقاته على أجود التقريرات.

(٣) راجع الصفحة : ٣٢٦ من هذا الجزء ، حيث قال : «وحينئذ إذا اتّفق ذلك للمكلّف ، فإنّه يكون هذا الفعل الواحد داخلا فيما هو مأمور به من جهة ، فيقتضي أن يكون المكلّف مطيعا ...».

٣٤٠