اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

ومنشأ هذا الرأي عنده (١) اعتقاده بأنّ دليل الأصل في موضوعات الأحكام موسّع لدائرة الشرط أو الجزء المعتبر في موضوع التكليف ومتعلّقه ، بأن يكون مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) يدلّ على أنّ كلّ شيء قبل العلم بنجاسته محكوم بالطهارة ، والحكم بالطهارة حكم بترتيب آثارها وإنشاء لأحكامها التكليفيّة والوضعيّة التي منها الشرطيّة ، فتصحّ الصلاة بمشكوك الطهارة ، كما تصحّ بالطاهر الواقعيّ.

ويلزم من ذلك أن يكون الشرط في الصلاة ـ حقيقة ـ أعمّ من الطهارة الواقعيّة والطهارة الظاهريّة.

وإذا كان الأمر كذلك فإذا انكشف الخلاف لا يكون ذلك موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل يكون بالنسبة إليه من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل. فلا يتصوّر حينئذ معنى لعدم الإجزاء بالنسبة إلى ما أتى به حين الشكّ ، والمفروض أنّ ما أتى به يكون واجدا لشرطه المعتبر فيه تحقيقا ، باعتبار أنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة حين الجهل ، فلا يكون فيه انكشاف للخلاف ولا فقدان للشرط. (٣)

وقد ناقشه شيخنا الميرزا النّائينيّ (٤) بعدّة مناقشات يطول ذكرها ، ولا يسعها هذا المختصر. والموضوع من المباحث الدقيقة التي هي فوق مستوى كتابنا (٥).

٣. الإجزاء في الأمارات والأصول مع انكشاف الخطأ بحجّة معتبرة

وهذه أهمّ مسألة في الإجزاء من جهة عموم البلوى بها للمكلّفين ؛ فإنّ المجتهدين كثيرا ما يحصل لهم تبدّل في الرأي بما يوجب فساد أعمالهم السابقة ظاهرا. وبتبعهم المقلّدون لهم. والمقلّدون أيضا قد ينتقلون من تقليد شخص إلى تقليد شخص آخر

__________________

(١) أي : عند صاحب الكفاية.

(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨٣ ، الباب ٣٠ من أبواب النجاسات والأواني ، الحديث ٤.

(٣) انتهى ما أفاده صاحب الكفاية في وجه ما ذهب إليه.

(٤) فوائد الأصول ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥١ ، أجود التقريرات ١ : ٢٨٧.

(٥) وإن شئت فراجع : نهاية الأفكار ١ : ٢٤٦ ـ ٢٥٥ ، المحاضرات ٢ : ٢٥٧ ، نهاية الأصول : ١٢٩ ـ ١٣٣ ، مناهج الوصول إلى علم الأصول ١ : ٣١٧ ـ ٣٢٠.

٢٦١

يخالف الأوّل في الرأي بما يوجب فساد الأعمال السابقة.

فنقول في هذه الأحوال :

إنّه بعد قيام الحجّة المعتبرة اللاحقة بالنسبة إلى المجتهد أو المقلّد لا إشكال في وجوب الأخذ بها في الوقائع اللاحقة غير المرتبطة بالوقائع السابقة.

ولا إشكال ـ أيضا ـ في مضيّ الوقائع السابقة التي لا يترتّب عليها أثر أصلا في الزمن اللاحق.

وإنّما الإشكال في الوقائع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة ، مثل ما لو انكشف الخطأ اجتهادا أو تقليدا في وقت العبادة ، وقد عمل بمقتضى الحجّة السابقة ، أو انكشف الخطأ في خارج الوقت ، وكان عمله ممّا يقضى ، كالصلاة ، ومثل ما لو تزوّج زوجة بعقد غير عربيّ اجتهادا أو تقليدا ، ثمّ قامت الحجّة عنده على اعتبار اللفظ العربيّ ، والزوجة لا تزال موجودة.

فإنّ المعروف في الموضوعات الخارجيّة عدم الإجزاء (١).

أمّا في الأحكام : فقد قيل بقيام الإجماع على الإجزاء ، لا سيّما في الأمور العباديّة ، كالمثال الأوّل المتقدّم. (٢) ولكنّ العمدة في الباب أن نبحث عن القاعدة ما ذا تقتضي هنا؟

هل تقتضي الإجزاء أو لا تقتضيه؟ والظاهر أنّها لا تقتضي الإجزاء.

وخلاصة ما ينبغي أن يقال : إنّ من يدّعي الإجزاء لا بدّ أن يدّعي أنّ المكلّف لا يلزمه في الزمان اللاحق إلاّ العمل على طبق الحجّة الأخيرة التي قامت عنده. وأمّا : عمله السابق فقد كان على طبق حجّة ماضية عليه في حينها.

ولكن يقال له : إنّ التبدّل الذي حصل له ، إمّا أن يدّعى أنّه تبدّل في الحكم الواقعيّ أو

__________________

(١) ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ ونقله عن محكيّ النهاية ، والتهذيب ، والمختصر وشروحه ، وشرح المنهاج.

مطارح الأنظار : ٢٨.

(٢) والقائل هو المحقّق محمد تقي الأصفهانيّ صاحب هداية المسترشدين ، فإنّه قال : «وإن بلغ اجتهاده الثاني إلى حدّ الظنّ ... فظاهر المذهب عدم وجوب الإعادة والقضاء للعبادات الواقعة منه ومن مقلّديه». هداية المسترشدين : ٤٩٠.

٢٦٢

تبدّل في الحجّة عليه. ولا ثالث لهما.

أمّا : دعوى التبدّل في الحكم الواقعيّ فلا إشكال في بطلانها ؛ لأنّها تستلزم القول بالتصويب ، وهو ظاهر.

وأمّا : دعوى التبدّل في الحجّة ، فإن أراد أنّ الحجّة الأولى هي حجّة بالنسبة إلى الأعمال السابقة ، وبالنظر إلى وقتها فقط فهذا لا ينفع في الإجزاء بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة وآثار الأعمال السابقة ، وإن أراد أنّ الحجّة الأولى هي حجّة مطلقا حتّى بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة وآثار الأعمال السابقة فالدعوى باطلة قطعا ؛ لأنّه في تبدّل الاجتهاد ينكشف بحجّة معتبرة أنّ المدرك السابق لم يكن حجّة مطلقا حتّى بالنسبة إلى أعماله اللاحقة ، أو أنّه تخيّله حجّة وهو ليس بحجّة ، لا أنّ المدرك الأوّل حجّة مطلقا ، وهذا الثاني حجّة أخرى.

وكذلك الكلام في تبدّل التقليد ، فإنّ مقتضى التقليد الثاني هو انكشاف بطلان الأعمال الواقعة على طبق التقليد الأوّل ، فلا بدّ من ترتيب الأثر على طبق الحجّة الفعليّة ، فإنّ الحجّة السابقة ـ أي التقليد الأوّل ـ كلا حجّة بالنسبة إلى الآثار اللاحقة ، وإن كانت حجّة عليه في وقته ، والمفروض عدم التبدّل في الحكم الواقعيّ ، فهو باق على حاله ؛ فيجب العمل على طبق الحجّة الفعليّة وما تقتضيه. فلا إجزاء إلاّ إذا ثبت الإجماع عليه.

وتفصيل الكلام في هذا الموضوع يحتاج إلى سعة من القول فوق مستوى هذا المختصر.

تنبيه في تبدّل القطع

لو قطع المكلّف بأمر خطأ فعمل على طبق قطعه ، ثمّ بان له يقينا خطؤه ، فإنّه لا ينبغي الشكّ في عدم الإجزاء ، والسرّ واضح ؛ لأنّه عند القطع الأوّل لم يفعل ما استوفى مصلحة الواقع بأيّ وجه من وجوه الاستيفاء ، فكيف يسقط التكليف الواقعيّ؟! لأنّه في الحقيقة لا أمر موجّه إليه ، وإنّما كان يتخيّل الأمر. وعليه ، فيجب امتثال الواقع في الوقت أداء وفي خارجه قضاء.

٢٦٣

نعم ، لو أنّ العمل الذي قطع بوجوبه كان من باب الاتّفاق محقّقا لمصلحة الواقع فإنّه لا بدّ أن يكون مجزئا. ولكن هذا أمر آخر اتّفاقيّ ليس من جهة كونه مقطوع الوجوب.

تمرينات (٣٤)

١. ما هو الإجزاء؟

٢. كيف تدخل مسألة الإجزاء في باب الملازمات العقليّة؟

٣. ما السرّ في ذهاب الفقهاء إلى الإجزاء في الأمر الاضطراريّ؟

٤. ما المراد من الحكم الظاهريّ في المقام؟

٥. لو كان الأمر الظاهريّ هو الأمارة فهل يجزئ عن الأمر الواقعي مع انكشاف الخطأ يقينا؟ وعلى أيّ التقديرين ما الوجه في ذلك؟

٦. لو كان الأمر الظاهريّ هو الأصل فهل يجزئ عن الأمر الواقعي مع انكشاف الخطأ يقينا؟ اذكر قول المتقدّمين والمتأخّرين.

٧. ما هو منشأ ذهاب المتأخّرين إلى الإجزاء في الأصول مع انكشاف الخطأ يقينا؟

٨. لو كان الأمر الظاهريّ هو الأمارة أو الأصل فهل يجزئ عن الأمر الواقعي مع انكشاف الخطأ بحجّة معتبرة؟ بيّن الوجه في ذلك؟

٩. لو قطع المكلّف بأمر خطأ ، فعمل على طبقه ثمّ بان له يقينا خطؤه فهل يجزئ أم لا؟

٢٦٤

المسألة الثانية : مقدّمة الواجب

تحرير [محلّ] النزاع

كلّ عاقل يجد من نفسه أنّه إذا وجب عليه شيء وكان حصوله يتوقّف على مقدّمات (١) فإنّه لا بدّ له من تحصيل تلك المقدّمات ليتوصّل إلى فعل ذلك الشيء بها (٢).

وهذا الأمر بهذا المقدار ليس موضعا للشكّ والنزاع ، وإنّما الذي وقع موضعا للشكّ وجرى فيه النزاع عند الأصوليّين هو أنّ هذه اللابدّيّة العقليّة للمقدّمة التي لا يتمّ الواجب إلاّ بها هل يستكشف منها اللابدّيّة شرعا أيضا؟ يعني أنّ الواجب هل يلزم عقلا من وجوبه الشرعيّ وجوب مقدّمته شرعا؟ أو فقل على نحو العموم : كلّ فعل واجب عند مولى من الموالي هل يلزم منه عقلا وجوب مقدّمته أيضا عند ذلك المولى؟. وبعبارة رابعة أكثر وضوحا : إنّ العقل ـ لا شكّ ـ يحكم بوجوب مقدّمة الواجب ـ أي يدرك لزومها ـ ، ولكن هل يحكم أيضا بأنّها واجبة أيضا عند من أمر بما يتوقّف عليها؟

وعلى هذا البيان فالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع هي موضع البحث في هذه المسألة.

مقدّمة الواجب من أيّ قسم من المباحث الأصوليّة؟ (٣)

وإذا اتّضح ما تقدّم في تحرير محلّ النزاع نستطيع أن نفهم أنّه في أيّ قسم من أقسام المباحث الأصوليّة ينبغي أن تدخل هذه المسألة.

وتوضيح ذلك أنّ هذه الملازمة ـ على تقدير القول بها ـ تكون على أنحاء ثلاثة : إمّا

__________________

(١) وهي العلل والشرائط ورفع الموانع وغيرها.

(٢) فإنّ العقل يدرك هذه اللابدّيّة من جهة امتناع المعلول بدون علّته.

(٣) وهذا بعد الفراغ من كونها من المسائل الأصوليّة ، كما هو المعروف بين المتأخّرين. والظاهر من صاحب المعالم أنّها من المسائل الفقهيّة ، كما أنّها عند الحاجبيّ والشيخ البهائيّ من مبادئ الأحكام ، واختاره السيّد البروجرديّ. راجع معالم الدين : ٦٩ ، شرح العضدي ١ : ٩٠ ، زبدة الأصول : ٥٥ ، نهاية الأصول : ١٤٢.

٢٦٥

ملازمة غير بيّنة ، أو بيّنة بالمعنى الأعمّ ، أو بيّنة بالمعنى الأخصّ.

فإن كانت هذه الملازمة ـ في نظر القائل بها ـ غير بيّنة ، أو بيّنة بالمعنى الأعمّ فإثبات اللازم ـ وهو وجوب المقدّمة شرعا ـ لا يرجع إلى دلالة اللفظ أبدا ، بل إثباته إنّما يتوقّف على حجّيّة هذا الحكم العقليّ بالملازمة ، وإذا تحقّقت هناك دلالة فهي من نوع دلالة الإشارة. (١) وعلى هذا فيجب أن تدخل المسألة في بحث الملازمات العقليّة غير المستقلّة ، ولا يصحّ إدراجها في مباحث الألفاظ. (٢)

وإن كانت هذه الملازمة ـ في نظر القائل بها ـ ملازمة بيّنة بالمعنى الأخصّ فإثبات اللازم يكون لا محالة بالدلالة اللفظيّة ، وهي الدلالة الالتزاميّة خاصّة (٣). والدلالة الالتزاميّة من الظواهر التي هي حجّة.

ولعلّه لأجل هذا أدخلوا هذه المسألة في مباحث الألفاظ ، وجعلوها من مباحث الأوامر بالخصوص (٤). وهم على حقّ في ذلك إذا كان القائل بالملازمة لا يقول بها إلاّ لكونها ملازمة بيّنة بالمعنى الأخصّ ، ولكنّ الأمر ليس كذلك.

إذن ، يمكننا أن نقول : إنّ هذه المسألة ذات جهتين باختلاف الأقوال فيها : يمكن أن تدخل في مباحث الألفاظ على بعض الأقوال ، ويمكن أن تدخل في الملازمات العقليّة على البعض الآخر.

ولكن لأجل الجمع بين الجهتين ناسب إدخالها في الملازمات العقليّة ـ كما صنعنا ـ ؛ لأنّ البحث فيها على كلّ حال في ثبوت الملازمة ، غاية الأمر أنّه على أحد الأقوال تدخل

__________________

(١) راجع دلالة الإشارة ، الصفحة ١٤٩ ، فإنّه ذكرنا هناك أنّ دلالة الإشارة ليست من الظواهر ، فلا تدخل في حجّيّة الظهور ، وإنّما حجّيّتها ـ على تقديره ـ من باب الملازمة العقليّة. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) الظاهر من كتب القدماء أنّ مسألة مقدّمة الواجب من المسائل اللفظيّة ، راجع العدّة ١ : ١٨٦ ، المعتمد ١ : ٩٣ ، معالم الدين : ٦٩.

وذهب المتأخّرون إلى أنّها من المسائل العقليّة ، إلاّ أنّهم لمّا لم يفرّدوا بابا للبحث عن الملازمات العقليّة فأدرجوها في مباحث الألفاظ.

(٣) كما قال به المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ٢٦١ ، مع أنّه قائل بأنّها مسألة عقليّة.

(٤) قلنا : إنّهم لمّا لم يفرّدوا بابا للبحث عن الملازمات العقليّة فأدرجوها في مباحث الألفاظ.

٢٦٦

صغرى (١) لحجّيّة الظهور كما تدخل صغرى لحجّيّة العقل. وعلى القول الآخر تتمحّض في الدخول صغرى لحجّيّة العقل. والجامع بينهما هو جعلها صغرى لحجيّة العقل.

ثمرة النزاع

إنّ ثمرة النزاع المتصوّرة ـ أوّلا وبالذات ـ لهذه المسألة هي استنتاج وجوب المقدّمة شرعا بالإضافة إلى وجوبها العقليّ الثابت. وهذا المقدار كاف في ثمرة المسألة الأصوليّة ؛ لأنّ المقصود من علم الأصول هو الاستعانة بمسائله على استنباط الأحكام من أدلّتها.

ولكنّ هذه ثمرة غير عمليّة باعتبار أنّ المقدّمة بعد فرض وجوبها العقليّ ، ولابدّيّة الإتيان بها لا فائدة في القول بوجوبها شرعا ، أو بعدم وجوبها ؛ إذ لا مجال للمكلّف أن يتركها بحال ما دام هو بصدد امتثال ذي المقدّمة.

وعليه ، فالبحث عن هذه المسألة لا يكون بحثا عمليّا مفيدا ، بل يبدو لأوّل وهلة أنّه لغو من القول لا طائل تحته ، مع أنّ هذه المسألة من أشهر مسائل هذا العلم ، وأدقّها ، وأكثرها بحثا.

ومن أجل هذا أخذ بعض الأصوليّين المتأخّرين يفتّشون عن فوائد عمليّة لهذا البحث غير ثمرة أصل الوجوب. وفي الحقيقة أنّ كلّ ما ذكروه من ثمرات لا تسمن ولا تغني من جوع. (راجع عنها المطوّلات إن شئت) (٢).

فيا ترى هل كان البحث عنها كلّه لغوا؟ وهل من الأصحّ أن نترك البحث عنها؟ نقول : لا ؛ إنّ للمسألة فوائد علميّة كثيرة وإن لم تكن لها فوائد عمليّة ، ولا يستهان بتلك الفوائد ، كما سترى ، ثمّ هي ترتبط بكثير من المسائل ذات الشأن العمليّ في الفقه ، كالبحث عن الشرط المتأخّر ، والمقدّمات المفوّتة ، وعباديّة بعض المقدّمات ، كالطهارات الثلاث ممّا لا يسع الأصوليّ أن يتجاهلها ، ويغفلها. وهذا كلّه ليس بالشيء القليل وإن لم تكن هي

__________________

(١) كلمة «صغرى» منصوبة على الحالية.

(٢) راجع مطارح الأنظار : ٨٠ ـ ٨٢ ؛ بدائع الأفكار (الرشتي) : ٣٤٦ ؛ كفاية الأصول : ١٥٣ ـ ١٥٥ ؛ فوائد الأصول ١ : ٢٩٦ ـ ٣٠٠ ، وغيرها من المطوّلات.

٢٦٧

من المسائل الأصوليّة.

ولذا تجد أنّ أهمّ مباحث مسألتنا هي هذه الأمور المنوّه عنها وأمثالها. أمّا نفس البحث عن أصل الملازمة فيكاد يكون بحثا على الهامش ، بل آخر ما يشغل بال الأصوليّين.

هذا ، ونحن اتّباعا لطريقتهم نضع التمهيدات قبل البحث عن أصل المسألة في أمور تسعة :

١. الواجب النفسيّ والغيريّ

تقدّم في الجزء الأوّل (١) معنى الواجب النفسيّ والغيريّ ، ويجب توضيحهما الآن ؛ فإنّه هنا موضع الحاجة لبحثهما ؛ لأنّ الوجوب الغيريّ هو نفس وجوب المقدّمة ـ على تقدير القول بوجوبها ـ ، وعليه فنقول في تعريفهما :

الواجب النفسيّ ما وجب لنفسه لا لواجب آخر.

الواجب الغيريّ ما وجب لواجب آخر.

وهذان التعريفان أسدّ التعريفات لهما وأحسنها (٢) ، ولكن يحتاجان إلى بعض من التوضيح ، فإنّ قولنا : «ما وجب لنفسه» قد يتوّهم منه المتوهّم لأوّل نظرة أنّ العبارة تعطي أنّ معناها أن يكون وجوب الشيء علّة لنفسه في الواجب النفسيّ ، وذلك بمقتضى المقابلة لتعريف الواجب الغيريّ إذ يستفاد منه أنّ وجوب الغير علّة لوجوبه ، كما عليه المشهور (٣). ولا شكّ في أنّ هذا محال في الواجب النفسيّ ؛ إذ كيف يكون الشيء علّة لنفسه؟!

ويندفع هذا التوهّم بأدنى تأمّل ، فإنّ ذلك التعبير عن الواجب النفسيّ صحيح لا غبار عليه ، وهو نظير تعبيرهم عن الله (تعالى) بأنّه «واجب الوجود لذاته» ؛ فإنّ غرضهم منه أنّ وجوده ليس مستفادا من الغير ولا لأجل الغير كالممكن ، لا أنّ معناه أنّه معلول لذاته.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٩٢.

(٢) وهما منسوبان إلى الشهرة في أجود التقريرات ١ : ٢٤٢. وقد ذكر لهما تعريفات أخر ، فراجع مطارح الأنظار : ٦٦ ؛ الفصول الغرويّة : ٨٠ ؛ كفاية الأصول : ١٣٥ ؛ فوائد الأصول ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ؛ نهاية الأصول : ١٦٦ و ١٦٩.

(٣) نسب إلى المشهور في المحاضرات ٢ : ٣٨٧.

٢٦٨

وكذلك هنا نقول في الواجب النفسيّ ؛ فإنّ معنى «ما وجب لنفسه» أنّ وجوبه غير مستفاد من الغير ولا لأجل الغير في قبال الواجب الغيريّ الذي وجوبه لأجل الغير ، لا أنّ وجوبه مستفاد من نفسه.

وبهذا يتّضح معنى تعريف الواجب الغيريّ «ما وجب لواجب آخر» ؛ فإنّ معناه أنّ وجوبه لأجل الغير وتابع للغير ؛ لكونه مقدّمة لذلك الغير الواجب. وسيأتي في البحث الآتي توضيح معنى التبعيّة هذه ليتجلّى لنا المقصود من الوجوب الغيريّ في الباب.

٢. معنى التبعيّة في الوجوب الغيريّ :

قد شاع في تعبيراتهم كثيرا قولهم : «إنّ الواجب الغيريّ تابع في وجوبه لوجوب غيره» ، ولكن هذا التعبير مجمل جدّا ؛ لأنّ التبعيّة في الوجوب يمكن أن تتصوّر لها معان أربعة ، فلا بدّ من بيانها ، وبيان المعنى المقصود منها هنا ، فنقول :

١. أن يكون معنى الوجوب التبعيّ هو الوجوب بالعرض. ومعنى ذلك أنّه ليس في الواقع إلاّ وجوب واحد حقيقيّ ـ وهو الوجوب النفسيّ ـ ينسب إلى ذي المقدّمة أوّلا وبالذات ، وإلى المقدّمة ثانيا وبالعرض. وذلك نظير الوجود بالنسبة إلى اللفظ والمعنى حينما يقال : «المعنى موجود باللفظ» ، فإنّ المقصود بذلك أنّ هناك وجودا واحدا حقيقيّا ينسب إلى اللفظ أوّلا وبالذات ، وإلى المعنى ثانيا وبالعرض.

ولكن هذا الوجه من التبعيّة لا ينبغي أن يكون هو المقصود من التبعيّة هنا ؛ لأنّ المقصود من الوجوب الغيريّ وجوب حقيقيّ آخر يثبت للمقدّمة غير وجوب ذيها النفسيّ ، بأن يكون لكلّ من المقدّمة وذيها وجوب قائم به حقيقة. ومعنى التبعيّة في هذا الوجه أنّ الوجوب الحقيقيّ واحد ويكون الوجوب الثاني وجوبا مجازيّا. على أنّ هذا الوجوب بالعرض ليس وجوبا يزيد على اللابدّيّة العقليّة للمقدّمة حتّى يمكن فرض النزاع فيه نزاعا عمليّا.

٢. أن يكون معنى التبعيّة صرف التأخّر في الوجود ، فيكون ترتّب الوجوب الغيريّ على الوجوب النفسيّ نظير ترتّب أحد الوجودين المستقلّين على الآخر ، بأن يفرض البعث الموجّه للمقدّمة بعثا مستقلاّ ، ولكنّه بعد البعث نحو ذيها ، مرتّب عليه في الوجود ، فيكون

٢٦٩

من قبيل الأمر بالحجّ المرتّب وجودا على حصول الاستطاعة ، ومن قبيل الأمر بالصلاة بعد حصول البلوغ أو دخول الوقت.

ولكن هذا الوجه من التبعيّة أيضا لا ينبغي أن يكون هو المقصود هنا ؛ فإنّه لو كان ذلك هو المقصود ، لكان هذا الوجوب للمقدّمة ـ في الحقيقة ـ وجوبا نفسيّا آخر في مقابل وجوب ذي المقدّمة ، وإنّما يكون وجوب ذي المقدّمة له السبق في الوجود فقط. وهذا ينافي حقيقة المقدّميّة ؛ فإنّها لا تكون إلاّ موصلة إلى ذي المقدّمة في وجودها وفي وجوبها معا.

٣. أن يكون معنى التبعيّة ترشّح الوجوب الغيريّ من الوجوب النفسيّ لذي المقدّمة على وجه يكون معلولا له ومنبعثا منه انبعاث الأثر من مؤثّره التكوينيّ ، كانبعاث الحرارة من النار.

وكأنّ هذا الوجه من التبعيّة هو المقصود للقوم ، ولذا قالوا بأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا (١) لمكان هذه المعلوليّة ؛ لأنّ المعلول لا يتحقّق إلاّ حيث تتحقّق علّته ، وإذا تحقّقت العلّة لا بدّ من تحقّقه بصورة لا يتخلّف عنها. وأيضا علّلوا امتناع وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها بامتناع وجود المعلول قبل وجود علّته.

ولكن هذا الوجه لا ينبغي أن يكون هو المقصود من تبعيّة الوجوب الغيريّ ، وإن اشتهر على الألسنة ؛ لأنّ الوجوب النفسيّ لو كان علّة للوجوب الغيريّ فلا يصحّ فرضه إلاّ علّة فاعليّة تكوينيّة دون غيرها من العلل ؛ فإنّه لا معنى لفرضه علّة صوريّة ، أو مادّيّة ، أو غائية ، ولكن فرضه علّة فاعليّة أيضا باطل جزما ؛ لوضوح أنّ العلّة الفاعليّة الحقيقيّة للوجوب هو الآمر ؛ لأنّ الأمر فعل الآمر.

والظاهر أنّ السبب في اشتهار معلوليّة الوجوب الغيريّ هو أنّ شوق الآمر للمقدّمة هو الذي يكون منبعثا من الشوق إلى ذي المقدّمة ؛ لأنّ الإنسان إذا اشتاق إلى فعل شيء اشتاق بالتبع إلى فعل كلّ ما يتوقّف عليه. ولكنّ الشوق إلى فعل الشيء من الغير ليس هو الوجوب ، وإنّما الشوق إلى فعل الغير يدفع الآمر إلى الأمر به إذا لم يحصل ما يمنع من الأمر به ، فإذا صدر منه الأمر ـ وهو أهل له ـ انتزع منه الوجوب.

__________________

(١) ومن القائلين به المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ١٢٥ و ١٤٢.

٢٧٠

والحاصل : ليس الوجوب الغيريّ معلولا للوجوب النفسيّ في ذي المقدّمة ، ولا ينتهي إليه في سلسلة العلل ، وإنّما ينتهي الوجوب الغيريّ في سلسلة علله إلى الشوق إلى ذي المقدّمة إذا لم يكن هناك مانع لدى الآمر من الأمر بالمقدّمة ، لأنّ الشوق ـ على كلّ حال ـ ليس علّة تامّة إلى فعل ما يشتاق إليه. فتذكّر هذا ، فإنّه سينفعك في وجوب المقدّمة المفوّتة وفي أصل وجوب المقدّمة ، فإنّه بهذا البيان سيتّضح كيف يمكن فرض وجوب المقدّمة المفوّتة قبل وجوب ذيها؟ ، وبهذا البيان سيتّضح أيضا كيف إنّ المقدّمة مطلقا ليست واجبة بالوجوب المولويّ؟.

٤. أن يكون معنى التبعيّة هو ترشّح الوجوب الغيريّ من الوجوب النفسيّ ولكن لا بمعنى أنّه معلول له ، بل بمعنى أنّ الباعث للوجوب الغيريّ ـ على تقدير القول به ـ هو الوجوب النفسيّ باعتبار أنّ الأمر بالمقدّمة والبعث نحوها إنّما هو لغاية التوصّل إلى ذيها الواجب وتحصيله ، فيكون وجوبها وصلة وطريقا إلى تحصيل ذيها ، ولو لا أنّ ذاها كان مرادا للمولى لما أوجب المقدّمة.

ويشير إلى هذا المعنى من التبعيّة تعريفهم للواجب الغيريّ بأنّه : «ما وجب لواجب آخر» ، أي لغاية واجب آخر ولغرض تحصيله والتوصّل إليه ، فيكون الغرض من وجوب المقدّمة ـ على تقدير القول به ـ هو تحصيل ذيها الواجب.

وهذا المعنى هو الذي ينبغي أن يكون معنى التبعيّة المقصودة في الوجوب الغيريّ. ويلزمها أن يكون الوجوب الغيريّ تابعا لوجوبه إطلاقا واشتراطا.

وعليه ، فالوجوب الغيريّ وجوب حقيقيّ ولكنّه وجوب تبعيّ توصّليّ آليّ ، وشأن وجوب المقدّمة شأن نفس المقدّمة. فكما أنّ المقدّمة بما هي مقدّمة لا يقصد فاعلها إلاّ التوصّل إلى ذيها ، كذلك وجوبها إنّما هو للتوصّل إلى تحصيل ذيها ، كالآلة الموصلة التي لا تقصد بالأصالة والاستقلال.

وسرّ هذا واضح ، فإنّ المولى ـ بناء على القول بوجوب المقدّمة ـ إذا أمر بذي المقدّمة ، فإنّه لا بدّ له لغرض تحصيله من المكلّف أن يدفعه ويبعثه نحو مقدّماته ، فيأمره بها توصّلا إلى غرضه.

٢٧١

فيكون البعث نحو المقدّمة ـ على هذا ـ بعثا حقيقيّا ، لا أنّه يتبع البعث إلى ذيها على وجه ينسب إليها بالعرض ، كما في الوجه الأوّل ، ولا أنّه يبعثه ببعث مستقلّ لنفس المقدّمة ولغرض فيها بعد البعث نحو ذيها ، كما في الوجه الثاني ، ولا أنّ البعث نحو المقدّمة من آثار البعث نحو ذيها على وجه يكون معلولا له كما في الوجه الثالث. وسيأتي تتمّة للبحث في المقدّمات المفوّتة.

٣. خصائص الوجوب الغيريّ

بعد ما اتّضح معنى التبعيّة في الوجوب الغيريّ تتّضح لنا خصائصه التي بها يمتاز عن الوجوب النفسيّ ، وهي أمور :

١. إنّ الواجب الغيريّ كما لا بعث استقلاليّ له ـ كما تقدّم ـ لا إطاعة استقلاليّة له ، وإنّما إطاعته كوجوبه لغرض التوصّل إلى ذي المقدّمة ، بخلاف الواجب النفسيّ ؛ فإنّه واجب لنفسه ويطاع لنفسه.

٢. إنّه بعد أن قلنا : إنّه لا إطاعة استقلاليّة للوجوب الغيريّ ، وإنّما إطاعته كوجوبه لصرف التوصّل إلى ذي المقدّمة ، فلا بدّ ألاّ يكون له ثواب على إطاعته (١) غير الثواب الذي يحصل على إطاعة وجوب ذي المقدّمة ، كما لا عقاب على عصيانه غير العقاب على عصيان وجوب ذي المقدّمة. ولذا نجد أنّ من ترك الواجب بترك مقدّماته لا يستحقّ أكثر من عقاب واحد على نفس الواجب النفسيّ ، لا أنّه يستحقّ عقابات متعدّدة بعدد مقدّماته المتروكة.

وأمّا : ما ورد في الشريعة ـ من الثواب على بعض المقدّمات مثل ما ورد من الثواب

__________________

(١) يرى السيّد الجليل المحقّق الخوئي * أنّ المقدّمة أمر قابل لأن يأتي به الفاعل مضافا به إلى المولى ، فيترتّب على فعلها الثواب إذا أتى بها كذلك. ولا ملازمة عنده بين ترتّب الثواب على عمل وعدم استحقاق العقاب على تركه ، ولا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه. وهو رأي وجيه باعتبار أنّ فعل المقدّمة يعدّ شروعا في امتثال ذيها. ـ منه رحمه‌الله ـ.

__________________

* راجع محاضرات في أصول الفقه ٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

٢٧٢

على المشي على القدم إلى الحجّ (١) أو زيارة الحسين عليه‌السلام (٢) وأنّه في كلّ خطوة كذا من الثواب ـ فينبغي ـ على هذا ـ أن يحمل على توزيع ثواب نفس العمل على مقدّماته باعتبار «أنّ أفضل الأعمال أحمزها» (٣) ، وكلّما كثرت مقدّمات العمل وزادت صعوبتها كثرت حمازة العمل ومشقّته ، فينسب الثواب إلى المقدّمة مجازا ثانيا وبالعرض ، باعتبار أنّها السبب في زيادة مقدار الحمازة والمشقّة في نفس العمل ، فتكون السبب في زيادة الثواب ، لا أنّ الثواب على نفس المقدّمة.

ومن أجل أنّه لا ثواب على المقدّمة استشكلوا في استحقاق الثواب على فعل بعض المقدّمات ، كالطهارات الثلاث ، الظاهر منه أنّ الثواب على نفس المقدّمة بما هي. وسيأتي حلّه إن شاء الله (تعالى). (٤)

٣. إنّ الوجوب الغيريّ لا يكون إلاّ توصّليّا ، أي لا يكون في حقيقته عباديّا ، ولا يقتضي في نفسه عباديّة المقدّمة ، إذا لا يتحقّق فيه قصد الامتثال على نحو الاستقلال ، كما قلنا في الخاصّة الأولى : أنّه لا إطاعة استقلاليّة له ، بل إنّما يؤتى بالمقدّمة بقصد التوصّل إلى ذيها ، وإطاعة أمر ذيها ، فالمقصود بالامتثال به نفس أمر ذيها.

ومن هنا استشكلوا في عباديّة بعض المقدّمات ، كالطهارات الثلاث. وسيأتي حلّه إن شاء الله (تعالى). (٥)

٤. إنّ الوجوب الغيريّ تابع لوجوب ذي المقدّمة إطلاقا واشتراطا ، وفعليّة وقوّة ، قضاء لحقّ التبعيّة ، كما

تقدّم. ومعنى ذلك : أنّه كلّ ما هو شرط في وجوب ذي المقدّمة فهو

__________________

(١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «ما عبد الله بشيء أشدّ من المشي ولا أفضل». الوسائل ٨ : ٥٤ ـ ٥٥ ، الباب ٣٢ من أبواب وجوب الحجّ ، الحديث ١ و ٧.

وروي عن ابن عبّاس ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «من حجّ بيت الله ماشيا ، كتب الله له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم ...» راجع الحديث ٩ من المصدر السابق.

(٢) والرويات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، راجع الوسائل ١٠ : ٣٤١ ـ ٣٤٣ ، الباب ٤١ من أبواب المزار.

(٣) بحار الأنوار ٧٠ : ١٩١.

(٤) يأتي في الأمر التاسع عند قوله : «ومن هنا يصحّ أن يقع كلّ مقدّمة عبادة ...».

(٥) يأتي في الأمر التاسع.

٢٧٣

شرط في وجوب المقدّمة ، وما ليس بشرط لا يكون شرطا لوجوبها ، كما أنّه كلّما تحقّق وجوب ذي المقدّمة تحقّق معه وجوب المقدّمة. وعلى هذا قيل : يستحيل تحقّق وجوب فعليّ للمقدّمة قبل تحقّق وجوب ذيها ؛ لاستحالة حصول التابع قبل حصول متبوعه ، أو لاستحالة حصول المعلول قبل حصول علّته بناء على أنّ وجوب المقدّمة معلول لوجوب ذيها.

ومن هنا استشكلوا في وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها في المقدّمات المفوّتة ، كوجوب الغسل ـ مثلا ـ قبل الفجر لإدراك الصوم على طهارة حين طلوع الفجر ، فعدم تحصيل الغسل قبل الفجر يكون مفوّتا للواجب في وقته ، ولهذا سمّيت : «مقدّمة مفوّتة» باعتبار أنّ تركها قبل الوقت يكون مفوّتا للواجب في وقته ، فقالوا بوجوبها قبل الوقت مع أنّ الصوم لا يجب قبل وقته ، فكيف تفرض فعليّة وجوب مقدّمته؟!

وسيأتي إن شاء الله (تعالى) حلّ هذا الإشكال في بحث المقدّمات المفوّتة (١).

تمرينات (٣٥)

التمرين الأوّل

١. ما هو محلّ النزاع في مقدّمة الواجب؟

٢. كيف تدخل مسألة مقدّمة الواجب في باب الملازمات العقليّة؟ ولما ذا أدرجها الأكثر في مباحث الألفاظ؟

٣. ما هي ثمرة النزاع في مقدّمة الواجب ، عمليّة وعلميّة.

٤. ما تعريف الواجب النفسيّ والغيريّ؟

٥. كيف يدفع الاعتراض على تعريف الواجب النفسيّ بأنّه يلزم كون الشيء علّة لنفسه؟

٦. اذكر معاني التبعيّة في الوجوب ، وبيّن المعنى المقصود منها في الوجوب الغيريّ.

٧. ما هي خصائص الوجوب الغيريّ؟

التمرين الثاني

١. بيّن آراء العلماء في أنّ مسألة مقدّمة الواجب هل هي من المسائل الأصوليّة أم لا؟

__________________

(١) يأتي في الأمر الثامن.

٢٧٤

٤. مقدّمة الوجوب

قسّموا المقدّمة إلى قسمين مشهورين :

١. مقدّمة الوجوب وتسمّى «المقدّمة الوجوبيّة» ، وهي : ما يتوقّف عليها نفس الوجوب ، بأن تكون شرطا للوجوب على قول مشهور (١). وقيل : إنّها تؤخذ في الواجب على وجه تكون مفروضة التحقّق والوجود على قول آخر (٢) ، ومع ذلك تسمّى «مقدّمة الوجوب». ومثالها الاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، وكالبلوغ ، والعقل ، والقدرة بالنسبة إلى جميع الواجبات ، ويسمّى الواجب بالنسبة إليها «الواجب المشروط».

٢. مقدّمة الواجب وتسمّى «المقدّمة الوجوديّة» ، وهي ما يتوقّف عليها وجود الواجب بعد فرض عدم تقييد الوجوب بها ؛ بل يكون الوجوب بالنسبة إليها (٣) مطلقا ، ولا تؤخذ بالنسبة إليه (٤) مفروضة الوجود ، بل لا بدّ من تحصيلها مقدّمة لتحصيله ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، والسفر بالنسبة إلى الحجّ ونحو ذلك. ويسمّى الواجب بالنسبة إليها «الواجب المطلق» (٥).

والمقصود من ذكر هذا التقسيم بيان أنّ محلّ النزاع في مقدّمة الواجب هو خصوص القسم الثاني ، أعني المقدّمة الوجوديّة ، دون المقدّمة الوجوبيّة. والسرّ واضح ؛ لأنّه إذا كانت المقدّمة الوجوبيّة مأخوذة على أنّها مفروضة الحصول فلا معنى لوجوب تحصيلها ، فإنّه خلف (٦) ، فلا يجب تحصيل الاستطاعة لأجل الحجّ ، بل إن اتّفق حصول الاستطاعة ، وجب

__________________

(١) وهو القول بأنّ الشرط في الواجب المشروط يرجع إلى الهيئة ، كما ذهب إليه في القوانين ١ : ١٠٠ ، وهداية المسترشدين : ١٩٢ ، والفصول : ٧٩ ، والكفاية : ١٢١ ، والمحاضرات ٢ : ٣٢٩.

(٢) وهو القول برجوع الشرط في الواجب المشروط إلى المادّة ، كما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ على ما في مطارح الأنظار : ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) أي بالنسبة إلى مقدّمة الوجود.

(٤) أي بالنسبة إلى الواجب.

(٥) راجع عن الواجب المشروط والمطلق ، الجزء الأوّل ص ١٠٤. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٦) بيان ذلك : أنّ المقدّمة الوجوبيّة ـ كما مرّ ـ هي ما يتوقّف عليه وجوب الواجب ، بأن يكون شرطا لوجوب ـ

٢٧٥

الحجّ عندها. وذلك نظير الفوت في قوله عليه‌السلام : «اقض ما فات كما فات» (١) ؛ فإنّه لا يجب تحصيله لأجل امتثال الأمر بالقضاء ، بل إن اتّفق الفوت وجب القضاء.

٥. المقدّمة الداخليّة

تنقسم المقدّمة الوجوديّة إلى قسمين : داخليّة وخارجيّة.

١. «المقدّمة الداخليّة» هي جزء الواجب المركّب ، كالصلاة. وإنّما اعتبروا الجزء مقدّمة ، فباعتبار أنّ المركّب متوقّف في وجوده على أجزائه ، فكلّ جزء في نفسه هو مقدّمة لوجود المركّب ، كتقدّم الواحد على الاثنين. وإنّما سمّيت : «داخليّة» فلأجل أنّ الجزء داخل في قوام المركّب ، وليس للمركّب وجود مستقلّ غير نفس وجود الأجزاء.

٢. «المقدّمة الخارجيّة» وهي كلّ ما يتوقّف عليه الواجب وله وجود مستقلّ خارج عن وجود الواجب.

والغرض من ذكر هذا التقسيم هو بيان أنّ النزاع في مقدّمة الواجب هل يشمل المقدّمة الداخليّة أو أنّ ذلك يختصّ بالخارجيّة؟

ولقد أنكر جماعة شمول النزاع للداخليّة (٢). وسندهم في هذا الإنكار أحد أمرين :

الأوّل : إنكار المقدّميّة للجزء رأسا ، باعتبار أنّ المركّب نفس الأجزاء بالأسر فكيف يفرض توقّف الشيء على نفسه؟! (٣)

__________________

ـ الواجب ، وإذا انتفى الشرط ينتفي المشروط ، فلا وجوب للواجب قبل وجود المقدّمة الوجوبيّة حتى يجب تحصيلها ، وأمّا بعد وجود المقدّمة الوجوبيّة فوجوبها تحصيل للحاصل. ومثاله : الاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحجّ ؛ فإنّه لا وجوب للحجّ قبل الاستطاعة حتى يجب تحصيلها ، وأمّا بعد وجودها فلا معنى لوجوب تحصيلها ؛ لأنّه تحصيل للحاصل ، وذلك لأنّها أخذت مفروضة الوجود في الخارج في مقام الجعل ، فلا يعقل إيجابها من هذه الناحية.

(١) هذا مفاد الأحاديث. فراجع الكافي ٣ : ٤٥١.

(٢) ومنهم : صاحب هداية المسترشدين : ٢١٦ ، وكفاية الأصول : ١١٥ ، وفوائد الأصول ١ : ٢٦٨ ، نهاية الأفكار ١ : ٢٦٩ ، والمحاضرات ٢ : ٣٠٢.

(٣) وهذا ما نسبه الشيخ محمد تقي الأصفهانيّ إلى بعض الأفاضل ، راجع هداية المسترشدين : ٢١٦.

٢٧٦

الثاني : بعد تسليم أنّ الجزء مقدّمة ، ولكن يستحيل اتّصافه بالوجوب الغيريّ ما دام أنّه واجب بالوجوب النفسيّ ؛ لأنّ المفروض أنّه جزء الواجب بالوجوب النفسيّ ، وليس المركّب إلاّ أجزاءه بالأسر ، فينبسط الوجوب على الأجزاء. وحينئذ لو وجب الجزء بالوجوب الغيريّ أيضا ، لاتّصف الجزء بالوجوبين. (١)

وقد اختلفوا في بيان وجه استحالة اجتماع الوجوبين (٢) ، ولا يهمّنا بيان الوجه فيه بعد الاتّفاق على الاستحالة.

ولمّا كان هذا البحث لا نتوقّع منه فائدة عمليّة حتّى مع فرض الفائدة العمليّة في مسألة وجوب المقدّمة ، مع أنّه بحث دقيق يطول الكلام حوله ، فنحن نطوي عنه صفحا محيلين الطالب إلى المطوّلات إن شاء (٣).

٦. الشرط الشرعيّ

إنّ المقدّمة الخارجيّة تنقسم إلى قسمين : عقليّة وشرعيّة.

١. «المقدّمة العقليّة» هي كلّ أمر يتوقّف عليه وجود الواجب توقّفا واقعيّا يدركه العقل بنفسه من دون استعانة بالشرع ، كتوقّف الحجّ على قطع المسافة.

٢. «المقدّمة الشرعيّة» هي كلّ أمر يتوقّف عليه الواجب توقّفا لا يدركه العقل بنفسه ،

__________________

(١) وهذا الأمر ممّا استند به سلطان العلماء على ما في هداية المسترشدين : ٢١٦. واستند به المحقّق الخراسانيّ والمحقّق العراقيّ أيضا ، فراجع كفاية الأصول : ١١٥ ، ونهاية الأفكار ١ : ٢٦٨.

(٢) فقد يقال بأنّ وجه الاستحالة اجتماع حكمين متماثلين في شيء واحد. وهذا ما أفاده المحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ١١٥. وقد ينسب إلى المشهور كما في نهاية الدراية ١ : ٣٠٦.

وقد يقال بأنّ وجه الاستحالة اجتماع الضدّين. وهذا يظهر من نهاية الأفكار ١ : ٢٦٨.

وقد يقال في وجه الاستحالة : إنّ الإرادة علّة للحركة نحو المراد ، فإن كان الغرض الداعي إلى الإرادة واحدا فانبعاث الإرادتين منه في قوّة صدور المعلولين عن علّة واحدة ، وهو محال. وإن كان الغرض متعدّدا لزم صدور الحركة عن علّتين مستقلّتين ، وهو محال. وهذا أفاده المحقّق الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٣٠٦.

(٣) راجع : هداية المسترشدين : ٢١٦ ؛ مطارح الأنظار : ٣٨ ـ ٤٠ ؛ كفاية الأصول : ١١٥ ـ ١١٦ ؛ فوائد الأصول ١ : ٢٦٣ ـ ٢٦٨ ؛ نهاية الأفكار ١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٩.

٢٧٧

بل يثبت ذلك من طريق الشرع ، كتوقّف الصلاة على الطهارة ، واستقبال القبلة ، ونحوهما. ويسمّى هذا الأمر أيضا «الشرط الشرعيّ» باعتبار أخذه شرطا وقيدا في المأمور به عند الشارع ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلاّ بطهور» (١) المستفادة منه شرطيّة الطهارة للصلاة.

والغرض من ذكر هذا التقسيم بيان أنّ النزاع في مقدّمة الواجب هل يشمل الشرط الشرعيّ؟

ولقد ذهب بعض أعاظم مشايخنا ـ على ما يظهر من بعض تقريرات درسه (٢) ـ إلى أنّ الشرط الشرعيّ كالجزء لا يكون واجبا بالوجوب الغيريّ ، وسمّاه : «مقدّمة داخليّة بالمعنى الأعم» ، باعتبار أنّ التقيّد لمّا كان داخلا في المأمور به وجزءا له (٣) فهو واجب بالوجوب النفسيّ. ولمّا كان انتزاع التقيّد إنّما يكون من القيد ـ أي منشأ انتزاعه هو القيد ـ والأمر بالعنوان المنتزع أمر بمنشإ انتزاعه ؛ إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلاّ بوجود منشأ انتزاعه ، فيكون الأمر النفسيّ المتعلّق بالتقيّد متعلّقا بالقيد ؛ وإذا كان القيد واجبا نفسيّا فكيف يكون مرّة أخرى واجبا بالوجوب الغيريّ؟!

ولكن هذا كلام لا يستقيم عند شيخنا المحقّق الأصفهانيّ رحمه‌الله ، وقد ناقشه في مجلس بحثه بمناقشات مفيدة. وهو على حقّ في مناقشاته :

أمّا أوّلا : فلأنّ هذا التقيّد المفروض دخوله في المأمور به لا يخلو : إمّا أن يكون دخيلا في أصل الغرض من المأمور به ، وإمّا أن يكون دخيلا في فعليّة الغرض منه ، ولا ثالث لهما.

فإن كان من قبيل الأوّل فيجب أن يكون مأمورا به بالأمر النفسيّ ، ولكن بمعنى أنّ متعلّق الأمر لا بدّ أن يكون الخاصّ بما هو خاصّ ، وهو المركّب من المقيّد والقيد ، فيكون

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٦١ : الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) وهو المحقّق النائيني في فوائد الأصول ١ : ٢٦٣ و ٢٦٧ وأجود التقريرات ١ : ٣١٣.

(٣) إنّ الفرق بين الجزء والشرط هو أنّه في الجزء يكون التقيّد والقيد معا داخلين في المأمور به ، وأمّا في الشرط فالتقيّد فقط يكون داخلا والقيد يكون خارجا ، يعني أنّ التقيّد يكون جزءا تحليليّا للمأمور به ، إذ يكون المأمور به ـ في المثال ـ هو الصلاة بما هي مقيّدة بالطهارة ، أي إنّ المأمور به هو المركّب من ذات الصلاة والتقيّد بوصف الطهارة. فذات الصلاة جزء (غير) تحليليّ والتقيّد جزء آخر تحليليّ. ـ منه رحمه‌الله ـ.

٢٧٨

القيد والتقيّد معا داخلين. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ الغرض يدعو بالأصالة إلى إرادة ما هو واف بالغرض ، وما يفي بالغرض ـ حسب الفرض ـ هو الخاصّ بما هو خاصّ ـ أي المركّب من المقيّد والقيد ـ ، لا أنّ الخصوصيّة تكون خصوصيّة في المأمور به المفروغ عن كونه مأمورا به ؛ لأنّ المفروض أنّ ذات المأمور به ذي الخصوصيّة ليس وحده دخيلا في الغرض. وعلى هذا فيكون هذا القيد جزءا من المأمور به كسائر أجزائه الأخرى ، ولا فرق بين جزء وجزء في كونه من جملة المقدّمات الداخليّة ؛ فتسمية مثل هذا الجزء بالمقدّمة الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، بلا وجه ، بل هو مقدّمة داخليّة بقول مطلق ، كما لا وجه لتسميته بالشرط.

وإن كان من قبيل الثاني فهذا هو شأن الشرط ، سواء كان شرطا شرعيّا أو عقليّا ، ومثل هذا لا يعقل أن يدخل في حيّز الأمر النفسيّ ، لأنّ الغرض ـ كما قلنا ـ لا يدعو بالأصالة إلاّ إلى إرادة ذات ما يفي بالغرض ويقوم به في الخارج ، وأمّا ما له دخل في تأثير السبب ـ أي في فعليّة الغرض ـ فلا يدعو إليه الغرض في عرض ذات السبب ، بل الذي يدعو إلى إيجاد شرط التأثير لا بدّ أن يكون غرضا تبعيّا يتبع الغرض الأصليّ وينتهي إليه.

ولا فرق بين الشرط الشرعيّ وغيره في ذلك ، وإنّما الفرق أنّ الشرط الشرعيّ لمّا كان لا يعلم دخله في فعليّة الغرض إلاّ من قبل المولى ، كالطهارة والاستقبال ونحوهما بالنسبة إلى الصلاة ، فلا بدّ أن ينبّه المولى على اعتباره ولو بأن يأمر به ، إمّا بالأمر المتعلّق بالمأمور به ، أي يأخذه قيدا فيه ، كأن يقول مثلا : «صلّ عن طهارة» ، أو بأمر مستقلّ كأن يقول مثلا : «تطهّر للصلاة» ، وعلى جميع الأحوال لا تكون الإرادة المتعلّقة به في عرض إرادة ذات السبب حتّى يكون مأمورا به بالأمر النفسيّ ، بل الإرادة فيه تبعيّة وكذا الأمر به.

فإن قلتم : على هذا يلزم سقوط الأمر المتعلّق بذات السبب الواجب إذا جاء به المكلّف من دون الشرط.

قلت : من لوازم الاشتراط عدم سقوط الأمر بالسبب بفعله من دون شرطه ، وإلاّ كان الاشتراط لغوا وعبثا.

وأمّا ثانيا : فلو سلّمنا دخول التقيّد في الواجب على وجه يكون جزءا منه ؛ فإنّ هذا

٢٧٩

لا يوجب أن يكون نفس القيد والشرط ـ الذي هو حسب الفرض منشأ لانتزاع التقيّد ـ مقدّمة داخليّة ، بل هو مقدّمة خارجيّة ، فإنّ وجود الطهارة ـ مثلا ـ يوجب حصول تقيّد الصلاة بها ، فتكون مقدّمة خارجيّة للتقيّد الذي هو جزء حسب الفرض. وهذا يشبه المقدّمات الخارجيّة لنفس أجزاء المأمور بها الخارجيّة ، فكما أنّ مقدّمة الجزء ليست بجزء فكذلك مقدّمة التقيّد ليست جزءا.

والحاصل أنّه لمّا فرضتم في الشرط أنّ التقيّد داخل وهو جزء تحليليّ فقد فرضتم معه أنّ القيد خارج ، فكيف تفرضون مرّة أخرى أنّه داخل في المأمور به المتعلّق بالمقيّد؟!

٧. الشرط المتأخّر

لا شكّ في أنّ من الشروط الشرعيّة ما هو متقدّم في وجوده زمانا على المشروط ، كالوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة ونحوها ، بناء على أنّ الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقي إلى حين الصلاة.

ومنها : ما هو مقارن للمشروط في وجوده زمانا ، كالاستقبال وطهارة اللباس للصلاة.

وإنّما وقع الشكّ في الشرط المتأخّر ، أي إنّه هل يمكن أن يكون الشرط الشرعيّ متأخّرا في وجوده زمانا عن المشروط أو لا يمكن؟

ومن قال بعدم إمكانه (١) قاس الشرط الشرعيّ على الشرط العقليّ ، فإنّ المقدّمة العقليّة يستحيل فيها أن تكون متأخّرة عن ذي المقدّمة ؛ لأنّه لا يوجد الشيء إلاّ بعد فرض وجود علّته التامّة المشتملة على كلّ ما له دخل في وجوده ؛ لاستحالة وجود المعلول بدون علّته التامّة. وإذا وجد الشيء فقد انتهى ، فأيّة حاجة له تبقى إلى ما سيوجد بعد.

ومنشأ هذا الشكّ والبحث ورود بعض الشروط الشرعيّة التي ظاهرها تأخّرها في الوجود عن المشروط ، وذلك مثل الغسل الليليّ للمستحاضة الكبرى الذي هو شرط ـ عند بعضهم (٢) ـ لصوم النهار السابق على الليل. ومن هذا الباب إجازة بيع الفضوليّ بناء

__________________

(١) نسبه المحقّق العراقيّ إلى الجمهور. راجع بدائع الأفكار ١ : ٣٢٠.

(٢) كالمحقّق في الشرائع ١ : ١٩٧ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٤٠٧.

٢٨٠