اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

تشترك كلّها في غرضنا المهمّ منه ، وهو استنباط الحكم الشرعيّ ، فلا وجه لجعل موضوع هذا العلم خصوص (الأدلّة الأربعة) فقط (١) ، وهي : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل ، أو بإضافة الاستصحاب ، أو بإضافة القياس والاستحسان ، كما صنع المتقدّمون (٢).

ولا حاجة إلى الالتزام بأنّ العلم لا بدّ له من موضوع يبحث عن عوارضه الذاتيّة في ذلك العلم ـ كما تسالمت عليه كلمة المنطقيّين (٣) ـ فإنّ هذا لا ملزم له ولا دليل عليه (٤).

* فائدته

إنّ كلّ متشرّع يعلم أنّه ما من فعل من أفعال الإنسان الاختياريّة إلاّ وله حكم في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة من وجوب أو حرمة أو نحوهما من الأحكام الخمسة. ويعلم أيضا أنّ تلك الأحكام ليست كلّها معلومة لكلّ أحد بالعلم الضروريّ ، بل يحتاج أكثرها لإثباتها إلى إعمال النظر وإقامة الدليل ، أي إنّها من العلوم النظريّة.

وعلم الأصول هو العلم الوحيد المدوّن للاستعانة به على الاستدلال على إثبات الأحكام الشرعيّة ؛ ففائدته إذن الاستعانة على الاستدلال للأحكام من أدلّتها.

* تقسيم أبحاثه

تنقسم مباحث هذا العلم إلى أربعة أقسام (٥) :

__________________

(١) هو ما اختاره في قوانين الأصول ١ : ٩.

(٢) ومراده من المتقدّمين هو بعض العامّة ، فإنّ بعضهم فسّروا أصول الفقه بـ «أدلّة الفقه». والأدلّة عند بعضهم هي الكتاب والسنّة والإجماع والقياس والاستدلال كما في الإحكام (للآمدي) ١ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧. وعند بعض آخر منهم هي الكتاب والسنّة والإجماع والقياس والاستصحاب كما في اللمع : ٦.

(٣) شرح الشمسية : ١٤ ؛ حاشية ملاّ عبد الله : ٢٠٩ ؛ الأسفار ١ : ٣٠. والتزم بذلك بعض الأصوليّين ، فراجع الفصول الغرويّة : ١٠ ؛ كفاية الأصول : ٢١.

(٤) أي لا دليل على الوجوب ولا على الوقوع.

(٥) وهذا التقسيم حديث تنبّه له شيخنا العظيم الشيخ محمّد حسين الأصفهانيّ قدس‌سره المتوفّى سنة ١٣٦١ (ه. ق) ،

٢١

١. مباحث الألفاظ : وهي تبحث عن مداليل الألفاظ وظواهرها من جهة عامّة ، نظير البحث عن ظهور صيغة «افعل» في الوجوب ، وظهور النهي في الحرمة ونحو ذلك.

٢. المباحث العقليّة : وهي ما تبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها ولو لم تكن تلك الأحكام مدلولة للّفظ ، كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وكالبحث عن استلزام وجوب الشىء لوجوب مقدّمته المعروف هذا البحث باسم «مقدّمة الواجب» ، وكالبحث عن استلزام وجوب الشيء لحرمة ضدّه المعروف باسم «مسألة الضدّ» ، وكالبحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وغير ذلك.

٣. مباحث الحجّة : وهي ما يبحث فيها عن الحجّيّة والدليليّة ، كالبحث عن حجيّة خبر الواحد ، وحجّيّة الظواهر ، وحجّيّة ظواهر الكتاب (١) ، وحجّيّة السنّة والإجماع والعقل ، وما إلى ذلك.

٤. مباحث الأصول العمليّة : وهي تبحث عن مرجع المجتهد عند فقدان الدليل الاجتهاديّ ، كالبحث عن أصل البراءة والاحتياط والاستصحاب ونحوها ، فمقاصد الكتاب ـ إذن ـ أربعة.

وله خاتمة تبحث عن تعارض الأدلّة ؛ وتسمّى : «مباحث التعادل والتراجيح» ، فالكتاب يقع في خمسة أجزاء إن شاء الله تعالى (٢).

وقبل الشروع لا بدّ من مقدّمة يبحث فيها عن جملة من المباحث اللغويّة التي لم يستوف البحث عنها في العلوم الأدبيّة أو لم يبحث عنها.

__________________

ـ أفاده في دورة بحثه الأخيرة ... وهو التقسيم الصحيح ، الذي يجمع مسائل علم الأصول ويدخل كلّ مسألة في بابها ، فمثلا مبحث المشتقّ كان يعدّ من المقدّمات وينبغي أن يعدّ من مباحث الألفاظ ، ومقدّمة الواجب ومسألة الإجزاء ونحوهما كانت تعدّ من مباحث الألفاظ وهي من بحث الملازمات العقلية ... وهكذا. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(١) قوله : «وحجيّة الظواهر» يشمل البحث عن حجيّة ظواهر الكتاب ، فالأنسب حذف قوله : «وحجيّة ظواهر الكتاب».

(٢) بل الكتاب ـ كما يأتي ـ يقع في أربعة أجزاء ، لأنّه ألحق مباحث التعادل والتراجيح إلى مباحث الحجّة في الجزء الثالث وأوضح وجه الإلحاق في مقدّمته.

٢٢

تمرينات (١)

* التمرين الأوّل

١. ما هو علم أصول الفقه؟

٢. ايت بمثال من عندك ومثال من الكتاب لكيفية استنباط الحكم الشرعيّ؟

٣. ما الفرق بين الحكم الواقعيّ والحكم الظاهريّ؟

٤. ما الفرق بين الدليل الاجتهاديّ والدليل الفقاهتيّ؟

٥. ما هو موضوع علم الأصول عند القدماء؟

٦. بيّن رأي المصنّف في موضوع علم الأصول.

٧. ما هو المبحوث عنه في المباحث العقليّة ومباحث الألفاظ والحجّة والأصول العمليّة؟

* التمرين الثاني

١. أذكر آراء الأصوليّين في تعريف علم الأصول والمناقشات فيها.

٢. لم سمّي الدليل الاجتهاديّ «اجتهاديّا» والفقاهتيّ «فقاهتيّا»؟

٣. بيّن آراء العلماء في موضوع كلّ علم.

٢٣
٢٤

المقدّمة

تبحث عن أمور لها علاقة بوضع الألفاظ واستعمالها ودلالتها ، وفيها أربعة عشر مبحثا :

١. حقيقة الوضع

لا شكّ أنّ دلالة الألفاظ على معانيها ـ في أيّة لغة كانت ـ ليست ذاتيّة ، كذاتيّة دلالة الدخان ـ مثلا ـ على وجود النار ـ وإن توهّم ذلك بعضهم (١) ـ لأنّ لازم هذا الزعم أن يشترك جميع البشر في هذه الدلالة ، مع أنّ الفارسيّ ـ مثلا ـ لا يفهم الألفاظ العربيّة ولا غيرها من دون تعلّم ، وكذلك العكس في جميع اللغات ، وهذا واضح.

وعليه ، فليست دلالة الألفاظ على معانيها إلاّ بالجعل والتخصيص من واضع تلك الألفاظ لمعانيها. ولذا تدخل الدلالة اللفظيّة هذه في الدلالة الوضعيّة.

٢. من الواضع؟

ولكن من ذلك الواضع الأوّل في كلّ لغة من اللغات؟

قيل : (٢) إنّ الواضع لا بدّ أن يكون شخصا واحدا يتبعه جماعة من البشر في التفاهم

__________________

(١) ومنهم سليمان بن عباد الصيمريّ على ما في بعض الكتب ، كالفصول : ٢٣ ، ومفاتيح الأصول : ٢.

وذهب المحقّق النائينيّ أيضا إلى أنّها ذاتيّة ولكن لا بحيث يلزم من تصوّره تصوّر المعنى. راجع أجود التقريرات ١ : ١٩ ، فوائد الأصول ١ : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) من قال به هو الأشاعرة ، فإنّهم قالوا بأنّ الواضع هو الله (تعالى) على ما في الكتب ، كالفصول : ٢٣ ، ـ

٢٥

بتلك اللغة.

وقيل : (١) ـ وهو الأقرب إلى الصواب ـ إنّ الطبيعة البشريّة حسب القوّة المودعة من الله (تعالى) فيها تقتضي إفادة مقاصد الإنسان بالألفاظ ، فيخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند إرادة معنى مخصوص ـ كما هو المشاهد من الصبيان عند أوّل أمرهم ـ فيتفاهم مع الآخرين الذين يتّصلون به ، والآخرون كذلك يخترعون من أنفسهم ألفاظا لمقاصدهم ، وتتألّف على مرور الزمن من مجموع ذلك طائفة صغيرة من الألفاظ ، حتى تكون لغة خاصّة ، لها قواعدها يتفاهم بها قوم من البشر. وهذه اللغة قد تتشعّب بين أقوام متباعدة ، وتتطوّر عند كلّ قوم بما يحدث فيها من التغيير والزيادة ، حتى قد تنبثق (٢) منها لغات أخرى ، فيصبح لكلّ جماعة لغتهم الخاصّة.

وعليه ، تكون حقيقة الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنى ، وتخصيصه به. وممّا يدلّ على اختيار القول الثاني في الواضع أنّه لو كان الواضع شخصا واحدا لنقل ذلك في تأريخ اللغات ، ولعرف عند كلّ لغة واضعها.

٣. الوضع تعيينىّ وتعيّنىّ

ثمّ إنّ دلالة الألفاظ على معانيها الأصل فيها أن تكون ناشئة من الجعل والتخصيص ، ويسمّى الوضع حينئذ : «تعيينيّا» ، وقد تنشأ الدلالة من اختصاص اللفظ بالمعنى الحاصل هذا الاختصاص من الكثرة في الاستعمال على درجة من الكثرة أنّه تألفه الأذهان على وجه إذا سمع اللفظ ينتقل السامع منه إلى المعنى ، ويسمّى الوضع حينئذ : «تعيّنيّا» (٣).

__________________

ـ وإرشاد الفحول : ١٢ ، ومنتهى الوصول والأمل : ٣٨.

واختاره المحقّق النائينيّ وقال بأنّ الواضع هو الله (تعالى) بتوسيط الوحي إلى أنبيائه والإلهام إلى غيرها من البشر. راجع فوائد الأصول ١ : ٣٠.

(١) والقائل هو المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ١ : ٢٤. واختاره السيّد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ١ : ٣٦ و ٣٧ ، والسيّد الإمام الخمينيّ في تنقيح الأصول ١ : ٢٩.

(٢) تنبثق أي تفيض وتصدر.

(٣) ولا يخفى أنّ هذا التقسيم لا يستقيم على مبنى المصنّف رحمه‌الله من أنّ الوضع جعل اللفظ بإزاء المعنى ـ

٢٦

٤. أقسام الوضع

لا بدّ في الوضع من تصوّر اللفظ والمعنى ؛ لأنّ الوضع حكم على المعنى وعلى اللفظ ، ولا يصحّ الحكم على الشيء إلاّ بعد تصوّره ومعرفته بوجه من الوجوه ولو على نحو الإجمال ؛ لأنّ تصوّر الشيء قد يكون بنفسه ، وقد يكون بوجهه ـ أي بتصوّر عنوان عامّ ينطبق عليه ويشار به إليه ؛ إذ يكون ذلك العنوان العامّ مرآة وكاشفا عنه ، كما إذا حكمت على شبح من بعيد «أنّه أبيض» ـ مثلا ـ وأنت لا تعرفه بنفسه أنّه أيّ شيء هو ، وأكثر ما تعرف عنه ـ مثلا ـ أنّه شيء من الأشياء أو حيوان من الحيوانات ، فقد صحّ حكمك عليه بأنّه أبيض مع أنّك لم تعرفه ولم تتصوّره بنفسه وإنّما تصوّرته بعنوان أنّه شيء أو حيوان ، لا أكثر ، وأشرت به إليه ، وهذا ما يسمّى في عرفهم : «تصوّر الشيء بوجهه» ـ ، وهو كاف لصحّة الحكم على الشيء. وهذا بخلاف المجهول محضا ؛ فإنّه لا يمكن الحكم عليه أبدا.

وعلى هذا ، فإنّه يكفينا في صحّة الوضع للمعنى أن نتصوّره بوجهه ، كما لو كنّا تصوّرناه بنفسه.

ولمّا عرفنا أنّ المعنى لا بدّ من تصوّره ، وأنّ تصوّره على نحوين ، فانّه بهذا الاعتبار وباعتبار ثان هو أنّ المعنى قد يكون خاصّا ـ أي جزئيّا ـ وقد يكون عامّا ـ أي كلّيّا ـ نقول : إنّ الوضع ينقسم إلى أربعة أقسام عقليّة :

١. أن يكون المعنى المتصوّر جزئيّا ، والموضوع له نفس ذلك الجزئيّ ـ أي إنّ الموضوع له معنى متصوّر بنفسه لا بوجهه ـ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع خاصّ والموضوع له خاصّ (١)».

٢. أن يكون المتصوّر كلّيّا ، والموضوع له نفس ذلك الكلّي ـ أي إنّ الموضوع له كلّيّ

__________________

ـ وتخصيصه به. وذلك لأنّه ليس في الوضع التعيّني جعل ولا تخصيص ، بل فيه اختصاص اللفظ بالمعنى الحاصل من كثرة الاستعمال.

وناقش في هذا التقسيم الإمام الخمينيّ في مناهج الوصول ١ : ٥٧ ، كما تعرّض للمناقشة فيه المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ١ : ٢٩.

(١) الجملة الاسميّة في محلّ المنصوب الثاني ليسمّى.

٢٧

متصوّر بنفسه لا بوجهه ـ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع عامّ والموضوع له عامّ».

٣. أن يكون المتصوّر كلّيّا ، والموضوع له أفراد الكلّيّ لا نفسه ـ أي إنّ الموضوع له جزئيّ غير متصوّر بنفسه بل بوجهه ـ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع عامّ والموضوع له خاصّ».

٤. أن يكون المتصوّر جزئيّا ، والموضوع له كلّيّا لذلك الجزئيّ ؛ ويسمّى هذا القسم : «الوضع خاصّ والموضوع له عامّ».

إذا عرفت هذه الأقسام المتصوّرة العقليّة ، فنقول : لا نزاع في إمكان الأقسام الثلاثة الأولى ، كما لا نزاع في وقوع القسمين الأوّلين. ومثال الأوّل : الأعلام الشخصيّة ، كمحمّد وعلي وجعفر ؛ ومثال الثاني : أسماء الأجناس ، كماء وسماء ونجم وإنسان وحيوان.

وإنّما النزاع وقع في أمرين : الأوّل : في إمكان القسم الرابع. والثاني : في وقوع الثالث بعد التسليم بإمكانه. والصحيح عندنا استحالة الرابع ووقوع الثالث ، ومثاله : الحروف وأسماء الإشارة والضمائر والاستفهام ونحوها على ما سيأتي (١).

٥. استحالة القسم الرابع

أمّا استحالة الرابع ـ وهو الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ـ فنقول في بيانها : إنّ النزاع في إمكان ذلك ناشئ من النزاع في إمكان أن يكون الخاصّ وجها وعنوانا للعامّ ، وذلك لما تقدّم أنّ المعنى الموضوع له لا بدّ من تصوّره بنفسه أو بوجهه ؛ لاستحالة الحكم على المجهول ، والمفروض في هذا القسم أنّ المعنى الموضوع له لم يكن متصوّرا ، وإنّما تصوّر الخاصّ فقط ، وإلاّ لو كان متصوّرا بنفسه ولو بسبب تصوّر الخاصّ ، كان من القسم الثاني ، وهو الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، ولا كلام في إمكانه بل في وقوعه كما تقدّم.

فلا بدّ حينئذ للقول بإمكان القسم الرابع من أن نفرض أنّ الخاصّ يصحّ أن يكون وجها من وجوه العامّ ، وجهة من جهاته حتى يكون تصوّره كافيا عن تصوّر العامّ بنفسه ، ومغنيا عنه ؛ لأجل أن يكون تصوّرا للعامّ بوجه.

__________________

(١) يأتي في الأمر السادس من المقدّمة.

٢٨

ولكنّ الصحيح ـ الواضح لكلّ مفكّر ـ أنّ الخاصّ ليس من وجوه العامّ ، بل الأمر بالعكس من ذلك ؛ فإنّ العامّ هو وجه من وجوه الخاصّ ، وجهة من جهاته. ولذا قلنا بإمكان القسم الثالث وهو «الوضع العامّ والموضوع له الخاص» ؛ لأنّا إذا تصوّرنا العامّ فقد تصوّرنا في ضمنه جميع أفراده بوجه ، فيمكن الوضع لنفس ذلك العامّ من جهة تصوّره بنفسه ، فيكون من القسم الثاني ، ويمكن الوضع لأفراده من جهة تصوّرها بوجهها ، فيكون من الثالث ، بخلاف الأمر في تصوّر الخاصّ ، فلا يمكن الوضع معه إلاّ لنفس ذلك الخاصّ ، ولا يمكن الوضع للعامّ ؛ لأنّا لم نتصوّره أصلا ، لا بنفسه بحسب الفرض ولا بوجهه ؛ إذ ليس الخاصّ وجها له (١). ويستحيل الحكم على المجهول المطلق.

٦. وقوع الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وتحقيق المعنى الحرفي

أمّا وقوع القسم الثالث : فقد قلنا : إنّ مثاله وضع الحروف ، وما يلحق بها من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات والاستفهام ونحوها.

وقبل إثبات ذلك لا بدّ من تحقيق معنى الحرف وما يمتاز به عن الاسم ، فنقول : الأقوال في وضع الحروف وما يلحق بها من الأسماء ثلاثة :

١. إنّ الموضوع له في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء المسانخة لها في المعنى ، فمعنى «من» الابتدائيّة هو عين معنى كلمة «الابتداء» بلا فرق ، وكذا معنى «على» معنى كلمة «الاستعلاء» ، ومعنى «في» معنى كلمة «الظرفيّة» ... وهكذا.

وإنما الفرق في جهة أخرى ، وهي أنّ الحرف وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ ذلك المعنى حالة وآلة لغيره ـ أي إذا لوحظ المعنى غير مستقلّ في نفسه ـ ، والاسم وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لو حفظ مستقلاّ في نفسه ؛ مثلا مفهوم «الابتداء» معنى واحد وضع له لفظان : أحدهما لفظ «الابتداء» ، والثاني كلمة «من» ، لكنّ الأوّل وضع له ؛

__________________

(١) لا يخفى أنّ العامّ أيضا بما أنّه عامّ لا يمكن أن يكون مرآة للخاصّ بما أنّه خاصّ ، فإنّا إذا تصوّرنا «الإنسان» بما أنّه إنسان لا يحكي إلاّ عن الإنسانيّة الصرفة ، نعم ، إذا تصوّرناه بما أنّه صادق على الأفراد يحكي عنها بالإجمال.

٢٩

لأجل أن يستعمل فيه عند ما يلاحظه المستعمل مستقلاّ في نفسه ، كما إذا قيل : «ابتداء السير كان سريعا» ، والثاني وضع له ؛ لأجل أن يستعمل فيه عند ما يلاحظه المستعمل غير مستقلّ في نفسه ، كما إذا قيل : «سرت من النجف».

فتحصّل أنّ الفرق بين معنى الحرف ومعنى الاسم أنّ الأوّل يلاحظه المستعمل حين الاستعمال آلة لغيره ، وغير مستقلّ في نفسه ، والثاني يلاحظه حين الاستعمال مستقلاّ ، مع أنّ المعنى في كليهما واحد. والفرق بين وضعيهما إنمّا هو في الغاية فقط.

ولازم هذا القول أنّ الوضع والموضوع له في الحروف عامّان. وهذا القول منسوب إلى الشيخ الرضيّ نجم الأئمّة (١) ، واختاره المحقّق صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره.

٢. إنّ الحروف لم توضع لمعان أصلا ، بل حالها حال علامات الإعراب في إفادة كيفيّة خاصّة في لفظ آخر ، فكما أنّ علامة الرفع في قولهم : «حدّثنا زرارة» تدلّ على أنّ «زرارة» فاعل الحديث ، كذلك «من» في مثال المتقدّم تدلّ على أنّ النجف مبتدأ منها والسير مبتدأ به.

٣. إنّ الحروف موضوعة لمعان مباينة في حقيقتها وسنخها للمعاني الاسميّة ؛ فإنّ المعاني الاسميّة في حدّ ذاتها معان مستقلّة في أنفسها ، ومعاني الحروف لا استقلال لها ، بل هي متقوّمة بغيرها (٣).

والصحيح هذا القول الثالث. ويحتاج إلى توضيح وبيان.

إنّ المعاني الموجودة في الخارج على نحوين :

الأوّل : ما يكون موجودا في نفسه ، كـ «زيد» الذي هو من جنس الجوهر ، و «قيامه»

__________________

(١) ينسب إليه هذا القول والقول الثاني. والنسبة صحيحة بمقتضى ما في عباراته من الاختلاف ، وإن كان الثاني ينافي تعريف المعنى الحرفيّ بعدم الاستقلال في المفهوميّة. راجع شرح الكافية ١ : ٩ و ١٠.

(٢) كفاية الأصول : ٢٥. وناقش فيه بعض من تأخّر عنه كما في نهاية الأفكار ١ : ٤١ ؛ ونهاية الأصول : ١٨ ؛ والمحاضرات ١ : ٥٧ و ٥٨ ؛ وتنقيح الأصول ١ : ٣٨ و ٣٩.

(٣) ذهب إلى المباينة جماعة ، وإن اختلفوا في كيفيّتها ، فراجع الأسفار ١ : ٧٨ ـ ٨٢ ؛ فوائد الأصول ١ : ٤٢ ـ ٤٥ ؛ بدائع الأفكار (العراقي) ١ : ٤٢.

٣٠

ـ مثلا ـ الذي هو من جنس العرض ؛ فإنّ كلاّ منهما موجود في نفسه. والفرق أنّ الجوهر موجود في نفسه لنفسه ، والعرض موجود في نفسه لغيره.

الثاني : ما يكون موجودا لا في نفسه ، كنسبة القيام إلى زيد.

والدليل على كون هذا المعنى لا في نفسه أنّه لو كان للنسب والروابط وجودات استقلاليّة للزم وجود الرابط بينها وبين موضوعاتها ، فننقل الكلام إلى ذلك الرابط ، والمفروض أنّه موجود مستقلّ ، فلا بدّ له من رابط أيضا ... وهكذا ننقل الكلام إلى هذا الرابط ، فيلزم التسلسل ، والتسلسل باطل.

فيعلم من ذلك أنّ وجود الروابط والنسب في حدّ ذاته متعلّق بالغير ، ولا حقيقة له إلاّ التعلّق بالطرفين.

ثمّ إنّ الإنسان في مقام إفادة مقاصده كما يحتاج إلى التعبير عن المعاني المستقلّة كذلك يحتاج إلى التعبير عن المعاني غير المستقلّة في ذاتها ، فحكمة الوضع تقتضي أن توضع بإزاء كلّ من القسمين ألفاظ خاصّة ، والموضوع بإزاء المعاني المستقلّة هي الأسماء ، والموضوع بإزاء المعاني غير المستقلّة هي الحروف وما يلحق بها. وهذه المعاني غير المستقلّة لمّا كانت على أقسام شتّى فقد وضع بإزاء كلّ قسم لفظ يدلّ عليه ، أو هيئة لفظيّة تدلّ عليه ؛ مثلا إذا قيل : «نزحت البئر في دارنا بالدلو» ففيه عدّة نسب مختلفة ومعان غير مستقلّة :

إحداها : نسبة النزح إلى فاعله ، والدالّ عليها هيئة الفعل المعلوم.

وثانيتها : نسبته إلى ما وقع عليه ـ أي مفعوله ـ وهو البئر ، والدالّ عليها هيئة النصب في الكلمة.

وثالثتها : نسبته إلى المكان ، والدالّ عليها كلمة «في».

ورابعتها : نسبته إلى الآلة ، والدالّ عليها لفظ الباء في كلمة «بالدلو».

ومن هنا يعلم أنّ الدالّ على المعاني غير المستقلّة ربما يكون لفظا مستقلا ، كلفظة «من» و «إلى» و «في» ، وربما يكون هيئة في اللفظ ، كهيئات المشتقّات ، والأفعال ، وهيئات الإعراب.

٣١

* النتيجة

فقد تحقّق ممّا بيّنّاه أنّ الحروف لها معان تدلّ عليها ، كالأسماء ، والفرق أنّ المعاني الاسميّة مستقلّة في أنفسها ، وقابلة لتصوّرها في ذاتها ، وإن كانت في الوجود الخارجيّ محتاجة إلى غيرها كالأعراض ، وأمّا المعاني الحرفيّة فهي معان غير مستقلّة وغير قابلة للتصوّر إلاّ في ضمن مفهوم آخر. ومن هنا يشبّه كلّ أمر غير مستقلّ بالمعنى الحرفيّ.

* بطلان القولين الأوّلين

وعلى هذا ، فيظهر بطلان القول الثاني القائل : إنّ الحروف لا معاني لها ، وكذلك القول الأوّل القائل : إنّ المعنى الحرفيّ والاسميّ متّحدان بالذات ، مختلفان باللحاظ.

ويردّ هذا القول أيضا أنّه لو صحّ اتّحاد المعنيين لجاز استعمال كلّ من الحرف والاسم في موضع الآخر ، مع أنّه لا يصحّ بالبداهة حتى على نحو المجاز ، فلا يصحّ بدل قولنا : «زيد في الدار» ـ مثلا ـ أن يقال : «زيد ، الظرفيّة ، الدار».

وقد أجيب عن هذا الإيراد (١) بأنّه إنّما لا يصحّ [استعمال] أحدهما في موضع الآخر ؛ لأنّ الواضع اشترط ألاّ يستعمل لفظ «الظرفيّة» إلاّ عند لحاظ معناه مستقلاّ ، ولا يستعمل لفظ «في» إلاّ عند لحاظ معناه غير مستقلّ ، وآلة لغيره (٢).

ولكنّه جواب غير صحيح ؛ لأنّه لا دليل على وجوب اتّباع ما يشترطه الواضع إذا لم يكن اشتراطه يوجب اعتبار خصوصيّة في اللفظ والمعنى ؛ وعلى تقدير أن يكون الواضع ممّن تجب طاعته فمخالفته توجب العصيان لا غلط الكلام (٣).

__________________

(١) والمجيب هو المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٢٧.

(٢) بين المحقّقين النائينيّ والعراقيّ رحمه‌الله في تفسير كلام المحقّق الخراسانيّ اختلاف. وما في المتن موافق لتفسير النائينيّ رحمه‌الله. والحقّ هو ما ذكره العراقيّ رحمه‌الله. راجع فوائد الأصول ١ : ٣٣ ، نهاية الأفكار ١ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٣) واعلم أنّ إيراد المصنّف لا يرد على ما هو الحقّ من تفسير المحقّق العراقيّ رحمه‌الله.

٣٢

* زيادة إيضاح

إذ قد عرفت أنّ الموجودات (١) منها ما يكون مستقلاّ في الوجود ، ومنها ما يكون رابطا بين موجودين ، فاعلم أنّ كلّ كلام مركّب من كلمتين أو أكثر إذا ألقيت كلماته بغير ارتباط بينها فإنّ كلّ واحدة منها كلمة مستقلّة في نفسها لا ارتباط لها بالأخرى ، وإنّما الذي يربط بين المفردات ويؤلّفها كلاما واحدا هو الحرف أو إحدى الهيئات الخاصّة ، فأنت إذا قلت ـ مثلا ـ : «أنا» ، «كتبت» ، «قلم» ، لا يكون بين هذه الكلمات ربط ، وإنّما هي مفردات صرفة منثورة. أمّا إذا قلت : «كتبت بالقلم» ، كان كلاما واحدا ، مرتبطا بعضه مع بعض ، مفهما للمعنى المقصود منه. وما حصل هذا الارتباط والوحدة الكلاميّة إلاّ بفضل الهيئة المخصوصة لـ «كتبت» وحرف الباء وأل.

وعليه ، فيصحّ أن يقال : إنّ الحروف هي روابط المفردات المستقلّة والمؤلّفة للكلام الواحد والموحّدة للمفردات المختلفة ، شأنها شأن النسبة بين المعاني المختلفة والرابطة بين المفاهيم غير المربوطة. فكما أنّ النسبة رابطة بين المعاني ومؤلّفة بينها فكذلك الحرف الدالّ عليها رابط بين الألفاظ ومؤلّف بينها.

وإلى هذا أشار سيّد الأولياء أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله المعروف في تقسيم الكلمات : «الاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره (٢)». فأشار إلى أنّ المعاني الاسميّة معان استقلاليّة ، ومعاني الحروف غير مستقلّة في نفسها ، وإنّما هي تحدث الربط بين المفردات. ولم نجد في تعاريف القوم للحرف تعريفا جامعا صحيحا مثل هذا التعريف.

__________________

(١) ينبغي أن يقال للتوضيح : إنّ الموجودات على أربعة أنحاء : موجود في نفسه لنفسه بنفسه وهو واجب الوجود ، وموجود في نفسه لنفسه بغيره وهو الجوهر كالجسم والنفس ، وموجود في نفسه لغيره بغيره وهو العرض ، وموجود في غيره وهو أضعفها وهو المعنى الحرفيّ المعبّر عنه بالربط ، فالأقسام الثلاثة الأولى الموجودات المستقلّة ، والرابع عداها الذي هو المعنى الحرفيّ الذي لا وجود له إلاّ وجود طرفيه ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) بحار الأنوار ٤٠ : ١٦٢ ؛ كنز العمال ١٠ : ٢٨٣ مع اختلاف بينهما ، وما في المتن يوافق ما في البحار.

٣٣

* الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ (١)

إذا اتّضح جميع ما تقدّم ، يظهر أنّ كلّ نسبة حقيقتها متقومة بطرفيها على وجه لو قطع النظر عن الطرفين لبطلت وانعدمت ، فكلّ نسبة في وجودها الرابط مباينة لأيّة نسبة أخرى ، ولا تصدق عليها ، وهي في حدّ ذاتها مفهوم جزئيّ حقيقيّ.

وعليه ، فلا يمكن فرض النسبة مفهوما كلّيّا ينطبق على كثيرين وهي متقوّمة بالطرفين ، وإلاّ لبطلت وانسلخت عن حقيقة كونها نسبة.

ثمّ إن النسب غير محصورة ، فلا يمكن تصوّر جميعها للواضع ، فلا بدّ في مقام الوضع لها من تصوّر معنى اسميّ يكون عنوانا للنسب غير المحصورة ، حاكيا عنها ، وليس العنوان في نفسه نسبة ، كمفهوم لفظ «النسبة الابتدائيّة» المشار به إلى أفراد النسب الابتدائيّة الكلاميّة ، ثمّ يضع لنفس الأفراد غير المحصورة التى لا يمكن التعبير عنها إلاّ بعنوانها. وبعبارة أخرى : إنّ الموضوع له هو النسبة الابتدائية بالحمل الشائع ، وأمّا بالحمل الأوّلى فليست بنسبة حقيقة ، بل تكون طرفا للنسبة ، كما لو قلت : «الابتداء كان من هذا المكان».

ومن هذا يعلم حال أسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها ، فالوضع في الجميع عامّ والموضوع له خاصّ (٢).

__________________

(١) اعلم أنّ الأقوال في وضع الحروف كثيرة ، وإن شئت تفصيلها فراجع الفصول الغرويّة : ١٦ ؛ كفاية الأصول : ٢٥ ـ ٢٦ ؛ فوائد الأصول ١ : ٥٧ ـ ٥٨ ؛ نهاية الأفكار ١ : ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) والخلاف الموجود في وضع الحروف موجود في المقام أيضا.

٣٤

تمرينات (٢)

التمرين الأوّل

١. ما الدليل على عدم كون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتيّة؟

٢. ما حقيقة الوضع؟

٣. من الواضع؟ (اذكر ما قيل في الواضع والدليل على مختار المصنّف).

٤. ما الفرق بين الوضع التعيينيّ والتعيّنيّ؟

٥. ما المراد من قول المصنّف : «تصوّر الشيء قد يكون بنفسه وقد يكون بوجهه»؟

٦. ما هي أقسام الوضع عقلا وإمكانا ووقوعا؟ واذكر لكلّ قسم مثالا.

٧. بيّن وجه استحالة القسم الرابع (الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ).

٨. اذكر الأقوال في الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسميّ.

٩. ما هو مختار المصنّف في الفرق بينهما؟ وما دليله عليه؟

١٠. ما الوجه في بطلان القولين الأوّلين في الفرق بينهما؟

١١. الوضع في الحروف من أيّ الأقسام الأربعة؟ وما الدليل عليه؟

التمرين الثاني :

١. اذكر أقوال العلماء في دلالة الألفاظ على معانيها.

٢. بيّن إيراد المحقّق النائيني على تقسيم الوضع إلى التعيينيّ والتعيّني.

٣. ما هو منشأ الخلاف في القول المنسوب إلى الشارح الرضيّ؟

٤. اذكر آراء المحقّقين في كيفيّة مغايرة المعنى الحرفيّ والمعنى الاسميّ ذاتا.

٥. بيّن ما يرد على القول الأوّل ، وما أجاب به المحقّق الخراسانيّ ، وما أورد المصنّف على ذلك الجواب.

٦. اذكر أقوال العلماء في وضع الحروف.

٣٥

٧. الاستعمال حقيقيّ ومجازيّ

استعمال اللفظ في معناه الموضوع له «حقيقة» ، واستعماله في غيره المناسب له «مجاز» ، وفي غير المناسب «غلط» ، وهذا أمر محلّ وفاق.

ولكنّه وقع الخلاف في الاستعمال المجازيّ في أنّ صحّته هل هي متوقّفة على ترخيص الواضع وملاحظة العلاقات المذكورة في علم البيان (١) ، أو أنّ صحّته طبعيّة تابعة لاستحسان الذوق السليم فكلّما كان المعنى غير الموضوع له مناسبا للمعنى الموضوع له واستحسنه الطبع ، صحّ استعمال اللفظ فيه وإلاّ فلا؟

والأرجح القول الثاني (٢) ؛ لأنّا نجد صحّة استعمال «الأسد» في «الرجل الشجاع» مجازا ، وإن منع منه الواضع ، وعدم صحّة استعماله مجازا في «كريه رائحة الفم» ـ كما يمثّلون ـ وإن رخّص الواضع. ومؤيّد ذلك اتّفاق اللغات المختلفة غالبا في المعاني المجازيّة ، فترى في كلّ لغة يعبّر عن الرجل الشجاع باللفظ الموضوع للأسد. وهكذا في كثير من المجازات الشائعة عند البشر.

٨. الدلالة تابعة للإرادة

قسّموا الدلالة إلى قسمين : التصوّريّة ، والتصديقيّة :

١. التصوّريّة : وهي أن ينتقل ذهن الإنسان إلى معنى اللفظ بمجرّد صدوره من لافظ ، ولو علم أنّ اللافظ لم يقصده ، كانتقال الذهن إلى المعنى الحقيقيّ عند استعمال اللفظ في معنى مجازيّ ، مع أنّ المعنى الحقيقيّ ليس مقصودا للمتكلّم ، وكانتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ الصادر من الساهي أو النائم أو الغالط.

٢. التصديقيّة : وهي دلالة اللفظ على أنّ المعنى مراد للمتكلّم في اللفظ وقاصد لاستعماله فيه. وهذه الدلالة متوقّفة على عدّة أشياء : أوّلا : على إحراز كون المتكلّم في

__________________

(١) المطوّل : ٢٨٤ ـ ٢٨٦ ، مختصر المعاني : ١٥٥ ـ ١٥٧.

(٢) وهو ما اختاره في الكفاية : ٢٨. والقول الأوّل منسوب إلى المشهور كما في المحاضرات ١ : ٩٢.

٣٦

مقام البيان والإفادة ، وثانيا : على إحراز أنّه جادّ غير هازل ، وثالثا : على إحراز أنّه قاصد لمعنى كلامه شاعر به ، ورابعا : على عدم نصب قرينة على إرادة خلاف الموضوع له ، وإلاّ كانت الدلالة التصديقيّة على طبق القرينة المنصوبة.

والمعروف أنّ الدلالة الأولى (التصوّريّة) معلولة للوضع ـ أي أنّ الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصوّريّة ـ. وهذا هو مراد من يقول : «إنّ الدلالة غير تابعة للإرادة ، بل تابعة لعلم السامع بالوضع» (١).

والحقّ أنّ الدلالة تابعة للإرادة ـ وأوّل من تنبّه لذلك فيما نعلم ، الشيخ نصير الدين الطوسيّ قدس‌سره (٢) ـ ؛ لأنّ الدلالة في الحقيقة منحصرة في الدلالة التصديقيّة ، والدلالة التصوّريّة التي يسمّونها دلالة ليست بدلالة ، وإن سمّيت كذلك فإنّه من باب التشبيه والتجوّز ؛ لأنّ التصوّريّة في الحقيقة هي من باب تداعي المعاني الذي يحصل بأدنى مناسبة ، فتقسيم الدلالة إلى تصديقيّة وتصوّريّة تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.

والسرّ في ذلك أنّ الدلالة حقيقة ـ كما فسّرناها في كتاب المنطق ، الجزء الأوّل بحث الدلالة (٣) ـ هي أن يكشف الدالّ عن وجود المدلول ، فيحصل من العلم به العلم بالمدلول ، سواء كان الدالّ لفظا أو غير لفظ ، مثلا إنّ طرقة الباب يقال : إنّها دالّة على وجود شخص على الباب ، طالب لأهل الدار ؛ باعتبار أنّ المطرقة موضوعة لهذه الغاية. وتحليل هذا المعنى أنّ سماع الطرقة يكشف عن وجود طالب قاصد للطلب ، فيحصل من العلم بالطرقة العلم بالطارق وقصده ، ولذلك يتحرّك السامع إلى إجابته. لا أنّه ينتقل ذهن السامع من

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ١٧ ـ ١٨.

(٢) شرح الإشارات ١ : ٣٢. ونسبه إليه العلاّمة الحلّي في الجوهر النضيد : ٨ ، وإن تنظّر فيه.

وقد ينسب إليه والشيخ الرئيس كما في الفصول الغرويّة : ١٧ ؛ وكفاية الأصول : ٣٢. والتحقيق أنّ نسبة هذا القول إلى الشيخ الرئيس غير ثابتة. وأمّا قوله في الفصل الثامن من المقالة الأولى من الفنّ الأوّل من منطق الشفاء ١ : ٤٢ : «لأنّ معنى دلالة اللفظ هو أن يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل القصد الأوّل» فلا يشعر به.

(٣) المنطق ١ : ٣٦ و ٣٨.

٣٧

تصوّر الطرقة إلى تصوّر شخص ما ؛ فإنّ هذا الانتقال قد يحصل بمجرّد تصوّر معنى الباب ، أو الطرقة من دون أن يسمع طرقة ، ولا يسمّى ذلك دلالة. ولذا إنّ الطرقة لو كانت على نحو مخصوص يحصل من حركة الهواء ـ مثلا ـ لا تكون دالّة على ما وضعت له المطرقة وإن خطر في ذهن السامع معنى ذلك.

وهكذا نقول في دلالة الألفاظ على معانيها بدون فرق ؛ فإنّ اللفظ إذا صدر من المتكلّم على نحو يحرز معه أنّه جادّ فيه غير هازل ، وأنّه عن شعور وقصد ، وأنّ غرضه البيان والإفهام ـ ومعنى إحراز ذلك أنّ السامع علم بذلك ـ فإنّ كلامه يكون حينئذ دالاّ على وجود المعنى ، أي وجوده في نفس المتكلّم بوجود قصديّ ، فيكون علم السامع بصدور الكلام منه يستلزم علمه بأنّ المتكلّم قاصد لمعناه لأجل أن يفهمه السامع. وبهذا يكون الكلام دالاّ كما تكون الطرقة دالّة. وينعقد بهذا الكلام ظهور في معناه الموضوع له أو المعنى الذي أقيمت على إرادته قرينة.

ولذا نحن عرّفنا الدلالة اللفظيّة في [كتاب] المنطق بأنّها «هي كون اللفظ بحالة ينشأ من العلم بصدوره من المتكلّم العلم بالمعنى المقصود به (١)» ؛ ومن هنا سمّي المعنى «معنى» أي المقصود ، من عناه إذا قصده.

ولأجل أن يتّضح هذا الأمر جيّدا اعتبر باللافتات التي توضع في هذا العصر للدلالة على أنّ الطريق مغلوق ـ مثلا ـ أو أنّ الاتّجاه في الطريق إلى اليمين أو اليسار ، ونحو ذلك ؛ فإنّ اللافتة إذا كانت موضوعة في موضعها اللائق على وجه منظّم بنحو يظهر منه أنّ وضعها لهداية المستطرقين كان مقصودا لواضعها ؛ فإنّ وجودها هكذا يدلّ حينئذ على ما يقصد منها من غلق الطريق أو الاتّجاه. أمّا لو شاهدتها مطروحة في الطريق مهملة أو عند الكاتب يرسمها ، فإنّ المعنى المكتوب يخطر في ذهن القارئ ، ولكن لا تكون دالّة عنده على أنّ الطريق مغلوقة ، أو أنّ الاتّجاه كذا ، بل أكثر ما يفهم من ذلك أنّها ستوضع لتدلّ على هذا بعد ذلك ، لا أنّ لها الدلالة فعلا.

__________________

(١) المنطق ١ : ٣٩.

٣٨

٩. الوضع شخصيّ ونوعيّ

قد عرفت في المبحث الرابع (١) أنّه لا بدّ في الوضع من تصوّر اللفظ والمعنى ، وعرفت هناك أنّ المعنى تارة يتصوّره الواضع بنفسه ، وأخرى بوجهه وعنوانه ، فاعرف هنا أنّ اللفظ أيضا كذلك ، ربما يتصوّره الواضع بنفسه ويضعه للمعنى كما هو الغالب في الألفاظ ، فيسمّى الوضع حينئذ : «شخصيّا» (٢). وربما يتصوّره بوجهه وعنوانه ، فيسمّى الوضع : «نوعيّا».

ومثال الوضع النوعيّ الهيئات ؛ فإنّ الهيئة غير قابلة للتصوّر بنفسها ، بل إنّما يصحّ تصوّرها في مادّة من موادّ اللفظ ، كهيئة كلمة «ضرب» ـ مثلا ـ وهي هيئة الفعل الماضي ، فإنّ تصوّرها لا بدّ أن يكون في ضمن الضاد والراء والباء ، أو في ضمن الفاء والعين واللام في «فعل». ولمّا كانت الموادّ غير محصورة ولا يمكن تصوّر جميعها فلا بدّ من الإشارة إلى أفرادها بعنوان عامّ (٣) ، فيضع كلّ هيئة تكون على زنة «فعل» ـ مثلا ـ أو زنة «فاعل» أو غيرهما ، ويتوصّل إلى تصوّر ذلك العامّ بوجود الهيئة في إحدى الموادّ ، كمادّة «فعل» التي جرت الاصطلاحات عليها عند علماء العربيّة.

١٠. وضع المركّبات

ثمّ الهيئة الموضوعة لمعنى ، تارة تكون في المفردات ، كهيئات المشتقّات التي تقدّمت الإشارة إليها ، وأخرى في المركّبات ، كالهيئة التركيبيّة بين المبتدأ والخبر لإفادة حمل شيء ، على شيء ، وكهيئة تقديم ما حقّه التأخير لإفادة الاختصاص.

ومن هنا تعرف أنّه لا حاجة إلى وضع الجمل والمركّبات في إفادة معانيها زائدا على

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢٧.

(٢) والمراد بالوضع الشخصيّ وضع اللفظ بوحدته الطبيعيّة وشخصيّته الذاتيّة ، لا وضع شخص اللفظ الصادر من المتكلّم ، فإنّه قد انقضى وانعدم ولا يمكن إعادته.

(٣) أي بوضع عنوان عامّ وتصوّره.

٣٩

وضع المفردات بالوضع الشخصيّ والهيئات بالوضع النوعيّ ـ كما قيل (١) ـ بل هو لغو محض. ولعلّ من ذهب إلى وضعها أراد به وضع الهيئات التركيبيّة ، لا الجملة بأسرها بموادّها وهيئاتها زيادة على وضع أجزائها ، فيعود النزاع حينئذ لفظيّا (٢).

١١. علامات الحقيقة والمجاز

قد يعلم الإنسان ـ إمّا من طريق نصّ أهل اللغة أو لكونه نفسه من أهل اللغة ـ أنّ لفظ كذا موضوع لمعنى كذا ، ولا كلام لأحد في ذلك ؛ فإنّه من الواضح أنّ استعمال اللفظ في ذلك المعنى حقيقة وفي غيره مجاز.

وقد يشكّ في وضع لفظ مخصوص لمعنى مخصوص ، فلا يعلم أنّ استعماله فيه هل كان على سبيل الحقيقة فلا يحتاج إلى نصب قرينة عليه أو على سبيل المجاز ، فيحتاج إلى نصب القرينة؟ وقد ذكر الأصوليّون لتعيين الحقيقة من المجاز ـ أي لتعيين أنّه موضوع لذلك المعنى أو غير موضوع ـ طرقا وعلامات كثيرة نذكر هنا أهمّها.

العلامة الأولى : التبادر

دلالة كلّ لفظ على أيّ معنى لا بدّ لها من سبب. والسبب لا يخلو فرضه عن أحد أمور ثلاثة : المناسبة الذاتيّة ، وقد عرفت بطلانها ، أو العلقة الوضعيّة ، أو القرينة الحاليّة أو المقاليّة. فإذا علم أنّ الدلالة مستندة إلى نفس اللفظ من غير اعتماد على قرينة فإنّه يثبت أنّها من جهة العلقة الوضعيّة. وهذا هو المراد بقولهم : «التبادر علامة الحقيقة». والمقصود من كلمة «التبادر» هو انسباق المعنى من نفس اللفظ مجرّدا عن كلّ قرينة.

وقد يعترض على ذلك بأنّ التبادر لا بدّ له من سبب ، وليس هو إلاّ العلم بالوضع ؛ لأنّ

__________________

(١) والقائل كثير من الأصوليّين. منهم : صاحب الفصول ، والمحقّق الخراسانيّ ، والمحقّق العراقيّ. فراجع الفصول الغرويّة : ٢٨ ؛ كفاية الأصول : ٣٢ ؛ نهاية الأفكار ١ : ٦٥.

(٢) هكذا وجّه المحقّق الخراسانيّ العبارات الموهمة للحاجة إلى وضع الجمل والمركّبات زائدا على وضع المفردات والهيئات. راجع كفاية الأصول : ٣٣.

٤٠