اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

وأجيب عنه بأنّ الحسن والقبح في ذلك بمعنى الملاءمة والمنافرة أو بمعنى صفة الكمال والنقص ، وهو مسلّم لا نزاع فيه. وأمّا بالمعنى المتنازع فيه فإنّا لا نسلّم جزم العقلاء به. (١)

ونحن نقول : إنّ من يدّعي ضرورة حكم العقلاء بحسن الإحسان وقبح الظلم يدّعي ضرورة مدحهم لفاعل الإحسان وذمّهم لفاعل الظلم. ولا شكّ في أنّ هذا المدح والذمّ من العقلاء ضروريّان ؛ لتواترهما عن جميع الناس ، ومنكرهما مكابر. والذي يدفع العقلاء لهذا ـ كما قدّمنا ـ شعورهم بأنّ العدل كمال للعادل ، وملاءمته لمصلحة النوع الإنسانيّ وبقائه ، وشعورهم بنقص الظلم ، ومنافرته لمصلحة النوع الإنسانيّ وبقائه.

٤. واستدلّ العدليّة أيضا بأنّ الحسن والقبح لو كانا لا يثبتان إلاّ من طريق الشرع ، فهما لا يثبتان أصلا حتّى من طريق الشرع. (٢)

وقد صوّر بعضهم (٣) هذه الملازمة على النحو الآتي :

إنّ الشارع إذا أمر بشيء فلا يكون حسنا إلاّ مدح مع ذلك الفاعل عليه ، وإذا نهى عن شيء فلا يكون قبيحا إلاّ إذا ذمّ الفاعل عليه. ومن أين تعرف أنّه يجب أن يمدح الشارع فاعل المأمور به ويذمّ فاعل المنهيّ عنه ، إلاّ إذا كان ذلك واجبا عقلا؟ فتوقّف حسن المأمور به وقبح المنهيّ عنه على حكم العقل ، وهو المطلوب.

ثمّ لو ثبت أنّ الشارع مدح فاعل المأمور به وذمّ فاعل المنهيّ عنه ، والمفروض أنّ مدح الشارع ثوابه وذمّه عقابه ، فمن أين نعرف أنّه صادق في مدحه وذمّه ، إلاّ إذا ثبت أنّ الكذب قبيح عقلا يستحيل عليه؟ فيتوقّف ثبوت الحسن والقبح شرعا على ثبوتهما عقلا ، فلو لم يكن لهما ثبوت عقلا فلا ثبوت لهما شرعا.

وقد أجاب بعض الأشاعرة (٤) عن هذا التصوير بأنّه يكفي في كون الشيء حسنا أن يتعلّق

__________________

(١) هكذا أجاب عنه التفتازاني في شرح المقاصد ٤ : ٢٩١.

(٢) كشف المراد : ٣٠٣.

(٣) كالحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء الحسنى : ٣٢١. وصوّرها ابن ميثم على النحو الآخر ، كما صوّرها العلاّمة على النحو الثالث ، فراجع قواعد المرام : ١٠٦ ، وكشف المراد : ٣٠٣.

(٤) وهو التفتازاني في شرح المقاصد ٤ : ٢٩٢ ، والقوشجيّ في شرح التجريد : ٣٤٠.

٢٤١

به الأمر ، وفي كونه قبيحا أن يتعلّق به النهي ـ حسب الفرض ـ ، [وهما] ثابتان وجدانا ، ولا حاجة إلى فرض ثبوت مدح وذمّ من الشارع.

وهذا الكلام ـ في الحقيقة ـ يرجع إلى أصل النزاع في معنى الحسن والقبح ، فيكون الدليل وجوابه صرف دعوى ومصادرة على المطلوب ؛ لأنّ المستدلّ يرجع قوله إلى أنّه يجب المدح والذمّ عقلا ، لأنّهما واجبان في اتّصاف الشيء بالحسن والقبح ، والمجيب يرجع قوله إلى أنّهما لا يجبان عقلا ، لأنّهما غير واجبين في الحسن والقبح.

والأحسن تصوير الدليل على وجه آخر ، فنقول :

إنّه من المسلّم عند الطرفين وجوب طاعة الأوامر والنواهي الشرعيّة ، وكذلك وجوب المعرفة. وهذا الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعيّ حسب دعواهم ، فنقول لهم : من أين يثبت هذا الوجوب؟ لا بدّ أن يثبت بأمر من الشارع ؛ فننقل الكلام إلى هذا الأمر ، فنقول لهم : من أين تجب طاعة هذا الأمر؟ فإن كان هذا الوجوب عقليّا فهو المطلوب ، وإن كان شرعيّا أيضا فلا بدّ له من أمر ولا بدّ له من طاعة ، فننقل الكلام إليه ... وهكذا نمضي إلى غير النهاية ، ولا نقف حتّى ننتهي إلى طاعة وجوبها عقليّ لا يتوقّف على أمر الشارع ، وهو المطلوب.

بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوقّف على التحسين والتقبيح العقليّين ، ولو كان ثبوتها من طريق شرعيّ ، لاستحال ثبوتها ؛ لأنّا ننقل الكلام إلى هذا الطريق الشرعيّ فيتسلسل إلى غير النهاية.

والنتيجة أنّ ثبوت الحسن والقبح شرعا يتوقّف على ثبوتهما عقلا.

المبحث الثاني : إدراك العقل للحسن والقبح

بعد ما تقدّم من ثبوت الحسن والقبح العقليّين في الأفعال ، فقد نسب بعضهم (١) إلى جماعة

__________________

(١) لم أعثر على من نسبه إليهم صريحا. قال الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ١ : ١٥ : «وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريّين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة القطعيّة غير الضروريّة». ـ

٢٤٢

من الأخباريّين (١) ـ على ما يظهر من كلمات بعضهم ـ (٢) إنكار أن يكون للعقل حقّ إدراك ذلك الحسن والقبح ، فلا يثبت شيء من الحسن والقبح الواقعيّين بإدراك العقل.

والشيء الثابت قطعا عندهم على الإجمال القول بعدم جواز الاعتماد على شيء من الإدراكات العقليّة في إثبات الأحكام الشرعيّة. وقد فسّر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة (٣) حسب اختلاف عبارات الباحثين منهم :

١. إنكار إدراك العقل للحسن والقبح الواقعيّين. وهذه هي مسألتنا التي عقدنا لها هذا المبحث الثاني.

٢. ـ بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل ـ إنكار الملازمة بينه وبين حكم الشرع. وهذه هي المسألة الآتية في «المبحث الثالث».

٣. ـ بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل وثبوت الملازمة ـ إنكار وجوب إطاعة الحكم الشرعيّ الثابت من طريق العقل ، ومرجع ذلك إلى إنكار حجّيّة العقل. وسيأتي البحث عن ذلك في الجزء الثالث من هذا الكتاب (مباحث الحجّة).

وعليه ، فإن أرادوا التفسير الأوّل بعد الاعتراف بثبوت الحسن والقبح العقليّين فهو كلام لا معنى له ؛ لأنّه قد تقدّم (٤) أنّه لا واقعيّة للحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه مع الأشاعرة ـ وهو المعنى الثالث ـ إلاّ إدراك العقلاء لذلك وتطابق آرائهم على مدح فاعل الحسن

__________________

ـ بل قال المحقّق الخراسانيّ : «وإن نسب إلى بعض الأخباريّين : (أنّه لا اعتبار بما إذا كان بمقدّمات عقليّة) ، إلاّ أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ، بل تشهد بكذبها». كفاية الأصول : ٣١١.

(١) منهم المحدّث الاسترآباديّ والمحدّث الجزائريّ والمحدّث البحرانيّ على ما في فرائد الأصول ١ : ١٥ ـ ١٩ ، ومطارح الأنظار : ٢٣٢.

(٢) راجع كلمات جمال المحقّقين والسيّد الصدر منقولا عنهما في مطارح الأنظار : ٢٣٢ ، وكلمات السيّد الأمين في الفوائد المدنيّة : ١٢٩ و ١٣١.

(٣) سيأتي أنّ هناك وجها رابعا لحمل كلامهم عليه بما أوّلنا به رأي صاحب الفصول ، الآتي ، وهو إنكار العقل لملاكات الأحكام الشرعيّة. وهو وجه وجيه سيأتي بيانه وتأييده ، وبه تحلّ عقدة النزاع ويقع التصالح بين الطرفين. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٤) تقدّم في الصفحة : ٢٢٩ و ٢٣١.

٢٤٣

وذمّ فاعل القبيح على ما أوضحناه فيما سبق.

وإذا اعترفوا بثبوت الحسن والقبح بهذا المعنى فهو اعتراف بإدراك العقل. ولا معنى للتفكيك بين ثبوت الحسن والقبح وبين إدراك العقل لهما إلاّ إذا جاز تفكيك الشيء عن نفسه.

نعم ، إذا فسّروا الحسن والقبح بالمعنيين الأوّلين جاز هذا التفكيك ولكنّهما ليسا موضع النزاع عندهم.

وهذا الأمر واضح لا يحتاج إلى أكثر من هذا البيان بعد ما قدّمناه في المبحث الأوّل.

المبحث الثالث : ثبوت الملازمة العقليّة بين حكم العقل وحكم الشرع

ومعنى الملازمة العقليّة هنا ـ على ما تقدّم ـ أنّه إذا حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عقلا أن يحكم الشرع على طبقه؟

وهذه هي المسألة الأصوليّة التي تخصّ علمنا ، وكلّ ما تقدّم من الكلام كان كالمقدّمة لها. وقد قلنا سابقا (١) : إنّ الأخباريّين فسّر كلامهم ـ في أحد الوجوه الثلاثة المقدّمة الذي يظهر من كلام بعضهم ـ بإنكار هذه الملازمة. وأمّا الأصوليّون فقد أنكرها منهم صاحب الفصول (٢) ، ولم نعرف له موافقا. وسيأتي توجيه كلامه وكلام الأخباريّين. (٣)

والحقّ أنّ الملازمة ثابتة عقلا ، فإنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه ـ أي إنّه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن شيء لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع ، أو على قبحه لما فيه من الإخلال بذلك ـ فإنّ الحكم هذا يكون بادئ رأي الجميع ، فلا بدّ أن يحكم الشارع بحكمهم ؛ لأنّه منهم بل رئيسهم ، فهو بما هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقلاء ، لا بدّ أن يحكم بما يحكمون. ولو فرضنا أنّه لم يشاركهم في حكمهم ، لما كان ذلك الحكم بادئ رأي الجميع ، وهذا خلاف الفرض.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٢٤٣.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٣٧.

(٣) يأتي في الصفحة : ٢٤٦ «توضيح وتعقيب».

٢٤٤

وبعد ثبوت ذلك ينبغي أن نبحث هنا عن مسألة أخرى ، وهي أنّه لو ورد من الشارع أمر في مورد حكم العقل ، كقوله (تعالى) : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) فهذا الأمر من الشارع هل هو أمر مولويّ ـ أي إنّه أمر منه بما هو مولى ـ أو إنّه أمر إرشاديّ ، أي إنّه أمر لأجل الإرشاد إلى ما حكم به العقل ، أي إنّه أمر منه بما هو عاقل؟ وبعبارة أخرى : إنّ النزاع هنا في أنّ مثل هذا الأمر من الشارع هل هو أمر تأسيسيّ ـ وهذا معنى أنّه مولويّ ـ أو أنّه أمر تأكيديّ ، وهو معنى أنّه إرشاديّ؟

لقد وقع الخلاف في ذلك ، والحقّ أنّه للإرشاد حيث يفرض أنّ حكم العقل هذا كاف لدعوة المكلّف إلى الفعل الحسن واندفاع إرادته للقيام به ، فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانيا ، بل يكون عبثا ولغوا ، بل هو مستحيل ؛ لأنّه يكون من باب تحصيل الحاصل.

وعليه ، فكلّ ما يرد في لسان الشرع من الأوامر في موارد المستقلاّت العقليّة لا بدّ أن يكون تأكيدا لحكم العقل لا تأسيسا.

نعم ، لو قلنا بأنّ ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذمّ فقط على وجه لا يلزم منه استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولى ، أو أنّه يلزم منه ذلك بل هو عينه (٢) ولكن لا يدرك ذلك كلّ أحد ، فيمكن ألاّ يكون نفس إدراك استحقاق المدح والذمّ كافيا لدعوة كلّ أحد إلى الفعل إلاّ للأفذاذ (٣) من الناس ، فلا يستغني أكثر الناس عن الأمر من المولى ، المترتّب على موافقته الثواب وعلى مخالفته العقاب في مقام الدعوة إلى الفعل وانقياده ؛ فإذا ورد أمر من المولى في مورد حكم العقل المستقلّ فلا مانع من حمله على

__________________

(١) النساء (٤) الآية : ٥٩ ؛ المائدة (٥) الآية : ٩٢ ؛ النور (٢٤) الآية : ٥٤ ؛ محمّد (٤٧) الآية : ٣٣ ؛ التغابن (٦٤) الآية : ١٢.

(٢) الحقّ ـ كما صرّح بذلك كثير من العلماء المحقّقين ـ أنّ معنى استحقاق المدح ليس إلاّ استحقاق الثواب ، ومعنى استحقاق الذمّ ليس إلاّ استحقاق العقاب ، بمعنى أنّ المراد من المدح ما يعمّ الثواب ، لأنّ المراد بالمدح المجازاة بالخير ، والمراد من الذمّ ما يعمّ العقاب ؛ لأنّ المراد به المكافأة بالشرّ. ولذا قالوا : «إنّ مدح الشارع ثوابه ، وذمّه عقابه» ، وأرادوا به هذا المعنى. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٣) وفي «س» : للأوحدي.

٢٤٥

الأمر المولويّ ، إلاّ إذا لزم منه محال التسلسل ، كالأمر بالطاعة والأمر بالمعرفة ؛ بل مثل هذه الموارد لا معنى لأن يكون الأمر فيها مولويّا ؛ لأنّه لا يترتّب على موافقته غير ما يترتّب على متعلّق المأمور به ، نظير الأمر بالاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ.

توضيح وتعقيب

والحقّ أنّ الالتزام بالتحسين والتقبيح العقليّين هو نفس الالتزام بتحسين الشارع وتقبيحه ، وفقا لحكم العقلاء ؛ لأنّه من جملتهم ، لا أنّهما شيئان أحدهما يلزم الآخر ، وإن توهّم ذلك بعضهم. (١)

ولذا ترى أكثر الأصوليّين والكلاميّين لم يجعلوهما مسألتين بعنوانين ، بل لم يعنونوا إلاّ مسألة واحدة هي مسألة «التحسين والتقبيح العقليّين».

وعليه ، فلا وجه للبحث عن ثبوت الملازمة بعد فرض القول بالتحسين والتقبيح وأمّا نحن فإنّما جعلنا الملازمة مسألة مستقلّة فللخلاف الذي وقع فيها بتوهّم التفكيك.

ومن العجيب ما عن صاحب الفصول رحمه‌الله من إنكاره للملازمة ، مع قوله بالتحسين والتقبيح العقليّين (٢) ، وكأنّه ظنّ أنّ كلّ ما أدركه العقل من المصالح والمفاسد ـ ولو بطريق نظريّ أو من غير سبب عامّ من الأسباب المتقدّمة ذكرها ـ يدخل في مسألة التحسين والتقبيح ، وأنّ القائل بالملازمة يقول بالملازمة أيضا في مثل ذلك.

ولكن نحن قلنا : إنّ قضايا التحسين والتقبيح هي القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء كافّة بما هم عقلاء ، وهي بادئ رأي الجميع ، وفي مثلها نقول بالملازمة لا مطلقا. فليس كلّ ما أدركه العقل من أيّ سبب كان ـ ولو لم تتطابق عليه الآراء ، أو تطابقت ولكن لا بما هم عقلاء ـ يدخل في هذه المسألة.

وقد ذكرنا نحن سابقا (٣) : أنّ ما يدركه العقل من الحسن والقبح بسبب العادة أو الانفعال و

__________________

(١) كصاحب الفصول والشيخ الأنصاريّ. فراجع الفصول الغرويّة : ٣٣٧ ، ومطارح الأنظار : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٣٧.

(٣) تقدّم في الصفحة : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٢٤٦

نحوهما ، وما يدركه لا من سبب عامّ للجميع ، لا يدخل في موضوع مسألتنا.

ونزيد هذا بيانا وتوضيحا هنا ، فنقول :

إنّ مصالح الأحكام الشرعيّة المولويّة ـ التي هي نفسها ملاكات أحكام الشارع ـ لا تندرج تحت ضابط نحن ندركه بعقولنا ؛ إذ لا يجب فيها أن تكون هي بعينها المصالح العموميّة المبنيّ عليها حفظ النظام العامّ وإبقاء النوع التي هي ـ أعني هذه المصالح العموميّة ـ مناطات الأحكام العقليّة في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين.

وعلى هذا ، فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعيّة ، فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر ولم يكن إدراكه مستندا إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامّتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء ؛ فإنّه ـ أعني العقل ـ لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل ، إذ يتحمل أنّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل ، أو أنّ هناك مانعا يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ، وإن كان ما أدركه مقتضيا لحكم الشارع.

ولأجل هذا نقول : إنّه ليس كلّ ما حكم به الشرع يجب أن يحكم به العقل ؛ وإلى هذا يرمى قول إمامنا الصادق عليه‌السلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقل» (١) ؛ ولأجل هذا أيضا نحن لا نعتبر القياس والاستحسان من الأدلّة الشرعيّة على الأحكام.

وعلى هذا التقدير ، فإن كان ما أنكره صاحب الفصول والأخباريّون من الملازمة هي الملازمة في مثل تلك المدركات العقليّة التي هي ليست من المستقلاّت العقليّة التي تطابقت عليها آراء العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ فإنّ إنكارهم في محلّه ، وهم على حقّ فيه ، لا نزاع لنا معهم فيه. ولكن هذا أمر أجنبيّ عن الملازمة المبحوث عنها في المستقلاّت العقليّة. وإن كان ما أنكروه هو مطلق الملازمة حتّى في المستقلاّت العقليّة ـ كما قد يظهر

__________________

(١) لم ينقل هذا الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام في مصادر الحديث ، بل روي عنه أنّه عليه‌السلام قال : «إنّ دين الله لا يصاب بالمقائيس» أو «إنّ دين الله لا يصاب بالقياس». راجع بحار الأنوار ٢ : ٣٠٣ و ٢٦ : ٣٣.

نعم ، روي عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أنّه قال : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة». مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٦٢.

٢٤٧

من بعض تعبيراتهم (١) ـ فهم ليسوا على حقّ فيما أنكروا ، ولا مستند لهم.

وعلى هذا ، فيمكن التصالح بين الطرفين بتوجيه كلام الأخباريّين وصاحب الفصول بما يتّفق ما أوضحناه ، ولعلّه لا يأباه بعض كلامهم. (٢)

تمرينات (٣٣)

١. بيّن الأمور الأربعة المتلاحقة التي هي المبحوث عنها في المستقلاّت العقليّة.

٢. اذكر معاني الحسن والقبح تفصيلا ، وبيّن المعنى الذي هو موضوع النزاع.

٣. ما واقعيّة الحسن والقبح في معانيه؟ هل لها إزاء ومطابق في الخارج أم لا؟

٤. ما الفرق بين العقل العمليّ والعقل النظريّ؟

٥. اذكر أسباب حكم العقل العمليّ بالحسن والقبح ، وبيّن أيّها يدخل في محلّ النزاع في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين؟

٦. ما الفرق بين الحسن والقبح الذاتيّين والحسن والقبح العرضيّين؟ مثل لكلّ منهما.

٧. ما هو رأي الأشاعرة في الحسن والقبح؟ وما هو رأي العدليّة؟

٨. ما هي أدلّة الأشاعرة؟ وما الجواب عنها؟

٩. ما هي أدلّة العدليّة؟

١٠. هل يتمكّن العقل من إدراك وجوه الحسن والقبح مستقلاّ أو لا؟

١١. إذا حكم العقل بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عقلا أن يحكم الشرع على طبقه؟ اذكر أقوال العلماء ، وبيّن دليل ثبوت الملازمة.

١٢. لو ورد من الشارع أمر في مورد حكم العقل ، هل هذا الأمر أمر مولويّ أو أمر إرشادي؟

١٣. كيف يقع التصالح بين منكري الملازمة ومثبتيها؟

__________________

(١) كقول السيّد الأمين : «إن تمسّكنا بكلامهم عليهم‌السلام فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم لم نعصم منه». الفوائد المدنيّة : ١٣١.

وكذلك قول المحدّث البحرانيّ «لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها ، ولا سبيل إليها إلاّ السماع عن المعصوم ، لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها». الحدائق الناضرة ١ : ١٣٢.

فالظاهر من هذه التعبيرات ـ بإطلاقها ـ أنّ ما أنكروه هو مطلق الملازمة.

(٢) كقول آخر للسيّد الأمين : «الأوّل في ابطال ...» ، وقول آخر له : «وأنت إذا تأملت ...». الفوائد المدنيّة : ٣ و ١٣١.

٢٤٨

الباب الثاني

غير المستقلاّت العقليّة

تمهيد

سبق أن قلنا : إنّ المراد من «غير المستقلاّت العقليّة» هو ما لم يستقلّ العقل به وحده في الوصول إلى النتيجة ، بل يستعين بحكم شرعيّ (١) في إحدى مقدّمتي القياس وهي الصغرى ، والمقدّمة الأخرى ـ وهي الكبرى ـ.

الحكم العقليّ الذي هو عبارة عن حكم العقل بالملازمة عقلا بين الحكم في المقدّمة الأولى وبين حكم شرعيّ آخر. مثاله حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة شرعا وبين وجوب المقدّمة شرعا.

وهذه الملازمة العقليّة لها عدّة موارد وقع فيها البحث وصارت موضعا للنزاع ، ونحن ذاكرون هنا أهمّ هذه المواضع في مسائل :

المسألة الأولى : الإجزاء (٢)

تصدير

لا شكّ في أنّ المكلّف إذا أتى بما أمر به مولاه على الوجه المطلوب ـ أي أتى

__________________

(١) قلنا : «يستعين بحكم شرعيّ» ولم نقل : «المقدّمة الشرعيّة» لتعميم بحث غير المستقلاّت العقليّة لمسألة الإجزاء فإنّ صغرى مسألة الإجزاء هكذا : «هذا الفعل إتيان بالمأمور به شرعا» والحكم بأنّ الفعل إتيان بالمأمور به يستعان فيه بالحكم الشرعيّ وهو الأمر المفروض ثبوته. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) الإجزاء : مصدر «أجزأ» أي أغني عنه وقام مقامه. ـ منه رحمه‌الله ـ.

٢٤٩

بالمطلوب على طبق ما أمر به جامعا لجميع ما هو معتبر فيه من الأجزاء والشرائط ، شرعيّة أو عقليّة ـ فإنّ هذا الفعل منه يعتبر امتثالا لنفس ذلك الأمر ، سواء كان الأمر اختياريّا واقعيّا ، أو اضطراريّا ، أو ظاهريّا. وليس في هذا خلاف ، أو لا يمكن أن يقع فيه الخلاف.

وكذا لا شكّ ولا خلاف في أنّ هذا الامتثال على تلك الصفة يجزئ ويكتفى به عن امتثال آخر ؛ لأنّ المكلّف ـ حسب الفرض ـ قد جاء بما عليه من التكليف على الوجه المطلوب. وكفى!

وحينئذ ، يسقط الأمر الموجّه إليه ، لأنّه قد حصل بالفعل ما دعا إليه ، وانتهى أمده ، ويستحيل أن يبقى بعد حصول غرضه وما كان قد دعا إليه ؛ (١) لانتهاء أمد دعوته بحصول غايته الداعية إليه ، إلاّ إذا جوّزنا المحال ، وهو حصول المعلول بلا علّة. (٢)

__________________

(١) أي بعد حصول الداعي إلى صدور ذلك لأمر.

(٢) وإذا صحّ أن يقال شيء في هذا الباب فليس في إجزاء المأتيّ به والاكتفاء بامتثال الأمر ، فإنّ هذا قطعيّ كما قلنا في المتن ، وإنّما الذي يصحّ أن يقال ويبحث عنه ففي جواز الامتثال مرّة أخرى بدلا عن الامتثال الأوّل على وجه يلغى الامتثال الأوّل ويكتفى بالثاني. وهو خارج عن مسألة الإجزاء ، ويعبّر عنه في لسان الأصوليّين بقولهم : «تبديل الامتثال بالامتثال».

وقد يتصوّر الطالب أنّ هذا لا مانع منه عقلا ، بأن يتصوّر أنّ هناك حالة منتظرة بعد الامتثال الأوّل ، بمعنى أن نتصوّر أنّ الغرض من الأمر لم يحصل بمجرّد الامتثال الأوّل فلا يسقط عنده الأمر ، بل يبقى مجال لامتثاله ثانيا ، لا سيّما إذا كان الامتثال الثاني أفضل. ويساعد على هذا التصوير أنّه قد ورد في الشريعة ما يؤيّد ذلك بظاهره ، مثل ما ورد في باب إعادة من صلّى فرادى عند حضور الجماعة : «إن الله (تعالى) يختار أحبّهما إليه». *

والحقّ ، عدم جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر ؛ لأنّ الإتيان بالمأمور به بحدوده وقيوده علّة تامّة لحصول الغرض ، فلا تبقى حالة منتظرة بعد الامتثال الأوّل ، فيسقط الأمر لانتهاء أمده كما قلنا في المتن. أمّا ما ورد في جواز ذلك فيحمل على استحباب الإعادة بأمر آخر ندبيّ ، وينبغي أن يحمل قوله عليه‌السلام : «يختار أحبّهما إليه» على أنّ المراد : يختار ذلك في مقام إعطاء الثواب والأجر ، لا في مقام امتثال الأمر الوجوبيّ بالصّلاة وأنّ الامتثال يقع بالثاني. ـ منه رحمه‌الله ـ.

__________________

* عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصلاة ، وقد صلّيت ، فقال عليه‌السلام : «صلّ معهم ، يختار الله أحبّهما إليه». وسائل الشيعة ٥ : ٤٥٦ ، الباب ٤ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١٠.

٢٥٠

وإنّما وقع الخلاف ـ أو يمكن أن يقع ـ في مسألة الإجزاء فيما إذا كان هناك أمران : أمر أوّليّ واقعيّ لم يمتثله المكلّف إمّا لتعذّره عليه أو لجهله به ، وأمر ثانويّ إمّا اضطراريّ في صورة تعذّر الأوّل ، وإمّا ظاهريّ في صورة الجهل بالأوّل ؛ فإنّه إذا امتثل المكلّف هذا الأمر الثانويّ الاضطراريّ أو الظاهريّ ثمّ زال العذر والاضطرار أو زال الجهل وانكشف الواقع ، صحّ الخلاف في كفاية ما أتى به امتثالا للأمر الثاني عن امتثال الأمر الأوّل ، وإجزائه عنه إعادة في الوقت وقضاء في خارجه.

ولأجل هذا عقدت هذه المسألة : «مسألة الإجزاء».

وحقيقتها هي البحث عن ثبوت الملازمة ـ عقلا ـ بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ أو الظاهريّ ، وبين الإجزاء والاكتفاء به عن امتثال الأمر الأوّليّ الاختياريّ الواقعيّ.

وقد عبّر بعض علماء الأصول المتأخّرين عن هذه المسألة بقوله : «هل الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أو لا يقتضي؟» (١)

والمراد من «الاقتضاء» في كلامه الاقتضاء بمعنى العلّيّة والتأثير (٢) ، أي إنّه هل يلزم ـ عقلا ـ من الإتيان بالمأمور به سقوط التكليف شرعا أداء وقضاء؟

ومن هنا تدخل هذه المسألة في باب الملازمات العقليّة ، على ما حرّرنا البحث في صدر هذا المقصد عن المراد بالملازمة العقليّة (٣). ولا وجه لجعلها من باب مباحث الألفاظ (٤) ، لأنّ ذلك ليس من شئون الدلالة اللفظيّة.

وعلينا أن نعقد البحث في مقامين : الأوّل : في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراريّ. الثاني : في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهريّ :

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٤.

(٢) لا بنحو الكشف والدلالة.

(٣) وهو حكم العقل بالملازمة بين حكم الشرع وبين أمر آخر ، سواء كان حكما عقليّا أو شرعيّا أو غيرهما. راجع الصفحة ٢١٩.

(٤) كما جعلها أكثر الأصوليّين من باب مباحث الألفاظ. راجع الفصول الغرويّة ١ : ١١٦ ؛ العدّة ١ : ٢١٢ ، مناهج الأحكام والأصول : ٦٦ ؛ كفاية الأصول : ١٠٤.

٢٥١

المقام الأوّل : الأمر الاضطراريّ

وردت في الشريعة المطهّرة أوامر لا تحصى تختصّ بحال الضرورات وتعذّر امتثال الأوامر الأوّليّة أو بحال الحرج في امتثالها ، مثل التيمّم ، ووضوء الجبيرة وغسلها ، وصلاة العاجز عن القيام أو القعود ، وصلاة الغريق.

ولا شكّ في أنّ الاضطرار ترتفع به فعليّة التكليف ؛ لأنّ الله (تعالى) لا يكلّف نفسا إلاّ وسعها. وقد ورد في الحديث النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المشهور الصحيح : «رفع عن أمّتي ما اضطرّوا إليه» (١).

غير أنّ الشارع المقدّس ـ حرصا على بعض العبادات لا سيّما الصّلاة التي لا تترك بحال (٢) ـ أمر عباده بالاستعاضة عمّا اضطرّوا إلى تركه بالإتيان ببدل عنه ، فأمر ـ مثلا ـ بالتيمّم بدلا عن الوضوء أو الغسل ، وقد جاء في الحديث : «يكفيك عشر سنين». (٣) وأمر بالمسح على الجبيرة بدلا عن غسل بشرة العضو في الوضوء والغسل (٤). وأمر بالصّلاة من جلوس بدلا عن الصّلاة من قيام ... (٥) وهكذا فيما لا يحصى من الأوامر الواردة في حال اضطرار المكلّف وعجزه عن امتثال الأمر الأوّليّ الاختياريّ ، أو في حال الحرج في امتثاله.

ولا شكّ في أنّ هذه الأوامر الاضطراريّة هي أوامر واقعيّة حقيقيّة ذات مصالح ملزمة ، كالأوامر الأوّليّة ، وقد تسمّى «الأوامر الثانويّة» تنبيها على أنّها واردة لحالات طارئة ثانويّة على المكلّف ، وإذا امتثلها المكلّف أدّى ما عليه في هذا الحال ، وسقط عنه التكليف بها.

__________________

(١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه و ...». الخصال ٢ : ٤١٧ ، التوحيد : ٣٥٣.

(٢) كما في الوسائل ٩ : ٢٧ ، الباب ١٩ من أبواب الإحرام ، الحديث ١.

(٣) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذرّ : «يا أبا ذرّ يكفيك الصعيد عشر سنين». الوسائل ٢ : ٩٨٤ ، الباب ١٤ من أبواب التيمم ، الحديث ١٢.

(٤) الوسائل ١ : ٣٢٦ ـ ٣٢٨ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

(٥) الوسائل ٤ : ٦٨٩ ، الباب ١ من أبواب القيام ، الحديث ١ ، ٢ ، ٨ ، ١٣ ، ١٨.

٢٥٢

ولكن يقع البحث والتساؤل فيما لو ارتفعت تلك الحالة الاضطراريّة الثانويّة ورجع المكلّف إلى حالته الأولى من التمكّن من أداء ما كان عليه واجبا في حالة الاختيار ، فهل يجزئه ما كان قد أتى به في حال الاضطرار ، أو لا يجزئه ، بل لا بدّ له من إعادة الفعل في الوقت أداء إذا كان ارتفاع الاضطرار قبل انتهاء وقت الفعل وكنّا قلنا بجواز البدار ، (١) أو إعادته خارج الوقت قضاء إذا كان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت؟

إنّ هذا أمر يصحّ فيه الشكّ والتساؤل ، وإن كان المعروف بين الفقهاء في فتاويهم القول بالإجزاء مطلقا أداء وقضاء. (٢)

غير أنّ إطباقهم على القول بالإجزاء ليس مستندا إلى دعوى أنّ البديهيّة العقليّة تقضي به ؛ لأنّه هنا يمكن تصوّر عدم الإجزاء بلا محذور عقليّ ، أعني يمكننا أن نتصوّر عدم الملازمة بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ وبين الإجزاء به عن الأمر الواقعيّ الاختياريّ.

توضيح ذلك أنّه لا إشكال في أنّ المأتيّ به في حال الاضطرار أنقص من المأمور به حال الاختيار ، والقول بالإجزاء فيه معناه كفاية الناقص عن الكامل مع فرض حصول التمكّن من أداء الكامل في الوقت أو خارجه. ولا شكّ في أنّ العقل لا يرى بأسا بالأمر بالفعل ثانيا بعد زوال الضرورة ؛ تحصيلا للكامل الذي قد فات منه ؛ بل قد يلزم العقل بذلك إذا كان في الكامل مصلحة ملزمة لا يفي بها الناقص ولا يسدّ مسدّ الكامل في تحصيلها.

والمقصود الذي نريد أن نقوله بصريح العبارة «أنّ الإتيان بالناقص بالنظرة الأولى ممّا [لا] يقتضي عقلا الإجزاء عن الكامل».

فلا بدّ أن يكون ذهاب الفقهاء إلى الإجزاء لسرّ هناك : إمّا لوجود ملازمة بين الإتيان بالناقص وبين الإجزاء عن الكامل ، وإمّا لغير ذلك من الأسباب ، فيجب أن نتبيّن ذلك ، فنقول : هناك وجوه أربعة يصلح أن يكون كلّها أو بعضها مستندا للقول بالإجزاء

__________________

(١) لأنّه إذا لم يجز البدار ، فإن ابتدر فعمله باطل فكيف يجزئ؟! وإن لم يبتدر فلا يبقى مجال لزوال العذر في الوقت حتّى يتصوّر الأداء. ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) انظر جواهر الكلام ٥ : ٢٢٣ ـ ٢٢٥.

٢٥٣

نذكرها كلّها :

١. إنّه من المعلوم أنّ الأحكام الواردة في حال الاضطرار واردة للتخفيف على المكلّفين ، والتوسعة عليهم في تحصيل مصالح التكاليف الأصليّة الأوّليّة (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (١)

وليس من شأن التخفيف والتوسعة أن يكلّفهم ثانيا بالقضاء أو الأداء ، وإن كان الناقص لا يسدّ مسدّ الكامل في تحصيل مصلحته الملزمة.

٢. إنّ أكثر الأدلّة الواردة في التكاليف الاضطراريّة مطلقة ، مثل قوله (تعالى) : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (٢) أي إنّ ظاهرها بمقتضى الإطلاق الاكتفاء بالتكليف الثاني لحال الضرورة ، وأنّ التكليف منحصر فيه وليس وراءه تكليف آخر ، فلو أنّ الأداء أو القضاء واجب أيضا لوجب البيان والتنصيص على ذلك وإذ لم يبيّن ذلك علم أنّ الناقص يجزئ عن أداء الكامل أداء وقضاء ، لا سيّما مع ورود مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ التراب يكفيك عشر سنين». (٣)

٣. إنّ القضاء بالخصوص إنّما يجب فيما إذا صدق الفوت ، ويمكن أن يقال : «إنّه لا يصدق الفوت في المقام ؛ لأنّ القضاء إنّما يفرض فيما إذا كانت الضرورة مستمرّة في جميع وقت الأداء». وعلى هذا التقدير ، لا أمر بالكامل في الوقت ، وإذا لم يكن أمر فقد يقال : «إنّه لا يصدق بالنسبة إليه فوت الفريضة ، إذ لا فريضة».

وأمّا الأداء : فإنّما يفرض فيما يجوز البدار به ، وقد ابتدر المكلّف ـ حسب الفرض ـ إلى فعل الناقص في الأزمنة الأولى من الوقت ، ثمّ زالت الضرورة قبل انتهاء الوقت. ونفس الرخصة في البدار ـ لو ثبتت ـ تشير إلى مسامحة الشارع في تحصيل الكامل عند التمكّن ، وإلاّ لفرض عليه الانتظار تحصيلا للكامل.

٤. إذا كنّا قد شككنا في وجوب الأداء والقضاء ، والمفروض أنّ وجوبهما لم ننفه

__________________

(١) البقرة (٢) الآية : ١٨٥.

(٢) النساء (٤) الآية : ٤٣ ، المائدة (٥) الآية : ٦.

(٣) هذا مفاد الحديث. وتقدّم نصّه في التعليقة (٣) من الصفحة : ٢٥٦.

٢٥٤

بإطلاق ونحوه ، فإنّ هذا شكّ في أصل التكليف. وفي مثله ، تجري أصالة البراءة القاضية بعدم وجوبهما.

فهذه الوجوه الأربعة كلّها أو بعضها أو نحوها هي سرّ حكم الفقهاء بالإجزاء قضاء أو أداء. والقول بالإجزاء ـ على هذا ـ أمر لا مفرّ منه. ويتأكّد ذلك في الصّلاة التي هي العمدة في الباب.

المقام الثاني : الأمر الظاهريّ

تمهيد

للحكم الظاهريّ اصطلاحان : أحدهما : ما تقدّم في أوائل الجزء الأوّل. (١) وهو المقابل للحكم الواقعيّ ، وإن كان الواقعيّ مستفادا من الأدلّة الاجتهاديّة الظنيّة ، فيختصّ الظاهريّ بما ثبت بالأصول العمليّة. وثانيهما : كلّ حكم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحكم الواقعيّ الثابت في علم الله (تعالى) ، فيشمل الحكم الثابت بالأمارات والأصول معا ، فيكون الحكم الظاهريّ بالمعنى الثاني أعمّ من الأوّل.

وهذا المعنى الثاني العامّ هو المقصود هنا بالبحث ، فالأمر الظاهريّ : ما تضمّنه الأصل أو الأمارة.

ثمّ إنّه لا شكّ في أنّ الأمر الواقعيّ في موردي الأصل والأمارة غير منجّز على المكلّف ـ بمعنى أنّه لا عقاب على مخالفته بسبب العمل بالأمارة والأصل لو اتّفق مخالفتهما له (٢) ـ ؛ لأنّه من الواضح أنّ كلّ تكليف غير واصل إلى المكلّف بعد الفحص واليأس غير منجّز عليه ؛ ضرورة أنّ التكليف إنّما يتنجّز بوصوله بأيّ نحو من أنحاء الوصول ، ولو بالعلم الإجماليّ.

هذا كلّه لا كلام فيه ، وسيأتي في مباحث الحجّة تفصيل الحديث عنه (٣). وإنّما الذي

__________________

(١) تقدّم في مدخل الكتاب ، الصفحة : ٢٠.

(٢) أي للواقع.

(٣) يأتي في مقدّمة المقصد الثالث ، المبحث ٨ «موطن حجيّة الأمارات».

٢٥٥

يحسن أن نبحث عنه هنا في هذا الباب هو أنّ الأمر الواقعيّ المجهول لو انكشف فيه بعد ذلك خطأ الأمارة أو الأصل ، وقد عمل المكلّف ـ حسب الفرض ـ على خلافه اتّباعا للأمارة الخاطئة أو الأصل المخالف للواقع ، فهل يجب على المكلّف امتثال الأمر الواقعيّ في الوقت أداء وفي خارج الوقت قضاء ، أو أنّه لا يجب شيء عليه بل يجزئ ما أتى به على طبق الأمارة أو الأصل ويكتفي به؟

ثمّ إنّ العمل على خلاف الواقع ـ كما سبق ـ تارة يكون بالأمارة وأخرى بالأصل. ثمّ الانكشاف على نحوين : انكشاف على نحو اليقين. وانكشاف بمقتضى حجّة معتبرة. فهذه أربع صور.

ولاختلاف البحث في هذه الصور مع اتّفاق صورتين منها في الحكم ـ وهما صورتا الانكشاف بحجّة معتبرة مع العمل على طبق الأمارة ومع العمل بمقتضى الأصل ـ نعقد البحث في ثلاث مسائل :

١. الإجزاء في الأمارة مع انكشاف الخطأ يقينا

إنّ قيام الأمارة تارة يكون في الأحكام ، كقيام الأمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة حال الغيبة بدلا عن صلاة الجمعة ، وأخرى في الموضوعات ، كقيام البيّنة على طهارة ثوب صلّى به ، أو ماء توضّأ منه ، ثمّ بانت نجاسته.

والمعروف عند الإماميّة عدم الإجزاء مطلقا ، في الأحكام والموضوعات (١).

أمّا في «الأحكام» : فلأجل اتّفاقهم على مذهب التخطئة (٢) ، أي إنّ المجتهد يخطئ ويصيب ؛ لأنّ لله (تعالى) أحكاما ثابتة في الواقع يشترك فيها العالم والجاهل ، أي إنّ

__________________

(١) اعلم أنّ المنسوب إلى الفقهاء الإماميّة إلى عصر الشيخ الأنصاريّ هو الإجزاء في الأمارات ، كما في نهاية الأصول : ١٢٩. والمعروف بين المتأخّرين هو عدم الإجزاء في الأمارات ، راجع مطارح الأنظار : ٢٣ ، وكفاية الأصول : ١١١ ، وفوائد الأصول ١ : ٢٤٦ ـ ٢٥٥ ، ونهاية الأفكار ١ : ٢٤٣ ، ومناهج الوصول ١ : ٣١٥ ، والمحاضرات ٢ : ٢٥٨ و ٢٩٠. وخالفهم السيّد البروجرديّ وقال بالإجزاء ، راجع نهاية الأصول : ١٢٩.

(٢) نقل الاتّفاق المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٥٥٣.

٢٥٦

الجاهل مكلّف بها كالعالم ، غاية الأمر أنّها غير منجّزة بالفعل بالنسبة إلى الجاهل القاصر (١) حين جهله ، وإنّما يكون معذورا في المخالفة لو اتّفقت له باتّباع الأمارة ؛ إذ لا تكون الأمارة عندهم إلاّ طريقا محضا لتحصيل الواقع.

ومع انكشاف الخطأ لا يبقى مجال للعذر ، بل يتنجّز الواقع حينئذ في حقّه من دون أن يكون قد جاء بشيء يسدّ مسدّه ويغني عنه.

ولا يصحّ القول بالإجزاء إلاّ إذا قلنا : إنّه بقيام الأمارة على وجوب شيء تحدث فيه مصلحة ملزمة على أن تكون هذه المصلحة وافية بمصلحة الواقع ، يتدارك بها مصلحة الواجب الواقعيّ ، فتكون الأمارة مأخوذة على نحو الموضوعيّة للحكم ؛ ضرورة أنّه مع هذا الفرض يكون ما أتى به على طبق الأمارة مجزئا عن الواقع ؛ لأنّه قد أتى بما يسدّ مسدّه ، ويغني عنه في تحصيل مصلحة الواقع.

ولكن هذا معناه التصويب المنسوب إلى المعتزلة (٢) ، أي إنّ أحكام الله (تعالى) تابعة لآراء المجتهدين وإن كانت له أحكام واقعيّة ثابتة في نفسها ، فإنّه يكون ـ عليه ـ كلّ رأي أدّى إليه نظر المجتهد قد أنشأ الله (تعالى) على طبقه حكما من الأحكام. والتصويب بهذا المعنى قد أجمعت الإماميّة على بطلانه (٣) ، وسيأتي البحث عنه في «مباحث الحجّة». (٤)

وأمّا : القول بالمصلحة السلوكيّة ـ أي إنّ نفس متابعة الأمارة فيها مصلحة ملزمة

__________________

(١) الجاهل القاصر من لم يتمكّن من الفحص أو فحص فلم يعثر. ويقابله المقصّر ، وهو بعكسه. والأحكام منجّزة بالنسبة إلى المقصّر لحصول العلم الإجمالي بها عنده ، والعلم منجّز للأحكام وإن كان إجماليّا فلا يكون معذورا ؛ بل الاحتمال وحده بالنسبة إليه يكون منجّزا. وسيأتي البحث عن ذلك في «مباحث الحجّة». ـ منه رحمه‌الله ـ.

(٢) نسب القول بالتصويب إلى المعتزلة وأبي الحسن الأشعريّ في كتاب إرشاد الفحول : ٢٦١. ونسب إلى الأشعريّ والقاضي أبي بكر الباقلانيّ وجمهور المتكلّمين من الأشاعرة والمعتزلة في كتاب نهاية السئول ٤ : ٥٦٠. وما ذكره المصنّف رحمه‌الله في المتن هو التصويب المنسوب إلى المعتزلة من أنّ أحكام الله (تعالى) تابعة لرأي المجتهد وإن كانت هناك أحكام واقعيّة ثابتة في نفسها. وأمّا التصويب المنسوب إلى الأشاعرة هو أن يفرض أن لا حكم ثابتا في نفسه ، بل الله (تعالى) ينشئ أحكامه على طبق ما أدّى إليه رأي المجتهد.

(٣) كما في كفاية الأصول : ٥٣٥.

(٤) يأتي في مقدّمة المقصد الثالث ، المبحث ١٤ «المصلحة السلوكيّة».

٢٥٧

يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع ، وإن لم تحدث مصلحة في نفس الفعل الذي أدّت الأمارة إلى وجوبه (١) ـ فهذا قول لبعض الإماميّة (٢) ؛ لتصحيح جعل الطرق والأمارات في فرض التمكّن من تحصيل العلم ، على ما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله (تعالى). (٣)

ولكنّه ـ على تقدير صحّة هذا القول ـ لا يقتضي الإجزاء أيضا ؛ لأنّه على فرضه تبقى مصلحة الواقع على ما هي عليه عند انكشاف خطأ الأمارة في الوقت أو في خارجه.

توضيح ذلك أنّ المصلحة السلوكيّة المدّعاة هي مصلحة تدارك الواقع باعتبار أنّ الشارع لمّا جعل الأمارة في حال تمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالواقع ؛ فإنّه قد فوّت عليه الواقع ، فلا بدّ من فرض تداركه بمصلحة تكون في نفس اتّباع الأمارة ، واللازم من المصلحة التي يتدارك بها الواقع أن تقدّر بقدر ما فات من الواقع من مصلحة لا أكثر. وعند انكشاف الخطأ في الوقت لم يفت من مصلحة الواقع إلاّ مصلحة فضيلة أوّل الوقت ، وعند انكشاف الخطأ في خارج الوقت لم تفت إلاّ مصلحة الوقت. أمّا مصلحة أصل الفعل فلم تفت من المكلّف ؛ لإمكان تحصيلها بعد الانكشاف ، فما هو الملزم للقول بحصول مصلحة يتدارك بها أصل مصلحة الفعل حتّى يلزم الإجزاء؟!

وأمّا في «الموضوعات» (٤) : فالظاهر أنّ المعروف عندهم أنّ الأمارة فيها قد أخذت على نحو «الطريقية» (٥) ، كقاعدة اليد ، والصحّة ، وسوق المسلمين ، ونحوها ، فإن أصابت الواقع فذاك ، وإن أخطأت فالواقع على حاله ، ولا تحدث بسببها مصلحة يتدارك بها مصلحة

__________________

(١) توضيح ذلك : أنّ قيام الأمارة سبب لإحداث مصلحة في السلوك على وفقها غير مصلحة الواقع ، بل الواقع باق على ما كان عليه ، وبالعمل على طبق الأمارة تحصل مصلحة السلوك وتفوت مصلحة الواقع ، فبمصلحة السلوك يتدارك مصلحة الفائتة من الواقع من دون تغيّر الواجب الواقعيّ.

(٢) هذا ما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ وحمل عليه كلام الشيخ الطوسي في العدّة والعلاّمة في النهاية. راجع ، فرائد الأصول ١ : ٤١ ـ ٤٢.

(٣) يأتي في مقدّمة المقصد الثالث ، المبحث ١٤ «المصلحة السلوكيّة».

(٤) كما إذا قامت البيّنة على نجاسة الماء ، فصلّى مع التيمّم ، ثمّ انكشف مخالفة البيّنة للواقع وأنّ الماء كان طاهرا.

(٥) كفاية الأصول : ١١١ ، فوائد الأصول ١ : ٢٤٨ ، نهاية الدراية ١ : ٢٧٨.

٢٥٨

الواقع ، غاية الأمر أنّ المكلّف معها معذور عند الخطأ وشأنها في ذلك شأن الأمارة في الأحكام.

والسرّ في حملها على «الطريقيّة» ، هو أنّ الدليل الذي دلّ على حجّيّة الأمارة في الأحكام هو نفسه دلّ على حجّيّتها في الموضوعات بلسان واحد في الجميع ، لا أنّ القول بالموضوعيّة هنا يقتضي محذور التصويب المجمع على بطلانه عند الإماميّة ، كالأمارة في الأحكام. (١)

وعليه ، فالأمارة في الموضوعات أيضا لا تقتضي الإجزاء بلا فرق بينها وبين الأمارة في الأحكام.

٢. الإجزاء في الأصول مع انكشاف الخطأ يقينا

لا شكّ في أنّ العمل بالأصل إنّما يصحّ إذا فقد المكلّف الدليل الاجتهاديّ على الحكم. فيرجع إليه باعتبار أنّه وظيفة للجاهل لا بدّ منها للخروج من الحيرة.

فالأصل ـ في حقيقته ـ وظيفة للجاهل الشاكّ ينتهي إليه في مقام العمل ؛ إذ لا سبيل له غير ذلك لرفع الحيرة ، وعلاج حالة الشكّ.

ثمّ إنّ الأصل على قسمين :

١. أصل عقليّ : والمراد منه ما يحكم به العقل ، ولا يتضمّن جعل حكم ظاهريّ من الشارع ، كالاحتياط ، وقاعدة التخيير ، والبراءة العقليّة التي مرجعها إلى حكم العقل بنفي العقاب بلا بيان ، فهي لا مضمون لها إلاّ رفع العقاب ، لا جعل حكم بالإباحة من الشارع.

٢. أصل شرعيّ : وهو المجعول من الشارع في مقام الشكّ والحيرة ، فيتضمّن جعل حكم ظاهريّ ، كالاستصحاب والبراءة الشرعيّة التي مرجعها إلى حكم الشارع بالإباحة ، ومثلها أصالة الطهارة والحلّيّة.

إذا عرفت ذلك فنقول :

أوّلا : إنّ بحث الإجزاء لا يتصوّر في قاعدة الاحتياط مطلقا ، سواء كانت عقليّة أو

__________________

(١) هكذا قال المحقّق النائينيّ على ما في أجود التقريرات ١ : ٣٠٠.

٢٥٩

شرعيّة ؛ لأنّ المفروض في الاحتياط هو العمل بما يحقّق امتثال التكليف الواقعيّ ، فلا يتصوّر فيه تفويت المصلحة.

وثانيا : كذلك لا يتصوّر بحث الإجزاء في الأصول العقليّة الأخرى ، كالبراءة (١) ، وقاعدة التخيير ؛ لأنّها ـ حسب الفرض ـ لا تتضمّن حكما ظاهريّا ، حتّى يتصوّر فيها الإجزاء والاكتفاء بالمأتيّ به عن الواقع ، بل إنّ مضمونها هو سقوط العقاب والمعذوريّة المجرّدة.

وعليه ، فينحصر البحث في خصوص الأصول الشرعيّة عدا الاحتياط ، كالاستصحاب ، وأصالة البراءة (٢) ، والحلّيّة ، وأصالة الطهارة.

وهي لأوّل وهلة لا مجال لتوهّم الإجزاء فيها ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات ؛ فإنّها أولى من الأمارات في عدم الإجزاء ، باعتبار أنّها ـ كما ذكرنا في صدر البحث ـ وظيفة عمليّة يرجع إليها الجاهل الشاكّ لرفع الحيرة في مقام العمل والعلاج الوقتيّ. أمّا الواقع فهو على واقعيّته ، فيتنجّز حين العلم به وانكشافه ، ولا مصلحة في العمل بالأصل غير رفع الحيرة عند الشكّ ، فلا يتصوّر فيه مصلحة وافية يتدارك بها مصلحة الواقع (٣) حتّى يقتضي الإجزاء والاكتفاء به عن الواقع.

ولذا أفتى علماؤنا المتقدّمون بعدم الإجزاء في الأصول العمليّة. (٤)

ومع هذا ، فقد قال قوم من المتأخّرين بالإجزاء ، منهم : شيخنا صاحب الكفاية (٥) ، وتبعه تلميذه أستاذنا الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ قدس‌سره (٦). ولكن ذلك في خصوص الأصول الجارية لتنقيح موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه ، كقاعدة الطهارة ، وأصالة الحلّيّة ، واستصحابهما ، دون الأصول الجارية في نفس الأحكام.

__________________

(١) أي : البراءة العقليّة.

(٢) أي : البراءة الشرعيّة.

(٣) وفي «س» مصلحة وافية بتدارك مصلحة الواقع.

(٤) حكى عنهم الشيخ الأنصاريّ في مطارح الأنظار : ٢٨.

(٥) كفاية الأصول : ١١٠.

(٦) نهاية الدراية ١ : ٢٧٥.

٢٦٠