اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

والحاصل نحن نبحث في المستقلاّت العقليّة عن مسألتين : إحداهما : الصغرى ، وهي بيان المدركات العقليّة في الأفعال الاختياريّة [و] أنّه أيّها ينبغي فعله وأيّها لا ينبغي فعله؟ ثانيتهما : الكبرى ، وهي بيان أنّ ما يدركه العقل هل لا بدّ أن يدركه الشرع ، أي يحكم على طبق ما يحكم به العقل؟ وهذه هي المسألة الأصوليّة التي هي من الملازمات العقليّة. ومن هاتين المسألتين نهيّئ موضوع مبحث حجّيّة العقل.

٢. وأمّا في «غير المستقلاّت العقليّة» فأيضا يظهر الحال فيها بعد بيان المقدّمتين اللتين يتألّف منهما الدليل العقليّ. وهما ـ مثلا ـ :

الأولى : «هذا الفعل واجب» أو «هذا المأتيّ به ، مأمور به في حال الاضطرار». فمثل هذه القضايا تثبت في علم الفقه ، فهي شرعيّة.

الثانية : «كلّ فعل واجب شرعا يلزمه عقلا وجوب مقدّمته شرعا» أو «يلزمه عقلا حرمة ضدّه شرعا» أو «كلّ مأتيّ به ـ وهو مأمور به حال الاضطرار ـ يلزمه عقلا الإجزاء عن المأمور به حال الاختيار» ... وهكذا. فإنّ أمثال هذه القضايا أحكام عقليّة مضمونها الملازمة العقليّة بين ما يثبت شرعا في القضيّة الأولى وبين حكم شرعيّ آخر. وهذه الأحكام العقليّة هي التي يبحث عنها في علم الأصول. ومن أجل هذا تدخل في باب الملازمات العقليّة.

الخلاصة

ومن جميع ما ذكرنا يتّضح أنّ المبحوث عنه في الملازمات العقليّة هو إثبات الكبريات العقليّة التي تقع في طريق إثبات الحكم الشرعيّ ، سواء كانت الصغرى عقليّة ، كما في المستقلاّت العقليّة ، أو شرعيّة ، كما في غير المستقلاّت العقليّة.

أمّا الصغرى : فدائما يبحث عنها في علم آخر غير علم الأصول ، كما أنّ الكبرى يبحث عنها في علم الأصول ، وهي (١) عبارة عن ملازمة حكم الشرع لشيء آخر بالملازمة العقليّة ، سواء كان ذلك الشيء الآخر حكما شرعيّا أم حكما عقليّا أم غيرهما. والنتيجة من

__________________

(١) أي الكبرى.

٢٢١

الصغرى والكبرى هاتين تقع صغرى لقياس آخر كبراه حجّيّة العقل ، ويبحث عن هذه الكبرى في مباحث الحجّة.

وعلى هذا فينحصر بحثنا هنا في بابين : «باب المستقلاّت العقليّة» ، و «باب غير المستقلاّت العقليّة» ، فنقول :

تمرينات (٣٢)

١. ما هو محلّ البحث في الملازمات العقليّة؟

٢. ما الفرق بين المستقلاّت العقليّة وغير المستقلاّت العقليّة؟

٣. لما ذا سمّيت هذه المباحث بالملازمات العقليّة؟

٢٢٢

الباب الأوّل

المستقلاّت العقليّة

تمهيد

الظاهر انحصار المستقلاّت العقليّة ـ التي يستكشف منها الحكم الشرعيّ ـ في مسألة واحدة ، وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليّين. وعليه ، يجب علينا أن نبحث عن هذه المسألة من جميع أطرافها بالتفصيل ، لا سيّما أنّه لم يبحث عنها في كتب الأصول الدارجة ، فنقول :

وقع البحث هنا في أربعة أمور متلاحقة :

١. إنّه هل تثبت للأفعال ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع وتعلّق خطابه بها ـ أحكام عقليّة من حسن وقبح؟ أو إن شئت فقل : للأفعال حسن وقبح بحسب ذواتها ، ولها قيم ذاتيّة في نظر العقل قبل فرض حكم الشارع عليها ، أو ليس لها ذلك ، وإنّما الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه ، والفعل مطلقا في حدّ نفسه من دون حكم الشارع ليس حسنا ولا قبيحا؟

وهذا هو الخلاف الأصيل بين الأشاعرة والعدليّة ، وهو مسألة التحسين والتقبيح العقليّين المعروفة في علم الكلام ، وعليها تترتّب مسألة الاعتقاد بعدالة الله (تعالى) وغيرها. وإنّما سمّيت العدليّة «عدليّة» لقولهم بأنّه (تعالى) عادل ، بناء على مذهبهم في ثبوت الحسن والقبح العقليّين.

ونحن نبحث عن هذه المسألة هنا باعتبار أنّها من المبادئ لمسألتنا الأصوليّة كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

٢٢٣

٢. إنّه بعد فرض القول بأنّ للأفعال في حدّ أنفسها حسنا وقبحا ، هل يتمكّن العقل من إدراك وجوه الحسن والقبح مستقلاّ عن تعليم الشارع وبيانه أو لا؟ وعلى تقدير تمكّنه ، هل للمكلّف أن يأخذ به بدون بيان الشارع وتعليمه أو ليس له ذلك إمّا مطلقا أو في بعض الموارد؟

وهذه المسألة هي إحدى نقط الخلاف المعروفة بين الأصوليّين وجماعة من الأخباريّين ، (١) وفيها تفصيل من بعضهم (٢) على ما يأتي (٣). وهي أيضا ليست من مباحث علم الأصول ، ولكنّها من المبادئ لمسألتنا الأصوليّة الآتية ؛ لأنّه بدون القول بأنّ العقل يدرك وجوه الحسن والقبح لا تتحقّق عندنا صغرى القياس التي تكلّمنا عنها سابقا.

ولا ينبغي أن يخفى عليكم أنّ تحرير هذه المسألة سببه المغالطة التي وقعت لبعضهم ، (٤) وإلاّ فبعد تحرير المسألة الأولى على وجهها الصحيح ـ كما سيأتي ـ لا يبقى مجال لهذا النزاع. فانتظر توضيح ذلك في محلّه القريب. (٥)

٣. إنّه بعد فرض أنّ للأفعال حسنا وقبحا وأنّ العقل يدرك الحسن والقبح ، يصحّ أن ننتقل إلى التساؤل عمّا إذا كان العقل يحكم أيضا بالملازمة بين حكمه وحكم الشرع ، بمعنى أنّ العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عنده عقلا أن يحكم الشارع على طبق حكمه؟

وهذه هي المسألة الأصوليّة المعبّر عنها بمسألة الملازمة التي وقع فيها النزاع ، فأنكر

__________________

(١) كالمحدّث الاسترآباديّ في الفوائد المدنيّة ، والمحدّث الجزائريّ في شرح التهذيب ، والمحدّث البحرانيّ في الحدائق على ما حكاه عنهم الشيخ الأنصاريّ في فرائد الأصول ١ : ١٥ ـ ١٧. وراجع الفوائد المدنيّة : ١٢٩ ـ ١٣١ ، والحدائق الناضرة ١ : ١٣٢.

(٢) أي بعض الأصوليّين. وهو صاحب الفصول ، فإنّه أنكر الملازمة الواقعيّة بين حكم العقل وحكم الشرع ، والتزم بالملازمة الظاهريّة. راجع الفصول الغرويّة : ٣٣٧.

(٣) يأتي في الصفحة : ٢٤٨ «المبحث الثالث».

(٤) كصاحب الفصول والشيخ الأنصاريّ ، فإنّ الظاهر من كلماتهما أنّ الالتزام بالتحسين والتقبيح العقليّين غير الالتزام بتحسين الشارع وتقبيحه ، غاية الأمر أنّ أحدهما يلزم الآخر. والحقّ أنّهما شيء واحد. فراجع الفصول الغرويّة : ٣٣٧ ، ومطارح الأنظار : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٥) يأتي في الصفحة : ٢٤٦ «توضيح وتعقيب».

٢٢٤

الملازمة جملة من الأخباريّين (١) وبعض الأصوليّين كصاحب الفصول (٢).

٤. إنّه بعد ثبوت الملازمة وحصول القطع بأنّ الشارع لا بدّ أن يحكم على طبق ما حكم به العقل فهل هذا القطع حجّة شرعا؟

ومرجع هذا النزاع إلى ثلاث نواح :

الأولى : في إمكان أن ينفي الشارع حجيّة هذا القطع وينهى عن الأخذ به.

الثانية : بعد فرض إمكان نفي الشارع حجيّة القطع هل نهى عن الأخذ بحكم العقل وإن استلزم القطع كقول الإمام عليه‌السلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٣) على تقدير تفسيره بذلك؟

والنزاع في هاتين الناحيتين وقع مع الأخباريّين جلّهم أو كلّهم.

الثالثة : بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حجّيّة القطع هل معنى حكم الشارع على طبق حكم العقل هو أمره ونهيه ، أو أنّ حكمه إدراكه وعلمه بأنّ هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه ، وهو شيء آخر غير أمره ونهيه ، فإثبات أمره ونهيه يحتاج إلى دليل آخر ، ولا يكفي القطع بأنّ الشارع حكم بما حكم به العقل؟

وعلى كلّ حال ، فإنّ الكلام في هذه النواحي سيأتي في مباحث الحجّة (المقصد الثالث) (٤) وهو النزاع في حجّيّة العقل. وعليه ، فنحن نتعرّض هنا للمباحث الثلاثة الأولى ، ونترك المبحث الرابع بنواحيه إلى المقصد الثالث.

المبحث الأوّل : التحسين والتقبيح العقليّان

اختلف الناس في حسن الأفعال وقبحها هل إنّهما عقليّان أو شرعيّان ، بمعنى أنّ الحاكم بهما هل هو العقل أو الشرع؟

فقالت الأشاعرة : لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، وليس الحسن والقبح عائدين

__________________

(١) مرّ في التعليقة (١) من الصفحة السابقة.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٣٧.

(٣) عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام قال : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة». مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٦٢.

(٤) يأتي في الباب الرابع من المقصد الثالث.

٢٢٥

إلى أمر حقيقيّ حاصل فعلا قبل ورود بيان الشارع ، بل إنّ ما حسّنه الشارع فهو حسن وما قبّحه الشارع فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضيّة فحسّن ما قبّحه وقبّح ما حسّنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا ، ومثّلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة (١).

وقالت العدليّة : إنّ للأفعال قيما ذاتيّة عند العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع ، فمنها : ما هو حسن في نفسه ، ومنها : ما هو قبيح في نفسه ، ومنها : ما ليس له هذان الوصفان. والشارع لا يأمر إلاّ بما هو حسن ، ولا ينهى إلاّ عمّا هو قبيح ، فالصدق في نفسه حسن ولحسنه أمر الله (تعالى) به ، لا أنّه أمر الله (تعالى) به فصار حسنا ، والكذب في نفسه قبيح ولذلك نهى الله (تعالى) عنه ، لا أنّه نهى عنه فصار قبيحا (٢).

هذه خلاصة الرأيين. وأعتقد عدم اتّضاح رأي الطرفين بهذا البيان ، ولا تزال نقط غامضة في البحث إذا لم نبيّنها بوضوح لا نستطيع أن نحكم لأحد الطرفين. وهو أمر ضروريّ مقدّمة للمسألة الأصوليّة ، ولتوقّف وجوب المعرفة عليه. فلا بدّ من بسط البحث بأوسع ممّا أخذنا على أنفسنا من الاختصار في هذا الكتاب ؛ لأهمّيّة هذا الموضوع من جهة ؛ ولعدم إعطائه حقّه من التنقيح في أكثر الكتب الكلاميّة والأصوليّة من جهة أخرى.

وأكلّفكم قبل الدخول في هذا البحث بالرجوع إلى ما حرّرته في الجزء الثالث من المنطق عن القضايا المشهورات (٣) ؛ لتستعينوا به على ما هنا.

والآن أعقد البحث هنا في أمور :

١. معنى الحسن والقبح وتصوير النزاع فيهما

إنّ الحسن والقبح لا يستعملان بمعنى واحد ، بل لهما ثلاثة معان ، فأيّ هذه المعاني هو

__________________

(١) راجع : شرح المواقف ٨ : ١٩٢ ؛ شرح المقاصد ٤ : ٢٨٤ ؛ شرح التجريد للقوشجيّ : ٣٣٧.

(٢) هذا ما ذهب إليه المعتزلة ـ الذين سمّوا أنفسهم بأصحاب العدل ـ والإماميّة. راجع شرح تجريد الاعتقاد «كشف المراد» : ٣٠٣ : شرح الباب الحادي عشر : ٢٦ ؛ مفتاح الباب : ١٥٢.

(٣) المنطق ٣ : ٢٩١ ـ ٢٩٧.

٢٢٦

موضوع النزاع؟ فنقول :

أوّلا : قد يطلق الحسن والقبح ويراد بهما الكمال والنقص. ويقعان وصفا بهذا المعنى للأفعال الاختياريّة ولمتعلّقات الأفعال ، فيقال ـ مثلا ـ : «العلم حسن ، والتعلّم حسن» ، وبضدّ ذلك يقال : «الجهل قبيح ، وإهمال التعلّم قبيح». ويراد بذلك أنّ العلم والتعلّم كمال للنفس وتطوّر في وجودها ، وأنّ الجهل وإهمال التعلّم نقصان فيها وتأخّر في وجودها.

وكثير من الأخلاق الإنسانيّة حسنها وقبحها باعتبار هذا المعنى ، فالشجاعة والكرم والحلم والعدالة والإنصاف ونحو ذلك إنّما حسنها باعتبار أنّها كمال للنفس وقوّة في وجودها. وكذلك أضدادها قبيحة ؛ لأنّها نقصان في وجود النفس وقوّتها. ولا ينافي ذلك أنّه يقال للأولى : «حسنة» وللثانية : «قبيحة» باعتبار معنى آخر من المعنيين الآتيين.

وليس للأشاعرة ظاهرا نزاع في الحسن والقبح بهذا المعنى ، بل جملة منهم يعترفون بأنّهما عقليّان (١) ؛ لأنّ هذه من القضايا اليقينيّات التي وراءها واقع خارجيّ تطابقه ، على ما سيأتي (٢).

ثانيا : إنّهما قد يطلقان ويراد بهما الملاءمة للنفس والمنافرة لها ، ويقعان وصفا بهذا المعنى أيضا للأفعال ومتعلّقاتها من أعيان وغيرها.

فيقال في المتعلّقات : «هذا المنظر حسن جميل» ، «هذا الصوت حسن مطرب» ، «هذا المذوق حلو حسن» ... وهكذا.

ويقال في الأفعال : «نوم القيلولة حسن» ، «الأكل عند الجوع حسن» و «الشرب بعد العطش حسن» ... وهكذا.

وكلّ هذه الأحكام لأنّ النفس تلتذّ بهذه الأشياء وتتذوّقها لملاءمتها لها. وبضدّ ذلك يقال في المتعلّقات والأفعال : «هذا المنظر قبيح» ، «ولولة النائحة قبيحة» ، «النوم على الشبع

__________________

(١) قال في شرح المواقف ـ : بعد ذكر هذا المعنى ـ : «ولا نزاع في أنّ هذا المعنى أمر ثابت للصفات في أنفسها ، وأنّ مدركه العقل». وقال في شرح المقاصد : «وليس النزاع في الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص». راجع شرح المواقف ٨ : ١٩٢ ، وشرح المقاصد ٤ : ٢٨٢.

(٢) يأتي في الصفحة : ٢٣٠.

٢٢٧

قبيح» ... وهكذا. وكلّ ذلك ؛ لأنّ النفس تتألّم أو تشمئزّ من ذلك.

فيرجع معنى الحسن والقبح ـ في الحقيقة ـ إلى معنى اللذّة والألم ، أو فقل : «إلى معنى الملاءمة للنفس وعدمها» ، ما شئت فعبّر ، فإنّ المقصود واحد.

ثمّ إنّ هذا المعنى من الحسن والقبح يتّسع إلى أكثر من ذلك ؛ فإنّ الشيء قد لا يكون في نفسه ما يوجب لذّة أو ألما ، ولكنّه بالنظر إلى ما يعقبه من أثر تلتذّ به النفس أو تتألّم منه يسمّى أيضا : «حسنا» أو «قبيحا» ، بل قد يكون الشيء في نفسه قبيحا تشمئزّ منه النفس ، كشرب الدواء المرّ ، ولكنّه باعتبار ما يعقبه من الصحّة والراحة ـ التي هي أعظم بنظر العقل من ذلك الألم الوقتيّ ـ يدخل فيما يستحسن ، كما قد يكون الشيء بعكس ذلك حسنا تلتذّ به النفس ، كالأكل اللذيذ المضرّ بالصحّة ، ولكن باعتبار ما يعقبه ـ من مرض أعظم من اللذّة الوقتيّة ـ يدخل فيما يستقبح.

والإنسان بتجاربه الطويلة وبقوّة تمييزه العقليّ يستطيع أن يصنّف الأشياء والأفعال إلى ثلاثة أصناف : ما يستحسن ، وما يستقبح ، وما ليس له هاتان المزيّتان. ويعتبر هذا التقسيم بحسب ما له من الملاءمة والمنافرة ولو بالنظر إلى الغاية القريبة أو البعيدة التي هي قد تسمو (١) عند العقل على ما له من لذّة وقتيّة أو ألم وقتيّ ، كمن يتحمّل المشاقّ الكثيرة ويقاسي الحرمان في سبيل طلب العلم ، أو الجاه ، أو الصحّة ، أو المال ، وكمن يستنكر بعض اللذّات الجسديّة استكراها لشؤم عواقبها.

وكلّ ذلك يدخل في الحسن والقبح بمعنى الملائم وغير الملائم ، قال القوشجيّ في شرحه للتجريد عن هذا المعنى : «وقد يعبّر عنهما ـ أي الحسن والقبح ـ بالمصلحة والمفسدة فيقال : الحسن ما فيه مصلحة ، والقبيح ما فيه مفسدة ، وما خلا منهما لا يكون شيئا منهما» (٢).

وهذا راجع إلى ما ذكرناه ، وليس المقصود أنّ للحسن والقبح معنى آخر ـ بمعنى ما له المصلحة أو المفسدة ـ غير معنى الملاءمة والمنافرة ، فإنّ استحسان المصلحة إنّما يكون

__________________

(١) أي ترتفع.

(٢) شرح التجريد للقوشجيّ ٣٣٨. وهكذا قال أيضا السيّد الشريف في شرح المواقف ٨ : ١٩٢.

٢٢٨

للملاءمة واستقباح المفسدة للمنافرة.

وهذا المعنى من الحسن والقبح أيضا ليس للأشاعرة فيه نزاع ، بل هما عندهم بهذا المعنى عقليّان ، (١) أي ممّا يدركه العقل من غير توقّف على حكم الشرع. ومن توهّم أنّ النزاع بين القوم في هذا المعنى ، فقد ارتكب شططا ولم يفهم كلامهم.

ثالثا : أنّهما يطلقان ويراد بهما المدح والذمّ ، ويقعان وصفا بهذا المعنى للأفعال الاختياريّة فقط. ومعنى ذلك : أنّ الحسن ما استحقّ فاعله عليه المدح والثواب عند العقلاء كافّة ، والقبيح ما استحقّ عليه فاعله الذمّ والعقاب عندهم كافّة.

وبعبارة أخرى : إنّ الحسن ما ينبغي فعله عند العقلاء ـ أي إنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه ينبغي فعله ـ ، والقبيح ما ينبغي تركه عندهم ، أي إنّ العقل عند الكلّ يدرك أنّه لا ينبغي فعله أو ينبغي تركه.

وهذا الإدراك للعقل هو معنى حكمه بالحسن والقبح ، وسيأتي توضيح هذه النقطة ، فإنّها مهمّة جدّا في الباب.

وهذا المعنى الثالث هو موضوع النزاع (٢) فالأشاعرة أنكروا أن يكون للعقل إدراك ذلك من دون الشرع ، وخالفتهم العدليّة ، فأعطوا للعقل هذا الحقّ من الإدراك.

تنبيه : وممّا يجب أن يعلم هنا أنّ الفعل الواحد قد يكون حسنا أو قبيحا بجميع المعاني الثلاثة ، كالتعلّم والحلم والإحسان ، فإنّها كمال للنفس ، وملائمة لها باعتبار ما لها من نفع ومصلحة ، وممّا ينبغي أن يفعلها الإنسان عند العقلاء.

وقد يكون الفعل حسنا بأحد المعاني ، قبيحا أو ليس بحسن بالمعنى الآخر ، كالغناء ـ مثلا ـ ، فإنّه حسن بمعنى الملاءمة للنفس ، ولذا يقولون عنه : «إنّه غذاء للروح» (٣) ، وليس حسنا بالمعنى الأوّل أو الثالث ، فإنّه لا يدخل عند العقلاء بما هم عقلاء فيما ينبغي أن يفعل

__________________

(١) كما اعترفوا به في كتبهم ، انظر التعليقة رقم (١) من الصفحة : ٢٢٦.

(٢) كما اعترفوا بذلك. راجع المصادر الواردة في التعليقة رقم (١) من الصفحة : ٢٢٦.

(٣) كأنّ هذا التعبير يريد أن يحاول قائلوه به دعوى أنّ الغناء كمال للنفس في سماعه وهو مغالطة وإيهام منهم. ـ منه رحمه‌الله ـ.

٢٢٩

وليس كمالا للنفس ، وإن كان هو كمالا للصوت بما هو صوت ، فيدخل في المعنى الأوّل للحسن من هذه الجهة ؛ ومثله التدخين أو ما تعتاده النفس من المسكرات والمخدّرات ، فإنّ هذه حسنة بمعنى الملاءمة فقط ، وليس كمالا للنفس ولا ممّا ينبغي فعلها عند العقلاء بما هم عقلاء.

٢. واقعيّة الحسن والقبح في معانيهما ورأى الأشاعرة

إنّ الحسن بالمعنى الأوّل ـ أي الكمال ـ ، وكذا مقابله ـ أي القبح ـ أمر واقعيّ خارجيّ لا يختلف باختلاف الأنظار والأذواق ، ولا يتوقّف على وجود من يدركه ويعقله ، بخلاف الحسن [والقبح] بالمعنيين الأخيرين.

وهذا ما يحتاج إلى التوضيح والتفصيل ، فنقول :

١. أمّا الحسن بمعنى الملاءمة ، وكذا ما يقابله ، فليس له في نفسه إزاء في الخارج يحاذيه ويحكي عنه ، وإن كان منشؤه قد يكون أمرا خارجيّا ، كاللون والرائحة والطعم وتناسق الأجزاء ونحو ذلك.

بل حسن الشيء يتوقّف على وجود الذوق العامّ أو الخاصّ ، فإنّ الإنسان هو الذي يتذوّق المنظور أو المسموع أو المذوق بسبب ما عنده من ذوق يجعل هذا الشيء ملائما لنفسه فيكون حسنا عنده ، أو غير ملائم فيكون قبيحا عنده. فإذا اختلفت الأذواق في الشيء كان حسنا عند قوم ، قبيحا عند آخرين. وإذا اتّفقوا في ذوق عامّ ، كان ذلك الشيء حسنا عندهم جميعا ، أو قبيحا كذلك.

والحاصل : أنّ الحسن ـ بمعنى الملائم ـ ليس صفة واقعيّة للأشياء كالكمال ، وليس واقعيّة هذه الصفة إلاّ إدراك الإنسان وذوقه ، فلو لم يوجد إنسان يتذوّق ولا من يشبهه في ذوقه لم يكن للأشياء في حدّ أنفسها حسن بمعنى الملاءمة.

وهذا مثل ما يعتقده الرأي الحديث (١) في الألوان ، إذ يقال : إنّها لا واقع لها ، بل هي تحصل من انعكاسات أطياف الضوء على الأجسام ، ففي الظلام حيث لا ضوء ليست هناك ألوان

__________________

(١) أي النظرية الجديدة.

٢٣٠

موجودة بالفعل ، بل الموجود حقيقة أجسام فيها صفات حقيقيّة هي منشأ لانعكاس الأطياف عند وقوع الضوء عليها ، وليس كلّ واحد من الألوان إلاّ طيفا أو أطيافا فأكثر تركّبت.

وهكذا نقول في حسن الأشياء وجمالها بمعنى الملاءمة ، والشيء الواقعيّ فيها ما هو منشأ الملاءمة في الأشياء ، كالطعم والرائحة ونحوهما ، الذي هو كالصفة في الجسم ، إذ تكون منشأ لانعكاس أطياف الضوء. كما أنّ نفسي اللذّة والألم أيضا أمران واقعيّان ، ولكن ليسا هما الحسن والقبح اللذين هما من صفات الأشياء ، واللذّة والألم من صفات النفس المدركة للحسن والقبح.

٢. وأمّا الحسن بمعني ما ينبغي أن يفعل عند العقل ، فكذلك ليس له واقعيّة إلاّ إدراك العقلاء ، أو فقل : «تطابق آراء العقلاء». والكلام فيه كالكلام في الحسن بمعنى الملاءمة. وسيأتي تفصيل معنى تطابق العقلاء على المدح والذمّ أو إدراك العقل للحسن والقبح (١).

وعلى هذا ، فإن كان غرض الأشاعرة من إنكار الحسن والقبح إنكار واقعيّتهما بهذا المعنى من الواقعيّة فهو صحيح ، ولكن هذا بعيد من أقوالهم ؛ لأنّه لمّا كانوا يقولون بحسن الأفعال وقبحها بعد حكم الشارع فإنّه يعلم منه أنّه ليس غرضهم ذلك ؛ لأنّ حكم الشارع لا يجعل لهما واقعيّة وخارجيّة ؛ كيف؟ وقد رتّبوا على ذلك بأنّ وجوب المعرفة والطاعة ليس بعقليّ بل شرعيّ. وإن كان غرضهم إنكار إدراك العقل ـ كما هو الظاهر من أقوالهم ـ فسيأتي تحقيق الحقّ فيه (٢) ، وأنّهم ليسوا على صواب في ذلك.

٣. العقل العمليّ والنظريّ

إنّ المراد من العقل ـ إذ يقولون : إنّ العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه بالمعنى الثالث من الحسن والقبح ـ هو «العقل العمليّ» في مقابل «العقل النظريّ».

وليس الاختلاف بين العقلين إلاّ بالاختلاف بين المدركات ، فإن كان المدرك ـ بالفتح ـ

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٢٣٤ و ٢٣٥.

(٢) يأتي في الصفحة : ٢٤٣ و ٢٤٤.

٢٣١

ممّا ينبغي أن يفعل أو لا يفعل مثل «حسن العدل وقبح الظلم» ، فيسمّى إدراكه : «عقلا عمليّا» ، وإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يعلم مثل قولهم : «الكلّ أعظم من الجزء» الذي لا علاقة له بالعمل فيسمّى إدراكه : «عقلا نظريّا».

ومعنى حكم العقل ـ على هذا ـ ليس إلاّ إدراك أنّ الشيء ممّا ينبغي أن يفعل أو يترك. وليس للعقل إنشاء بعث وزجر ، ولا أمر ونهي ، إلاّ بمعنى أنّ هذا الإدراك يدعو العقل إلى العمل ، أي يكون سببا لحدوث الإرادة في نفسه للعمل وفعل ما ينبغي ؛ إذن ، المراد من الأحكام العقليّة هي مدركات العقل العمليّ وآراؤه.

ومن هنا تعرف أنّ المراد من العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى الأوّل هو العقل النظريّ ؛ لأنّ الكمال والنقص ممّا ينبغي أن يعلم ، لا ممّا ينبغي أن يعمل. نعم ، إذا أدرك العقل كمال الفعل أو نقصه ، فإنّه يدرك معه أنّه ينبغي فعله أو تركه ، فيستعين العقل العمليّ بالعقل النظريّ. أو فقل : «يحصّل العقل العمليّ فعلا بعد حصول العقل النظريّ».

وكذا المراد من العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى الثاني هو العقل النظريّ ؛ لأنّ الملاءمة وعدمها ، أو المصلحة والمفسدة ممّا ينبغي أن يعلم ، ويستتبع ذلك إدراك أنّه ينبغي الفعل أو الترك على طبق ما علم.

ومن العجيب ما جاء في جامع السعادات ؛ إذ يقول ـ ردّا على الشيخ الرئيس خرّيت هذه الصناعة ـ : «إنّ مطلق الإدراك والإرشاد إنّما هو من العقل النظريّ ، فهو بمنزلة المشير الناصح ، والعقل العمليّ بمنزلة المنفّذ المجري لإشاراته» (١).

وهذا منه خروج عن الاصطلاح ، وما ندري ما يقصد من العقل العمليّ إذا كان الإرشاد والنصح للعقل النظريّ؟ وليس هناك عقلان في الحقيقة كما قدّمنا ، بل هو عقل واحد ، ولكنّ الاختلاف في مدركاته ومتعلّقاته ، وللتمييز بين الموارد يسمّى تارة : «عمليّا» وأخرى «نظريّا» ؛ وكأنّه يريد من العقل العمليّ نفس التصميم والإرادة للعمل ، وتسمية الإرادة عقلا وضع جديد في اللغة.

__________________

(١) جامع السعادات ١ : ٩٢.

٢٣٢

٤. أسباب حكم العقل العمليّ بالحسن والقبح

إنّ الإنسان إذ يدرك أنّ الشيء ينبغي فعله فيمدح فاعله ، أو لا ينبغي فعله فيذمّ فاعله ، لا يحصل له الإدراك جزافا واعتباطا ، وهذا شأن كلّ ممكن حادث ، بل لا بدّ له من سبب ؛ وسببه بالاستقراء أحد أمور خمسة نذكرها هنا لنذكر ما يدخل منها في محلّ النزاع في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، فنقول :

الأوّل : أن يدرك أنّ هذا الشيء كمال للنفس أو نقص لها ، فإنّ إدراك العقل لكماله أو نقصه يدفعه للحكم بحسن فعله أو قبحه ، كما تقدّم قريبا (١) ؛ تحصيلا لذلك الكمال أو دفعا لذلك النقص.

الثاني : أن يدرك ملاءمة الشيء للنفس أو عدمها إمّا بنفسه أو لما فيه من نفع عامّ أو خاصّ ، فيدرك حسن فعله أو قبحه تحصيلا للمصلحة أو دفعا للمفسدة.

وكلّ من هذين الإدراكين ـ أعني إدراك الكمال أو النقص ، وإدراك الملاءمة أو عدمها ـ يكون على نحوين :

١. أن يكون الإدراك لواقعة جزئيّة خاصّة ، فيكون حكم الإنسان بالحسن والقبح بدافع المصلحة الشخصيّة. وهذا الإدراك لا يكون بقوّة العقل ؛ لأنّ العقل شأنه إدراك الأمور الكلّيّة لا الأمور الجزئيّة ، بل إنّما يكون إدراك الجزئيّة بقوّة الحسّ أو الواهم أو الخيال ، وإن كان مثل هذا الإدراك قد يستتبع مدحا أو ذمّا لفاعله ولكن هذا المدح أو الذّم لا ينبغي أن يسمّى «عقليّا» ، بل قد يسمّى ـ بالتعبير الحديث ـ «عاطفيّا» ؛ لأنّ سببه تحكيم العاطفة الشخصيّة ، ولا بأس بهذا التعبير.

٢. أن يكون الإدراك لأمر كلّيّ ، فيحكم الإنسان بحسن الفعل لكونه كمالا للنفس ، كالعلم والشجاعة ، أو لكونه فيه مصلحة نوعيّة ، كمصلحة العدل لحفظ النظام وبقاء النوع الإنسانيّ. فهذا الإدراك إنّما يكون بقوّة العقل بما هو عقل ، فيستتبع مدحا من جميع العقلاء.

وكذا في إدراك قبح الشيء باعتبار كونه نقصا للنفس ، كالجهل ، أو لكونه فيه مفسدة

__________________

(١) تقدّم في الصفحة : ٢٢٩.

٢٣٣

نوعيّة ، كالظلم ، فيدرك العقل بما هو عقل ذلك ويستتبع ذمّا من جميع العقلاء. فهذا المدح والذمّ إذا تطابقت عليه آراء جميع العقلاء باعتبار تلك المصلحة أو المفسدة النوعيّتين ، أو باعتبار ذلك الكمال أو النقص النوعيّين فإنّه يعتبر من الأحكام العقليّة التي هي موضع النزاع. وهو معنى الحسن والقبح العقليّين الذي هو محلّ النفي والإثبات. وتسمّى هذه الأحكام العقليّة العامّة «الآراء المحمودة» و «التأديبات الصلاحيّة». وهي من قسم القضايا المشهورات التي هي قسم برأسه في مقابل القضايا الضروريّات. فهذه القضايا غير معدودة من قسم الضروريّات ، كما توهّمه بعض الناس (١) ومنهم الأشاعرة ، كما سيأتي في دليلهم (٢). وقد أوضحت ذلك في الجزء الثالث من المنطق في مبادئ القياسات ، فراجع (٣).

ومن هنا يتّضح لكم جيّدا أنّ العدليّة ـ إذ يقولون بالحسن والقبح العقليّين ـ يريدون أنّ الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة المعدودة من التأديبات الصلاحيّة ، وهي التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء.

والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء ـ أي إنّ واقعها ذلك ـ. فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أنّ فاعله ممدوح لدى العقلاء ، ومعنى قبح الظلم والجهل أنّ فاعله مذموم لديهم. (٤)

ويكفينا شاهدا على ما نقول ـ من دخول أمثال هذه القضايا في المشهورات الصرفة التي لا واقع لها إلاّ الشهرة ، وأنّها ليست من قسم الضروريّات ـ ما قاله الشيخ الرّئيس في منطق الإشارات : «ومنها الآراء المسمّاة بالمحمودة. وربّما خصّصناها باسم المشهورة ؛ إذ لا عمدة لها إلاّ الشهرة ، وهي آراء لو خلّي الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه ولم يؤدّب بقبول قضاياها والاعتراف بها ... لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو

__________________

(١) كقطب الدين الرازي في تعليقاته على شرح الإشارات ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) يأتي في الصفحة : ٢٣٩.

(٣) المنطق ٣ : ٢٩٤ ـ ٢٩٦.

(٤) ولا ينافي هذا أنّ العلم حسن من جهة أخرى وهي جهة كونه كمالا للنفس ، والجهل قبيح لكونه نقصانا. ـ منه رحمه‌الله ـ.

٢٣٤

حسّه ، مثل حكمنا بأنّ سلب مال الإنسان قبيح ، وأنّ الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه ...» (١). وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجه نصير الدين الطوسي (٢).

الثالث : ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح «الخلق الإنسانيّ» الموجود في كلّ إنسان على اختلافهم في أنواعه ، نحو خلق الكرم والشجاعة ، فإنّ وجود هذا الخلق يكون سببا لإدراك أنّ أفعال الكرم ـ مثلا ـ ممّا ينبغي فعلها فيمدح فاعلها ، وأفعال البخل ممّا ينبغي تركها فيذمّ فاعلها.

وهذا الحكم من العقل قد لا يكون من جهة المصلحة العامّة أو المفسدة العامّة ولا من جهة الكمال للنفس أو النقص ، بل بدافع الخلق الموجود.

وإذا كان هذا الخلق عامّا بين جميع العقلاء ، يكون هذا الحسن والقبح مشهورين بينهم تتطابق عليهما آراؤهم. ولكن إنّما يدخل في محلّ النزاع إذا كان الخلق من جهة أخرى فيه كمال للنفس أو مصلحة عامّة نوعيّة ، فيدعو ذلك إلى المدح والذمّ. ويجب الرجوع في هذا القسم إلى ما ذكرته من «الخلقيّات» في المنطق (٣) لتعرف توجيه قضاء الخلق الإنسانيّ بهذه المشهورات.

الرابع : ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح «الانفعال النفسانيّ» ، نحو الرقّة والرحمة والشفقة والحياء والأنفة والحميّة والغيرة ... إلى غير ذلك من انفعالات النفس التي لا يخلو منها إنسان غالبا.

فنرى الجمهور يحكم بقبح تعذيب الحيوان اتّباعا لما في الغريزة من الرقّة والعطف. والجمهور يمدح من يعين الضعفاء والمرضى ويعني برعاية الأيتام والمجانين بل الحيوانات ؛ لأنّه مقتضى الرحمة والشفقة. ويحكم بقبح كشف العورة والكلام البذيء ؛ لأنّه مقتضى الحياء. ويمدح المدافع عن الأهل والعشيرة والوطن والأمّة ؛ لأنّه مقتضى الغيرة والحميّة ... إلى غير ذلك من أمثال هذه الأحكام العامّة بين الناس.

__________________

(١) شرح الإشارات ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المنطق ٣ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

٢٣٥

ولكن هذا الحسن والقبح لا يعدّان حسنا وقبحا عقليّين ، بل ينبغي أن يسمّيا «عاطفيّين» أو «انفعاليّين». وتسمّى القضايا هذه عند المنطقيّين بـ «الانفعاليّات». ولأجل هذا لا يدخل هذا الحسن والقبح في محلّ النزاع مع الأشاعرة ، ولا نقول نحن بلزوم متابعة الشرع للجمهور في هذه الأحكام ؛ لأنّه ليس للشارع هذه الانفعالات ؛ بل يستحيل وجودها فيه ؛ لأنّها من صفات الممكن. وإنّما نحن نقول بملازمة حكم الشارع لحكم العقل بالحسن والقبح في الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحيّة ـ على ما سيأتي (١) ـ ، فباعتبار أنّ الشارع من العقلاء بل رئيسهم ، بل خالق العقل فلا بدّ أن يحكم بحكمهم بما هم عقلاء ، ولكن لا يجب أن يحكم بحكمهم بما هم عاطفيّون. ولا نقول : إنّ الشارع يتابع الناس في أحكامهم متابعة مطلقة.

الخامس : ومن الأسباب «العادة عند الناس» ، كاعتيادهم احترام القادم ـ مثلا ـ بالقيام له ، واحترام الضيف بالطعام ، فيحكمون لأجل ذلك بحسن القيام للقادم وإطعام الضيف.

والعادات العامّة كثيرة ومتنوّعة ، فقد تكون العادة تختصّ بأهل بلد أو قطر أو أمّة ، وقد تعمّ جميع الناس في جميع العصور أو في عصر. فتختلف لأجل ذلك ، القضايا التي يحكم بها بحسب العادة ، فتكون مشهورة عند القوم الذين لهم تلك العادة دون غيرهم.

وكما يمدح الناس المحافظين على العادات العامّة يذمّون المستهينين بها ، سواء كانت العادة حسنة من ناحية عقليّة أو عاطفيّة أو شرعيّة ، أو سيّئة قبيحة من إحدى هذه النواحي ، فتراهم يذمّون من يرسل لحيته إذا اعتادوا حلقها ويذمّون الحليق إذا اعتادوا إرسالها ، وتراهم يذمّون من يلبس غير المألوف عندهم لمجرّد أنّهم لم يعتادوا لبسه ، بل ربّما يسخرون به أو يعدّونه مارقا.

وهذا الحسن والقبح أيضا ليسا عقليّين ، بل ينبغي أن يسمّيا «عاديّين» ؛ لأنّ منشأهما العادة. وتسمّى القضايا فيهما في عرف المناطقة «العاديّات». ولذا لا يدخل أيضا هذا الحسن والقبح في محلّ النزاع. ولا نقول نحن ـ أيضا ـ بلزوم متابعة الشارع للناس في أحكامهم هذه ؛ لأنّهم لم يحكموا فيها بما هم عقلاء بل بما هم معتادون ، أي بدافع العادة.

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٢٤٤ و ٢٤٦.

٢٣٦

نعم ، بعض العادات قد يكون موضوعا لحكم الشارع ، مثل حكمه بحرمة لباس الشهرة ، أي اللباس غير المعتاد لبسه عند الناس ، ولكن هذا الحكم لا لأجل المتابعة لحكم الناس ، بل لأنّ مخالفة الناس في زيّهم على وجه يثير فيهم السخريّة والاشمئزاز فيها مفسدة موجبة لحرمة هذا اللباس شرعا ، وهذا شيء آخر غير ما نحن فيه.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا ـ وقد أطلنا الكلام لغرض كشف الموضوع كشفا تامّا ـ أنّه ليس كلّ حسن وقبح بالمعنى الثالث موضوعا للنزاع مع الأشاعرة ، بل خصوص ما كان سببه إدراك كمال الشيء أو نقصه على نحو كلّي ، وما كان سببه إدراك ملاءمته أو عدمها على نحو كلّي أيضا من جهة مصلحة نوعيّة أو مفسدة نوعيّة ؛ فإنّ الأحكام العقليّة الناشئة من هذه الأسباب هي أحكام للعقلاء بما هم عقلاء ، وهي التي ندّعي فيها أنّ الشارع لا بدّ أن يتابعهم في حكمهم. وبهذا تعرف ما وقع من الخلط في كلام جملة من الباحثين عن هذا الموضوع.

٥. معنى الحسن والقبح الذاتيّين

إنّ الحسن والقبح بالمعنى الثالث ينقسمان إلى ثلاثة أقسام :

١. ما هو علّة للحسن والقبح ، ويسمّى الحسن والقبح فيه بـ «الذاتيّين» ، مثل العدل والظلم ، والعلم والجهل ؛ فإنّ العدل بما هو عدل لا يكون إلاّ حسنا أبدا ، أي إنّه متى ما صدق عنوان العدل فإنّه لا بدّ أن يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعدّ عندهم محسنا ، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلاّ قبيحا ، أي إنّه متى ما صدق عنوان الظلم فإنّ فاعله مذموم عندهم ويعدّ مسيئا.

٢. ما هو مقتض لهما ، ويسمّى الحسن والقبح فيه بـ «العرضيّين» ، مثل تعظيم الصديق وتحقيره ، فإنّ تعظيم الصديق ـ لو خلّي ونفسه ـ فهو حسن ممدوح عليه ، وتحقيره كذلك قبيح لو خلّي ونفسه ؛ ولكن تعظيم الصديق بعنوان أنّه تعظيم الصديق يجوز أن يكون قبيحا مذموما ، كما إذا كان سببا لظلم ثالث ، بخلاف العدل فإنّه يستحيل أن يكون قبيحا مع بقاء صدق عنوان العدل. كذلك تحقير الصديق بعنوان أنّه تحقير له يجوز أن يكون حسنا

٢٣٧

ممدوحا عليه ، كما إذا كان سببا لنجاته ، ولكن يستحيل أن يكون الظلم حسنا مع بقاء صدق عنوان الظلم.

٣. ما لا علّية له ولا اقتضاء فيه في نفسه للحسن والقبح أصلا ، وإنّما قد يتّصف بالحسن تارة إذا انطبق عليه عنوان حسن ، كالعدل ، وقد يتّصف بالقبح أخرى إذا انطبق عليه عنوان قبيح ، كالظلم. وقد لا ينطبق عليه عنوان أحدهما فلا يكون حسنا ولا قبيحا ، كالضرب ـ مثلا ـ ، فإنّه حسن للتأديب ، وقبيح للتشفّي ، ولا حسن ولا قبيح كضرب غير ذي الروح.

ومعنى كون الحسن أو القبح ذاتيّا أنّ العنوان المحكوم عليه بأحدهما بما هو في نفسه وفي حدّ ذاته يكون محكوما به ، لا من جهة اندراجه تحت عنوان آخر. فلا يحتاج إلى واسطة في اتّصافه بأحدهما.

ومعنى كونه مقتضيا لأحدهما أنّ العنوان ليس في حدّ ذاته متّصفا به ، بل بتوسّط عنوان آخر ، ولكنّه ـ لو خلّي وطبعه ـ كان داخلا تحت العنوان الحسن أو القبيح ، ألا ترى تعظيم الصديق ـ لو خلّي ونفسه ـ يدخل تحت عنوان العدل الذي هو حسن في ذاته ، أي بهذا الاعتبار تكون له مصلحة نوعيّة عامّة ؛ أمّا لو كان سببا لهلاك نفس محترمة كان قبيحا ؛ لأنّه يدخل حينئذ بما هو تعظيم الصديق تحت عنوان الظلم ولا يخرج عن عنوان كونه تعظيما للصديق.

وكذلك يقال في تحقير الصديق ، فإنّه ـ لو خلّي ونفسه ـ يدخل تحت عنوان الظلم الذي هو قبيح بحسب ذاته ، أي بهذا الاعتبار تكون له مفسدة نوعيّة عامّة ؛ فلو كان سببا لنجاة نفس محترمة كان حسنا ؛ لأنّه يدخل حينئذ تحت عنوان العدل ، ولا يخرج عن عنوان كونه تحقيرا للصديق.

وأمّا العناوين التي من القسم الثالث فليست في حدّ ذاتها لو خلّيت وأنفسها داخلة تحت عنوان حسن أو قبيح ، فلذلك لا تكون لها علّيّة ولا اقتضاء.

وعلى هذا يتّضح معنى العلّيّة والاقتضاء هنا ، فإنّ المراد من العلّيّة أنّ العنوان بنفسه هو تمام موضوع حكم العقلاء بالحسن أو القبح. والمراد من الاقتضاء أنّ العنوان ـ لو خلّي وطبعه ـ يكون داخلا فيما هو موضوع لحكم العقلاء بالحسن أو القبح. وليس المراد من

٢٣٨

العلّيّة والاقتضاء ما هو معروف من معناهما أنّه بمعنى التأثير والإيجاد ، فإنّه من البديهيّ أنّه لا علّيّة ولا اقتضاء لعناوين الأفعال في أحكام العقلاء إلاّ من باب علّيّة الموضوع لمحموله.

٦. أدلّة الطرفين

بتقديم الأمور السابقة نستطيع أن نواجه أدلّة الطرفين بعين بصيرة ؛ لنعطي الحكم العادل لأحدهما ونأخذ النتيجة المطلوبة. ونحن نبحث عن ذلك في عدّة موادّ ، فنقول :

١. إنّا ذكرنا أنّ قضيّة الحسن والقبح من القضايا المشهورات ، وأشرنا إلى ما كنتم درستموه في الجزء الثالث من المنطق من أنّ المشهورات قسم يقابل الضروريّات الستّ كلّها. ومنه نعرف المغالطة في دليل الأشاعرة ، وهو أهمّ أدلّتهم ؛ إذ يقولون :

«لو كانت قضيّة الحسن والقبح ممّا يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه في هذه القضيّة وبين حكمه بأنّ الكلّ أعظم من الجزء. ولكنّ الفرق موجود قطعا ؛ إذ الحكم الثاني لا يختلف فيه اثنان مع وقوع الاختلاف في الأوّل» (١).

وهذا الدليل من نوع القياس الاستثنائيّ قد استثني فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدّم.

والجواب عنه : أنّ المقدّمة الأولى ـ وهي الجملة الشرطيّة ـ ممنوعة ، ومنعها يعلم ممّا تقدّم آنفا ؛ لأنّ قضيّة الحسن والقبح ـ كما قلنا ـ من المشهورات ، وقضيّة أنّ الكلّ أعظم من الجزء من الأوّليّات اليقينيّات ، فلا ملازمة بينهما. وليس هما من باب واحد حتّى يلزم من كون القضيّة الأولى ممّا يحكم به العقل ألاّ يكون فرق بينها وبين القضية الثانية. وينبغي أن نذكر جميع الفروق بين المشهورات هذه وبين الأوّليّات ، ليكون أكثر وضوحا بطلان قياس إحداهما على الأخرى. والفارق من وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ الحاكم في قضايا التأديبات العقل العمليّ ، والحاكم في الأوّليّات العقل النظريّ.

__________________

(١) التحقيق أنّ ما ذكر ليس من أدلّتهم ، فضلا عن كونه من أهمّها ، بل هو اعتراض تعرّض له ابن ميثم في قواعد المرام : ١٠٥ ، ثم أجاب عنه. وتعرّض له القوشجيّ أيضا بعنوان «اعتراض» ، راجع شرح التجريد للقوشجي : ٣٣٩.

٢٣٩

الثاني : أنّ القضيّة التأديبيّة لا واقع لها إلاّ تطابق آراء العقلاء ، والأوّليّات لها واقع خارجيّ.

الثالث : أنّ القضيّة التأديبيّة لا يجب أن يحكم بها كلّ عاقل لو خلّي ونفسه ، ولم يتأدّب بقبولها والاعتراف بها ، كما قال الشيخ الرئيس على ما نقلناه من عبارته فيما سبق في الأمر الثاني ، وليس كذلك القضيّة الأوّليّة التي يكفي تصوّر طرفيها في الحكم ، فإنّه لا بدّ ألاّ يشكّ عاقل في الحكم بها لأوّل وهلة.

٢. ومن أدلّتهم على إنكار الحسن والقبح العقليّين أن قالوا : إنّه لو كان ذلك عقليّا لما اختلف حسن الأشياء وقبحها باختلاف الوجوه والاعتبارات ، كالصدق ؛ إذ يكون مرّة ممدوحا عليه وأخرى مذموما عليه إذا كان فيه ضرر كبير. وكذلك الكذب بالعكس يكون [مرّة] مذموما عليه و [أخرى] ممدوحا عليه إذا كان فيه نفع كبير ؛ كالضرب والقيام والقعود ونحوها ممّا يختلف حسنه وقبحه (١).

والجواب عن هذا الدليل وأشباهه يظهر ممّا ذكرناه من أنّ حسن الأشياء وقبحها على أنحاء ثلاثة ، فما كان ذاتيّا لا يقع فيه اختلاف ؛ فإنّ العدل بما هو عدل لا يكون قبيحا أبدا ، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسنا أبدا ، أي إنّه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح ، وما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم.

وأمّا : ما كان عرضيّا فإنّه يختلف بالوجوه والاعتبارات ، فمثلا الصدق إن دخل تحت عنوان العدل كان ممدوحا ، وإن دخل تحت عنوان الظلم كان قبيحا. وكذلك الكذب وما ذكر من الأمثلة.

والخلاصة أنّ العدليّة لا يقولون بأنّ جميع الأشياء لا بدّ أن تتّصف بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا ، حتّى يلزم ما ذكر من الإشكال.

٣. وقد استدلّ العدليّة على مذهبهم بما خلاصته «أنّه من المعلوم ضرورة حسن الإحسان وقبح الظلم عند كلّ عاقل من غير اعتبار شرع ، فإنّ ذلك يدركه حتّى منكر الشرائع» (٢).

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ : ٢٨٤ ؛ شرح التجريد للقوشجيّ : ٣٣٩.

(٢) كشف المراد : ٣٠٣ ، مفتاح الباب : ١٥٣.

٢٤٠