اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

ـ مثلا ـ إلى ماء دجلة أو الفرات ، فالحقّ أنّه لا أثر لهذا الانصراف في ظهور اللفظ في إطلاقه ، فلا يمنع من التمسّك بأصالة الإطلاق ؛ لأنّ هذا الانصراف قد يجتمع مع القطع بعدم إرادة المقيّد بخصوصه من اللفظ. ولذا يسمّى هذا الانصراف باسم «الانصراف البدويّ» ؛ لزواله عند التأمّل ومراجعة الذهن.

وهذا كلّه واضح لا ريب فيه. وإنّما الشأن في تشخيص الانصراف أنّه من أيّ النحوين ، فقد يصعب التمييز أحيانا بينهما للاختلاط على الإنسان في منشأ هذا الانصراف. وما أسهل دعوى الانصراف على لسان غير المتثبّت ، وقد لا يسهل إقامة الدليل على أنّه من أيّ نوع.

فعلى الفقيه أن يتثبّت في مواضع دعوى الانصراف ، وهو يحتاج إلى ذوق عال وسليقة مستقيمة. وقلّما تخلو آية كريمة أو حديث شريف في مسألة فقهيّة عن انصرافات تدّعى. وهنا تظهر قيمة التضلّع باللغة وفقهها وآدابها. وهو باب يكثر الابتلاء به ، وله الأثر الكبير في استنباط الأحكام من أدلّتها.

ألا ترى أنّ المسح في الآيتين ينصرف إلى المسح باليد ، وكون هذا الانصراف مستندا إلى اللفظ لا شكّ فيه ، وينصرف أيضا إلى المسح بخصوص باطن اليد. ولكن قد يشكّ في كون هذا الانصراف مستندا إلى اللفظ ؛ فإنّه غير بعيد أنّه ناشئ من تعارف المسح بباطن اليد لسهولته ؛ ولأنّه مقتضى طبع الإنسان في مسحه وليس له علاقة باللفظ. ولذا إنّ جملة من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر اليد عند تعذّر المسح بباطنها تمسّكا بإطلاق الآية (١) ، ولا معنى للتمسّك بالإطلاق لو كان للّفظ ظهور في المقيّد. وأمّا عدم تجويزهم للمسح بظاهر اليد عند الاختيار فلعلّه للاحتياط ؛ إذ إنّ المسح بالباطن هو القدر المتيقّن ، والمفروض حصول الشكّ في كون هذا الانصراف بدويّا ، فلا يطمأنّ كلّ الاطمئنان بالتمسّك بالإطلاق عند الاختيار ، وطريق النجاة هو الاحتياط بالمسح بالباطن.

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ٥ : ١٨٣ ، مستمسك العروة ٤ : ٤٠٤.

٢٠١

تمرينات (٢٩)

التمرين الأوّل

١. ما هي مقدّمات الحكمة؟

٢. ما الأصل العقلائي فيما إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أو الإهمال؟

٣. بيّن ما ذهب إليه المحقّق الخراساني في بيان مقدّمات الحكمة تحقيقا.

٤. هل انصراف الذهن إلى بعض مصاديق معناه أو بعض أصنافه يمنع من التمسّك بالإطلاق وإن تمّت مقدّمات الحكمة؟

التمرين الثاني

١. ما هي الأقوال في مقدّمات الحكمة؟

٢٠٢

المسألة السادسة : المطلق والمقيّد المتنافيان

معنى التنافي بين المطلق والمقيّد أنّ التكليف في المطلق لا يجتمع مع التكليف في المقيّد مع فرض المحافظة على ظهورهما معا ، أي أنّهما يتكاذبان في ظهورهما ، مثل قول الطبيب مثلا : «اشرب لبنا» ، ثمّ يقول : «اشرب لبنا حلوا» ، وظاهر الثاني تعيين شرب الحلو منه ، وظاهر الأوّل جواز شرب غير الحلو حسب إطلاقه.

وإنّما يتحقّق التنافي بين المطلق والمقيّد إذا كان التكليف فيهما واحدا ، كالمثال المتقدّم ، فلا يتنافيان لو كان التكليف في أحدهما معلّقا على شيء وفي الآخر معلّقا على شيء آخر ، كما إذا قال الطبيب في المثال : «إذا أكلت فاشرب لبنا ، وعند الاستيقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا». وكذلك لا يتنافيان لو كان التكليف في المطلق إلزاميّا ، وفي المقيّد على نحو الاستحباب ، ففي المثال لو وجب أصل شرب اللبن فإنّه لا ينافيه رجحان الحلو منه باعتبار أنّه أحد أفراد الواجب. وكذا لا يتنافيان لو فهم من التكليف في المقيّد أنّه تكليف في وجود ثان غير المطلوب من التكليف الأوّل ، كما إذا فهم من المقيّد في المثال طلب شرب اللبن الحلو ثانيا بعد شرب لبن ما.

إذا فهمت ما سقناه لك من معنى التنافي ، فنقول : لو ورد في لسان الشارع مطلق ومقيّد متنافيان ، سواء تقدّم أو تأخّر ، وسواء كان مجيء المتأخّر بعد وقت العمل بالمتقدّم أو قبله ، فإنّه لا بدّ من الجمع بينهما إمّا بالتصرّف في ظهور المطلق فيحمل على المقيّد ، أو بالتصرّف في المقيّد على وجه لا ينافي الإطلاق ، فيبقى ظهور المطلق على حاله.

وينبغي البحث هنا في أنّه أيّ التصرّفين أولى بالأخذ؟ فنقول : هذا يختلف باختلاف الصور فيهما ، فإنّ المطلق والمقيّد إمّا أن يكونا مختلفين في الإثبات أو النفي ، وإمّا أن يكونا متّفقين.

الأوّل : أن يكونا مختلفين ، فلا شكّ حينئذ في حمل المطلق على المقيّد ؛ لأنّ المقيّد يكون قرينة على المطلق ، فإذا قال : «اشرب اللبن» ، ثمّ قال : «لا تشرب اللبن الحامض» ، فإنّه يفهم منه أنّ المطلوب هو شرب اللبن غير الحامض. وهذا لا يفرق فيه بين أن يكون

٢٠٣

إطلاق المطلق بدليّا ، نحو قوله : «أعتق رقبة» ، وبين أن يكون شموليّا مثل قوله : «في الغنم زكاة» ، المقيّد بقوله : «ليس في الغنم المعلوفة زكاة».

الثاني : أن يكونا متّفقين ، وله مقامان : المقام الأوّل : أن يكون الإطلاق بدليّا ، والمقام الثاني : أن يكون شموليّا.

فإن كان الإطلاق بدليّا ؛ فإنّ الأمر فيه يدور بين التصرّف في ظاهر المطلق بحمله على المقيّد ، وبين التصرّف في ظاهر المقيّد. والمعروف (١) أنّ التصرّف الأوّل هو الأولى ؛ لأنّه لو كانا مثبتين مثل قوله : «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة» فإنّ المقيّد ظاهر في أنّ الأمر فيه للوجوب التعيينيّ ، فالتصرّف فيه إمّا بحمله على الاستحباب ـ أي أنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها باعتبار أنّها أفضل الأفراد ـ أو بحمله على الوجوب التخييريّ ، أي إنّ الأمر بعتق الرقبة المؤمنة باعتبار أنّه أحد أفراد الواجب ، لا لخصوصيّة فيها حتّى خصوصيّة الأفضليّة.

وهذان التصرّفان وإن كانا ممكنين ، لكن ظهور المقيّد في الوجوب التعيينيّ مقدّم على ظهور المطلق في إطلاقه (٢) ؛ لأنّ المقيّد صالح لأن يكون قرينة للمطلق ، ولعلّ المتكلّم اعتمد عليه في بيان مرامه ، ولو في وقت آخر ، لا سيّما مع احتمال أنّ المطلق الوارد كان محفوفا بقرينة متّصلة غابت عنّا ، فيكون المقيّد كاشفا عنها.

وإن كان الإطلاق شموليّا ، مثل قوله : «في الغنم زكاة» وقوله : «في الغنم السائمة زكاة» ، فلا تتحقّق المنافاة بينهما حتّى يجب التصرّف في أحدهما ؛ لأنّ وجوب الزكاة في الغنم السائمة بمقتضى الجملة الثانية لا ينافي وجوب الزكاة في غير السائمة ، إلاّ على القول بدلالة الوصف على المفهوم ، وقد عرفت أنّه لا مفهوم للوصف. وعليه فلا منافاة بين الجملتين لنرفع بها اليد عن إطلاق المطلق.

__________________

(١) كما في كفاية الأصول : ٢٩٠.

(٢) هكذا في كفاية الأصول : ٢٩١.

٢٠٤

تمرينات (٣٠)

١. ما معنى التنافي بين المطلق والمقيّد؟

٢. بيّن صور التنافي بين المطلق والمقيّد ، واذكر حكم كلّ منها.

٣. بيّن وجه عدم التنافي في الجملتين التاليتين :

ألف) قال الطبيب : «إذا أكلت فاشرب لبنا» ثمّ قال : «عند الاستيقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا».

ب) قال : «في الغنم زكاة» ثمّ قال : «في الغنم السائمة زكاة».

٢٠٥

الباب السابع

المجمل والمبيّن

وفيه مسألتان :

١. معنى المجمل والمبيّن

عرّفوا المجمل اصطلاحا بـ «أنّه ما لم تتّضح دلالته (١)» ، ويقابله المبيّن. وقد ناقشوا هذا التعريف بوجوه لا طائل في ذكرها. والمقصود من المجمل ـ على كلّ حال ـ ما جهل فيه مراد المتكلّم ومقصوده إذا كان لفظا ، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده إذا كان فعلا ؛ ومرجع ذلك إلى أنّ المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له (٢) ، وعليه يكون المبيّن ما كان له ظاهر يدلّ على مقصود قائله أو فاعله على وجه الظنّ أو اليقين. فالمبيّن يشمل الظاهر والنصّ معا.

ومن هذا البيان نعرف أنّ المجمل يشمل اللفظ والفعل اصطلاحا ، وإن قيل : إنّ المجمل اصطلاحا مختصّ بالألفاظ ، ومن باب التسامح يطلق على الفعل ، ومعنى كون الفعل مجملا أن يجهل وجه وقوعه (٣) ، كما لو توضّأ الإمام ـ مثلا ـ بحضور واحد يتّقي منه أو يحتمل أنّه يتّقيه ، فيحتمل أنّ وضوءه وقع على وجه التقيّة ، فلا يستكشف مشروعيّة الوضوء على الكيفيّة التي وقع عليها ، ويحتمل أنّه وقع على وجه الامتثال للأمر الواقعيّ فيستكشف منه

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ٣٣٢ ؛ الفصول الغرويّة : ٢٢٣ ؛ معالم الدين : ١٧٠.

(٢) كما في كفاية الأصول : ٢٩٣.

(٣) الفصول الغرويّة : ٢٢٤ ؛ مطارح الأنظار : ٢٢٥.

٢٠٦

مشروعيّته. ومثل ما إذا فعل الإمام شيئا في الصلاة كجلسة الاستراحة ـ مثلا ـ فلا يدرى أنّ فعله كان على وجه الوجوب أو الاستحباب ، فمن هذه الناحية يكون مجملا ، وإن كان من ناحية دلالته على جواز الفعل في مقابل الحرمة مبيّنا.

وأمّا اللفظ : فإجماله يكون لأسباب كثيرة قد يتعذّر إحصاؤها (١) ؛ فإذا كان مفردا فقد يكون إجماله لكونه لفظا مشتركا ولا قرينة على أحد معانيه ، كلفظ «عين» ، وكلمة «تضرب» المشتركة بين المخاطب والغائبة ، و «المختار» المشترك بين اسم الفاعل واسم المفعول.

وقد يكون إجماله لكونه مجازا ، أو لعدم معرفة عود الضمير فيه الذي هو من نوع «مغالطة المماراة» ، مثل قول القائل لمّا سئل عن أفضل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «من بنته في بيته» وكقول عقيل : «أمرني معاوية أن أسبّ عليّا. ألا فالعنوه! (٢)».

وقد يكون الإجمال لاختلال التركيب كقوله :

وما مثله في الناس إلاّ مملّكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه

وقد يكون الإجمال لوجود ما يصلح للقرينة ، كقوله (تعالى) : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (٣) الآية ، فإنّ هذا الوصف في الآية يدلّ على عدالة جميع من كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أصحابه ، إلاّ أنّ ذيل الآية (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٤) صالح لأن يكون قرينة على أنّ المراد بجملة «والّذين معه» بعضهم لا جميعهم ، فتصبح الآية مجملة من هذه الجهة.

وقد يكون الإجمال لكون المتكلّم في مقام الإهمال والإجمال ، إلى غير ذلك من موارد الإجمال ممّا لا فائدة كبيرة في إحصائه وتعداده هنا.

__________________

(١) وإن أردت إحصاء بعض أسبابها ، فراجع كتاب المنطق «للمؤلّف» ، ٣ : ٤٢١.

(٢) لم أجده في المصادر الحديثيّة ، بل الموجود في كتاب «الغدير» هو : «أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب ، فالعنوه» ، الغدير ١٠ : ٢٦١.

(٣) الفتح (٤٨) الآية : ٢٩.

(٤) الفتح (٤٨) الآية : ٢٩.

٢٠٧

ثمّ اللفظ قد يكون مجملا عند شخص ، مبيّنا عند شخص آخر ، ثمّ المبيّن قد يكون في نفسه مبيّنا ، وقد يكون مبيّنا بكلام آخر يوضح المقصود منه.

٢. المواضع التي وقع الشكّ في إجمالها

لكلّ من المجمل والمبيّن أمثلة من الآيات والروايات والكلام العربيّ لا حصر لها ، ولا تخفى على العارف بالكلام. إلاّ أنّ بعض المواضع قد وقع الشكّ في كونها مجملة أو مبيّنة ، والمتعارف عند الأصوليّين أن يذكروا بعض الأمثلة من ذلك لشحذ الذهن والتمرين ، ونحن نذكر بعضها اتّباعا لهم ولا تخلو من فائدة للطلاّب المبتدئين.

فمنها : قوله (تعالى) : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (١)).

فقد ذهب جماعة (٢) إلى أنّ الآية من المجمل المتشابه ، إمّا من جهة لفظ «القطع» باعتبار أنّه يطلق على الإبانة ، ويطلق على الجرح كما يقال لمن جرح يده بالسكين : «قطعها» ، كما يقال لمن أبانها كذلك. وإمّا من جهة لفظ «اليد» باعتبار أنّ «اليد» تطلق على العضو المعروف كلّه ، وعلى الكفّ إلى أصول الأصابع ، وعلى العضو إلى الزند ، وإلى المرفق ، فيقال ـ مثلا ـ : «تناولت بيدي» ، وإنّما تناول بالكفّ بل بالأنامل فقط.

والحقّ أنّها من ناحية لفظ «القطع» ليست مجملة ؛ لأنّ المتبادر من لفظ «القطع» هو الإبانة والفصل ، وإذا أطلق على الجرح فباعتبار أنّه أبان قسما من اليد ، فتكون المسامحة في لفظ «اليد» عند وجود القرينة ، لا أنّ القطع استعمل في مفهوم الجرح ؛ فيكون المراد في المثال من اليد بعضها ، كما تقول : «تناولت بيدي» وفي الحقيقة إنّما تناولت ببعضها.

وأمّا من ناحية «اليد» فإنّ الظاهر أنّ اللفظ ـ لو خلّي ونفسه ـ يستفاد منه إرادة تمام العضو المخصوص ، ولكنّه غير مراد يقينا في الآية ، فيتردّد بين المراتب العديدة من الأصابع إلى المرفق ؛ لأنّه بعد فرض عدم إرادة تمام العضو لم تكن ظاهرة في واحدة من

__________________

(١) المائدة (٥) الآية : ٣٨.

(٢) وهي بعض الحنفيّة على ما في إرشاد الفحول : ١٧٠. وذهب السيّد المرتضى إلى إجماله من جهة لفظ اليد.

راجع الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٣٥٠.

٢٠٨

هذه المراتب ، فتكون الآية مجملة في نفسها من هذه الناحية ، وإن كانت مبيّنة بالأحاديث عن آل البيت عليهم‌السلام الكاشفة عن إرادة القطع من أصول الأصابع.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب (١)» وأمثاله من المركّبات التي تشتمل على كلمة «لا» التي لنفي الجنس نحو : «لا صلاة إلاّ بطهور (٢)» ، و «لا بيع إلاّ في ملك (٣)» ، و «لا صلاة لمن جاره المسجد إلاّ في المسجد (٤)» ، و «لا غيبة لفاسق (٥)» ، و «لا جماعة في نافلة (٦)» ، ونحو ذلك.

فإنّ النفي في مثل هذه المركّبات موجّه ظاهرا لنفس الماهيّة والحقيقة ، وقالوا : إنّ إرادة نفي الماهيّة متعذّر فيها ، فلا بدّ أن يقدّر ـ بطريق المجاز ـ وصف للماهيّة هو المنفيّ حقيقة ، نحو : الصحّة ، والكمال ، والفضيلة ، والفائدة ، ونحو ذلك. ولمّا كان المجاز مردّدا بين عدّة معان ، كان الكلام مجملا ، ولا قرينة في نفس اللفظ تعيّن واحدا منها ، فإنّ نفي الصحّة ليس بأولى من نفي الكمال أو الفضيلة ، ولا نفي الكمال بأولى من نفي الفائدة ... وهكذا.

وأجاب بعضهم (٧) بأنّ هذا إنّما يتمّ إذا كانت ألفاظ العبادات والمعاملات موضوعة للأعمّ ، فلا يمكن فيها نفي الحقيقة.

وأمّا : إذا قلنا بالوضع للصحيح فلا يتعذّر نفي الحقيقة ، بل هو المتعيّن على الأكثر ، فلا إجمال.

وأمّا : في غير الألفاظ الشرعيّة مثل قولهم : «لا علم إلاّ بعمل» فمع عدم القرينة يكون

__________________

(١) هذا مفاد الروايات الواردة في باب وجوب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة. الوسائل ٤ : ٧٣٢ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٢) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث : ١ و ٦.

(٣) وهذا مستفاد من الروايات الواردة في باب اشتراط كون المبيع مملوكا. الوسائل ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

(٤) وهذا مفاد الروايات الدالّة على كراهة تأخّر جيران المسجد عنه. الوسائل ٣ : ٤٧٨ ، الباب ٢ من أبواب أحكام المسجد ؛ و ٥ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧ ، الباب ٢ من أبواب صلاة الجماعة.

(٥) بحار الأنوار ٧٥ : ٢٣٣.

(٦) الوسائل ٥ : ١٨٢ ، الباب ٧ من أبواب نافلة شهر رمضان.

(٧) وهو المحقّق القميّ في القوانين ١ : ٣٣٨.

٢٠٩

اللفظ مجملا ؛ إذ يتعذّر نفي الحقيقة.

أقول : والصحيح في توجيه البحث أن يقال : إنّ «لا» في هذه المركّبات لنفي الجنس ، فهي تحتاج إلى اسم وخبر على حسب ما تقتضيه القواعد النحويّة ؛ ولكنّ الخبر محذوف حتّى في مثل : «لا غيبة لفاسق» ، فإنّ «لفاسق» ظرف مستقرّ متعلّق بالخبر المحذوف ؛ وهذا الخبر المحذوف لا بدّ له من قرينة ، سواء كان كلمة «موجود» أو «صحيح» أو «مفيد» أو «كامل» أو «نافع» أو نحوها ، وليس هو مجازا في واحد من هذه الأمور التي يصحّ تقديرها.

والقصد أنّه سواء كان المراد نفي الحقيقة أو نفي الصحّة ونحوها ؛ فإنّه لا بدّ من تقدير خبر محذوف بقرينة ، وإنّما يكون مجملا إذا تجرّد عن القرينة ؛ ولكنّ الظاهر أنّ القرينة حاصلة على الأكثر ، وهي القرينة العامّة في مثله ؛ فإنّ الظاهر من نفي الجنس أنّ المحذوف فيه هو لفظ «موجود» وما بمعناه من نحو لفظ «ثابت» و «متحقّق».

فإذا تعذّر تقدير هذا اللفظ العامّ لأيّ سبب كان ، فإنّ هناك قرينة موجودة غالبا وهي مناسبة الحكم والموضوع ؛ فإنّها تقتضي غالبا تقدير لفظ خاصّ مناسب مثل «لا علم إلاّ بعمل» ؛ فإنّ المفهوم منه أنّه لا علم نافع (١) ، والمفهوم من نحو : «لا غيبة لفاسق» لا غيبة محرّمة ، والمفهوم من نحو : «لا رضاع بعد فطام (٢)» لا رضاع سائغ ، ومن نحو : «لا جماعة في نافلة (٣)» لا جماعة مشروعة ، ومن نحو : «لا إقرار لمن أقرّ بنفسه على الزنا» لا إقرار نافذ ومعتبر ، ومن نحو : «لا صلاة إلاّ بطهور» ـ بناء على الوضع للأعمّ ـ لا صلاة صحيحة ، ومن نحو : «لا صلاة لحاقن (٤)» لا صلاة كاملة ـ بناء على قيام الدليل على أنّ الحاقن لا تفسد صلاته ـ ... وهكذا.

وهذه القرينة ـ وهي قرينة مناسبة الحكم للموضوع ـ لا تقع تحت ضابطة معيّنة ، ولكنّها

__________________

(١) يجوز في نعت اسم «لا» التي لنفي الجنس الرفع والنصب.

(٢) الكافي ٥ : ٤٤٣.

(٣) الوسائل ٥ : ١٨٢ ، الباب ٧ من ابواب نافلة شهر رمضان.

(٤) الوسائل ٤ : ١٢٥٤ ، الباب ٨ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث : ٢ و ٥.

٢١٠

موجودة على الأكثر ، ويحتاج إدراكها إلى ذوق سليم.

تنبيه وتحقيق

ليس من البعيد أن يقال : إنّ المحذوف في جميع مواقع «لا» التي هي لنفي الجنس هو كلمة «موجود» أو ما هو بمعناها ، غاية الأمر أنّه في بعض الموارد تقوم القرينة على عدم إرادة نفي الوجود والتحقّق حقيقة ، فلا بدّ حينئذ من حملها على نفي التحقّق ادّعاء وتنزيلا ، بأن ننزّل الموجود منزلة المعدوم باعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فيه أو المتوقّع منه ـ يعني يدّعى أنّ الموجود الخارجيّ ليس من أفراد الجنس الذي تعلّق به النفي تنزيلا ، وذلك لعدم حصول الأثر المطلوب منه ـ ، فمثل «لا علم إلاّ بعمل» معناه أنّ العلم بلا عمل كلا علم ؛ إذ لم تحصل الفائدة المترقّبة منه ، ومثل «لا إقرار لمن أقرّ بنفسه على الزنا» معناه أنّ إقراره كلا إقرار باعتبار عدم نفوذه عليه ، ومثل «لا سهو لمن كثر عليه السهو» معناه أنّ سهوه كلا سهو باعتبار عدم ترتّب آثار السهو عليه من سجود أو صلاة أو بطلان الصّلاة.

هذا إذا كان النفي من جهة تكوين الشيء.

وأمّا : إذا كان النفي راجعا إلى عالم التشريع فإن كان النفي متعلّقا بالفعل ، دلّ نفيه على عدم ثبوت حكمه في الشريعة ، مثل «لا رهبانيّة في الإسلام (١)» فإنّ معنى عدم ثبوتها عدم تشريع الرهبانيّة وأنّه غير مرخّص بها ، ومثل «لا غيبة لفاسق» ، فإنّ معنى عدم ثبوتها عدم حرمة غيبة الفاسق ، وكذلك نحو : [«لا نجش في الإسلام»] «ولا غشّ في الإسلام» (٢) ، و «لا عمل في الصّلاة» (٣) ، و «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ (٤)» ، و «لا جماعة في نافلة» ، فإنّ كلّ ذلك معناه عدم مشروعيّة هذه الأفعال.

وإن كان النفي متعلّقا بعنوان يصحّ انطباقه على الحكم ، فيدلّ النفي على عدم تشريع

__________________

(١) بحار الأنوار ٨ : ١٧٠ و ١٤ : ٢٧٩.

(٢) هذا مفاد الروايات. الوسائل ٢ : ٢٠٨ ، الباب ٨٦ من أبواب ما يكتسب به.

(٣) لم أجدها في الروايات.

(٤) قال الله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ....) البقرة (٢) الآية : ١٩٧.

٢١١

حكم ينطبق عليه هذا العنوان ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا حرج في الدين (١)» و «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (٢)».

وعلى كلّ حال ، فإنّ مثل هذه الجمل والمركّبات ليست (٣) مجملة في حدّ أنفسها ، وقد يتّفق لها أن تكون مجملة إذا جرّدت عن القرينة التي تعيّن أنّها لنفي تحقّق الماهيّة حقيقة أو لنفيها ادّعاء وتنزيلا.

ومنها : مثل قوله (تعالى) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (٤)) وقوله (تعالى) : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ (٥)) ممّا أسند الحكم فيه ـ كالتحريم والتحليل ـ إلى العين.

فقد قال بعضهم (٦) بإجمالها ؛ نظرا إلى أنّ إسناد التحريم والتحليل لا يصحّ إلاّ إلى الأفعال الاختياريّة. أمّا : الأعيان فلا معنى لتعلّق الحكم بها ، بل يستحيل. ولذا تسمّى الأعيان «موضوعات للأحكام» ، كما أنّ الأفعال تسمّى «متعلّقات».

وعليه ، فلا بدّ أن يقدّر في مثل هذه المركّبات فعل تصحّ إضافته إلى العين المذكورة في الجملة ، ويصحّ أن يكون متعلّقا للحكم ، ففي مثل الآية الأولى يقدّر كلمة «نكاح» مثلا ، وفي الثانية «أكل» ، وفي مثل (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها (٧)) يقدّر «ركوبها» ، وفي مثل (النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ (٨)) يقدّر «قتلها» ... وهكذا.

ولكنّ التركيب في نفسه ليس فيه قرينة على تعيين نوع المحذوف ، فيكون في حدّ نفسه مجملا ، فلا يدرى فيه هل إنّ المقدّر كلّ فعل تصحّ إضافته إلى العين المذكورة في

__________________

(١) لم أجدها في الكتب الروائيّة بهذه العبارة. بل هي مفاد قوله (تعالى) : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.) الحجّ (٢٢) الآية : ٧٨.

(٢) راجع التعليقة (١) من الصفحة : ١٤٦.

(٣) التأنيث باعتبار ما أضيف إليه المثل.

(٤) النساء (٤) الآية : ٢٣.

(٥) المائدة (٥) الآية : ١.

(٦) وهو الطبرسيّ في مجمع البيان ٣ : ٤٦ و ٢٣٤.

(٧) الأنعام (٦) الآية : ١٣٨.

(٨) الفرقان (٢٥) الآية : ٦٨.

٢١٢

الجملة ، ويصحّ تعلّق الحكم به ، أو أنّ المقدّر فعل مخصوص كما قدّرناه في الأمثلة المتقدّمة؟

والصحيح في هذا الباب أن يقال : إنّ نفس التركيب ـ مع قطع النظر عن ملاحظة الموضوع والحكم وعن أيّة قرينة خارجيّة ـ هو في نفسه يقتضي الإجمال لو لا أنّ الإطلاق يقتضي تقدير كلّ فعل صالح للتقدير ، إلاّ إذا قامت قرينة خاصّة على تعيين نوع الفعل المقدّر. وغالبا لا يخلو مثل هذا التركيب من وجود القرينة الخاصّة ولو قرينة مناسبة الحكم والموضوع. ويشهد لذلك أنّا لا نتردّد في تقدير الفعل المخصوص في الأمثلة المذكورة في صدر البحث ومثيلاتها ، وما ذلك إلاّ لما قلناه من وجود القرينة الخاصّة ولو مناسبة الحكم والموضوع.

ويشبه أن يكون هذا الباب نظير باب «لا» المحذوف خبرها.

ألهمنا الله (تعالى) الصواب ، ودفع عنّا الشبهات ، وهدانا الصراط المستقيم.

تمرينات (٣١)

١. ما تعريف المجمل والمبيّن؟

٢. اذكر خمسة أسباب من أسباب إجمال اللفظ ، ومثّل لكلّ منها.

٣. الإجمال في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) من جهة لفظ «اليد» أو من جهة لفظ «القطع»؟

٤. ما المراد من قرينة مناسبة الحكم والموضوع؟

٥. ما هو المقدّر فيما يلي؟

أ) قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ).

ب) قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

ج) قوله تعالى : (أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها).

د) قوله تعالى : (النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ).

٢١٣
٢١٤

المقصد الثاني

الملازمات العقليّة

٢١٥
٢١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

من الأدلّة على الحكم الشرعيّ عند الأصوليّين الإماميّة (١) «العقل» ، إذ يذكرون أنّ الأدلّة على الأحكام الشرعيّة الفرعيّة أربعة : الكتاب ، والسنّة ، والإجماع ، والعقل.

وسيأتي في «مباحث الحجّة» وجه حجيّة العقل (٢).

أمّا هنا فإنّما يبحث عن تشخيص صغريات ما يحكم به العقل المفروض أنّه حجّة ، أي يبحث هنا عن مصاديق أحكام العقل الذي هو دليل على الحكم الشرعيّ. وهذا نظير البحث في المقصد الأوّل (مباحث الألفاظ) عن مصاديق أصالة الظهور التي هي حجّة ، وحجّيتها إنّما يبحث عنها في مباحث الحجّة.

وتوضيح ذلك أنّ هنا مسألتين :

١. إنّه إذا حكم العقل على شيء أنّه حسن شرعا أو يلزم فعله شرعا ، أو يحكم على شيء أنّه قبيح شرعا أو يلزم تركه شرعا بأيّ طريق من الطرق التي سيأتي بيانها (٣) ، هل يثبت بهذا الحكم العقليّ حكم الشرع؟ أي إنّه من حكم العقل هذا هل يستكشف أنّ الشارع واقعا قد حكم بذلك؟ ومرجع ذلك إلى أنّ حكم العقل هذا هل هو حجّة أو لا؟ وهذا البحث ـ كما قلنا ـ إنّما يذكر في مباحث الحجّة ، وليس هنا موقعه. وسيأتي بيان إمكان

__________________

(١) بل عند بعض العامّة.

(٢) يأتي في الباب الرابع من المقصد الثالث.

(٣) يأتي في الصفحة : ٢٣٣ ـ ٢٣٧.

٢١٧

حصول القطع بالحكم الشرعيّ من غير الكتاب والسنّة (١) ، وإذا حصل ، كيف يكون حجّة؟

٢. إنّه هل للعقل أن يدرك بطريق من الطرق أنّ هذا الشيء مثلا حسن شرعا أو قبيح أو يلزم فعله أو تركه عند الشارع؟ يعني أنّ العقل بعد إدراكه لحسن الأفعال أو لزومها ، ولقبح الأشياء أو لزوم تركها في أنفسها بأيّ طريق من الطرق ... هل يدرك مع ذلك أنّها كذلك عند الشارع؟

وهذا المقصد الثاني ـ الذي سمّيناه : «بحث الملازمات العقليّة» ـ عقدناه لأجل بيان ذلك في مسائل على النحو الذي سيأتى إن شاء الله (تعالى) ، ويكون فيه تشخيص صغريات حجيّة العقل المبحوث عنها في المقصد الثالث (مباحث الحجّة).

ثمّ لا بدّ ـ قبل تشخيص هذه الصغريات في مسائل ـ من ذكر أمرين يتعلّقان بالأحكام العقليّة مقدّمة للبحث ، نستعين بها على المقصود ، وهما :

١. أقسام الدليل العقليّ (٢)

إنّ الدليل العقليّ ـ أو فقل : ما يحكم به العقل الذي يثبت به الحكم الشرعيّ ـ ينقسم إلى قسمين : ما يستقلّ به العقل ، وما لا يستقلّ به.

وبتعبير آخر نقول : إنّ الأحكام العقليّة على قسمين : مستقلات ، وغير مستقلاّت.

وهذه التعبيرات كثيرا ما تجري على ألسنة الأصوليّين ويقصدون بها المعنى الذي سنوضّحه. وإن كان قد يقولون : «إنّ هذا ممّا يستقلّ به العقل» ولا يقصدون هذا المعنى ، بل يقصدون به معنى آخر ، وهو ما يحكم به العقل بالبداهة وإن كان ليس من المستقلاّت العقليّة بالمعنى الآتي.

__________________

(١) يأتي في الصفحة الآتية.

(٢) قد يستشكل في إطلاق اسم الدليل على حكم العقل كما يطلق على الكتاب والسنّة والاجماع. وسيأتى إن شاء الله (تعالى) في مباحث الحجّة معنى الدليل والحجّة باصطلاح الأصوليّين وكيف يطلق باصطلاحهم على حكم العقل ، أي القطع * ـ منه رحمه‌الله ـ.

__________________

* يأتي في المبحث الثاني من المباحث المذكورة في مقدّمة المقصد الثالث.

٢١٨

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذا التقسيم يحتاج إلى شيء من التوضيح ، فنقول :

إنّ العلم بالحكم الشرعيّ ، كسائر العلوم لا بدّ له من علّة ؛ لاستحالة وجود الممكن بلا علّة. وعلّة العلم التصديقيّ لا بدّ أن تكون من أحد أنواع الحجّة الثلاثة : القياس ، أو الاستقراء ، أو التمثيل. وليس الاستقراء ممّا يثبت به الحكم الشرعيّ ، وهو واضح. والتمثيل ليس بحجّة عندنا ؛ لأنّه هو القياس المصطلح عليه عند الأصوليّين الذي هو ليس من مذهبنا.

فيتعيّن أن تكون العلّة للعلم بالحكم الشرعيّ هي خصوص القياس باصطلاح المناطقة ، وإذا كان كذلك فإنّ كلّ قياس لا بدّ أن يتألّف من مقدّمتين ، سواء كان استثنائيّا أو اقترانيّا. وهاتان المقدّمتان قد تكونان معا غير عقليّتين ، فالدليل الذي يتألّف منهما يسمّى «دليلا شرعيّا» في قبال الدليل العقليّ. ولا كلام لنا في هذا القسم هنا. وقد تكون كلّ منهما أو إحداهما عقليّة ـ أي ممّا يحكم العقل به من غير اعتماد على حكم شرعيّ ـ ، فإنّ الدليل الذي يتألّف منهما يسمّى «عقليّا» ، وهو على قسمين :

١. أن تكون المقدّمتان معا عقليّتين ، كحكم العقل بحسن شيء أو قبحه ، ثمّ حكمه بأنّه كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع على طبقه. وهو القسم الأوّل من الدليل العقليّ ، وهو قسم «المستقلاّت العقليّة».

٢. أن تكون إحدى المقدّمتين غير عقليّة والأخرى عقليّة ، كحكم العقل بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها ، فهذه مقدّمة عقليّة صرفة ، وينضمّ إليها حكم الشرع بوجوب ذي المقدّمة. وانّما يسمّى الدليل الذي يتألّف منهما «عقليّا» لأجل تغليب جانب المقدّمة العقليّة. وهذا هو القسم الثاني من الدليل العقليّ ، وهو قسم «غير المستقلاّت العقليّة». وانّما سمّي بذلك ؛ لأنّه ـ من الواضح ـ أنّ العقل لم يستقلّ وحده في الوصول إلى النتيجة ، بل استعان بحكم الشرع في إحدى مقدّمتي القياس.

٢. لما ذا سمّيت هذه المباحث بالملازمات العقليّة؟

المراد بالملازمة العقليّة هنا ، هو حكم العقل بالملازمة بين حكم الشرع وبين أمر آخر ، سواء كان حكما عقليّا أو شرعيّا أو غيرهما ، مثل : الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراريّ

٢١٩

الذي يلزمه عقلا سقوط الأمر الاختياريّ لو زال الاضطرار في الوقت أو خارجه على ما سيأتي ذلك في مبحث «الإجزاء» (١).

وقد يخفى على الطالب لأوّل وهلة الوجه في تسمية مباحث الأحكام العقليّة بـ «الملازمات العقليّة» ، لا سيّما فيما يتعلّق بالمستقلاّت العقليّة ، ولذلك وجب علينا أن نوضّح ذلك ، فنقول :

١. أمّا في المستقلاّت العقليّة : فيظهر بعد بيان المقدّمتين اللتين يتألّف منهما الدليل العقليّ ، وهما ـ مثلا ـ :

الأولى : «العدل يحسن فعله عقلا». وهذه قضيّة عقليّة صرفة هي صغرى القياس. وهي من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء التي تسمّى «الآراء المحمودة». وهذه قضيّة تدخل في مباحث علم الكلام عادة ، وإذا بحث عنها هنا فمن باب المقدّمة للبحث عن الكبرى الآتية.

الثانية : «كلّ ما يحسن فعله عقلا يحسن فعله شرعا». وهذه قضيّة عقليّة أيضا يستدلّ عليها بما سيأتي في محلّه ، وهي كبرى للقياس ، ومضمونها الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وهذه الملازمة مأخوذة من دليل عقليّ ، فهي ملازمة عقليّة ، وما يبحث عنه في علم الأصول فهو هذه الملازمة ، ومن أجل هذه الملازمة تدخل المستقلاّت العقليّة في الملازمات العقليّة.

ولا ينبغي أن يتوهّم الطالب أنّ هذه الكبرى معناها حجّيّة العقل ، بل نتيجة هاتين المقدّمتين هكذا : «العدل يحسن فعله شرعا» ، وهذا الاستنتاج بدليل عقليّ. وقد ينكر المنكر أنّه يلزم شرعا ترتيب الأثر على هذا الاستنتاج والاستكشاف (٢) ، وسنذكر إن شاء الله (تعالى) في حينه الوجه في هذا الانكار الذي مرجعه إلى إنكار حجّيّة العقل (٣).

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٢٥٢.

(٢) أنكر الملازمة بعض الأخباريّين كالسيّد الصدر على ما حكاه الشيخ في فرائد الأصول ١ : ١٩ ، ومطارح الأنظار : ٢٣٢. وأنكرها أيضا صاحب الفصول في الفصول الغرويّة : ٢٣٧.

(٣) يأتي في الصفحة : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

٢٢٠