اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

٥. هل يسري إجمال المخصّص إلى العامّ؟

كان البحث السابق ـ وهو «حجّية العامّ في الباقي» ـ في فرض أنّ الخاصّ مبيّن لا إجمال فيه ، وإنّما الشكّ في تخصيص غيره ممّا علم خروجه من الخاصّ.

وعلينا الآن أن نبحث عن حجّيّة العامّ في فرض إجمال الخاصّ. والإجمال على نحوين :

١. «الشبهة المفهوميّة» : وهي في فرض الشكّ في نفس مفهوم الخاصّ بأن كان مجملا ، نحو قوله عليه‌السلام : «كلّ ماء طاهر إلاّ ما تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه» (١) الذي يشكّ فيه أنّ المراد من التغيّر خصوص التغيّر الحسّيّ ، أو ما يشمل التغيّر التقديريّ. ونحو قولنا : «أحسن الظنّ إلاّ بخالد» الذي يشكّ فيه أنّ المراد من خالد هو خالد بن بكر أو خالد بن سعد ، مثلا.

٢. «الشبهة المصداقيّة» : وهي في فرض الشكّ في دخول فرد من أفراد العامّ في الخاصّ مع وضوح مفهوم الخاصّ ، بأن كان مبيّنا لا إجمال فيه ، كما إذا شكّ في مثال الماء السابق أنّ ماء معيّنا أتغيّر بالنجاسة فدخل في حكم الخاصّ أم لم يتغيّر فهو لا يزال باقيا على طهارته؟

والكلام في الشبهتين يختلف اختلافا بيّنا. فلنفرد لكلّ منهما بحثا مستقلاّ.

أ) الشبهة المفهوميّة

الدوران في الشبهة المفهوميّة تارة يكون بين الأقلّ والأكثر ، كالمثال الأوّل ، فإنّ الأمر دائر فيه بين تخصيص خصوص التغيّر الحسّيّ أو يعمّ التقديريّ ، فالأقلّ هو التغيّر الحسّيّ ، وهو المتيقّن ، والأكثر هو الأعمّ منه ومن التقديريّ. وأخرى ، يكون بين المتباينين ، كالمثال الثاني ، فإنّ الأمر دائر فيه بين تخصيص خالد بن بكر وبين خالد بن سعد ، ولا قدر متيقّن في البين.

__________________

(١) هذا مفاد الأحاديث الواردة في باب نجاسة الماء بتغيّر أحد أوصافه. راجع الوسائل ١ : ١٠٢ ـ ١٠٧ ، الباب ٣ و ٥ من أبواب الماء المطلق.

١٦١

ثمّ على كلّ من التقديرين ، إمّا أن يكون المخصّص متّصلا أو منفصلا. والحكم في المقام يختلف باختلاف هذه الأقسام الأربعة في الجملة ، فلنذكرها بالتفصيل :

١ ، ٢. فيما إذا كان المخصّص متّصلا ، سواء كان الدوران فيه بين الأقلّ والأكثر أو بين المتباينين ؛ فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال المخصّص يسري إلى العامّ ، أي إنّه لا يمكن التمسّك بأصالة العموم لإدخال المشكوك في حكم العامّ.

وهو واضح على ما ذكرناه سابقا من أنّ المخصّص المتّصل من نوع قرينة الكلام المتّصلة ، فلا ينعقد للعامّ ظهور إلاّ فيما عدا الخاصّ ، فإذا كان الخاصّ مجملا سرى إجماله إلى العامّ ؛ لأنّ ما عدا الخاصّ غير معلوم ، فلا ينعقد للعامّ ظهور فيها لم يعلم خروجه عن عنوان الخاصّ.

٣. في الدوران بين الأقلّ والأكثر إذا كان المخصّص منفصلا ، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ لا يسري إلى العامّ ، أي إنّه يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإدخال ما عدا الأقلّ في حكم العامّ.

والحجّة فيه واضحة بناء على ما تقدّم في الفصل الثاني (١) من أنّ العامّ المخصّص بالمنفصل ينعقد له ظهور في العموم ، وإذا كان يقدّم عليه الخاصّ فمن باب تقديم أقوى الحجّتين ؛ فإذا كان الخاصّ مجملا في الزائد على القدر المتيقّن منه ، فلا يكون حجّة في الزائد ؛ لأنّه ـ حسب الفرض ـ مجمل لا ظهور له فيه ، وإنّما تنحصر حجّيّته في القدر المتيقّن وهو الأقل.

فكيف يزاحم العامّ المنعقد ظهوره في الشمول لجميع أفراده التي منها القدر المتيقّن من الخاصّ ومنها القدر الزائد عليه المشكوك دخوله في الخاصّ ؛ فإذا خرج القدر المتيقّن بحجّة أقوى من العامّ يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجّيّة العامّ وظهوره فيه.

٤. في الدوران بين المتباينين إذا كان المخصّص منفصلا ، فإنّ الحقّ فيه أنّ إجمال الخاصّ يسري إلى العامّ ، كالمخصّص المتّصل ؛ لأنّ المفروض حصول العلم الإجماليّ بالتخصيص واقعا ، وإن تردّد بين شيئين ، فيسقط العموم عن الحجّيّة في كلّ واحد منهما.

__________________

(١) راجع الصفحة : ١٥٥ ـ ١٥٦.

١٦٢

والفرق بينه وبين المخصّص المتّصل المجمل أنّه في المتّصل يرتفع ظهور الكلام في العموم رأسا ، وفي المنفصل المردّد بين المتباينين ترتفع حجّيّة الظهور ، وإن كان الظهور البدويّ باقيا ، فلا يمكن التمسّك بأصالة العموم في أحد المردّدين.

بل لو فرض أنّها تجري بالقياس إلى احدهما فهي تجري أيضا بالقياس إلى الآخر ، ولا يمكن جريانهما معا ؛ لخروج أحدهما عن العموم قطعا ، فيتعارضان ويتساقطان. وإن كان الحقّ أنّ نفس وجود العلم الإجماليّ يمنع من جريان أصالة العموم في كلّ منهما رأسا ، لا أنّها تجري فيهما فيحصل التعارض ثمّ التساقط.

ب) الشبهة المصداقيّة

قلنا : إنّ الشبهة المصداقيّة تكون في فرض الشكّ في دخول فرد من أفراد ما ينطبق عليه العامّ في المخصّص ، مع كون المخصّص مبيّنا لا إجمال فيه ، وإنّما الإجمال في المصداق. فلا يدرى أنّ هذا الفرد متّصف بعنوان الخاصّ ، فخرج عن حكم العامّ ، أم لم يتّصف فهو مشمول لحكم العامّ ، كالمثال المتقدّم ، وهو الماء المشكوك تغيّره بالنجاسة ، وكمثال الشكّ في اليد على مال أنّها يد عادية أو يد أمانة ، فيشكّ في شمول العامّ لها ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» (١) ، لأنّها يد عادية ، أو خروجها منه لأنّها يد أمانة ، لما دلّ على عدم ضمان يد الأمانة المخصّص لذلك العموم.

ربما ينسب إلى المشهور من العلماء الأقدمين القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة (٢) ، ولذا أفتوا في مثال اليد المشكوكة بالضمان.

وقد يستدلّ لهذا القول بأنّ انطباق عنوان العامّ على المصداق المردّد معلوم ، فيكون العامّ حجّة فيه ما لم يعارض بحجّة أقوى ، وأمّا انطباق عنوان الخاصّ عليه فغير معلوم ، فلا يكون الخاصّ حجّة فيه ، فلا يزاحم حجيّة العامّ (٣).

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٤.

(٢) نسبه إليهم المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٢ : ٥١٨.

(٣) هكذا استدلّ لهذا القول المحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٢ : ٥١٨.

١٦٣

وهو نظير ما قلناه في المخصّص المنفصل في الشبهة المفهوميّة عند الدوران بين الأقلّ والأكثر.

والحقّ عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في المتّصل والمنفصل معا.

ودليلنا على ذلك : أنّ المخصّص لمّا كان حجّة أقوى من العامّ ، فإنّه موجب لقصر حكم العامّ على باقي أفراده ، ورافع لحجّيّة العامّ في بعض مدلوله. والفرد المشكوك مردّد بين دخوله فيما كان العامّ حجّة فيه وبين خروجه عنه ، مع عدم دلالة العامّ على دخوله فيما هو حجّة فيه ، فلا يكون العامّ حجّة فيه بلا مزاحم ، كما قيل في دليلهم. ولئن كان انطباق عنوان العامّ عليه معلوما فليس هو معلوم الانطباق عليه بما هو حجّة.

والحاصل أنّ هناك عندنا حجّتين معلومتين حسب الفرض : إحداهما : العامّ ، وهو حجّة فيما عدا الخاصّ. وثانيتهما : المخصّص ، وهو حجّة في مدلوله. والمشتبه مردّد بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة.

وبهذا يظهر الفرق بين الشبهة المصداقيّة وبين الشبهة المفهوميّة في المنفصل عند الدوران بين الأقلّ والأكثر. فإنّ الخاصّ في الشبهة المفهوميّة ليس حجّة إلاّ في الأقلّ ، والزائد المشكوك ليس مشكوك الدخول فيما كان الخاصّ معلوم الحجّيّة فيه ، بل الخاصّ مشكوك أنّه جعل حجّة فيه أم لا. ومشكوك الحجّيّة في شيء ليس بحجّة ـ قطعا ـ في ذلك الشيء. (١) وأمّا العامّ فهو حجّة إلاّ فيما كان الخاصّ حجّة فيه. وعليه ، لا يكون الأكثر مردّدا بين دخوله في تلك الحجّة أو هذه الحجّة ، كالمصداق المردّد ، بل هو معلوم أنّ الخاصّ ليس حجّة فيه لمكان الشكّ ، فلا يزاحم حجّيّة العامّ فيه.

وأمّا فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة أنّها يد عادية أو يد أمانة ، فلا يعلم أنّها

__________________

(١) سيأتي في «مباحث الحجّة» أنّ قوام حجّيّة الشيء بالعلم ؛ لأنّه إنّما يكون الشيء صالحا لأن يحتجّ به المولى على العبد إذا كان واصلا إليه بالعلم ، فالعلم مأخوذ في موضوع الحجّة فعند الشك في حجّيّة شيء يرتفع موضوعها ، فيعلم بعدم حجّيّته. ومعنى الشك في حجّيته احتمال أنّه نصبه الشارع حجّة واقعا على تقدير وصوله. وحيث لم يصل ، يقطع بعدم حجّيته فعلا فيزول ذلك الاحتمال البدويّ عند الالتفات إلى ذلك ، لا أنّه حين الشكّ في الحجّيّة يقطع بعدم الحجّيّة وإلاّ للزم اجتماع الشك والقطع بشيء واحد في آن واحد ، وهو محال. ـ منه رحمه‌الله ـ.

١٦٤

لأجل القول بجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، ولعلّ لها وجها آخر ليس المقام محلّ ذكره (١).

تنبيه : في جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لبّيّا

المقصود من المخصّص اللبّي ما يقابل اللفظيّ ، كالإجماع ودليل العقل اللذين هما دليلان وليسا من نوع الألفاظ. فقد نسب إلى الشيخ المحقّق الأنصاريّ قدس‌سره جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة مطلقا إذا كان المخصّص لبيّا (٢). وتبعه جماعة من المتأخّرين عنه (٣).

وذهب المحقّق شيخ أساتذتنا (صاحب الكفاية قدس‌سره) إلى التفصيل بين ما إذا كان المخصّص اللبّيّ ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في بيان مراده بأن كان عقليّا ضروريّا ؛ فإنّه يكون كالمتّصل ، فلا ينعقد للعامّ ظهور في العموم ، فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، كما إذا لم يكن التخصيص ضروريّا على وجه يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم ، فإنّه لا مانع من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ؛ لبقاء العامّ على ظهوره ، وهو حجّة بلا مزاحم.

واستشهد على ذلك بما ذكره من الطريقة المعروفة ، والسيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء ، كما إذا أمر المولى منهم عبده بإكرام جيرانه ، وحصل القطع للعبد بأنّ المولى لا يريد إكرام من كان عدوّا له من الجيران فإنّ العبد ليس له ألاّ يكرم من يشكّ في عداوته ،

__________________

(١) وإن شئت فراجع فوائد الأصول ٢ : ٥٢٩.

(٢) نسب إليه في فوائد الأصول ٢ : ٥٣٦ ، والمحاضرات ٥ : ١٩٦. ولكن قال المحقّق البروجرديّ : «فقد ظهر لك أنّ الشيخ رحمه‌الله لم يفرق بين اللفظيّ واللبيّ بما هما كذلك» نهاية الأصول : ٢٨٩. والحقّ معه ، فإنّ الشيخ الأنصاريّ قال : «إنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين ، وأخرى لا يوجب ذلك ، فعلى الأوّل لا وجه لتحكيم العامّ وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظيّة ، وعلى الثاني يجب تحكيم العامّ وأغلب ما يكون إنّما هو في التخصيصات اللبّيّة» انتهى ملخّصا. مطارح الأنظار : ١٩٤.

(٣) تبعه في ذلك ـ كما سيأتى في المتن ـ المحقّق الخراسانيّ لا مطلقا ، بل بالقياس إلى خصوص المخصّص اللبّيّ الذي لا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في بيان مراده. راجع كفاية الأصول : ٢٥٩.

١٦٥

للمولى أن يؤاخذه على عدم إكرامه ، ولا يصحّ منه الاعتذار بمجرّد احتمال العداوة ، لأنّ بناء العقلاء وسيرتهم هي ملاك حجّيّة أصالة الظهور ، فيكون ظهور العامّ ـ في هذا المقام ـ حجّة بمقتضى بناء العقلاء.

وزاد على ذلك أنّه يستكشف من عموم العامّ للفرد المشكوك أنّه ليس فردا للخاصّ الذي علم خروجه من حكم العامّ. ومثّل له بعموم قوله : «لعن الله بني فلان قاطبة» المعلوم منه خروج من كان مؤمنا منهم ، فإن شكّ في إيمان شخص يحكم بجواز لعنه للعموم. وكلّ من جاز لعنه ليس مؤمنا. فينتج من الشكل الأوّل : «هذا الشخص ليس مؤمنا». هذا خلاصة رأي صاحب الكفاية قدس‌سره (١)

ولكن شيخنا المحقّق الكبير النائينيّ قدس‌سره لم يرتض هذا التفصيل ، ولا إطلاق رأي الشيخ قدس‌سره ، بل ذهب إلى تفصيل آخر (٢). وخلاصته : أن المخصّص اللبّيّ ، سواء كان عقليّا ضروريّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في مقام التخاطب أو لم يكن كذلك ، بأن كان عقليّا نظريّا أو إجماعا ؛ فإنّه كالمخصّص اللفظيّ كاشف عن تقييد المراد الواقعيّ في العامّ من عدم كون موضوع الحكم الواقعي باقيا على إطلاقه الذي يظهر فيه العامّ ، فلا مجال للتمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك بلا فرق بين اللبّيّ واللفظيّ ؛ لأنّ المانع من التمسّك بالعامّ مشترك بينهما وهو انكشاف تقييد موضوع الحكم واقعا. ولا يفرق في هذه الجهة بين أن يكون الكاشف لفظيّا أو لبيّا.

واستثنى من ذلك ما اذا كان المخصّص اللبّيّ لم يستكشف منه تقييد موضوع الحكم واقعا ، بأن كان العقل إنّما أدرك ما هو ملاك حكم الشارع واقعا ، أو قام الإجماع على كونه ملاكا لحكم الشارع ، كما إذا أدرك العقل أو قام الإجماع على أنّ ملاك لعن بني فلان (٣) هو كفرهم ، فإنّ ذلك لا يوجب تقييد موضوع الحكم ، لأنّ الملاك لا يصلح لتقييده ، بل من العموم يستكشف وجود الملاك في جميعهم. فإذا شكّ في وجود الملاك في فرد ، يكون

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) فوائد الأصول ٢ : ٥٣٦ ـ ٥٣٨.

(٣) أي بنى اميّة قاطبة ـ مثلا ـ.

١٦٦

عموم الحكم كاشفا عن وجوده فيه.

نعم ، لو علم بعدم وجود الملاك في فرد ، يكون الفرد نفسه خارجا كما لو أخرجه المولى بالنّص عليه ، لا أنّه يكون كالمقيّد لموضوع العامّ.

وأمّا سكوت المولى عن بيانه ، فهو إمّا لمصلحة أو لغفلة إذا كان من الموالي العاديّين. نعم ، لو تردّد الأمر بين أن يكون المخصّص كاشفا عن الملاك أو مقيّدا لعنوان العامّ ؛ فإنّ التفصيل الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره يكون وجيها.

والحاصل أنّ المخصّص إن أحرزنا أنّه كاشف عن تقييد موضوع العامّ فلا يجوز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة أبدا ، وإن أحرزنا أنّه كاشف عن ملاك الحكم فقط من دون تقييد فلا مانع من التمسّك بالعموم ، بل يكون كاشفا عن وجود الملاك في المشكوك. وإن تردّد أمره ولم يحرز كونه قيدا أو ملاكا فان كان حكم العقل ضروريّا يمكن الاتّكال عليه في التفهيم فيلحق بالقسم الأوّل ، وإن كان نظريّا أو اجماعا لا يصحّ الاتّكال عليه فيلحق بالقسم الثاني ، فيتمسّك بالعموم ، لجواز أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه ، مع احتمال أنّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاكات (١).

هذا كلّه حكاية أقوال علمائنا في المسألة. وإنّما أطلت في نقلها ؛ لأنّ هذه المسألة حادثة ، أثارها شيخنا الأنصاريّ قدس‌سره مؤسّس الأصول الحديث. واختلف فيها أساطين مشايخنا ، ونكتفى بهذا المقدار دون بيان ما نعتمد عليه من الأقوال ، لئلاّ نخرج عن الغرض الذي وضعت له الرسالة.

وبالاختصار إنّ ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره هو الأولى بالاعتماد. ولكن مع تحرير لقوله على غير ما هو المعروف عنه (٢).

__________________

(١) انتهى مخلّص كلام المحقّق النائينيّ.

(٢) وتوضيح ذلك : أن كلّ عامّ ظاهر في العموم لا بدّ أن يتضمّن ظهورين : ١ : ظهوره في عدم منافاة أيّة صفة من الصفات أو أيّ عنوان من العناوين لحكمه. ٢ : ظهوره في عدم وجود المنافي أيضا ، أي إنّه ظاهر في عدم المنافاة وعدم المنافي معه ، فإنّ معنى ظهور عموم «أكرم جيراني» ـ مثلا ـ أنّه ليس هناك صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرام الجيران ، نحو صفة العداوة أو الفسق أو نحو ذلك ، كما معناه أيضا أنّه ليس يوجد ـ

١٦٧

...

__________________

ـ في الجيران من فيه صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرامه. وهذا واضح لا غبار فيه.

فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور في العموم مخصّص منفصل لفظيّ ، كما لو قال في المثال المتقدّم : «لا تكرم الأعداء من جيراني» ، فإن هذا المخصّص لا شكّ في أنّه يكون ظاهرا في أمرين : ١ : إنّ صفة العداوة منافية لوجوب الإكرام. ٢ : إن في الجيران من هو على صفة العداوة فعلا أو يتوقّع منه أن يكون عدوّا ، وإلاّ لو لم يوجد العدوّ ولا يتوقّع فيهم لكان هذا التخصيص لغوا وعبثا لا يصدر من الحكيم.

وعلى ذلك فيكون المخصّص اللفظيّ مزاحما للعامّ في الظهورين معا ، فيسقط عن الحجّيّة فيهما معا. فإذا شككنا في فرد من الجيران أنّه عدوّ أم لا ، فلا مجال فيه للتمسّك بالعامّ في إلحاقه بحكمه ؛ لسقوط العامّ عن حجّيّته في شموله له ؛ إذ يكون هذا الفرد مردّدا بين دخوله فيما أصبح العامّ حجّة فيه وبين دخوله فيما كان الخاصّ حجّة فيه.

أمّا لو كان هناك مخصّص لبيّ ، كما لو حكم العقل ـ مثلا ـ بأنّ العداوة تنافي وجوب الإكرام ، فإنّ هذا الحكم من العقل لا يتوقّف على أن يكون هناك أعداء بالفعل أو متوقّعون ، بل العقل يحكم بهذا الحكم ، سواء كان هناك أعداء أم لم يكونوا أبدا ؛ إذ لا مجال للقول بأنّه لو لم يكن هناك أعداء ، لكان حكم العقل لغوا وعبثا ، كما هو واضح بأدنى تأمّل والتفات.

وعليه ، فالحكم العقليّ هذا لا يزاحم الظهور الثاني العامّ ـ أعني ظهوره في عدم المنافي ـ فظهور الثاني هذا يبقى بلا مزاحم. فإذا شككنا في فرد من الجيران أنّه عدوّ أم لا ، فلا مانع من التمسك بالعامّ في إدخاله في حكمه ؛ لأنّه لا يكون هذا الفرد مردّدا بين دخوله في هذه الحجّة أو هذه الحجّة ؛ إذ المخصّص اللبّيّ حسب الفرض لا يقتضي وجود المنافي وليس حجّة فيه ، أمّا العامّ فهو حجّة فيه بلا مزاحم.

فظهر من هذا البيان أنّ الفرق عظيم بين المخصّص اللبّيّ والمخصّص اللفظيّ من هذه الناحية ؛ لأنّه في المخصّص اللبّيّ يبقى العامّ حجّة في ظهوره الثاني من دون أن يكون المخصّص متعرّضا له ، ولا يسقط العامّ عن الحجّيّة في ظهوره إلاّ بمقدار المزاحمة لا أكثر. وهذا بخلاف المخصّص اللفظيّ ، فإنّه ظاهر في الأمرين معا كما قدّمناه ، فيكون مزاحما للعامّ فيهما معا.

ولا فرق في المخصّص اللبّيّ بين أنّ يكون ضروريّا أو يكون غير ضروريّ ، * ولا بين أن يكون كاشفا عن تقييد موضوع العامّ أو كاشفا عن ملاك الحكم ، ** فإنّه في جميع هذه الصور لا يقتضي وجود المنافي.

وبهذا التحرير للمسألة يتجلّى مرام الشيخ الأعظم قدس‌سره [و] أنّه الأولى بالاعتماد ـ منه رحمه‌الله ـ.

__________________

* خلافا للمحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ٢٥٩.

** خلافا للمحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٥٣٦ ـ ٥٣٨.

وهذه الحاشية ليست في «س».

١٦٨

تمرينات (٢٣)

التمرين الأوّل

١. ما الفرق بين الشبهة المفهوميّة والشبهة المصداقيّة؟

٢. اذكر أقسام الشبهة المفهوميّة ، وبيّن حكم كلّ من الأقسام.

٣. ما هو رأي القدماء في الشبهة المصداقيّة؟ وما دليلهم عليه؟

٤. ما هو مختار المصنّف رحمه‌الله في الشبهة المصداقيّة؟ وما دليله عليه؟

٥. ما الفرق بين الشبهة المصداقيّة وبين الشبهة المفهوميّة في المنفصل عند الدوران بين الأقلّ والأكثر؟

٦. ما الفرق بين المخصّص اللبّي والمخصّص اللفظي؟

٧. بيّن آراء الأعلام الثلاثة (الشيخ الأنصاريّ والمحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائيني) في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إذا كان المخصّص لبّيّا.

التمرين الثاني

١. بيّن ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في تحرير قول الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، ووجه أولويّته.

١٦٩

٦. لا يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

لا شكّ في أنّ بعض عمومات القرآن الكريم والسنّة الشريفة ورد لها مخصّصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات. وهذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة ، والائمّة الأطهار عليهم‌السلام حتّى قيل : «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ» (١). ولذا ورد عن ائمّتنا ذمّ من استبدّوا برأيهم في الأحكام ، لأنّ في الكتاب المجيد والسنّة عامّا وخاصّا ومطلقا ومقيّدا ، وهذه الأمور لا تعرف إلاّ من طريق آل البيت عليهم‌السلام.

وهذا ما أوجب التوقّف في التسرّع بالأخذ بعموم العامّ قبل الفحص واليأس من وجود المخصّص ؛ لجواز أن يكون هذا العامّ من العمومات التي لها مخصّص موجود في السنّة أو في الكتاب لم يطّلع عليه من وصل إليه العامّ. وقد نقل عدم الخلاف ، بل الإجماع (٢) على عدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص واليأس. وهو الحقّ.

والسرّ في ذلك واضح لما قدّمناه ، لأنّه إذا كانت طريقة الشارع في بيان مقاصده أن يعتمد على القرائن المنفصلة لا يبقى اطمئنان بظهور العامّ في عمومه ، فإنّه يكون ظهورا بدويّا. وللشارع حجّة على المكلّف إذا قصّر في الفحص عن المخصّص.

أمّا إذا بذل وسعه وفحص عن المخصّص في مظانّه حتّى حصل له الاطمئنان بعدم وجوده ، فله الأخذ بظهور العامّ. وليس للشارع حجّة عليه فيما لو كان هناك مخصّص واقعا لم يتمكّن المكلّف من الوصول إليه عادة بالفحص ، بل للمكلّف أن يحتجّ فيقول : إنّي

__________________

(١) معالم الدين : ١٣٥ ؛ مطارح الأنظار : ١٩٢ ؛ كفاية الأصول : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٢) والناقل هو الغزاليّ في المستصفى ٢ : ١٥٧ : وابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل : ١٤٤ ، وأبو إسحاق الشيرازيّ في اللمع : ٢٨.

وذهب بعض العامّة إلى جواز التمسّك بالعامّ قبل الفحص ، كالبيضاويّ والأرمويّ والصيرفيّ على ما في اللمع : ٢٨ ؛ وفواتح الرحموت (المطبوع بهامش المستصفى ١ : ٢٦٧) ، ونهاية السئول ٢ : ٤٠٣. وقيل : «أوّل من عنون المسألة أبو العباس بن سريج المتوفّى أوائل القرن الرابع ، وكان يقول بعدم الجواز. واستشكل عليه تلميذه أبو بكر الصيرفي بأنّه لو لم يجز ذلك لما جاز التمسّك بأصالة الحقيقة أيضا قبل الفحص عن قرينة المجاز». هذا منقول في نهاية الأصول : ٣١١.

١٧٠

فحصت عن المخصّص فلم أظفر به ، ولو كان مخصّص هناك كان ينبغي بيانه على وجه لو فحصنا عنه عادة لوجدناه في مظانّه ، وإلاّ فلا حجّة فيه علينا.

وهذا الكلام جار في كلّ ظهور ؛ فإنّه لا يجوز الأخذ به إلاّ بعد الفحص عن القرائن المنفصلة. فإذا فحص المكلّف ولم يظفر بها فله أن يأخذ بالظهور ويكون حجّة عليه.

ومن هنا نستنتج قاعدة عامّة تأتي في محلّها ونستوفي البحث عنها ـ إن شاء الله تعالى ـ. (١) والمقام من صغرياتها ، وهي «إنّ أصالة الظهور لا تكون حجّة إلاّ بعد الفحص واليأس عن القرينة».

أمّا بيان مقدار الفحص الواجب أهو الذي يوجب اليأس على نحو القطع بعدم القرينة أو على نحو الظنّ الغالب والاطمئنان بعدمها؟ فذلك موكول إلى محلّه. والمختار كفاية الاطمئنان. والذى يهوّن الخطب في هذه العصور المتأخّرة أنّ علماءنا ـ قدس‌سرهم ـ قد بذلوا جهودهم على تعاقب العصور في جمع الأخبار وتبويبها والبحث عنها وتنقيحها في كتب الأخبار والفقه ، حتى أنّ الفقيه أصبح الآن يسهل عليه الفحص عن القرائن بالرجوع إلى مظانّها المهيّأة ؛ فإذا لم يجدها بعد الفحص ، يحصل له القطع غالبا بعدمها.

تمرينات (٢٤)

التمرين الأوّل

١. هل يجوز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص أم لا؟

٢. ما هو مقدار الفحص الواجب عن المخصّص؟

التمرين الثاني

١. اذكر أوّل من عنون مسألة الفحص عن المخصّص.

__________________

(١) يأتي في الباب الخامس من مباحث الحجّة.

١٧١

٧. تعقيب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده

قد يرد عامّ ثمّ ترد بعده جملة فيها ضمير يرجع إلى بعض أفراد العامّ بقرينة خاصّة. مثل قوله (تعالى) : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ...) إلى قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) (١) ؛ فإنّ «المطلّقات» عامّة للرجعيّات وغيرها ، ولكن الضمير في «بعولتهنّ» يراد به خصوص الرجعيّات. فمثل هذا الكلام يدور فيه الأمر بين مخالفتين للظاهر ، إمّا مخالفة ظهور العامّ في العموم ، بأن يجعل مخصوصا بالبعض الذي يرجع إليه الضمير ، وإمّا مخالفة ظهور الضمير في رجوعه إلى ما تقدّم عليه من المعنى الذي دلّ عليه اللفظ ، بأن يكون مستعملا على سبيل الاستخدام ، فيراد منه البعض ، والعامّ يبقى على دلالته على العموم ، فأيّ المخالفتين أولى؟ وقع الخلاف على أقوال ثلاثة :

الأوّل : أنّ أصالة العموم هي المقدّمة ، فيلتزم بالمخالفة الثانية (٢).

الثانى : أنّ أصالة عدم الاستخدام هي المقدّمة ، فيلتزم بالمخالفة الأولى (٣).

الثالث : عدم جريان الأصلين معا ، والرجوع إلى الأصول العمليّة. أمّا عدم جريان أصالة العموم فلوجود ما يصلح أن يكون قرينة في الكلام ، وهو عود الضمير إلى البعض ، فلا ينعقد ظهور العامّ في العموم. وأمّا أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري فلأنّ الأصول اللفظيّة يشترط في جريانها ـ كما سبق أوّل الكتاب ـ أن يكون الشكّ في مراد المتكلّم ، فلو كان المراد معلوما ـ كما في المقام ـ وكان الشكّ في كيفيّة الاستعمال ، فلا تجري قطعا (٤).

والحقّ أن أصالة العموم جارية ولا مانع منها ؛ لأنّا ننكر أن يكون عود الضمير إلى بعض

__________________

(١) البقرة (٢) : الآية : ٢٢٨.

(٢) هذا ما ذهب إليه صاحب الفصول والشيخ الأنصاريّ والمحقّق النائينيّ. راجع الفصول الغرويّة : ٢١١ ؛ مطارح الأنظار : ٢٠٧ ؛ فوائد الأصول ٢ : ٥٥٢ ـ ٥٥٣.

(٣) ذهب إليه السيّد المحقّق الخوئي في المحاضرات ٥ : ٢٨٨ ـ ٢٩١.

(٤) هذا ما اختاره المحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

١٧٢

أفراد العامّ موجبا لصرف ظهور العموم ؛ إذ لا يلزم من تعيّن البعض ـ من جهة مرجعيّة الضمير بقرينة ـ أن يتعيّن إرادة البعض من جهة حكم العامّ الثابت له بنفسه ؛ لأنّ الحكم في الجملة المشتملة على الضمير غير الحكم في الجملة المشتملة على العامّ ، ولا علاقة بينهما ، فلا يكون عود الضمير إلى بعض العامّ من القرائن التي تصرف ظهوره عن عمومه. واعتبر ذلك في المثال ، فلو قال المولى : «العلماء يجب إكرامهم» ثمّ قال : «وهم يجوز تقليدهم» وأريد من ذلك «العدول» بقرينة ، فإنّه واضح في هذا المثال أنّ تقييد الحكم الثاني بالعدول لا يوجب تقييد الحكم الأوّل بذلك ، بل ليس فيه إشعار به. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون التقييد بمتّصل ، كما في مثالنا ، أو بمنفصل كما في الآية.

٨. تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة

وقد ترد عمومات متعدّدة في كلام واحد ثمّ يتعقّبها استثناء في آخرها ، فيشكّ حينئذ في رجوع الاستثناء لخصوص الجملة الأخيرة أو لجميع الجمل.

مثاله قوله (تعالى) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (*) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا) (١) ، فإنّه يحتمل أن يكون هذا الاستثناء من الحكم الأخير فقط ، وهو فسق هؤلاء ، ويحتمل أن يكون استثناء منه ومن الحكم بعدم قبول شهادتهم والحكم بجلدهم الثمانين. واختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال :

١. ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، وإن كان رجوعه إلى غير الأخيرة ممكنا ، ولكنّه يحتاج إلى قرينة عليه. (٢)

٢. ظهوره في رجوعه إلى جميع الجمل ؛ وتخصيصه بالأخيرة فقط هو الذي يحتاج

__________________

(١) النور (٢٤) : الآية ٤ و ٥.

(٢) نسبه الشيخ الطوسيّ إلى السيّد المرتضى ، فراجع العدّة ١ : ٣٢١. ولكن في نسبته إليه نظر.

وذهب إلى رجوعه إلى خصوص الأخيرة أبو حنيفة على ما في الإحكام (للآمدي) ٢ : ٤٣٨ ، والعلاّمة في مبادئ الوصول : ١٣٦ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٠٤.

١٧٣

إلى الدليل. (١)

٣. عدم ظهوره في واحد منهما ، وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقّنا على كلّ حال. أمّا ما عدا الأخيرة فتبقى مجملة لوجود ما يصلح للقرينيّة ، فلا ينعقد لها ظهور في العموم ، فلا تجري أصالة العموم فيها. (٢)

٤. التفصيل بين ما إذا كان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة لم يتكرّر ذكره ، وقد ذكر في صدر الكلام مثل قولك : «أحسن إلى الناس ، واحترمهم ، واقض حوائجهم إلاّ الفاسقين» ، وبين ما إذا كان الموضوع متكرّرا ذكره لكلّ جملة ، كالآية الكريمة المتقدّمة ، وإن كان الموضوع في المعنى واحدا في الجميع. فإن كان من قبيل الأوّل فهو ظاهر في رجوعه إلى الجميع ؛ لأنّ الاستثناء إنّما هو من الموضوع باعتبار الحكم ، والموضوع لم يذكر إلاّ في صدر الكلام فقط ، فلا بدّ من رجوع الاستثناء إليه ، فيرجع إلى الجميع ؛ وإن كان من قبيل الثاني فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة ؛ لأنّ الموضوع قد ذكر فيها مستقلاّ ، فقد أخذ الاستثناء محلّه ، ويحتاج تخصيص الجمل السابقة إلى دليل آخر مفقود بالفرض ، فيتمسّك بأصالة عمومها. (٣).

وأمّا : ما قيل : «أنّ المقام من باب اكتناف الكلام بما يصلح لأن يكون قرينة فلا ينعقد للجمل الأولى ظهور في العموم» (٤) فلا وجه له ؛ لأنّه لمّا كان المتكلّم حسب الفرض قد كرّر الموضوع بالذكر ، واكتفى باستثناء واحد ، وهو يأخذ محلّه بالرجوع إلى الأخيرة ، فلو أراد إرجاعه إلى الجميع ، لوجب أن ينصب قرينة على ذلك وإلاّ كان مخلاّ ببيانه.

وهذا القول الرابع هو أرجح الأقوال ، وبه يكون الجمع بين كلمات العلماء ، فمن ذهب

__________________

(١) ذهب إليه الشافعيّة من العامّة ـ على ما في الإحكام (للآمدي) ٢ : ٤٣٨ ، وإرشاد الفحول : ١٥٠. واختاره الشيخ الطوسيّ في العدّة ١ : ٢٢١.

(٢) ذهب إليه السيّد المرتضى في الذريعة ١ : ٢٤٩. واختاره المحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ٢٧٤ ، والمحقّق العراقيّ في نهاية الأفكار ٢ : ٥٤١ ـ ٥٤٣.

(٣) هذا التفصيل مختار المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٥٥٥.

(٤) والقائل المحقّق الخراسانيّ في الكفاية : ٢٧٤.

١٧٤

إلى القول برجوعه إلى خصوص الأخيرة فلعلّه كان ناظرا إلى مثل الآية المباركة التي تكرّر فيها الموضوع ، ومن ذهب إلى القول برجوعه إلى الجميع فلعلّه كان ناظرا إلى الجمل التي لم يذكر فيها الموضوع إلاّ في صدر الكلام ، فيكون النزاع على هذا لفظيّا ، ويقع التصالح بين المتنازعين.

تمرينات (٢٥)

١. ما هو محلّ النزاع في مسألة تعقيب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده؟

٢. ما هي الأقوال في مسألة تعقيب العامّ بالضمير؟ وما هو مختار المصنّف رحمه‌الله؟ وما الدليل على مختاره؟

٣. ما هو محلّ البحث في مسألة تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة؟ ايت بمثال لها.

٤. اذكر أقوال العلماء في مسألة تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة. واذكر الراجح منها وسبب رجحانه؟

١٧٥

٩. تخصيص العامّ بالمفهوم

المفهوم ينقسم ـ كما تقدّم (١) ـ إلى الموافق والمخالف ، فإذا ورد عامّ ومفهوم أخصّ مطلقا ، فلا كلام في تخصيص العامّ بالمفهوم اذا كان مفهوما موافقا ، مثاله قوله (تعالى) : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) فإنّه عامّ يشمل كلّ عقد يقع باللغة العربيّة وغيرها ، فإذا ورد دليل على اعتبار أن يكون العقد بصيغة الماضي فقد قيل (٣) : إنّه يدلّ بالأولويّة على اعتبار العربيّة في العقد ، لأنّه لمّا دلّ على عدم صحّة العقد بالمضارع من العربيّة فلئن لم يصحّ من لغة أخرى فمن طريق أولى. ولا شكّ أنّ مثل هذا المفهوم إن ثبت فإنّه يخصّص العامّ المتقدّم ؛ لأنّه كالنصّ ، أو أظهر من عموم العامّ فيقدّم عليه.

وأمّا : التخصيص بالمفهوم المخالف فمثاله قوله (تعالى) : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٤) الدالّ بعمومه على عدم اعتبار كلّ ظنّ حتى الظنّ الحاصل من خبر العادل. وقد وردت آية أخرى هي : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) (٥) دالّة بمفهوم الشرط على جواز الأخذ بخبر غير الفاسق بغير تبيّن. فهل يجوز تخصيص ذلك العامّ بهذا المفهوم المخالف؟ قد اختلفوا على أقوال :

فقد قيل بتقديم العامّ ولا يجوز تخصيصه بهذا المفهوم. (٦)

وقيل بتقديم المفهوم. (٧)

__________________

(١) راجع الصفحة : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) المائدة (٥) : الآية ١.

(٣) كما قال به الشيخ الأنصاريّ في مطارح الأنظار : ٢١٠.

(٤) النجم (٥٣) : الآية ٢٨.

(٥) الحجرات (٤٩) : الآية ٦.

(٦) وهذا القول منسوب إلى أبي العبّاس بن سريج. راجع إرشاد الفحول : ١٦٠ ، واللمع ٣٤.

(٧) قال الآمديّ : «لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم ، المفهوم أنّه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم» ، الإحكام ٢ : ٤٧٨.

وذهب إليه كثير من الإماميّة ، منهم صاحبا المعالم والفصول ، راجع معالم الدين : ١٥٨ ، والفصول الغرويّة : ٢١٢.

١٧٦

وقيل بعدم تقديم أحدهما على الآخر ، فيبقى الكلام مجملا. (١)

وفصّل بعضهم تفصيلات كثيرة يطول الكلام عليها. (٢)

والسرّ في هذا الخلاف أنّه لمّا كان ظهور المفهوم المخالف ليس من القوّة بحيث يبلغ درجة ظهور المنطوق أو المفهوم الموافق وقع الكلام في أنّه أقوى من ظهور العامّ ، فيقدّم عليه ، أو أنّ العامّ أقوى ، فهو المقدّم ، أو أنّهما متساويان في درجة الظهور فلا يقدّم أحدهما على الآخر ، أو أنّ ذلك يختلف باختلاف المقامات.

والحقّ أنّ المفهوم لمّا كان أخصّ من العامّ حسب الفرض فهو قرينة عرفا على المراد من العامّ ، والقرينة تقدّم على ذي القرينة ، وتكون مفسّرة لما يراد من ذي القرينة ، ولا يعتبر أن يكون ظهورها أقوى من ظهور ذي القرينة ، نعم ، لو فرض أنّ العامّ كان نصّا في العموم فإنّه يكون هو قرينة على المراد من الجملة ذات المفهوم ، فلا يكون لها مفهوم حينئذ ، هذا أمر آخر.

١٠. تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد (٣)

يبدو من الصعب على المبتدئ أن يؤمن لأوّل وهلة بجواز تخصيص العامّ الوارد في القرآن الكريم بخبر الواحد ؛ نظرا إلى أنّ الكتاب المقدّس إنّما هو وحي منزل من الله (تعالى) لا ريب فيه ، والخبر ظنّيّ يحتمل فيه الخطأ والكذب ، فكيف يقدّم على الكتاب؟! ولكنّ سيرة العلماء من القديم على العمل بخبر الواحد إذا كان مخصّصا للعامّ القرآنيّ ، بل لا تجد على الأغلب خبرا معمولا به من بين الأخبار التي بأيدينا في المجاميع إلاّ وهو مخالف لعامّ ، أو مطلق في القرآن ، ولو مثل عمومات الحلّ (٤) ونحوها (٥). بل على الظاهر أنّ

__________________

(١) لا مطلقا ، بل لو لم يكن في البين أظهر. ذهب إليه المحقّق الخراساني في الكفاية : ٢٨٣.

(٢) وإن شئت فراجع : فوائد الأصول ٢ : ٥٥٦ ـ ٥٦١ ؛ والمحاضرات ٥ : ٢٩٧ ـ ٣٠٣.

(٣) قوله : «بخبر الواحد» إشارة إلى أنّ البحث في المقام ليس في أصل جواز التصرّف في الكتاب وتخصيصه ؛ ضرورة أنّه يجوز تخصيص العامّ الكتابي بنفس المخصّص الكتابي ، كما لا ريب في جواز تخصيصه بالخبر القويّ المتواتر ، بل محلّ البحث في المقام هو أنّه هل لخبر الواحد قوّة يصير بها قابلا لكونه مخصّصا للعام الكتابي أم لا؟

(٤) كقوله (تعالى) : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ.) البقرة (٢) الآية : ٢٧٥.

(٥) كقوله (تعالى) : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.) المائدة (٥) الآية : ١.

١٧٧

مسألة تقديم الخبر الخاصّ على الآية القرآنيّة العامّة من المسائل المجمع عليها من غير خلاف بين علمائنا (١) ، فما السرّ في ذلك مع ما قلناه؟

نقول : لا ريب في أنّ القرآن الكريم ـ وإن كان قطعيّ السند ـ فيه متشابه ومحكم ، نصّ على ذلك القرآن نفسه (٢) ، والمحكم نصّ وظاهر ، والظاهر منه عامّ ومطلق ؛ كما لا ريب أيضا في أنّه ورد في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ما يخصّص كثيرا من عمومات القرآن ، وما يقيّد كثيرا من مطلقاته ، وما يقوم قرينة على صرف جملة من ظواهره ، وهذا قطعيّ لا يشكّ فيه أحد. فإن كان الخبر قطعيّ الصدور فلا كلام في ذلك ، وإن كان غير قطعيّ الصدور وقد قام الدليل القطعيّ على أنّه حجّة شرعا ، لأنّه خبر عادل ـ مثلا ـ ، وكان مضمون الخبر أخصّ من عموم الآية القرآنيّة ، فيدور الأمر بين أن نطرح الخبر ـ بمعنى أن نكذّب راويه ـ وبين أن نتصرّف بظاهر القرآن لأنّه لا يمكن التصرّف بمضمون الخبر ؛ لأنّه نصّ أو أظهر ، ولا بسند القرآن لأنّه قطعيّ. ومرجع ذلك إلى الدوران ـ في الحقيقة ـ بين مخالفة الظنّ بصدق الخبر وبين مخالفة الظنّ بعموم الآية. أو فقل : يدور الأمر بين طرح دليل حجّيّة الخبر وبين طرح أصالة العموم ، فأيّ الدليلين أولى بالطرح؟ وأيّهما أولى بالتقديم؟

فنقول : لا شكّ أنّ الخبر صالح لأن يكون قرينة على التصرّف في ظاهر الكتاب ؛ لأنّه بدلالته ناظر ومفسّر لظاهر الكتاب بحسب الفرض ؛ وعلى العكس من ظاهر الكتاب ؛ فإنّه غير صالح لرفع اليد عن دليل حجّيّة الخبر ، لأنّه لا علاقة له فيه من هذه الجهة ـ حسب الفرض ـ حتى يكون ناظرا ومفسّرا له ؛ فالخبر لسانه لسان المبيّن للكتاب ، فيقدّم عليه ، وليس الكتاب بظاهره بصدد بيان دليل حجّيّة الخبر حتّى يقدّم عليه. وإن شئت فقل : إنّ الخبر بحسب الفرض قرينة على الكتاب ، والأصل الجاري في القرينة ـ وهو هنا أصالة عدم كذب الراوي ـ مقدّم على الأصل الجاري في ذي القرينة وهو هنا أصالة العموم.

__________________

(١) كما في المحاضرات ٥ : ٣٠٩. ونسبه الشوكاني إلى جمهور العامّة ، والآمديّ إلى الأئمّة الأربعة ، فراجع إرشاد الفحول : ١٥٨ ، والإحكام ٢ : ٤٧٢.

وذهب الشيخ الطوسيّ إلى عدم جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد ، وهو المحكيّ عن بعض الحنابلة. راجع العدّة ١ : ٣٤٤ ، وإرشاد الفحول : ١٥٨.

(٢) قال الله (تعالى) : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ....)

آل عمران (٣) الآية : ٧.

١٧٨

١١. دوران بين التخصيص والنسخ (١)

اعلم أنّ العامّ والخاصّ المنفصل يختلف حالهما من جهة العلم بتأريخهما معا ، أو بتأريخ أحدهما ، أو الجهل بهما معا. فقد يقال في بعض الأحوال بتعيين أن يكون الخاصّ ناسخا للعام ، أو منسوخا له ، أو مخصّصا إيّاه. وقد يقع الشكّ في بعض الصور ، ولتفصيل الحال نقول : إنّ الخاصّ والعامّ من ناحية تأريخ صدورهما لا يخلوان من خمس حالات : فإمّا أن يكونا معلومي التأريخ ، أو مجهولي التأريخ ، أو أحدهما مجهولا والآخر معلوما ، هذه ثلاث صور. ثمّ المعلوم تأريخهما : إمّا أن يعلم تقارنهما عرفا ، أو يعلم تقدّم العامّ ، أو يعلم تأخّر العامّ ؛ فتكون الصور خمسا :

الصورة الأولى

إذا كانا معلومي التأريخ مع العلم بتقارنهما عرفا ؛ فإنّه لا مجال لتوهّم النسخ فيهما.

الصورة الثانية :

إذا كانا معلومي التاريخ مع تقدّم العامّ ، فهذه على صورتين :

١. أن يكون ورود الخاصّ قبل وقت العمل بالعامّ. والظاهر أنّه لا إشكال حينئذ في حمله على التخصيص بغير كلام ، إمّا لأنّ النسخ لا يكون قبل وقت العمل بالمنسوخ كما قيل (٢) ، وإمّا لأنّ الأولى فيه التخصيص ، كما سيأتي في الصورة الآتية.

٢. أن يكون وروده بعد وقت العمل بالعامّ. وهذه الصورة هي أشكل الصور ، وهي التي وقع فيها الكلام في أنّ الخاصّ يجب أن يكون ناسخا (٣) ، أو يجوز أن يكون مخصّصا ولو في بعض الحالات (٤)؟ ومع الجواز يتكلّم حينئذ في أنّ الحمل على التخصيص

__________________

(١) النسخ في اللغة بمعنى الإزالة. وفي الاصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة بارتفاع أمده وزمانه.

(٢) هكذا قال الشيخ في مطارح الأنظار : ٢١٢.

(٣) كما في مطارح الأنظار : ٢١٢ ، وكفاية الأصول : ٢٧٦.

(٤) كما في أجود التقريرات ٢ : ٥٠٦ ، والمحاضرات ٥ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

١٧٩

هو الأولى ، أو الحمل على النسخ؟

فالذي يذهب إلى وجوب أن يكون الخاصّ ناسخا فهو ناظر إلى أنّ العامّ لمّا ورد وحلّ وقت العمل به ـ بحسب الفرض ـ فتأخير الخاصّ عن وقت العمل لو كان مخصّصا ومبيّنا لعموم العامّ يكون من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح من الحكيم ؛ لأنّ فيه إضاعة للأحكام ولمصالح العباد بلا مبرّر ، فوجب أن يكون ناسخا للعامّ ، والعامّ باق على عمومه يجب العمل به إلى حين ورود الخاصّ ، فيجب العمل ثانيا على طبق الخاصّ.

وأمّا من ذهب إلى جواز كونه مخصّصا فلعلّه ناظر إلى أنّ العامّ يجوز أن يكون واردا لبيان حكم ظاهريّ صوريّ لمصلحة اقتضت كتمان الحكم الواقعيّ ، ولو مصلحة التقيّة ، أو مصلحة التدرّج في بيان الأحكام ، كما هو المعلوم من طريقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان أحكام الشريعة ، مع أنّ الحكم الواقعيّ التابع للمصالح الواقعيّة الثابتة للأشياء بعناوينها الأوّلية إنّما هو على طبق الخاصّ ، فإذا جاء الخاصّ يكون كاشفا عن الحكم الواقعيّ ، فيكون مبيّنا للعامّ ومخصّصا له ، وأمّا الحكم العامّ الذي ثبت أوّلا ظاهرا وصورة إن كان قد ارتفع وانتهى أمده ، فإنّه إنّما ارتفع لارتفاع موضوعه ، وليس هو من باب النسخ (١).

وإذا جاز أن يكون العامّ واردا على هذا النحو من بيان الحكم ظاهرا وصورة فإن ثبت ذلك ، كان الخاصّ مخصّصا ، أي كان كاشفا عن الواقع قطعا ، وإن ثبت أنّه في صدد بيان الحكم الواقعيّ التابع للمصالح الواقعيّة الثابتة للأشياء بعناوينها الأوّليّة ، فلا شكّ في أنّه يتعيّن كون الخاصّ ناسخا له.

وأمّا لو دار الأمر بينهما إذ لم يقم دليل على تعيين أحدهما ، فأيّهما أرجح في الحمل؟

فنقول : الأقرب إلى الصواب هو الحمل على التخصيص.

والوجه فيه : أنّ أصالة العموم ـ بما هي ـ لا تثبت أكثر من أنّ ما يظهر من العامّ هو المراد الجدّيّ للمتكلّم ، ولا شكّ أنّ الحكم الصّوريّ ـ الذي نسمّيه بـ «الحكم الظاهريّ» ـ كالواقعيّ مراد جدّيّ للمتكلّم ؛ لأنّه مقصود بالتفهيم ؛ فالعامّ ليس ظاهرا إلاّ في أنّ المراد الجدّي هو العموم ، سواء كان العموم حكما واقعيّا أو صوريّا ؛ أمّا أنّ الحكم واقعيّ

__________________

(١) هكذا أفاد المحقّق الخوئيّ في المحاضرات ٥ : ٣٢٠ ـ ٣٢٣.

١٨٠