اُصول الفقه

الشيخ محمّد رضا المظفّر

اُصول الفقه

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-003-3
الصفحات: ٦٨٨

وقد رجّحنا فيما سبق أنّ الوصف لا مفهوم له ، فإذا قال المقرّ مثلا : «في ذمّتي عشرة دراهم إلاّ درهم» بجعل «إلاّ درهم» وصفا ، فإنّه يثبت في ذمّته تمام العشرة الموصوفة بأنّها ليست بدرهم. ولا يصحّ أن تكون استثنائية ؛ لعدم نصب درهم. ولا مفهوم لها حينئذ ، فلا تدلّ على عدم ثبوت شيء آخر في ذمّته لزيد.

وأمّا «إلاّ» الاستثنائيّة : فلا ينبغي الشكّ في دلالتها على المفهوم ، وهو انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى ؛ لأنّ «إلاّ» موضوعة للإخراج وهو الاستثناء ، ولازم هذا الإخراج باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أن يكون المستثنى محكوما بنقيض حكم المستثنى منه. ولمّا كان هذا اللزوم بيّنا ، ظنّ بعضهم (١) أنّ هذا المفهوم من باب المنطوق.

وأمّا أداة الحصر بعد النفي نحو : «لا صلاة إلاّ بطهور» : فهي في الحقيقة من نوع الاستثنائيّة.

فرع : لو شككنا في مورد أنّ كلمة «إلاّ» استثنائيّة أو وصفيّة ، مثل ما لو قال المقرّ : «ليس في ذمّتي لزيد عشرة دراهم إلاّ درهم» ؛ إذ يجوز في المثال أن تكون «إلاّ» وصفيّة ، ويجوز أن تكون استثنائيّة ، فإنّ الأصل في كلمة «إلاّ» أن تكون للاستثناء ؛ فيثبت في ذمّته في المثال درهم واحد. أمّا لو كانت وصفيّة فإنّه لا يثبت في ذمّته شيء ، لأنّه يكون قد نفى العشرة الدراهم كلّها الموصوفة تلك الدراهم بأنّها ليست بدرهم.

٢. «إنّما» وهي أداة حصر مثل كلمة «إلاّ» ، فإذا استعملت في حصر الحكم في موضوع معيّن دلّت بالملازمة البيّنة على انتفائه عن غير ذلك الموضوع ، وهذا واضح.

٣. «بل» وهي للإضراب ، وتستعمل في وجوه ثلاثة :

الأوّل : للدلالة على أنّ المضرب عنه وقع عن غفلة أو على نحو الغلط ، ولا دلالة لها حينئذ على الحصر ، وهو واضح.

والثاني : للدلالة على تأكيد المضرب عنه وتقريره ، نحو : «زيد عالم بل شاعر» ، ولا دلالة لها أيضا حينئذ على الحصر.

__________________

(١) وهو المحقّق الخراسانيّ في كفاية الأصول : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

١٤١

الثالث : للدلالة على الردع وإبطال ما ثبت أوّلا ، نحو : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) (١). فتدلّ على الحصر ، فيكون لها مفهوم ، وهذه الآية الكريمة تدلّ على انتفاء مجيئه بغير الحقّ.

٤. وهناك هيئات غير الأدوات تدلّ على الحصر ، مثل تقدّم المفعول ، نحو : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٢). ومثل تعريف المسند إليه بلام الجنس مع تقديمه ، نحو : «العالم محمّد» ، و «إنّ القول ما قالت حذام». ونحو ذلك ممّا هو مفصّل في علم البلاغة (٣).

فإنّ هذه الهيئات ظاهرة في الحصر ، فإذا استفيد منها الحصر فلا ينبغي الشكّ في ظهورها في المفهوم ؛ لأنّه لازم للحصر لزوما بيّنا. وتفصيل الكلام فيها لا يسعه هذا المختصر.

وعلى كلّ حال ، فإنّ كلّ ما يدلّ على الحصر فهو دالّ على المفهوم بالملازمة البيّنة.

تمرينات (١٨)

١. ما معنى الحصر؟ وما المراد منه في مفهوم الحصر؟

٢. ما هي أقسام «إلاّ»؟ وأيّها يدلّ على المفهوم؟

٣. ما مقتضى الأصل فيما إذا شككنا في مورد أنّ كلمة «إلاّ» استثنائيّة أو وصفيّة؟

٤. هل كلمة «إنّما» تدلّ على الحصر؟

٥. ما هي أقسام «بل»؟ وأيّها يدلّ على المفهوم؟

__________________

(١) المؤمنون (٢٣) الآية : ٧٠.

(٢) الفاتحة (١) الآية : ٥.

(٣) راجع كتاب المطوّل : ١٦٦ ـ ١٦٩.

١٤٢

الخامس : مفهوم العدد

لا شكّ في أنّ تحديد الموضوع بعدد خاصّ لا يدلّ على انتفاء الحكم فيما عداه ، فإذا قيل : «صم ثلاثة أيّام من كلّ شهر» ؛ فإنّه لا يدلّ على عدم استحباب صوم غير الثلاثة الأيّام ، فلا يعارض الدليل على استحباب صوم أيّام أخر.

نعم ، لو كان الحكم للوجوب ـ مثلا ـ وكان التحديد بالعدد من جهة الزيادة لبيان الحدّ الأعلى ، فلا شبهة في دلالته على عدم وجوب الزيادة ، كدليل صوم ثلاثين يوما من شهر رمضان ، ولكن هذه الدلالة من جهة خصوصيّة المورد ، لا من جهة أصل التحديد بالعدد ، حتّى يكون لنفس العدد مفهوم.

فالحقّ أنّ التحديد بالعدد لا مفهوم له.

السادس : مفهوم اللقب

المقصود باللقب كلّ اسم ـ سواء كان مشتقّا أم جامدا ـ وقع موضوعا للحكم ، كالفقير في قولهم : «أطعم الفقير» ، وكالسّارق والسّارقة في قوله (تعالى) : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (١).

ومعنى مفهوم اللقب نفي الحكم عمّا لا يتناوله عموم الاسم.

وبعد أن استشكلنا في دلالة الوصف على المفهوم ، فعدم دلالة اللقب أولى ، فإنّ نفس موضوع الحكم بعنوانه لا يشعر بتعليق الحكم عليه ، فضلا عن أن يكون له ظهور في الانحصار.

نعم ، غاية ما يفهم من اللقب عدم تناول شخص الحكم لغير ما يشمله عموم الاسم ، وهذا لا كلام فيه ، أمّا عدم ثبوت نوع الحكم لموضوع آخر فلا دلالة له عليه أصلا.

وقد قيل : «إنّ مفهوم اللقب أضعف المفهومات» (٢).

__________________

(١) المائدة (٥) الآية : ٣٨.

(٢) لم أعثر على قائله. نعم ، نسب القول بدلالته على المفهوم إلى الدقّاق والصيرفيّ وبعض الحنابلة. راجع مطارح الأنظار : ١٩١ ، وقوانين الأصول ١ : ١٩١.

١٤٣

تمرينات (١٩)

١. ما هو مفهوم العدد؟

٢. هل للعدد مفهوم؟

٣. ما المراد من «اللقب» في مفهوم اللقب؟

٤. ما معنى مفهوم اللقب؟

٥. هل اللقب يدلّ على المفهوم؟

١٤٤

خاتمة : في دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة

تمهيد

يجري كثيرا على لسان الفقهاء والأصوليّين ذكر دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة ، ولم تشرح هذه الدلالات في أكثر الكتب الأصوليّة المتعارفة. ولذلك رأينا أن نبحث عنها بشيء من التفصيل لفائدة المبتدئين. والبحث عنها يقع من جهتين : الأولى : في مواقع هذه الدلالات الثلاث وأنّها من أيّ أقسام الدلالات. والثانية : في حجّيتها.

الجهة الأولى : مواقع الدلالات الثلاث :

قد تقدّم أنّ المفهوم هو مدلول الجملة التركيبيّة اللازمة للمنطوق لزوما بيّنا بالمعنى الأخصّ. ويقابله المنطوق الذي هو مدلول ذات اللفظ بالدلالة المطابقيّة.

ولكن يبقى هناك من المدلولات ما لا يدخل في المفهوم ولا في المنطوق اصطلاحا ، كما إذا دلّ الكلام بالدلالة الالتزاميّة (١) على لفظ مفرد أو معنى مفرد ليس مذكورا في المنطوق صريحا ، أو إذا دلّ الكلام على مفاد جملة لازمة للمنطوق ، إلاّ أنّ اللزوم ليس على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ؛ فإنّ هذه كلّها لا تسمّى مفهوما ولا منطوقا ، إذن ما ذا تسمّى هذه الدلالة في هذه المقامات؟

نقول : الأنسب أن نسمّي مثل هذه الدلالة ـ على وجه العموم ـ «الدلالة السياقيّة» ، كما ربّما يجري هذا التعبير في لسان جملة من الأساطين لتكون في مقابل الدلالة المفهوميّة والمنطوقيّة.

والمقصود بها ـ على هذا ـ أنّ سياق الكلام يدلّ على المعنى المفرد أو المركّب أو اللفظ المقدّر. وقسّموها إلى الدلالات الثلاث المذكورة : الاقتضاء ، والتنبيه ، والإشارة ، فلنبحث

__________________

(١) المقصود من الدلالة الالتزاميّة ، ما يعمّ الدلالة التضمّنية باصطلاح المناطقة باعتبار رجوع الدلالة التضمّنية إلى الالتزامية ؛ لأنّها لا تتمّ إلاّ حيث يكون معنى الجزء لازما للكلّ فتكون الدلالة من ناحية الملازمة بينهما ـ منه رحمه‌الله ـ.

١٤٥

عنها واحدة واحدة.

١. دلالة الاقتضاء

وهي أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلّم بحسب العرف ، ويتوقّف صدق الكلام أو صحّته عقلا ، أو شرعا ، أو لغة ، أو عادة عليها.

مثالها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (١) ، فإنّ صدق الكلام يتوقّف على تقدير الأحكام والآثار الشرعيّة لتكون هي المنفيّة حقيقة ؛ لوجود الضرر والضرار قطعا عند المسلمين ، فيكون النفي للضرر باعتبار نفي آثاره الشرعيّة وأحكامه. ومثله «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون وما اضطرّوا إليه ...» (٢).

مثال آخر ، قوله عليه‌السلام : «لا صلاة لمن جاره المسجد إلاّ في المسجد» (٣) ؛ فإنّ صدق الكلام وصحّته تتوقّف على تقدير كلمة «كاملة» محذوفة ليكون المنفيّ كمال الصلاة ، لا أصل الصلاة.

مثال ثالث قوله (تعالى) : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٤) ، فإنّ صحّته عقلا تتوقّف على تقدير لفظ «أهل» ، فيكون من باب حذف المضاف ، أو على تقدير معنى «أهل» ، فيكون من باب المجاز في الإسناد.

مثال رابع قولهم : «أعتق عبدك عنّي على ألف» ، فإنّ صحّة هذا الكلام شرعا تتوقّف على طلب تمليكه أوّلا له بألف ؛ لأنّه لا عتق إلاّ في ملك ، فيكون التقدير «ملّكني العبد

__________________

(١) لم أجد في الروايات المعتبرة كلمة «في الإسلام» ذيل حديث لا ضرر ، بل الموجود فيها : «لا ضرر ولا ضرار». راجع الوسائل ١٧ : ٣٤١ ، الباب ١٢ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٣ ؛ والباب ٧ منها ، الحديث ٢ ؛ مستدرك الوسائل ١٧ : ١١٨ ، الباب ٩ من كتاب إحياء الموات ، الحديث ١ و ٢.

(٢) هذا مفاد حديث الرفع وإن شئت متن الحديث الشريف فراجع : الوسائل ١٦ : ١٧٣ ، الباب ٢٦ من كتاب الأيمان ، الحديث ٣ ـ ٦ ؛ الكافي ٢ : ٤٦٣ ؛ الفقيه ١ : ٤٨ ؛ الخصال ٢ : ٤١٧ : المحاسن : ٣٣٩ ؛ دعائم الإسلام ٢ : ٩٥.

(٣) هذا أيضا مفاد الأحاديث الواردة في باب كراهة تأخّر جيران المسجد عنه ، الوسائل ٣ : ٤٧٨ ، الباب ٢ من أبواب أحكام المسجد.

(٤) يوسف (١٢) الآية : ٨٢.

١٤٦

بألف ثمّ أعتقه عنّي».

مثال خامس قول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

؛ فإنّ صحّته لغة تتوقّف على تقدير «راضون» خبرا للمبتدا «نحن» ؛ لأنّ «راض» مفرد لا يصحّ أن يكون خبرا لنحن.

[مثال سادس ، قولهم : «رأيت أسدا في الحمّام» ، فإنّ صحّته عادة تتوقّف على إرادة الرجل الشجاع من لفظ «أسد»] (١).

وجميع الدلالات الالتزاميّة على المعاني المفردة ، وجميع المجازات في الكلمة أو في الإسناد ترجع إلى «دلالة الاقتضاء».

فإن قال قائل : إنّ دلالة اللفظ على معناه المجازيّ من الدلالة المطابقيّة ، فكيف جعلتم المجاز من نوع دلالة الاقتضاء؟!

نقول له : هذا صحيح ، ومقصودنا من كون الدلالة على المعنى المجازيّ من نوع دلالة الاقتضاء هو دلالة نفس القرينة المحفوف بها الكلام على إرادة المعنى المجازيّ من اللفظ ، لا دلالة نفس اللفظ عليه بتوسّط القرينة.

والخلاصة أنّ المناط في دلالة الاقتضاء شيئان : الأوّل : أن تكون الدلالة مقصودة. والثاني : أن يكون الكلام لا يصدق أو لا يصحّ بدونها. ولا يفرق فيها بين أن يكون لفظا مضمرا أو معنى مرادا ، حقيقيّا أو مجازيّا.

٢. دلالة التنبيه

وتسمّى «دلالة الإيماء» أيضا ، وهي كالأولى في اشتراط القصد عرفا ، ولكن من غير أن يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عليها ، وإنّما سياق الكلام ما يقطع معه بإرادة ذلك اللازم أو يستبعد عدم إرادته. وبهذا تفترق عن دلالة الاقتضاء ؛ لأنّها ـ كما تقدّم ـ يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عليها.

__________________

(١) ما بين المعقوفين موجود في «س».

١٤٧

ولدلالة التنبيه موارد كثيرة نذكر أهمّها :

١. ما إذا أراد المتكلّم بيان أمر فنبّه عليه بذكر ما يلازمه عقلا أو عرفا ، كما إذا قال القائل : «دقّت الساعة العاشرة» مثلا ، حيث تكون الساعة العاشرة موعدا له مع المخاطب لينبّهه على حلول الموعد المتّفق عليه. أو قال : «طلعت الشمس» مخاطبا من قد استيقظ من نومه حينئذ ، لبيان فوات وقت أداء صلاة الغداة. أو قال : «إنّي عطشان» للدلالة على طلب الماء.

ومن هذا الباب ذكر الخبر لبيان لازم الفائدة ، مثل ما لو أخبر المخاطب بقوله : «إنّك صائم» لبيان أنّه عالم بصومه.

ومن هذا الباب أيضا الكنايات إذا كان المراد الحقيقيّ مقصودا بالإفادة من اللفظ ، ثمّ كنّى به عن شيء آخر.

٢. ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد كونه علّة للحكم ، أو شرطا ، أو مانعا ، أو جزءا ، أو عدم هذه الأمور ، فيكون ذكر الحكم تنبيها على كون ذلك الشيء علّة ، أو شرطا ، أو مانعا ، أو جزءا ، أو عدم كونه كذلك.

مثاله قول المفتي : «أعد الصّلاة» لمن سأله عن الشكّ في أعداد الثنائيّة ؛ فإنّه يستفاد منه أنّ الشكّ المذكور علّة لبطلان الصّلاة ؛ وللحكم بوجوب الإعادة.

مثال آخر قوله : «كفّر» لمن قال له : «واقعت أهلي في نهار شهر رمضان» ؛ فإنّه يفيد أنّ الوقاع في الصوم الواجب موجب للكفّارة.

ومثال ثالث قوله : «بطل البيع» لمن قال له : «بعت السمك في النهر» ، فيفهم منه اشتراط القدرة على التسليم في البيع.

ومثال رابع قوله : «لا تعيد» لمن سأل عن الصلاة في الحمّام ، فيفهم منه عدم مانعيّة الكون في الحمّام للصلاة ... وهكذا.

٣. ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد تعيين بعض متعلّقات الفعل ، كما إذا قال القائل : «وصلت إلى النهر وشربت» ، فيفهم من هذه المقارنة أنّ المشروب هو الماء ، وأنّه من النهر. ومثل ما إذا قال : «قمت وخطبت» أي خطبت قائما ... وهكذا.

١٤٨

٣. دلالة الإشارة

ويشترط فيها ـ على عكس الدلالتين السابقتين ـ ألاّ تكون الدلالة مقصودة بالقصد الاستعمالي بحسب العرف ، ولكن مدلولها لازم لمدلول الكلام لزوما غير بيّن ، أو لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ ، سواء استنبط المدلول من كلام واحد أم من كلامين.

مثال ذلك دلالة الآيتين على أقلّ الحمل ، وهما آية (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (١) وآية (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢) ؛ فإنّه بطرح الحولين من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستّة أشهر ، فيعرف أنّه أقلّ الحمل.

ومن هذا الباب دلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته ؛ لأنّه لازم لوجوب ذي المقدّمة باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ. ولذلك جعلوا وجوب المقدّمة وجوبا تبعيّا لا أصليّا ؛ لأنّه ليس مدلولا للكلام بالقصد ، وإنّما يفهم بالتبع ، أي بدلالة الإشارة.

الجهة الثانية : حجّيّة هذه الدلالات

أمّا دلالة الاقتضاء والتنبيه : فلا شكّ في حجيّتهما إذا كانت هناك دلالة وظهور ؛ لأنّه من باب حجيّة الظواهر ، ولا كلام في ذلك.

وأمّا دلالة «الإشارة» : فحجيّتها من باب حجّية الظواهر محلّ نظر وشكّ ؛ لأنّ تسميتها بالدلالة من باب المسامحة ؛ إذا المفروض أنّها غير مقصودة والدلالة تابعة للإرادة ، وحقّها أن تسمّى «إشارة» و «إشعارا» فقط بغير لفظ الدلالة ، فليست هي من الظواهر في شيء حتى تكون حجّة من هذه الجهة.

نعم ، هي حجّة من باب الملازمة العقليّة حيث تكون ملازمة ، فيستكشف منها لازمها ، سواء كان حكما أم غير حكم ، كالأخذ بلوازم إقرار المقرّ وإن لم يكن

__________________

(١) الأحقاف (٤٦) الآية : ١٥.

(٢) البقرة (٢) الآية ٢٣٣.

١٤٩

قاصدا لها ، أو كان منكرا للملازمة. وسيأتي في محلّه في باب الملازمات العقليّة إنّ شاء الله تعالى (١).

تمرينات (٢٠)

١. عرّف الدلالة السياقيّة.

٢. ما معنى دلالة الاقتضاء؟ ايت بأمثلة لها من الكتاب.

٣. ما معنى دلالة التنبيه؟ اذكر بعض مواردها.

٤. ما معنى دلالة الإشارة؟ ايت بمثال من القرآن ومثال من غيره.

٥. هل الدلالات الثلاث حجّة أم لا؟

__________________

(١) يأتي في الصفحة ٢٦٦.

١٥٠

الباب الخامس

العامّ والخاصّ

تمهيد

العامّ والخاصّ : هما من المفاهيم الواضحة البديهيّة التي لا تحتاج إلى التعريف إلاّ لشرح اللفظ وتقريب المعنى إلى الذهن ، فلذلك لا محلّ لتعريفهما بالتعاريف الحقيقيّة.

والقصد من «العامّ» : اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوانه عليه في ثبوت الحكم له. وقد يقال للحكم : «إنّه عامّ» أيضا باعتبار شموله لجميع أفراد الموضوع أو المتعلّق أو المكلّف.

والقصد من «الخاصّ» الحكم الذي لا يشمل إلاّ بعض أفراد موضوعه أو المتعلّق أو المكلّف ، أو أنّه اللفظ الدالّ على ذلك.

والتخصيص هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحكم العامّ ، بعد أن كان اللفظ في نفسه شاملا له لو لا التخصيص.

والتخصّص هو أن يكون اللفظ من أوّل الأمر ـ بلا تخصيص ـ غير شامل لذلك الفرد غير المشمول للحكم.

أقسام العامّ

ينقسم العامّ إلى ثلاثة أقسام باعتبار تعلّق الحكم به :

١. «العموم الاستغراقيّ» وهو أن يكون الحكم شاملا لكلّ فرد فرد ، فيكون كلّ فرد وحده موضوعا للحكم ، ولكلّ حكم متعلّق بفرد من الموضوع عصيان خاصّ نحو : «أكرم

١٥١

كلّ عالم».

٢. «العموم المجموعيّ» وهو أن يكون الحكم ثابتا للمجموع بما هو مجموع ، فيكون المجموع موضوعا واحدا ، كوجوب الإيمان بالأئمّة عليهم‌السلام ، فلا يتحقّق الامتثال إلاّ بالإيمان بالجميع.

٣. «العموم البدليّ» وهو أن يكون الحكم لواحد من الأفراد على البدل ، فيكون فرد واحد فقط ـ على البدل ـ موضوعا للحكم ، فإذا امتثل فرد واحد سقط التكليف ، نحو : «أعتق أيّة رقبة شئت».

فإن قال قائل : إنّ عدّ هذا القسم الثالث من أقسام العموم فيه مسامحة ظاهرة ؛ لأنّ البدليّة تنافي العموم ؛ إذ المفروض أنّ متعلّق الحكم أو موضوعه ليس إلاّ فردا واحدا فقط. (١)

نقول في جوابه : العموم في هذا القسم معناه عموم البدليّة ـ أي صلاح كلّ فرد لأن يكون متعلّقا أو موضوعا للحكم ـ. نعم ، إذا كان استفادة العموم من هذا القسم بمقتضى الإطلاق فهو يدخل في المطلق لا في العامّ.

وعلى كلّ حال ، إنّ عموم متعلّق الحكم لأحواله وأفراده إذا كان متعلّقا للأمر الوجوبيّ أو الاستحبابيّ ، فهو على الأكثر من نوع العموم البدليّ.

إذا عرفت هذا التمهيد فينبغي أن نشرع في تفصيل مباحث العامّ والخاصّ في فصول :

١. ألفاظ العموم

لا شكّ أنّ للعموم ألفاظا تخصّه دالّة عليه إمّا بالوضع ، أو بالإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة. وهي إمّا أن تكون ألفاظا مفردة ، مثل «كلّ» وما في معناها ، مثل «جميع» و «تمام» و «أيّ» و «دائما» ، وإمّا أن تكون هيئات لفظيّة ، كوقوع النكرة في سياق النفي أو النهي ، وكون اللفظ جنسا محلّى باللام جمعا كان أو مفردا. فلنتكلّم عنها بالتفصيل :

١. لفظة «كلّ» وما في معناها ، فإنّه من المعلوم دلالتها بالوضع على عموم مدخولها. سواء كان عموما استغراقيّا أو مجموعيّا ؛ وإنّ العموم معناه الشمول لجميع أفرادها مهما

__________________

(١) هذا ما قال به المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٥١٤.

١٥٢

كان لها من الخصوصيّات اللاحقة لمدخولها.

٢. «وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي» ؛ فإنّه لا شكّ في دلالتها على عموم السلب لجميع أفراد النكرة عقلا ، لا وضعا ؛ لأنّ عدم الطبيعة إنّما يكون بعدم جميع أفرادها. وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

٣. «الجمع المحلّى باللام والمفرد المحلّى بها» ، لا شكّ في استفادة العموم منهما عند عدم العهد ، ولكنّ الظاهر أنّه ليس ذلك بالوضع في المفرد المحلّى باللام ، وإنّما يستفاد بالإطلاق بمقتضى الحكمة ، ولا فرق بينهما من جهة العموم في استغراق جميع الأفراد فردا فردا.

وقد توهّم بعضهم (١) أنّ معنى استغراق الجمع المحلّى وكلّ جمع مثل «أكرم جميع العلماء» هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع ، لا بلحاظ الأفراد فردا فردا ، فيشمل كلّ جماعة جماعة ، ويكون بمنزلة قول القائل : «أكرم جماعة جماعة» ، فيكون موضوع الحكم كلّ جماعة على حدة لا كلّ فرد ؛ فإكرام شخص واحد لا يكون امتثالا للأمر. وذلك نظير عموم التثنية ؛ فإنّ الاستغراق فيها بملاحظة مصاديق التثنية ، فيشمل كلّ اثنين اثنين ، فإذا قال : «أكرم كلّ عالمين» فموضوع الحكم كلّ اثنين من العلماء ، لا كلّ فرد.

ومنشأ هذا التوهّم أنّ معنى الجمع ، الجماعة ، كما أنّ معنى التثنية ، الاثنان ، فإذا دخلت أداة العموم عليه دلّت على العموم بلحاظ كلّ جماعة جماعة ، كما إذا دخلت على المفرد دلّت على العموم بلحاظ كلّ فرد فرد ، وعلى التثنية دلّت عليه بلحاظ كلّ اثنين اثنين ؛ لأنّ أداة العموم تفيد عموم مدخولها.

ولكن هذا توهّم فاسد ؛ للفرق بين التثنية والجمع ؛ لأنّ التثنية تدلّ على الاثنين المحدود من جانب القلّة والكثرة ، بخلاف الجمع ؛ فإنّه يدلّ على ما هو محدود من جانب القلّة فقط ؛ لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة ، وأمّا من جانب الكثرة فغير محدود أبدا. فكلّ ما تفرض لذلك اللفظ المجموع من أفراد مهما كثرت فهي مرتبة واحدة من الجمع وجماعة واحدة ،

__________________

(١) منهم صاحب القوانين في أوّل كلامه. راجع القوانين ١ : ٢١٥.

١٥٣

حتى لو أريد جميع الأفراد بأسرها ، فإنّها كلّها مرتبة واحدة من الجمع ، لا مجموعة مراتب له. فيكون معنى استغراق الجمع عدم الوقوف على حدّ خاصّ من حدود الجمع ومرتبة دانية منه ، بل المقصود أعلى مراتبه. فيذهب استغراقه إلى آخر الآحاد لا إلى آخر المراتب ؛ إذ ليس هناك بلحاظ جميع الأفراد إلاّ مرتبة واحدة ، لا مراتب متعدّدة ، وليس إلاّ حدّ واحد هو الحدّ الأعلى ، لا حدود متكثّرة ، فهو من هذه الجهة ـ كاستغراق المفرد ـ معناه عدم الوقوف على حد خاصّ ، فيذهب إلى آخر الآحاد.

نعم ، الفرق بينهما إنّما هو في عدم الاستغراق ؛ فإنّ عدم استغراق المفرد يوجب الاقتصار على واحد ، وعدم استغراق الجمع يوجب الاقتصار على أقلّ الجمع ، وهو ثلاثة.

تمرينات (٢١)

١. ما المراد من العامّ والخاصّ؟

٢. ما الفرق بين التخصيص والتخصّص؟

٣. أذكر أقسام العامّ وعرّفها؟

٤. ألفاظ العموم أيّها يدلّ على العموم بالوضع وأيّها يدلّ عليه بالإطلاق؟

٥. بيّن ما توهّم صاحب القوانين ، ومنشأ هذا التوهّم ، والجواب عنه؟

١٥٤

٢. المخصّص المتّصل والمنفصل

إنّ تخصيص العامّ على نحوين :

١. أن يقترن به مخصّصه في نفس الكلام الواحد الملقى من المتكلّم ، كقولنا : «أشهد أن لا إله إلاّ الله». ويسمّى : «المخصّص المتّصل» ، فيكون قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من العموم. وتلحق به ـ بل هي منه ـ القرينة الحاليّة المكتنف بها الكلام الدالّة على إرادة الخصوص على وجه يصحّ تعويل المتكلّم عليها في بيان مراده.

٢. ألاّ يقترن به مخصّصه في نفس الكلام ، بل يرد في كلام آخر مستقلّ قبله أو بعده. ويسمّى : «المخصّص المنفصل» ، فيكون أيضا قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من العموم ، كالأوّل.

فإذن لا فرق بين القسمين من ناحية القرينة على مراد المتكلّم ، وإنّما الفرق بينهما من ناحية أخرى ، وهي ناحية انعقاد الظهور في العموم ، ففي المتّصل لا ينعقد للكلام ظهور إلاّ في الخصوص ، وفي المنفصل ينعقد ظهور العامّ في عمومه ، غير أنّ الخاصّ ظهوره أقوى ، فيقدّم عليه من باب تقديم الأظهر على الظاهر أو النصّ على الظاهر.

والسرّ في ذلك أنّ الكلام مطلقا ـ العامّ وغيره ـ لا يستقرّ له الظهور ولا ينعقد إلاّ بعد الانتهاء منه والانقطاع عرفا على وجه لا يبقى بحسب العرف مجال لإلحاقه بضميمة تصلح لأن تكون قرينة تصرفه عن ظهوره الابتدائيّ الأوّليّ ، وإلاّ فالكلام ما دام متّصلا عرفا فإنّ ظهوره مراعى ، فإن انقطع من دون ورود قرينة على خلافه استقرّ ظهوره الأوّل ، وانعقد الكلام عليه ، وإن لحقته القرينة الصارفة تبدّل ظهوره الأوّل إلى ظهور آخر حسب دلالة القرينة ، وانقعد حينئذ على الظهور الثاني. ولذا لو كانت القرينة مجملة أو إن وجد في الكلام ما يحتمل أن يكون قرينة أوجب ذلك عدم انعقاد الظهور الأوّل ، ولا ظهور آخر ، فيعود الكلام برمّته مجملا.

هذا من ناحية كلّيّة في كلّ كلام. ومقامنا من هذا الباب ؛ لأنّ المخصّص ـ كما قلنا ـ من قبيل القرينة الصارفة ، فالعامّ له ظهور ابتدائيّ ـ أو بدويّ ـ في العموم ، فيكون مراعى

١٥٥

بانقطاع الكلام وانتهائه ، فإن لم يلحقه ما يخصّصه استقرّه ظهوره الابتدائيّ وانقعد على العموم ، وإن لحقته قرينة التخصيص قبل الانقطاع تبدّل ظهوره الأوّل ، وانقعد له ظهور آخر حسب دلالة المخصّص المتّصل.

اذن فالعامّ المخصّص بالمتّصل لا يستقرّ ولا ينعقد له ظهور في العموم ، بخلاف المخصّص بالمنفصل ؛ لأنّ الكلام بحسب الفرض قد انقطع بدون ورود ما يصلح للقرينة على التخصيص ، فيستقرّ ظهوره الابتدائيّ في العموم ، غير أنّه إذا ورد المخصّص المنفصل يزاحم ظهور العامّ ، فيقدّم عليه من باب أنّه قرينة عليه ، كاشفة عن المراد الجديّ.

٣. هل استعمال العامّ في المخصّص مجاز؟

قلنا : إنّ المخصّص بقسميه قرينة على إرادة ما عدا الخاصّ من لفظ العموم ، فيكون المراد من العامّ بعض ما يشمله ظاهره. فوقع الكلام في أنّ هذا الاستعمال هل هو على نحو المجاز أو الحقيقة؟ واختلف العلماء فيه على أقوال كثيرة :

منها : أنّه مجاز مطلقا. (١)

ومنها : أنّه حقيقة مطلقا (٢).

ومنها : التفصيل بين المخصّص بالمتّصل وبين المخصّص بالمنفصل ، فإن كان التخصيص بالأوّل فهو حقيقة دون ما كان بالثانى (٣).

__________________

(١) هذا القول مختار أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما من المعتزلة. وذهب إليه الغزاليّ والآمدي وابن الحاجب والبيضاويّ من العامّة ، والشيخ الطوسيّ والمحقّق الحلّي وصاحب القوانين وصاحب المعالم من الإماميّة. راجع المستصفى ٢ : ٥٤ ؛ الإحكام (للآمدي) ٢ : ٣٣٢ ؛ منتهى الوصول والأمل : ١٠٦ ؛ نهاية السئول ٢ : ٣٩٤ ؛ العدّة ١ : ٣٠٧ ؛ معارج الأصول : ٩٧ ؛ قوانين الأصول ١ : ٢٦١ ؛ معالم الدين : ١٢٨.

(٢) ذهب إليه أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة من العامّة ـ على ما في العدّة ١ : ٣٠٦ ـ ، والحنابلة منهم على ما في الإحكام (للآمدي) ٢ : ٣٣٠. واختاره الشيخ المفيد وكثير من المتأخّرين كالمحقّق الخراسانيّ والمحقّق النائينيّ والشيخ الحائريّ. راجع التذكرة (المفيد) : ٣٥ ؛ كفاية الأصول : ٢٥٥ ؛ فوائد الأصول ٢ : ٥١٦ ؛ درر الفوائد ١ : ١٨٠.

(٣) ذهب إليه أبو عبد الله وأبو الحسين البصريّ والفخر الرازيّ. راجع المعتمد ١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، والمحصول في علم أصول الفقه ١ : ٤٠٠ ـ ٤٠١. ونسب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني في الإحكام (للآمدي) ٢ : ٣٣١.

١٥٦

وقيل : بالعكس (١).

والحقّ عندنا هو القول الثاني ، أيّ إنّه حقيقة مطلقا.

الدليل : أنّ منشأ توهّم القول بالمجاز أنّ أداة العموم لمّا كانت موضوعة للدلالة على سعة مدخولها وعمومه لجميع أفراده ، فلو أريد منه بعضه فقد استعملت في غير ما وضعت له ، فيكون الاستعمال مجازا. وهذا التوهّم يدفع بأدنى تأمّل ؛ لأنّه في التخصيص بالمتّصل كقولك مثلا : «أكرم كلّ عالم إلاّ الفاسقين» لم تستعمل أداة العموم إلاّ في معناها ، وهو الشمول لجميع أفراد مدخولها ، غاية الأمر أنّ مدخولها تارة يدلّ عليه لفظ واحد مثل : «أكرم كلّ عادل» ، وأخرى يدلّ عليه أكثر من لفظ واحد في صورة التخصيص ، فيكون التخصيص معناه أنّ مدخول «كلّ» ليس ما يصدق عليه لفظ عالم ـ مثلا ـ ، بل هو خصوص العالم العادل في المثال. وأمّا «كلّ» فهي باقية على ما لها من الدلالة على العموم والشمول ؛ لأنّها تدلّ حينئذ على الشمول لكلّ عادل من العلماء ، ولذا لا يصحّ أن يوضع مكانها كلمة «بعض» ، فلا يستقيم المعنى لو قلت : «أكرم بعض العلماء إلاّ الفاسقين» ، وإلاّ لما صحّ الاستثناء. كما لا يستقيم لو قلت : «أكرم بعض العلماء العدول» ؛ فإنّه لا يدلّ على تحديد الموضوع كما لو كانت «كلّ» والاستثناء موجودين.

والحاصل أنّ لفظة «كلّ» وسائر أدوات العموم في مورد التخصيص لم تستعمل إلاّ في معناها ، وهو الشمول.

ولا معنى للقول بأنّ المجاز في نفس مدخولها ؛ لأنّ مدخولها مثل كلمة «عالم» موضوع لنفس الطبيعة من حيث هي ، لا الطبيعة بجميع أفرادها أو بعضها. وإرادة الجميع أو البعض إنّما يكون من دلالة لفظة أخرى كـ «كلّ» ، أو «بعض» ، فإذا قيّد مدخولها وأريد منه المقيّد بالعدالة في المثال المتقدّم لم يكن مستعملا إلاّ في معناه ، وهو من له العلم ، وتكون إرادة ما عدا الفاسق من العلماء من دلالة مجموع القيد والمقيّد من باب تعدّد الدالّ والمدلول. وسيجىء ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ تقييد المطلق لا يوجب مجازا.

__________________

(١) لم يذكر له قائل.

وحكى الآمدي خمسة مذاهب أخر. فراجع الإحكام ٢ : ٣٣١.

١٥٧

هذا الكلام كلّه عن المخصّص بالمتّصل. وكذلك الكلام عن المخصّص بالمنفصل ؛ لأنّا قلنا : إنّ التخصيص بالمنفصل معناه جعل الخاصّ قرينة منفصلة على تقييد مدخول «كلّ» بما عدا الخاصّ ، فلا تصرّف في أداة العموم ، ولا في مدخولها ، ويكون أيضا من باب تعدّد الدالّ والمدلول. ولو فرض أنّ المخصّص المنفصل ليس مقيّدا لمدخول أداة العموم ، بل هو تخصيص للعموم نفسه فانّ هذا لا يلزم منه أن يكون المستعمل فيه في العامّ هو البعض ، حتى يكون مجازا ، بل إنّما يكشف الخاصّ عن المراد الجدىّ من العامّ. (١)

٤. حجيّة العامّ المخصّص في الباقي

إذا شككنا في شمول العامّ المخصّص لبعض أفراد الباقي من العامّ بعد التخصيص ، فهل العامّ حجّة في هذا البعض فيتمسّك بظاهر العموم لإدخاله في حكم العامّ؟ على أقوال ؛ مثلا اذا قال المولى : «كلّ ماء طاهر» ، ثمّ استثنى من العموم بدليل متّصل أو منفصل الماء المتغيّر بالنجاسة ونحن احتملنا استثناء الماء القليل الملاقي للنجاسة بدون تغيّر ، فإذا قلنا بأنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي نطرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العامّ في جميع الباقي ، فنحكم بطهارة الماء الملاقي غير المتغيّر (٢). واذا لم نقل بحجّيّته في الباقي يبقى هذا الاحتمال معلّقا لا دليل عليه من العامّ ، فنلتمس له دليلا آخر يقول بطهارته أو نجاسته.

والأقوال في المسألة كثيرة :

منها : التفصيل بين المخصّص بالمتّصل ، فيكون حجّة في الباقى ، وبين المخصّص بالمنفصل ، فلا يكون حجّة (٣).

__________________

(١) هذا الدليل ذكره المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٥١٧.

(٢) قوله : «غير المتغيّر» صفة لقوله : «الماء» ، أي نحكم بطهارة الماء الذي لاقى النجاسة ولم يتغيّر أحد أوصافه.

(٣) وهذا منسوب إلى بعض العامّة كالبلخي. راجع مطارح الأنظار : ١٩٢ ، الإحكام (الآمدي) ٢ : ٣٣٨ ؛ اللمع : ١٠٧.

١٥٨

وقيل بالعكس. (١)

والحقّ في المسألة هو الحجّيّة مطلقا ؛ لأنّ اساس النزاع ناشئ من النزاع في المسألة السابقة ، وهي أنّ العامّ المخصّص مجاز في الباقي أم لا؟

ومن قال بالمجاز يستشكل في ظهور العامّ وحجّيّته في جميع الباقي من جهة أنّ المفروض أنّ استعمال العامّ في تمام الباقى مجاز واستعماله في بعض الباقي مجاز آخر أيضا ، فيقع النزاع في أنّ المجاز الأوّل أقرب إلى الحقيقة ، فيكون العامّ ظاهرا فيه ، أو أنّ المجازين متساويان فلا ظهور في أحدهما. فإذا كان المجاز الأوّل هو الظاهر كان العامّ حجّة في تمام الباقي ، وإلاّ فلا يكون حجّة.

أمّا نحن الذين نقول بأن العامّ المخصّص حقيقة [في الباقي] ـ كما تقدّم ـ ، ففي راحة من هذا النزاع ؛ لأنّا قلنا : إنّ أداة العموم باقية على ما لها من معنى الشمول لجميع أفراد مدخولها ، فإذا خرج من مدخولها بعض الأفراد بالتخصيص بالمتّصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها على العموم باقية على حالها ، وإنّما مدخولها تتضيّق دائرته بالتخصيص.

فحكم العامّ المخصّص حكم العامّ غير المخصّص في ظهوره في الشمول لكلّ ما يمكن أن يدخل فيه.

وعلى أيّ حال ، بعد القول بأنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي ـ على ما بيّنّاه ـ لا يبقى شك في حجّيّته في الباقي. وإنّما يقع الشكّ على تقدير القول بالمجازيّة ، فقد نقول إنّه حجّة في الباقي على هذا التقدير ، وقد لا نقول. لا أنّه كلّ من يقول بالمجازيّة يقول بعدم الحجّيّة ، كما توهّم ذلك بعضهم (٢).

__________________

(١) لم يذكر له قائل. وحكي الشوكاني والآمدي خمسة مذاهب أخر ، فراجع إرشاد الفحول : ١٣٨ ، والإحكام ٢ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٢) وهو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٥١٦ و ٥٢٣.

١٥٩

تمرينات (٢٢)

١. ما هو المخصّص المتّصل والمخصّص المنفصل؟

٢. ما الفرق بين المخصّص المتّصل والمنفصل من ناحية انعقاد الظهور في العموم؟

٣. ما هي الأقوال في استعمال العامّ في المخصّص؟

٤. ما هو مختار المصنّف رحمه‌الله في استعمال العامّ في المخصّص؟ وما دليله؟

٥. بيّن مسألة حجّيّة العامّ المخصّص في الباقي؟

٦. ما هي الأقوال في مسألة حجّية العامّ المخصّص في الباقي؟

٧. ما هو مختار المصنّف في المسألة؟ وما هو دليله؟

١٦٠